التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

والمعصية (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).

٤٠ ـ (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قطع إبليس عهدا على نفسه أن ينتقم لمأساته من ذرية آدم الذي كان السبب لطرده من رحمة الله.

٤١ ـ (قالَ) سبحانه : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) هذه إشارة إلى تحصين المخلصين من شر الشيطان وغوايته ، وعلي أي ثابت عليه تعالى هذا الحفظ والتحصين تماما كقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ٥٤ الأنعام».

٤٢ ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ...) أبدا لا سلطان على الإنسان إلا نفسه ، ولا يتبع الشيطان إلا حقود حسود أو متعصب جهول أو انتهازي يبيع الدين والضمير والبلاد لكل من يدفع الثمن.

٤٣ ـ ٤٤ ـ (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) يجتمع فيها حزب الشيطان بقيادته ، يتباغضون ويتلاعنون (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) تشير هذه الآية إلى أن أهل النار فئات تماما كأهل الجنة ، وهذا هو العدل ، لأن السيئات مراتب وكذلك الحسنات : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ـ ١٩ الأحقاف».

٤٥ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لما أشار سبحانه إلى الشيطان وحزبه والغاوين وأن جهنم لموعدهم أجمعين عطف عليهم أهل الجنة ، وأنهم في عزة وكرامة ، تقول لهم ملائكة الرحمة : ٤٦ ـ (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) الجنة دار الغنى عن كل شيء والأمان من كل خوف.

٤٧ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) لا تعادي في مال ولا تحاسد على جاه ، فمن أين يأتي الحقد والغل؟

٤٨ ـ (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) لا تعب ولا صخب. وقال قائل : إن آدم ملّ في الجنة من حياة الترف والفراغ والكسل والشلل ، فأكل من الشجرة عن قصد وعمد ، ليخرجه الله سبحانه إلى الأرض حيث الكفاح والنضال والأكل من كد اليمين وعرق الجبين ٤٩ ـ ٥٠ ـ (نَبِّئْ عِبادِي) عني (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) حذر سبحانه وبشر في آن واحد كيلا ييأس العاصي ويقول متماديا في الغي : أنا الغريق وما خوفي من البلل؟ وأيضا كيلا يغتر «العابد» ويقول معجبا بنفسه : لا أحد مثلي في التاريخ! ومعنى هذا أن الإنسان «لا يكون مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو» كما قال الإمام الصادق (ع) ومعنى قوله : «لما يخاف ويرجو» هو الخوف أن يكون عمله ناقصا غير مقبول والرجاء أن يكون كاملا ومرضيا ، وتقدم في الآية ٩٨ من المائدة و ١٦٥ من الأنعام و ١٦٧ من الأعراف ٥١ ـ (وَنَبِّئْهُمْ) يا محمد (عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) والمراد بهذا الضيف الملائكة ٥٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) فرد عليهم و (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) لأنه قدم لهم الطعام فامتنعوا عنه فأنكرهم وأوجس منهم خيفة ٥٣ ـ (قالُوا لا تَوْجَلْ) لا تخف (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) بالله وشريعته بنص الآية ١١٢ من الصافات : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

٣٤١

٥٤ ـ (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) في قاموس الكتاب المقدس : كان ابن مائة سنة (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فما هو السبب المبرر لهذه البشارة التي جاءت على غير المعروف والمألوف؟

٥٥ ـ (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) واليقين من الله لا من عندنا (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) ظن الملائكة من سؤال خليل الرّحمن أنه قانط ، فصحح هذا الوهم ، ونفى القنوط عن نفسه.

٥٦ ـ (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أعوذ بالله من القنوط ، وإني لأرجو من رحمة الله أكثر من ذلك ، ولكن أريد أن أتثبت من سمعي وأنه يتلقى البشارة من الله لا من سواه.

٥٧ ـ ٦٠ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) هل من شيء عندكم غير البشارة بالغلام العليم؟ (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا ...) لإبادة الكفر والفجرة قوم لوط أجمعين ، أما هو وأهلة فهم بسلام آمنين ما عدا امرأته المنافقة المتآمرة على زوجها ، فإنه مصيبها ما أصابهم.

٦١ ـ ٦٢ ـ (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ...) ذهب الملائكة من عند ابراهيم إلى لوط في صورة البشر ، قال لهم : ما الذي جاء بكم إلى هذا البلد ، وأهله معروفون بما يفعلون.

٦٣ ـ ٦٤ ـ (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) كان لوط يتوعد قومه بالعذاب فيشكون ويسخرون.

٦٥ ـ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) بعد أن يمضي بعض الليل لا كله (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) امش خلف أهلك لأن ذلك أهدأ لقلبك وقلوبهم لأنهم على مرأى منك (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) إلى الوراء إذا سمع الصياح والعويل.

٦٦ ـ (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ ...) أوحى سبحانه إلى لوط بأنه سيستأصل الكافرين وقت الصباح عن آخرهم.

٦٧ ـ (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) بهذا الصيد ، ولا يعلمون أنه عذاب السموم.

٦٨ ـ ٧١ ـ (قالَ) لهم لوط : (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي

___________________________________

الإعراب : (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ) متسلق بمحذوف حالا من الياء في بشرتموني أي أبشرتموني كبيرا. و (مَنْ يَقْنَطُ) من مبتدأ ويقنط خبر. آل لوط منصوب على الاستثناء المنقطع من قوم مجرمين. وامرأته على الاستثناء المتصل من ضمير «لمنجوهم».

٣٤٢

فَلا تَفْضَحُونِ) وخوفهم وحذرهم من غضب الله وعذابه ، فقالوا له : نحن أيضا حذرناك ونهيناك أن تضيف أحدا ، فلم تنته! ولا تعجب من هذا المنطق ، أليسوا أولاد آدم؟ وما الذي يمنع أن أنطق أنا أو أنت بمثله من حيث لا ندري ونعلم؟ أبدا كلنا لآدم وآدم من تراب.

٧٢ ـ (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) وليس من الضروري أن لا يسكر المرء إلا من شراب ، فإن سكر العمه والضلالة أشد قوة وآثارا.

٧٣ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) عند شروق الشمس ، والصيحة الصوت العاصف القاصف ، وهذا مصير من كذّب بالحق منقادا لنزوته.

٧٤ ـ ٧٥ ـ (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) ... (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) عبرة وعظة للمعتبرين ، وهي أبلغ من القول المسموع والكلام المقروء ...

٧٦ ـ ٧٧ ـ (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي أن مدينة لوط وما حولها من القرى التي أهلكها سبحانه ـ ما زالت آثارها قائمة يراها ويشاهدها الرائح والغادي ، وتسمى سدوم. وفي قاموس الكتاب المقدس : بحر سدوم ، ويسمى بحر لوط يمتد من العقبة إلى الحولة ، وطوله ٤٦ ميلا ، وأقصى عرضه ١٠ أميال ونصف الميل ، ومساحته ٣٠٠ ميل مربع ، وأقصى عمقه ١٣١٠ أقدام. وكل ما جاء في الآيات السابقة عن ابراهيم ولوط تقدم ذكره في سورة هود من الآية ٧٠ إلى الآية ٨٣.

٧٨ ـ ٧٩ ـ (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) الأيكة الشجر الملتف الكثيف ، وأصحابها هم قوم شعيب ، وكان ظلمهم بالشرك ونقص الميزان والمكيال وغير ذلك من الفساد والضلال ، فانتقم سبحانه منهم بالصيحة والرجفة. وتقدم في الآية ٨٥ وما بعدها من الأعراف (وَإِنَّهُما) أي موطن لوط وموطن شعيب (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) في طريق واضحة سالكة يمر عليها كل من أحب وأراد أن يشاهد آثار الهلاك والعذاب في هذين الموطنين.

٨٠ ـ ٨٤ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) هم ثمود ، ونبيهم صالح ، والحجر اسم بلادهم ، ومن كذّب رسولا واحدا فقد كذب جميع المرسلين ، لأن الكل ينطقون بلسان الله ، ومن هنا صح إطلاق الجمع على المفرد وهو صالح ، وتقدم الكلام عن صالح وقومه في الآية ٧٣ من الأعراف وما بعدها.

٨٥ ـ ٨٦ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) الله هو الحق ، ولا يصدر عنه إلا الحق ، ويتجلى ذلك في لطائف صنعه وعجائب خلقه

___________________________________

الإعراب : وعن العالمين على حذف مضاف أي عن ضيافة العالمين. ولعمرك مبتدأ والخبر محذوف أي لعمرك قسمي.

٣٤٣

(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) وفيها يقذف بالحق على الباطل فيدمغه ويزهقه (فَاصْفَحِ) يا محمد (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) عمن كذبك وجمع لحربك ، ولما ذا يصفح محمد عن هذا اللئيم الأثيم؟ أبدا لا لشيء إلا لأن محمدا نبي وكفى.

٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) يا محمد (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وفي تحديد السبع المثاني خمسة أقوال ، وأرجحها عندنا أنها سورة الفاتحة فهي سبع آيات ، والمثنى بها في الصلاة ، وتجمع بين ذكر الربوبية والعبودية ، إذن هي سبع بآياتها ، ومثاني بصفاتها.

٨٨ ـ (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) المراد بالأزواج هنا الأصناف ، وفي قواميس اللغة أن الزوج يأتي بمعنى الصنف والشكل. وفي الآية ٥٨ من ص : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي أصناف ، وفي الآية ٣٦ من يس : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) وعليه يكون المعنى استغن يا محمد بما آتاك الله من النبوة والجاه والقرآن العظيم ـ عن كل أصناف الزينة وأسباب الترف التي يتمتع بها الجاحدون وغيرهم من سائر الأديان (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أبدا لا يهمك عناد من كفر ، وكفر من أدبر ، فإنك في مقام أمين وكريم.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) والله سبحانه الذي خاطب نبيه الكريم بهذا الأمر ، شهد له في الآية ١٢٨ من التوبة بالرأفة والرحمة على كل مؤمن : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقال الرسول الأعظم (ص) لأصحابه : «إن أحبكم إلى يوم القيامة وأقربكم مجلسا أحسنكم خلاقا المواطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون».

٨٩ ـ (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) الداعي دعوة الحق بأدلتها وبراهينها القائمة ما قام الليل والنهار.

٩٠ ـ ٩١ ـ (كَما أَنْزَلْنا) كما متعلق بآتيناك سبعا ، والمعنى أنزلنا عليك كتابا كما أنزلنا كتابا (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) جمع عضة عضة بمعنى جزء وعضو وبعض ، والذين جعلوا القرآن عضين هم اليهود والنصارى حيث جزأوه أجزاءا من حيث الكفر والإيمان ، فآمنوا ببعضه الذي يتفق مع أهوائهم ، وكفروا ببعضه الآخر الذي يصطدم معها ، وهؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين هم عين المقتسمين ـ أي قسموا القرآن أجزاءا كفرا ببعض وإيمانا ببعض ـ وعليه يكون المعنى لما ذا أهل الكتاب يكذبون بنزول القرآن وينفرون منه علما بأنهم يعترفون بنزول التوراة والإنجيل ويؤمنون بهما ٩٢ ـ ٩٣ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) يتحمل الإنسان العديد من المسئوليات ومنها المسئولية عما يسمع ويبصر حيث يجب عليه أن لا يقبل أو يرفض شيئا منهما إلا بعد التأمل والروية. قال سبحانه : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ـ ٣٦ الإسراء.» وقد سمع الجاحدون المعاندون من محمد دعوة الحق وأدلتها ، وأبصروا هديه وأمانته فكان عليهم أن يستخدموا عقولهم في دعوته ويفكروا بروية قبل أن يسرعوا إلى القول : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ـ ١٠٤ المائدة».

٩٤ ـ ٩٦ ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أعلن يا محمد كلمة الحق ـ وادع ولا تخف لومة لائم (وَأَعْرِضْ عَنِ

٣٤٤

الْمُشْرِكِينَ) والمستهزئين والثرثارين فلن يضروك شيئا.

٩٧ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) لا غرابة أن يتألم نبي الرحمة ويضيق صدره من الافتراءات والأكاذيب ، لأنه إنسان من لحم ودم ، ولكن ما هي العلاقة بين الحزن والعبادة حتى يأمره سبحانه بها إذا استشعر الحزن والضيق. يقول له :

٩٨ ـ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) الجواب : الأمر بالعبادة هنا كناية عن الاتكال على الله والفزع إليه وحده إذا ألم به ما يؤلمه ويزعجه.

٩٩ ـ (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) المراد باليقين هنا الموت ، والمعنى استقم كما أمرت حتى الموت ، وفي الآية ١٣٢ من البقرة : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وهو سبحانه المسئول أن لا يميتنا إلا على طاعته ومرضاته بالنبي وعترته عليه وعليهم أزكى الصلوات.

سورة النّحل

مكية وهي مائة وثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (أَتى أَمْرُ اللهِ) وهو وقت الحساب وجزاء الأعمال ، ووضع الفعل الماضي وهو أتى مكان الفعل المضارع لأنه واقع لا محالة ، وكل آت قريب» (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) إشارة إلى قول الجاحدين بالبعث وعقابه : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ـ ٧٠ الأعراف».

٢ ـ (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) المراد بالروح هنا الوحي ، لأنه للنفوس تماما كالأرواح للأبدان ، ومثله ما جاء في الآية ٥٢ من الشورى : «وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان» (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) هذا هو الأصل الأصيل لدعوة الأنبياء بالكامل : آمنوا بالله الواحد الأحد واتقوا معصيته وعقوبته ٣ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) واضح وتقدم في العديد من الآيات ، وآخرها الآية ٨٥ من الحجر واتقوا معصيته وعقوبته ٤ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أول الإنسان نطفة وآخره جيفة ، وهو ما بين ذلك ضعيف تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة ، كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع) ومع هذا يجادل في الله والحق بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ٥ ـ (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) في القرآن الكريم براهين وآيات متنوعة على وجود الله ، منها أن وجوده تعالى مستقر في كيان الإنسان وفطرته حتى في كيان الذين لا يؤمنون إلا بما يرون ويسمعون ، والدليل على ذلك أنهم يلجئون إلى الله تلقائيا إذا ضاقت بهم مسالك النجاة بعد أن فروا منه ، ومن هذا الباب الآية ٢٢ من يونس : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ). ومن البراهين على وجوده تعالى الآيات الكونية والمصنوعات الطبيعية. ومنها التذكير بآلاء الله ونعمائه كالآيات التي نحن بصددها (فِيها) أي في الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم (دِفْءٌ) والمراد به اتقاء البرد بما يصنع من جلودها

٣٤٥

وأصوافها وأوبارها وأشعارها (وَمَنافِعُ) بنسلها ودرها وركوبها وإثارة الأرض ـ أي حرثها ـ. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) اللحم المذكى.

٦ ـ (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) حسن المنظر (حِينَ تُرِيحُونَ) حين رجوعها عشيا من المرعى إلى المأوى (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) تبعثونها صباحا من المراح إلى المرعى.

٧ ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) والأثقال تشمل كل ما يمكن نقله من زاد وسلعة ومتاع (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) وأيضا السفر ونقل الأمتعة على الإبل والدواب تستدعيه الكثير من المشاق. بخاصة إذا كان الطريق على الصحراء ... ولكن لا وسيلة للنقل أيام زمان إلا الأنعام ، وبدونها لا تستقيم الحياة ، وكان الناس يدركون هذه النعمة وعظمتها ، ولذا امتن سبحانه بها عليهم ، وفضل الله على انسان القرن العشرين أجل وأعظم حيث مهد له السبيل لصنع السيارة والطائرة وغيرها بما وهبه من عقل وطاقات ، يكتشف بها العناصر والأسرار التي أودعها سبحانه فيما خلق وصنع من أشياء الكون والطبيعة.

٨ ـ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) بعد أن أشار سبحانه إلى منافع الأنعام الثلاث : الإبل والبقر والغنم ، أشار إلى منافع الخيل والبغال والحمير ، وأهمها الركوب والزينة في ذاك العصر. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) لله مخلوقات لا يحيط العقل بعلمها ، وكذلك آلاؤه ونعمه ، لا عدّ لهذه ولا حد لتلك ، والعلة واضحة ، وهي قدرته التي توجد الشيء من لا شيء دون أن تستعين بشيء ٩ ـ (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي عليه سبحانه البيان الواضح المقنع بطبعه الذي يميز الخبيث من الطيب والحلال من الحرام والخطأ من الصواب (وَمِنْها جائِرٌ) ضمير منها يعود إلى السبيل ، لأن هذه الكلمة تذكر وتؤنث ، وهي نوعان : مادية كالسبيل إلى السوق والمدرسة ، ومعنوية كالآراء والمعتقدات ، ومنها ما هو مستقيم كالاسلام ، ومنها ما هو معوج كغيره ، وإلى الرأي والدين المائل المعوج أشار سبحانه بكلمة جائر (وَلَوْ شاءَ) أن يلجئ ويقهر (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ولكنه ترك الإنسان وما يختار حرصا على حريته وانسانيته ، وتقدم في الآية ١١٨ من هود.

١٠ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) عذب فرات لا ملح أجاج (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) كل ما قام على ساق من نبات الأرض فهو شجر وتسيمون : ترعون فيه مواشيكم.

١١ ـ (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ ...) أنبت سبحانه بالماء كل ما يأكله الإنسان والحيوان من حب وخضار وربيع وثمار. وتقدم في الآية ٣٢ من ابراهيم و ٢٢ من الحجر ١٢ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ...) تقدم في الآية ٢ من الرعد و ٣٣ من ابراهيم.

١٣ ـ (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) سخر سبحانه لنا ما أودعه في الأرض من معادن جامدة ومائعة ونبات وغير ذلك.

٣٤٦

١٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ...) نأكل منه السمك ، ونستخرج منه الجواهر ، وتمخر أي السفن الماء يمينا وشمالا ... إلى غير ذلك من المنافع والفوائد (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولا تكفرون بالله ، وتتخذون من دونه أشباها وأندادا ، وأنتم تتمتعون بخيره وفضله.

١٥ ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) تقدم في الآية ١٩ من الحجر. (وَأَنْهاراً) أي وجعل سبحانه في الأرض أنهارا ينبع الواحد منها من بلد ، ويجري في أرض العديد من البلاد يمينا وشمالا وشرقا وغربا رزقا للعباد والدواب والأنعام (وَسُبُلاً) طرقا واضحة سالكة إلى ما تقصدون.

١٦ ـ (وَعَلاماتٍ) كالجبال والوديان والتلال (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) إذا سافروا في الليل برا وبحرا.

١٧ ـ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) هذا إشكال وإفحام بالحجة لا سؤال واستفهام (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وتميزون بين الخالق والمخلوق.

١٨ ـ ١٩ ـ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) تقدم بالحرف الواحد في الآية ٣٤ من ابراهيم (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز ويعفو عن كثير.

٢٠ ـ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) من شأن المعبود أن يكون خالقا لا مخلوقا ، ولكن المشركين يتركون الخالق ، ويعبدون المخلوق.

٢١ ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) الأصنام لا جماد لا حياة فيها ، فكيف تكون آلهة؟ (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) قال بعض المفسرين : ما يشعرون يعود للأصنام ، وضمير أيان يبعثون للمشركين. وفي رأينا أن الضميرين يعودان إلى الأصنام ، على أن يكون معنى أيان يبعثون لا يبعثون إطلاقا ، وما من شك أن الحي الذي يموت ثم يبعث أحسن حالا من الذي لا حياة فيه ولا بعث له.

٢٢ ـ (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ولكن أرباب الأهواء يرفضون ذلك ويقولون : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) تنكر التوحيد ، وتشمئز من ذكره كما جاء في الآية ٤٥ من الزمر (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ولا بشيء على الإطلاق إلا بالربح والمنفعة في الحياة الدنيا ، ولا يعملون إلا لها (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الحق عتوا وعنادا.

٢٣ ـ (لا جَرَمَ) حقا أو ما من شك (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ويعاملهم بما يستحقون

___________________________________

الإعراب : و (مُخْتَلِفاً) حال من (ما) وألوانه فاعل لمختلف ومواخر حال من الفلك لأن ترى هنا بصرية لا قلبية. والمصدر من ان تميد مفعول من أجله لألقى (وَأَنْهاراً) مفعول لفعل محذوف أي وأجري أنهارا.

٣٤٧

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) الذين يستنكفون عن التسليم بالحق والخضوع له.

٢٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إذا سألهم سائل عن القرآن الكريم نعتوه بما في عقولهم من جهل وسفه وما في نفوسهم من لؤم وحسد. وفي المقابل إذا سئل المتقون عن القرآن قالوا هو خير بما فيه من هداية وأحكام وآداب وثواب للذين أحسنوا في هذه الدنيا ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين كما يأتي في الآية ٣٠ من هذه السورة.

٢٥ ـ (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً) الأوزار : الجرائم والآثام ، وكاملة : يحكم عليهم بأشد العقوبات التي يستحقونها بلا تخفيف ورحمة (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يؤخذ هؤلاء بعذابين لا بعذاب واحد : الأول. على بغيهم وضلالهم والثاني على إضلالهم وإغوائهم الآخرين التابعين (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) حيث أضافوا وزرا إلى وزر ، وحملوا ثقلا على ثقل.

٢٦ ـ (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) حاول الطغاة أن تكون كلمتهم هي العليا ، وتحصنوا بالقلاع وخطوط الدفاع! ولكن الله سبحانه أتى عليها من الأساس ، وهذا هو مصير كل طاغ وباغ.

٢٧ ـ (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) بأنواع العذاب وأشدها (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالحق وعملوا به : (إِنَّ الْخِزْيَ) الذل والفضيحة (الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) التنكيل والعذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) بالله والحق والانسانية.

٢٨ ـ ٢٩ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بمعصيتهم لله وعدوانهم على عباده وعياله (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) استسلموا حيث لا سبيل للنفاق ولا للفرار (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي ما كنا نعتقد أنا ضالون مضلون (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لا تعتذروا إن الله يعلم المفسد من المصلح

___________________________________

الإعراب : (أَساطِيرُ) خبر لمبتدأ محذوف أي هذه أساطير والذي أنزله أساطير. و (لِيَحْمِلُوا) مضارع منصوب بأن مضمرة والمصدر المنسبك مجرور باللام متعلقا بقالوا ، واللام هنا معناها العاقبة مثل لدوا للموت وابنوا للخراب. أي كان عاقبة قولهم حمل الأوزار. و (ساءَ ما يَزِرُونَ) أعربها النحاة والمفسرون كما أعربوا بئس ونعم وما بعدهما ، وذكرنا ذلك في ج ٣ ص ١٨٨. والذي نراه ان ما مصدرية والمصدر المنسبك منها ومن يزرون فاعل ساء أي ساء وزرهم. و (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) نعت للكافرين. و (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال من ضمير تتوفاهم. و (خالِدِينَ) حال من واو أدخلوا. وفلبئس اللام للتأكيد ، وبئس فعل ذم ، وفاعلها مستتر أي بئس المثوى ، ومثوى المتكبرين تمييز ، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم وهي مبتدأ وجملة بئس وفاعلها خبر.

٣٤٨

٣٠ ـ (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ...) بعد الإشارة إلى الأشقياء المجرمين الذين وصفوا القرآن بالخرافة والأساطير ـ أشار سبحانه إلى الأتقياء المنصفين وأنهم إذا سئلوا عن القرآن ذكروه بكل تقديس وتعظيم ... وليس الإنصاف وقفا على المسلمين ، فكل من تحرر من الهوى والتعصب ، وفهم القرآن على حقيقته ، يقول : هو خير للناس وصلاح بهديه وتعاليمه.

٣١ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ ...) ملك دائم ونعيم قائم لمن أصلح وأحسن عملا (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) لأنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى.

٣٢ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) أي راضين مرضيين حيث تقول لهم الملائكة فيما تقول : سلام عليكم لا تخافوا ولا تحزنوا ، أدخلوا الجنة بما كنتم تعملون.

٣٣ ـ ٣٤ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) تقدم بالحرف الواحد في الآية ١٥٨ من الأنعام (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) لج وتمادى في البغي والضلال أسلاف هؤلاء وأشباههم ، فدارت دائرة السوء على رؤوسهم ، وهذي هي بالذات عاقبة الأنداد والأمثال لأن الأشياء المتماثلة تؤدي حتما إلى نتائج متماثلة.

٣٥ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ...) وهكذا المجرم والمقصر يلقي المسئولية على القضاء والقدر أو على الآخرين أو على الزمان أو الصدفة!. وتقدم في الآية اللغة : ينظرون ينتظرون. وحاق بهم أحاط بهم.

___________________________________

الإعراب : (ما ذا) بمعنى أي شيء ، ومحلها النصب بأنزل. و (خَيْراً) مفعول لفعل محذوف أي أنزل ربنا خيرا. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) خبر مقدم ، و (حَسَنَةٌ) مبتدأ مؤخر ، والجملة مستأنفة ، ويجوز ان تكون بدلا من خير. و (جَنَّاتُ عَدْنٍ) مخصوصة بالمدح بنعم. وجملة يدخلونها حال ، ويجوز ان تكون جنات عدن مبتدأ ويدخلونها خبرا ، والجملة مستأنفة ، والمخصوص بالمدح محذوف. و (طَيِّبِينَ) حال من ضمير تتوفاهم. وجملة يقولون حال من الملائكة.

٣٤٩

١٤٨ من الأنعام (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) إن الله سبحانه لا يتدخل في أفعال العباد بإرادته الشخصية التكوينية ، بل يشّرع ويبلّغ بلسان رسله ، وقد بلغوا وأنكروا على المتمردين المعاندين أشد الإنكار ، فاعترضوا وسخروا ، فحقت عليهم كلمة العذاب.

٣٦ ـ (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) تدل هذه الآية بوضوح أن الله سبحانه قد أرسل رسولا لكل أمة في كل قرن وإلى كل قطر ، وهذا ما يقتضيه العدل ، ويحكم به العقل ، حيث لا عقاب بلا تكليف وبيان ، وليس من الضروري أن يكون هذا الرسول نبيا ، له تاريخ مذكور وأثر مشهور ، فقد يكون عالما بدين الله أو عقلا خالصا من الشوائب.

(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) وهو الذي سلك طريق الهدى والتقى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) ـ ٥ الطلاق» (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) وهو الذي سلك طريق الضلال ، وأسرف في الفساد (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ـ ٢٨ غافر».

٣٧ ـ (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) لقد جاهدت يا محمد ، وحرصت كل الحرص على هداية الناس بعامة وقومك بخاصة ، ولكن مجرد الحرص ليس سببا لوجود الهداية ، وإنما السبب الأول هو رغبة الإنسان في الهدى وتحرره من الهوى (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) وهو مصر على الضلالة (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) إلا الندم والتوبة قبل فوات الأوان.

٣٨ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) ولا دليل على هذا النفي إلا الاستبعاد والشك ، والشك عند العلماء باعث وسبب للبحث والتنقيب لا للنفي بلسان الجزم (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) لا مفر منه لأسباب ، منها :

٣٩ ـ (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) اختلف الناس في ربهم وأنبيائهم وفي عاداتهم وآرائهم وفي العديد من الأشياء ، ولا بد من الحكم والفصل بين المحق والمبطل والطيب والخبيث ، ويوم القيامة هو يوم الحساب بالحق والعدل حيث لا حجج زائفة ولا أعذار كاذبة.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في قسمهم : لا يبعث من يموت ، ويقولوا : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ، هذا ما وعد الرّحمن وصدق المرسلون.

٤٠ ـ (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تماما بدأ الخلق بهذه الكلمة وبها يعيده ، وتقدم في الآية ١١٧ من البقرة وغيرها.

٤١ ـ ٤٢ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ...) وتصدق هذه الآية على الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة والمدينة المنورة ، وأيضا تشمل الذين شردوا عن ديارهم وأموالهم قسرا وعدوانا.

٣٥٠

٤٣ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) قال المعاندون لمحمد : أنت بشر ، والله فوق البشر باعترافك ، ومن كان فوق الناس لا يختار رسولا منهم ، فإذن ما أنت لله برسول! هذا هو منطق الشيطان وحزبه ، فأبطل سبحانه زعمهم بأن جميع أنبياء الله ورسله كانوا رجالا من أهل الأرض لا ملائكة من أهل السماء. هذا ، إلى أن رسالة محمد (ص) هي بذاتها تدل على أنها لسان الله وبيانه ، وهل من ذي لب عليم وسليم يجرأ على القول بأن القرآن ينطق عن محمد لا عن الله؟.

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال جماعة كثر من المفسرين : إن المراد بالسؤال هنا سؤال خاص ومعين بدلالة سياق الآية ، وهو هل أرسل الله إلى الأمم السابقة بشرا أو ملائكة؟ وعليه يتعين أن يكون المراد بأهل الذكر المسئولين هم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وفي تفسير ابن كثير القرشي : «أن محمدا الباقر قال : نحن أهل الذكر. وعلماء أهل بيت رسول الله عليهم‌السلام والرحمة من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة».

٤٤ ـ (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) متعلق بأرسلنا : والبينات : الحجج والدلائل ، والزبر : الكتب (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (الذِّكْرَ) القرآن (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) هذي هي مهمة الأنبياء أن ينقلوا عن الله لعباده حرامه وحلاله وثوابه وعقابه ، لا أن يتنبأ كل نبي ويجتهد طبقا لمزاجه وخياله وإلا كان الأنبياء تماما كأبي حنيفة والمالكي والشافعي وغيرهم من أئمة المذاهب. وبهذا يتبين الخطأ في قول من قال من علماء السنة : يجوز للنبي أن يجتهد فيما لا نص فيه.

٤٥ ـ ٤٦ ـ (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) قال المفسرون : المراد بالماكرين هنا مشركو مكة ، لأنهم ألبوا على النبي (ص) وتآمروا على قتله (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) فتبتلعهم أحياء كما فعل سبحانه بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) في أسفارهم وحال اشتغالهم في أمورهم الخاصة والعامة ٤٧ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) أي وهم خائفون يترقبون أن يحل بهم العذاب (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لا يعجل العقوبة لمن يستحقها ، بل يمهل ويفتح باب التوبة ، ويقول : من دخله كان آمنا ٤٨ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) قد يقال : وأي عجب أن يكون للشيء ظل وفيء ما دام هناك شمس وأرض تدور حولها؟ الجواب : ليس القصد من ذلك مجرد الإخبار بأن لكل جسم ظلا كي يكون تحصيلا للحاصل وكتفسير الماء بالماء ، وإنما القصد التنبيه إلى نظام الكون بأسره ، وأنه تعالى أتقن كل شيء من خلقه ووضعه في فلكه تماما كما يقال : الرجل المناسب في المكان المناسب ، وضرب مثلا لذلك بالظل ، وأنه لو لم تكن الشمس في فلكها والأرض في مكانها ما كان لكل جسم ظل ، وكذلك سائر المخلوقات ، كل في فلك يسبحون (سُجَّداً لِلَّهِ) أي كل الكائنات تخضع لتدبير الله ، وتنطق بكماله وجلاله وبالغ قدرته وحكمته (وَهُمْ داخِرُونَ) أي منقادون صاغرون ولمناسبة الإشارة إلى الفيء ننقل هذه الكلمات من دعاء للإمام زين العابدين وسيد

٣٥١

الساجدين (ع) «سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور ، سبحانك تعلم وزن الفيء والهواء» فمن أين جاءه هذا العلم يومذاك إذا لم يكن عن أبيه عن جده عن جبريل عن الباري؟

٤٩ ـ ٥٠ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ ...) قال الإمام الصادق (ع) : «السجود على نوعين : إرادي وطبيعي» والأول سجود العقلاء ، والثاني سجود سائر الموجودات بمعنى أنها في قبضة الله ، وتدل على قدرته وعظمته من باب دلالة المصنوع على الصانع. وتقدم في الآية ١٣ وما بعدها من الرعد.

٥١ ـ ٥٢ ـ (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) قال الإمام علي (ع) في وصيته لولده الحسن (ع) : «لو كان لربك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنه إله واحد» وتقدم في الآية ١٧١ من النساء و ٧٣ من المائدة (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) المراد بالدين هنا الطاعة ، وبالواصب الدائم ، والمعنى تجب طاعة الله في كل شيء ، ومن أطاعه في الصوم والصلاة ، وعصاه عند بروق المطامع فما هو من دين الله في شيء (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) وترجون أن يحقق ما في نفوسكم من ميول ورغبات.

٥٣ ـ ٥٤ ـ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) مالا كانت أو ولدا أو جاها أو عافية (فَمِنَ اللهِ) لا من سواه ، فكيف تلجئون وتتذللون إلى مخلوق مثلكم طمعا بما في يده (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) ترفعون أصواتكم مستغيثين بالله أن يكشف عنكم الضر علما منكم بأنه تعالى هو وحده الذي يدفعه ويزيله. وهنا مكان الغرابة : تلجئون إلى الله مضطرين ، وتبتعدون عن طاعته مختارين! وتقدم في الآية ١٢ من يونس ٥٥ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) المراد بالكفر هنا كفران النعمة وجحودها ، واللام في ليكفروا للعاقبة ، والمعنى أن الله أنعم عليهم بالكثير ، فكانت عاقبة الحسنى كفرا لا شكرا (فَتَمَتَّعُوا) بما أنعم الله عليكم واعملوا ما شئتم (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبتكم الوخيمة ، وتندمون حيث لا ينفع الندم ٥٦ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) يشير سبحانه بهذا إلى الجاهلية المشركة وأن أهلها كانوا يعبدون الأصنام ، ويجعلون لها نصيبا في أموالهم ، وتقدم في الآية ١٣٦ من الأنعام.

٥٧ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) قالوا : الملائكة إناث وهن بنات الله ، فنسبوا إليه أخس القسمين من الأولاد ، أما القسم الأفضل الذين يحبون وهو الذكور ، فنسبوه لأنفسهم كما في الآية ٢٢ من النجم : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) ٥٨ ـ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) كناية عن الهم والكآبة (وَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلئ بالغيظ ، ولكن يتجرعه ولا يظهره.

٥٩ ـ (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) حتى كأنه ارتكب أبشع الأفعال وفكّر : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) هل يبقي المولود المشئوم صابرا على المذلة والمهانة

٣٥٢

(أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) حيا كما كانوا يصنعون في الجاهلية.

٦٠ ـ (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي الوصف القبيح كقتل الأطفال وغيرهم من الأبرياء والسلب والنهب والسفه والجهل (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الوصف العلي العظيم. وتجدر الإشارة أن القصد من ذكره تعالى مع ذكر هؤلاء الرد على قولهم : لله البنات ولهم البنون.

٦١ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل ، ولو كان الجزاء منه تعالى في دار الدنيا لكانت الآخرة لزوم ما لا يلزم ، إضافة إلى أن الخضوع خوفا من السيف المشهور فوق الرأس ، لا يعد طاعة ومنقبة (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لتظهر أفعالهم التي يستحقون عليها الثواب والعقاب بعد تراكم الأدلة وتكرارها وقيام الحجة ولزومها وفتح باب التوبة بمصراعيه (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ...) واضح ، وتقدم في الآية ٣٤ من الأعراف و ٤٩ من يونس.

٦٢ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم من البنات والشركاء في السيادة والرياسة (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ومنه ادعاؤهم (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) العاقبة الحسنة ، فرد سبحانه هذا الادعاء الباطل بقوله : (لا جَرَمَ) لا شك في (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) وبئس القرار (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) بفتح الراء مع تخفيفها من الفرط بمعنى السبق لا من الافراط. بمعنى التجاوز ، والمعنى أنهم السابقون إلى النار.

٦٣ ـ (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلا (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد فلم يستجيبوا لرسلهم ، بل قاسوا منهم ألوانا من الأذى (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فاستمعوا له وأطاعوه ، وعصوا الرسل كما عصاك وآذاك مشركو قريش ، فهون عليك ولا تحزن ، فإن لك اسوة بإخوانك النبيين.

٦٤ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) تشير هذه الآية إلى أن الله سبحانه أنزل القرآن على محمد (ص) لغايات ثلاث. الأولى : أن يرد إليه كل قضية دينية يختلف فيها اثنان. الثانية : أن يهدي به من ضل سواء السبيل. الثالثة : أن شريعة القرآن عدل ورحمة للعالمين ، لأن أحكامها بالكامل تهدف إلى جلب المصلحة ودرء المفسدة ، فما من شيء فيه خير وصلاح إلا وأمرت به وجوبا أو ندبا ، وما من شيء فيه شر وفساد إلا ونهت عنه تحريما لا كراهة.

٦٥ ـ (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) كلنا يعلم أنه لا حياة بلا ماء ، ولكن القرآن يذكر بنعم الله وإفضاله من له أذن تسمع وقلب يخشع ، وتقدم في العديد من الآيات منها الآية ٢٢ و ١٦٤ من البقرة.

٣٥٣

٦٦ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) دلالة على قدرة الخالق وحكمته (نُسْقِيكُمْ مِمَّا) من هنا للتبعيض أي من بعض الأنعام وهو الإناث لأن الذكور لا لبن فيها (فِي بُطُونِهِ) يعود الضمير إلى بعض الأنعام (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) والفرث ما يبقى في الكرش بعد الهضم ، ويقول العارفون : إذا هضمت معدة الحيوان الغذاء طردت الفضلات الضارة إلى الخارج ، وتمتص العصارة النافعة ، فتتحول إلى دم يسري في العروق والغدد التي في ضرع الأنثى ، ويصبح لبنا خالصا من رائحة الفرث والدم ولونهما وطعمهما.

٦٧ ـ (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) الظاهر من كلمة السكر الشراب المسكر خمرا كان أو غيره ، ولا تومئ هذه الآية من قريب أو بعيد إلى تحليل المسكر أو تحريمه ، وإنما حكت عن عادة الناس وانهم يتخذون من ثمرات النخيل والأعناب شرابا مسكرا ، أما الرزق الحسن فالمراد به التمر والرطب والزبيب والعنب وما إلى ذلك ، وتحدثنا عن حكم الخمر في القرآن والإسلام عند تفسير الآية ٢١٩ من سورة البقرة ، وفي الجزء الرابع من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق (ع) باب الأطعمة والأشربة.

٦٨ ـ (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) المراد بالوحي هنا الغريزة ، لأن الحيوان لا يفكر ويخطط بعقل بل بغريزة تقوده آليا وتلقائيا إلى ما يضطر إليه في حياته وبقائه تماما كالكون تسيّره وتتحكم به النواميس الطبيعية التي أودعها الله فيه (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) قال الرازي : «النحل نوعان : نوع يسكن في الجبال والغياض ـ أي مجتمع الشجر ـ ولا يتعهده أحد ، وهو المراد بقوله تعالى : أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ، ونوع يسكن بيوت الناس ، ويكون في تعهدهم وهو المراد بقوله : (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ٦٩ ـ (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الطيبة اليانعة (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) سيري أنى تشائين ، فكل الطرق سالكة أمامك ومذللة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) بياضا وحمرة وصفرة تبعا للمرعى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) من بعض الأمراض كفقر الدم وسوء الهضم والتهاب الفم وغير ذلك.

٧٠ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) كل فرد من أفراد الإنسان كان في طي العدم والكتمان ، ثم أنشأه الله حيا يقاسي عذاب النزع والاحتضار منذ ولادته إلى ساعة أجله ، فيعود إلى عالم العدم من هذه الدنيا كأن لم يكن شيء (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) ضعيف في الجسم ، وقلة في العلم ، وخرف في العقل ، وسوء في الحفظ ، وفوق ذلك علل وأسقام أشكال وألوان حتى كره وجوده وضاق به أهله ، ومل ممرضه.

٧١ ـ (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) هذا مجرد تعبير وحكاية عما هو الواقع بالفعل تماما كما لو قال : بعض الناس أغنياء وبعضهم فقراء ، وأسند الرزق إلى مشيئته تعالى لأنه جرى على الأسباب التي تنتهي إليه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ـ ٢ الفرقان» أي بنظام وحكمة ، وفي الآية ٢٠ من الشورى ربط سبحانه رزق الدنيا والآخرة بإرادة الإنسان : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها).

٣٥٤

وفي الآية ١٨ و ١٩ من الاسراء : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها) ... (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) وأخيرا نكرر ونؤكد لا طبقات في الإسلام على أساس الجاه والمال والأنساب.

(فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) وهم الأغنياء (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) على مماليكهم وعبيدهم (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي لا يرضي الأغنياء بالمساواة بينهم وبين العبيد في الأموال ، والآية بجملتها رد على المشركين الذين جعلوا لله أندادا وأشباها من خلقه ، ووجه الرد أن هؤلاء لا يرضون بحال أن يشاركهم في أموالهم أحد من عبيدهم ، فكيف يرضي سبحانه بالمساواة بينه وبين عبيده في الالوهية والكمال والجلال؟ وهل شأن الله تعالى دون شأنكم أيها المشركون؟ وبكلمة هل لكم شركاء من عبيدكم فيما تملكون حتى نسبتم إلى الله شركاء من عبيده فيما خلق

٧٢ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) من جنسكم لا من جنس آخر ، كي يتم الإنس والمشاركة في الحياة الزوجية بين الزوجين ... هذا ما يجب أو ينبغي أن يكون ، أما ما هو كائن بالفعل فمطلب آخر ... ويستحيل أن تتآلف الأخلاق والأرواح إلا إذا تعارفت ، وتعاطفت كما في الحديث الشريف (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) أولا أولاد ، كان أكثرهم من قبل نعمة ، أما بعد «الخنافس والمنيجوب» فالكثير منهم نقمة. وفي سفينة البحار للقمي حديث طويل عن الذين يأتون في آخر الزمان ، جاء فيه : «فعند ذلك حلت العزوبة ، قالوا يا رسول الله أمرتنا بالتزويج ، قال : بلى ولكن إذا كان ذلك الزمان فهلاك الرجل على يد زوجته وولده ... يكلفونه ما لا يطيق حتى يوردوه موارد الهلكة». (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) مطعما ومشربا ، إضافة إلى الأزواج والأولاد وغير ذلك من المستلذات.

٧٣ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) تقدم في الآية ١٨ من يونس.

٧٤ ـ (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) لا تجعلوا لله أمثالا وأشباها في الخلق والالوهية.

٧٥ ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) هذا مثل للأصنام التي يصنعها الوثنيون بأيديهم ثم يعبدونها! أنها تماما كالعبد المملوك الذي لا يرجى خيره ، ولا يخشى شره ، بل أسوأ منه وأضعف (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) هذا مثل لحر غني قوي وكريم ، يتصرف في نفسة وماله كيف يشاء (هَلْ يَسْتَوُونَ) الحر القادر والعبد العاجز ، وإذا رفضت الفطرة والبديهة هذه المساواة ، فكيف صح في أفهام الوثنيين أن يساووا بين الخالق الرازق وبين وثنهم الذي تبول عليه القطط والكلاب؟. وكل دين أو فكر أو مبدأ إذا لم يتجاوب مع الحياة ومطالبها ، ولم يحررها من الفاقة والحاجة ، ويعبر بها إلى الحرية والكرامة فهو جهالة وضلالة.

٧٦ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) هذا مثل آخر لعبادة الأصنام بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ، وشبهها هنا بالأبكم والكل في قوله (أَحَدُهُما أَبْكَمُ) أخرس لا يفهم ولا يفهّم (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌ) ثقل وعيال (عَلى مَوْلاهُ) الذي يعيله (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) عجزا وقصورا لا تهاونا وتقصيرا (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ

٣٥٥

عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هل يستوي الأخرس الكل العاجز الذي لا يقدر على شيء هو والقادر على كل شيء والحكيم العادل الذي أعطى كل شيء خلقه وحقه؟ فكيف ساويتم أيها الوثنيون في العبادة بين الله تعالى الجامع لصفات الكمال والجلال وبين أصنام صم بكم؟ وجاء في التفسير المسمى بالتسهيل لمحمد بن أحمد الكلبي «أن الرجل أبو جهل ، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر.

٧٧ ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) يوم القيامة (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) بيان لقدرته تعالى ، وأن إعادة الخلق بعد فنائه أيسر عنده من رد الطرف عندنا.

٧٨ ـ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ...) لا أحد يشك ويناقش في أن الإنسان يخرج من بطن أمه صحيفة بيضاء خالية من كل صورة ورسم إلا من الهداية لاجترار الغذاء من الثدي ، وإنما الخلاف بين الفلاسفة في أن المبادئ العقلية هل هي بالكامل وليدة الحس والتجربة أو أن بعضها وليد الفطرة يدركها العقل تلقائيا بلا دليل ومقدمات كمبدأ الذاتية الذي يقول : إن الشيء هو عين ذاته. ولا يمكن أن يكون شيئا آخر ، وبعضها كسبي لا يدرك إلا بدليل؟ واكثر العلماء والفلاسفة على هذا الرأي ، وهو الحق وإلا لم تكن لدينا قضايا يقينية على الإطلاق لأن القضية اليقينية لا بد او أن تستند إلى البديهة مباشرة أو بالواسطة. وفي أية حال فان مصدر المعرفة الفطرية والنظرية لا يتجاوز (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على هذه النعم.

٧٩ ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) المراد بمسخرات مهيئات للطيران ، وبالإمساك عدم السقوط على الأرض ، ومن الواضح أن الله يجري الأمور على أسبابها ، ويسندها إليه لأنه سبب الأسباب. وقد اشتهر على الألسنة : إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه ، وعليه يكون المعنى أن الله خلق للطير جناحين وزوده بكل معدات الطيران وأدوات ٨٠ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) فهل أوجد سبحانه السكن بيده أو أرسل لبنائه ملائكة السماء أو قال له كن فكان ، كلا وإنما وهبنا العقل وأرشدنا إلى طريق العلم وقال : (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) تستخفونها : خفيفة الحمل. والظعن : السفر ، والإقامة المكث واللبث ، والبيوت بشتى أنواعها نعمة من الله على عباده ، لا يعرف قدرها إلا الذين لا بيوت لهم ، ولحصانة البيوت واحترامها أحكام خاصة في كتب الفقه الإسلامي (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) الصوف من الغنم ، والوبر من الإبل ، والشعر من المعز ، والأثاث محتويات البيت ، والمتاع كل ما ينتفع به سوى الذهب والفضة و «إلى حين» إشارة إلى أن الدنيا بالكامل لا قرار لها ولا دوام.

٨١ ـ ٨٢ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) جمع ظل ، يقي من حر الشمس (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) حصونا ومعاقل (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) قمصانا (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والبرد أيضا ، وحذف هذا لدلالة ذاك عليه (وَسَرابِيلَ) دروعا (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) عند الطعن والضرب.

٣٥٦

(كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أي تستسلمون للحق وتؤمنون بالله ، وقد يظن أن الله سبحانه دعا إلى الإيمان به عن طريق العقل فقط بالنظر إلى الكون وما خلق من شيء مع العلم بأنّا نقرأ في القرآن الكريم ـ إلى جانب الآيات العقلية الكونية ـ آيات من نوع آخر ، تحرك الإنسان وتؤثر به تأثيرا أبلغ وأعمق من تأثير العقل ومنطقه. وهي الآيات التي خاطبت العاطفة والمنفعة الشخصية الشرعية ، وما أكثرها في كتاب الله ، ومنها قوله تعالى : (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) وقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) إلى غير ذلك مما سبق ويأتي.

٨٣ ـ (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) المراد بمعرفتهم نعمة الله أنهم يتمتعون بها ، وبإنكارهم إياها أنهم لا يؤدون حقها من الشكر ويحمدون الواهب على جوده وعطائه.

٨٤ ـ (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) هذا دليل آخر على أن لكل أمة نبيا أو إماما أو عالما بدين الله ، وانه يشهد عليها بما أجابت وفعلت حين أبلغها رسالة الله سبحانه وبشّر وأنذر (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالرد والاعتذار بعد أن قامت الحجة عليهم بشهادة الرسول (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يطلب من الطغاة والعصاة أن يسترضوا الله سبحانه بالتوبة والاستغفار حيث لا عمل واسترضاء في يوم القيامة ، بل حساب وجزاء.

٨٥ ـ (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) الظالم المعتدي على حقوق الآخرين لا ظلم عليه يوم القيامة ، بل يأخذه الله بظلمه وكفى من غير زيادة ، وأيضا لا يرحمه ويلطف به بتخفيف العذاب ونقصانه ، ورحمته تعالى وإن اتسعت لكل شيء ، فإنها تضيق بالظالم لعباده وعياله ، وليس عندي في ذلك أدنى ريب (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) بل يسرعون إلى جهنم ، فتستقبلهم بسعيرها وزفيرها ٨٦ ـ (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) وهم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، وتدل هذه الآية أن معبود المشرك يحشر معه يوم القيامة حتى ولو كان حجرا تأكيدا للحجة عليه ، وعن الإمام الباقر (ع) : لو أحبنا حجر حشره الله معنا ، وهل الدين إلا الحب (قالُوا) أي المشركون (رَبَّنا هؤُلاءِ) إشارة إلى الشركاء المعبودين : (شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) ليس هذا مجرد اعتراف بالخطإ بل وأنهم لا يسمعون ولا يعقلون كما في الآية ١٠ من الملك : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) أنطق سبحانه الآلهة المزعومة وقالت : أيها المشركون (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) ومفترون في جعلنا شركاء لله ٨٧ ـ (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) استسلم العابد الجاهل والمعبود الزائف لحكم الله وعذابه.

٨٨ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) عذابا على كفرهم وضلالهم ، وعذابا على إفسادهم في الأرض وإضلالهم الناس عن الحقّ واتباعه. وتقدم في الآية ٢٥ من هذه السورة

٣٥٧

٨٩ ـ (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) تقدم في الآية ٨٤ من هذه السورة ، وأعاد الآن تهديدا للذين كذبوا محمدا (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) الخطاب لمحمد (ص) وهؤلاء إشارة إلى من حرف وزيف من أمته (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) في الجزء الأول من أصول الكافي أن الإمام الصادق (ع) قال : «ما خلق الله حلالا ولا حراما إلا وله حد ... حتى أرش الخدش» وأن الإمام الباقر (ع) قال لأصحابه : «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني أين هو من كتاب الله ، ثم قال في بعض حديثه : نهى رسول الله (ص) عن القيل والقال ، وفساد المال ، وكثرة السؤال. فقيل له : أين هذا من كتاب الله؟ فقال : إن الله عزوجل قال : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ـ ١١٤ النساء ... وقال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) ـ ٥ النساء. وقال (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ـ ١٠١ المائدة». والآية الأولى نهت عن القيل والقال ، والثانية عن فساد المال ، والثالثة عن كثرة السؤال.

٩٠ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أمر سبحانه في هذه الآية بثلاث خصال حميدة : العدل وهو الإنصاف ، والإحسان وهو التفضل لوجه البر والإحسان. وسئل الإمام علي «أيهما أفضل : العدل أو الجود؟ فقال : العدل يضع الأمور مواضعها ، والجود يخرجها من جهتها ـ أي يتجاوز بالأشياء إلى جهة الإحسان ـ العدل سائس عام (أي نظام عام لا تستقيم الحياة بدونه) والجود عارض خاص ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما» ، والخصلة الثالثة إيتاء ذي القربى ، وهو من مظاهر الإحسان ، ولكنه أعلاها ، ولذا خصه سبحانه بالذكر (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) ونهى سبحانه عن ثلاث خصال قبيحة : الفحشاء ، وأفحش الفحش الزنا لأنه في الآخرة بين يدي عذاب شديد ، وفي الدنيا عار على الزاني والزانية وعلى أولادها وأمها وأبيها ، والمنكر : كل ما ينكره العقل والشرع ، والبغي : العدوان على حق من حقوق الناس ، وهو أكبر الكبائر ، وتصدق عليه كلمة الفحشاء والمنكر والإثم. وأيضا الكفر ، قال سبحانه : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) ٩٩ الإسراء» وتجمع هذه الآية أمهات الفضائل قال عثمان بن مظعون : أسلمت استحياء من رسول الله ، وما قر الإسلام في قلبي حتى نزلت هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) ...» ٩١ ـ (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) وكل من آمن بالله فقد أعطاه عهدا أن يأتمر بأمره ، وينتهي بنهيه ، ومن يعص الله في شيء فهو من الناكثين النابذين لعهد الله تعالى (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) الإيمان جمع يمين ، وتوكيدها : عقدها (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) رقيبا ومتكفلا بالوفاء ٩٢ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) شبه سبحانه ناقض العهد والأيمان بالحمقاء التي تنقض الغزل بعد إبرامه (تَتَّخِذُونَ) أي أتتخذون (أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) غدرا ومكرا (بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى) أكبر قوى (مِنْ أُمَّةٍ) كانت القبيلة في الجاهلية تحالف أخرى ، فإذا جاءتها قبيلة أقوى منها غدرت بها ، وجالفت الثانية ، فنهى سبحانه عن هذا وأنكره (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) ضمير به

٣٥٨

يعود إلى أمر الله بالوفاء ، والمعنى أنه تعالى يأمر العباد بالخير ، وينهاهم عن الشر ليتميز المطيع من العاصي والطيب من الخبيث.

٩٣ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ) بالقسر والإلجاء (أُمَّةً واحِدَةً) ولكنه ترك الإنسان وما يختار ليتحمل مسؤولية عمله. وتقدم في الآية ٤٨ من المائدة و ١١٨ من هود.

(وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) المراد بالضلال هنا العذاب على المعصية ، وبالهدى الثواب على الطاعة بقرينة قوله تعالى بلا فاصل : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وتقدم مرارا أن الله لا يحكم بالضلال إلا على من ضل ولا بالهدى إلا على من اهتدى : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ـ ١٠٨ يونس».

٩٤ ـ (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تقدم قبل لحظة في الآية ٩٢ ، وكرر سبحانه ليهدد الماكر الغادر بقوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) أي يرجع المرء عن الحق والعهد الذي التزم به ، إلى النكث والباطل ، وتستعمل هذه الكلمة في الذي استقام على الحق ثم حاد عنه (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) العذاب (بِما صَدَدْتُمْ) أعرضتم وانصرفتم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ٩٥ ـ (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) لا تؤثروا منافعكم الخاصة على الحق ، ولا تعتاضوا عنه أي ثمن ، فإن متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير وأبقى.

٩٦ ـ (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) بل نحن أيضا ننفذ ، ولا بقاء لفرع بعد ذهاب أصله ، والباقي هو الله والعمل الصالح لوجه الله كما أشار سبحانه بقوله : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي صبروا على الجهاد في سبيل الله والنضال لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، لا على الفقر والتفريط بالحق والعدل ، لأن الله سبحانه لا يعفي المظلوم من مقاومة الظالم وردعه بكل سبيل.

٩٧ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ...) أبدا لا فرق لأن الكل من آدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وتقدم في الآية ١٢٤ من النساء ٩٨ ـ (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الاستعاذة من الشيطان راجحة ومستحبة في شتى الأحوال ، بخاصة عند تلاوة الذكر الحكيم ، ولكن السلاح الأقوى والأمضى الذي نستظهر به على الشيطان وحزبه هو الإخلاص في الدين والعمل باعتراف الشيطان وقوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ٨٣ ص» وصدق سبحانه قوله هذا في العديد من الآيات ومنها قوله جل وعز :

٩٩ ـ (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وإن قال قائل : لقد شاهدنا سلطانه وأثره بعض الأحيان ، على من آمن بالله واليوم الآخر ، قلنا في جوابه : أجل ، ولكن المؤمن حقا وصدقا يثوب ويتوب ، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له ١٠٠ ـ (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) وهم من أسلسوا له القياد ولم يجاذبوه ويقاوموه (هُمْ بِهِ) أي بسبب طاعة الشيطان (مُشْرِكُونَ) وليس من الضروري أن يجعلوه مع الله إلها أخر فإن يسير الرياء شرك ١٠١ ـ (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ)

٣٥٩

لله سبحانه أحكام أبدية ، تبقى ما بقي الدهر ، لا يسوغ فيها النسخ والتغيير ولا التقليم والتطعيم ولا الخلاف والاجتهاد كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، والصوم والصلاة والحج والخمس والزكاة ، وأيضا له سبحانه أحكام أمدية لا أبدية ، تستدعي الحكمة أن يشرعها لأمد معين ، وأيضا تستدعي الحكمة أن لا يصرح سبحانه بهذا الأمد عند إنشاء الحكم حتى إذا انتهى الأمد ارتفع الحكم ، وشرع حكما آخر مكانه ، أيضا على وفق الحكمة والمصلحة ، ويسمى هذا نسخا ، وتقدم الكلام عنه في الآية ١٠٦ من البقرة (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كان المشركون إذا رأوا نسخ حكم بآخر يقولون هذا افتراء على الله ، ولو كان من عنده ما تبدل وتغير ، بل هم الجاهلون المفترون.

١٠٢ ـ (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) وهو جبريل ، ولقّب بذلك لأنه نزل بقدس الأقداس ـ أي القرآن ـ على محمد (ص) (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) بالصدق والعدل والهدى والرحمة.

(لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) من الإيمان ما هو زعم ووهم ، يذهب مع الريح لأدنى عارض وطارئ ومنه ما هو أرسى من الجبال الراسيات ، وهو القائم على الفهم عن الله ورسوله كتابا وسنة (وَهُدىً) للتي هي أقوم (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) بأن لهم من الله أجرا كبيرا.

١٠٣ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) قال الذين تنكروا لكل خير وحق وصدق : هذا القرآن تعلمه محمد من فلان الفلاني ، فرد سبحانه عليهم بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ...) المراد باللسان هنا اللغة والكلام ، وبالإلحاد النسبة والإسناد ، والمعنى : هذا القرآن عربي مبين ، والذين تسندون القرآن إليه يجهل اللغة العربية! فمن أين جاءته هذه المعجزة؟ وعلى قولكم هذا ينبغي أن يكون الأعجمي الذي تزعمون هو النبي. فلما ذا لا تتخذوه نبيا؟.

١٠٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بالقرآن ونبوة محمد (ص) بعد الحجة الدامغة والبرهان القاطع ، أولئك (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) أي لا يثبتهم بدليل قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

١٠٥ ـ (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) إن الكذب والافتراء بكم أليق وألصق أيها الجاحدون المعاندون ، لأنكم لا تؤمنون بحق ، ولا تنطقون بصدق. ولا تحفلون بخير ، أما محمد فهو أفضل وأكمل ما في البشرية من فضائل وأخلاق ١٠٦ ـ (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ، والدليل على هاتين الجملتين المحذوفين قوله تعالى في آخر الآية : (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) وعليه يكون (مَنْ كَفَرَ) مبتدأ وخبره محذوف تقديره فعليهم غضب من الله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) قال المفسرون من السنة والشيعة : إن المشركين عذبوا عمار بن ياسر حتى يعطيهم من لسانه كلمة كافرة ، فتفوه بها مكرها. فقال بعضهم : يا رسول الله إن عمارا كفر : فقال الرسول (ص) : كلا ، إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، وجاء عمار إلى النبي (ص) باكيا ، فمسح عينيه وقال : مالك؟ إن عادوا فعد فنزلت (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ...) وقال ابن كثير الشافعي الدمشقي في تفسير هذه الآية اتفق العلماء على أن المكره يسوغ له النطق بكلمة الكفر إبقاء على

٣٦٠