التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

من الانهيار ، والمعنى ليس البناء القائم على أساس قوي متين كالبناء القائم على حافة النهر وفي معرض السيل ، وهذا الفرق بين البنائين يصدق تماما على الفرق بين المؤمن والمنافق ، والمخلص والخائن. وعلى كل مجال من مجالات الحياة كالحكومات والمؤسسات والشركات والصداقات وجميع العلاقات.

١١٠ ـ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ) أي هدم مسجد المنافقين (الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً) وغيظا (فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) والمعنى أن أهل مسجد ضرار امتلأت قلوبهم حقدا وغيظا بسبب هدمه ، ولا يزال هذا الحقد والغيظ يفتك في قلوبهم حتى يقطعها إربا إربا.

١١١ ـ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) المشتري هو الله سبحانه والبائع المؤمنون ، والثمن الجنة ، والمثمن الأنفس والأموال ، والواسطة في إتمام الصفقة بين البائع والمشتري محمد (ص). فهل من متجر رابح أزكى من هذا وأبقى؟ وفي نهج البلاغة : كل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية.

١١٢ ـ (التَّائِبُونَ) أي أن الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم هم التائبون من الذنوب (الْعابِدُونَ) وكل عمل صالح ونافع لوجه الله والخير فهو عبادة ، بل كف الأذى عن الناس من أفضل العبادات (الْحامِدُونَ) الله في السراء والضراء (السَّائِحُونَ) في الأرض لطلب العلم أو الرزق الحلال أو أي عمل يخدم الإنسان وينفعه (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) المصلون (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي ينشرون دعوة الحق ، ويناصرونه أينما كان ويكون ، ويعتبر الأمر بالمعروف أنجح وسيلة من وسائل الإعلام ، ولذا حث عليها الإسلام ، واستمسك بها الأنبياء وغير الأنبياء ، وكانت الخطة الإعلامية لمحمد (ص) سماحة الخلق ، ورحابة الصدر ، ورجاحة العقل ، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبفضل حكمته وصفاته رفرفت راية الإسلام على شتى بقاع العالم. (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) وهي حلاله وحرامه.

١١٣ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) جاء في تفسير الطبري والرازي والمنار والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي في سبب نزول هذه الآية : «أن جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا ، فنزل قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الخ ...» وهذا القول أرجح الأقوال وأصحها. وقيل : «نزلت في أبي طالب لأنه مات على غير الإسلام. وهذا أبعد ما يكون عن الحق والواقع ، لأن النبي (ص) حين مات عمه أبو طالب بكى وطلب له من الله الرحمة والمغفرة ، وأمر ولده عليا بتغسيله وتكفينه بشهادة ابن سعد في طبقاته ج ١ ص ١٢٣ طبعة سنة ١٩٥٧. وشهادة صاحب السيرة الحلبية ج ١ ص ٤٦٧ باب وفاة أبي طالب : «أن عليا حين أخبر النبي بموت أبيه أبي طالب بكى وقال لعلي : اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه». وفي سيرة ابن هشام ص ٢٤٧ من القسم

٢٦١

الأول طبعة سنة ١٩٥٥ : «أن أبا طالب قال لولده علي : «ان محمدا لم يدعك إلا إلى خير فالزمه» ولا معنى للإسلام إلا الاعتراف بأن دعوة محمد خير يجب اتباعه وطاعته

١١٤ ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ...) وعد إبراهيم الخليل (ع) أباه أن يستغفر له كما في الآية ٤ من الممتحنة ، فأوحى سبحانه إلى خليله أن أباك لن يؤمن ، بل يموت كافرا ، فانقطع رجاؤه وتبرأ منه (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) هو الذي يكثر التأوه والبكاء والدعاء خوفا من الله.

١١٥ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) إذا عمل المؤمن عملا محرما عن جهل بالتحريم كما لو استغفر لقريبه المشرك ـ فإن الله لا يضله (أي لا يؤاخذه) إلا بعد البيان والإعلام ، فإن خالف بعد هذا استحق العقاب.

١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) واضح ، وتقدم في الآية ١٥٨ من الاعراف.

١١٧ ـ (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) المراد بالتوبة على النبي (ص) والذين أطاعوه في اليسر والعسر ـ الرحمة والرضوان ، وليس الصفح عن الذنب. (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أصاب المسلمون قسوة وشدة في غزوة تبوك ، فكان العشرة يتناوبون على بعير واحد ، والرجلان يقتسمان تمرة واحدة ، فانهارت أعصاب بعض الصحابة ، وهموا أن يفارقوا الرسول (ص) ولكنهم لم يفعلوا ، بل صبروا واحتسبوا (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي تاب سبحانه على هؤلاء ، والمراد بالتوبة عليهم أنه تعالى يعاملهم معاملة الذين لم يهموا بالفرار وترك الرسول.

١١٨ ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرار بن الربيع ، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق ، بل عن تهاون وتكاسل ، فلما رجع رسول الله (ص) إلى المدينة عتب عليهم وأمر الناس بمقاطعتهم (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) على سعتها كأنهم لا يجدون فيها مقرا ولا ممرا (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) من الغم والخوف من الله (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أبدا لا أحد ينال ما عند الله إلا بمعونته ومرضاته (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي أن الله تعالى يقبل التوبة لكي يتوبوا ، ولا يعتذروا ويقولوا : لو قبل الله منا التوبة لتبنا. وفي الصحيفة السجادية : «اللهم اقبل توبتي كما وعدت ، واعف عن سيئاتي كما ضمنت ، وأوجب لي محبتك كما شرطت ولك يا رب شرطي أن لا أعود. (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تقدم بالحرف الواحد قبل قليل في الآية ١٠٤.

١١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ

____________________________________

الإعراب : اسم (كادَ) ضمير الشأن ، وجملة يزيغ خبر ، أي من بعد ما كاد الشأن أو الحال يزيغ قلوب فريق. (وَعَلَى الثَّلاثَةِ) عطف على

٢٦٢

الصَّادِقِينَ) ليس المراد بالصدق هنا مجرد عدم الكذب في الحديث ، لأن كثيرا من الناس لا يكذبون ، ومع ذلك لا يجوز الاقتداء بهم في كل شيء ، بل المراد بالصادقين هنا النبي وأهل بيته المعصومون من الخطأ والخطيئة بنص الكتاب والسنة.

١٢٠ ـ ١٢١ ـ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إذا قاد الرسول الأعظم (ص) جيشا لنصرة دين الله والحق ، فعلى كل مسلم أن يسرع إليه ، ويضع نفسه وما ملكت يداه رهن إشارته ، وبالخصوص أهل مدينة الرسول وضواحيها (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ولا يؤثروا راحتهم ومصلحتهم ، ويدعوه يكابد الشدائد والمصائب من دونهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) هذا بيان وتعليل لفضيلة الجهاد. والظمأ العطش (وَلا نَصَبٌ) تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) جوع (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) ولا يتصرفون تصرفا يسيئهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) إصابة من أسر وقتل ونحوه (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) وآلم شيء لقلب الوطني الحر أن تطأ قدم العدو تراب أرضه وبلده ... أبدا لا فرق عنده بين أن يطأ ذرة واحدة من وطنه أو يطأ رأسه وقلبه رغما عن أنفه ، والنبيل الكريم يستهين بالموت والمال والعيال في هذه السبيل ، وما أباح الإسلام حربا إلا دفاعا ولغاية أفضل وأكمل.

١٢٢ ـ (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) لا يجب على الناس أن ينفروا بالكامل للتفقه بالدين أو الجهاد ، لأن ذلك خطر على الحياة ، بل الجهاد مع غير المعصوم فرض كفاية لا فرض عين إذا قام به البعض سقط عن الكل ، وكذلك طلب العلم تماما كالتجارة والصناعة والزراعة (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) لا بد أن ينفر من كل بلد أو قبيلة جماعة إلى بلد العلم ، يتعلّمون ويعملون ويعلّمون حين ينتهون من الدراسة التي تؤهلهم للإرشاد والتبليغ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). أي على الجاهل أن يسمع من المرشد ويطيع. وسئل الإمام جعفر الصادق (ع) عن معنى قول النبي (ص) : اختلاف أمتي رحمة؟ فقال : ليس المراد بالاختلاف النزاع وإلا كان اتفاقهم عذابا ، بل المراد التردد في الأرض لطلب العلم.

١٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي الذين تتصل أرضهم بأرضكم ، وفيه حث على سد الثغور وبناء الخطوط الدفاعية على الحدود. وفي الصحيفة

____________________________________

الأعراب : المصدر المنسك من ان اوحينا اسم كان، وعجبا خبرها ، وللناس حال من العجب. وان انذر (ان) مفرة بمعنى أي. والمصدر المنسك من أنّ لهم قدم صدق مجرور بالباء المحذوفة ، ويتعلق يبشر جملة (يدبر) حال من الضمير في استوى. (وما من شفيع) (من) زائدة وشفيع مبتدأ ، ومن بعد؟ (من) زائدة ، وجميعاً حال من الضمير في مرجعكم. وعد الله منصوب على المصدر. ومثله حقاً.

٢٦٣

السجادية : اللهم حصن ثغور المسلمين ، واشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين. (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) قوة وشدة بتوحيد الصفوف وجمع القلوب وتمام العدة وكريم الأخلاق (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) المجاهدين أهل البغي والفساد.

١٢٤ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن (فَمِنْهُمْ) من المنافقين (مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) أي إعجاز أو جديد في هذه السورة ، يستدعي الإعجاب أو الإيمان بالقرآن أو زيادته؟ هذا ما يقوله بعض المنافقين لبعض إذا أنزلت سورة ، وكم رأينا بالوجدان والعيان من حسود حقود يكذب على نفسه ، ويستخف بفضائل أهل الفضل ، وينعتها بكل قبيح ... ولو كان له عشر واحدة منها لتفاخر به على الأولين والآخرين! وليس هذا بأعجب وأغرب من الدماء التي تراق باسم الحرية ، والحقوق التي تهدر باسم الديمقراطية ، والأموال التي تنهب باسم الإنسانية!. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يزداد المؤمن هدى ويقينا بآيات الله ، ويسترشد بها إلى طريق الجنة والرضوان.

١٢٥ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) النفاق كداء السرطان يتفاقم يوما بعد يوم.

١٢٦ ـ (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) المراد بالفتنة هنا افتضاح المنافقين على الملأ وإظهار حقيقتهم لدى الجميع ، وذلك بأن الله سبحانه كان يخبر نبيه الأكرم بما يبيتون ويمكرون ، وكان النبي (ص) بدوره يعاتبهم ويفضحهم ، وقد تكرر هذا في كل عام مرة أو أكثر.

١٢٧ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تكلموا بلغة العيون وغمزها متسائلين. (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا) قد ينزل الوحي على رسول الله والمنافقون في مجلسه ، فيثقل عليهم سماعه ، ويحاولون الفرار. ولكن يخشون أن يراهم أحد المؤمنين عند خروجهم فيفتضحوا. ولذا يتساءلون : هل من سبيل إلى الفرار خفية؟ ثم يتسللون كاللصوص (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن رحمته ومغفرته.

١٢٨ ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) رحمة للعالمين ، ولكن الرحمة لا تتم وتتحقق إلا أن تستجيب لها النفوس ، وتتفاعل معها المشاعر (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) يشق عليه أن يلقى كائن على وجه الأرض مكروها (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) حتى بالجافي الغليظ المتوحش ، في ذات يوم جاءه أعرابي وشده ببرده في قسوة حتى أثرت حاشية البرد في عاتقه ، وقال : يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله ، فإنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك. فلم يزد الرسول على أن قال : المال مال الله وأنا عبده ويقاد منك ما فعلت. قال الأعرابي : لا. قال النبي : ولم؟ قال : لأنك لا تكافي السيئة بالسيئة ، فضحك الرسول ، وأمر أن يحمل له على بعير شعير ، وعلى الآخر تمر.

١٢٩ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) هذي هي مهمة كل

٢٦٤

مبلّغ أن يعرض عمن أعرض ، ويتوكل على الله ، ومن يتوكل عليه كفاه ، ومن شكره جزاه. ونستغفره من التقصير.

سورة يونس عليه‌السلام

مكيّة وهي مائة وتسع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الر) تقدم نظيره في أول البقرة (تِلْكَ) إشارة إلى آيات هذه السورة أو (آياتُ الْكِتابِ) على وجه العموم (الْحَكِيمِ) الناطق بالحكمة والموعظة الحسنة.

٢ ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) ليست المسألة عند الذين أنكروا الوحي والنبوة مسألة إعجاز وأن الله أعلم حيث يجعل رسالته كلا ، وإنما هي مسألة حسد (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) ـ ٢٤ القمر ... (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) ـ ٢٧ هود» (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) يعيش الناس في الجهل والخرافة والأوهام كما نرى بالحس والعيان ، وبالخصوص فيما يعود إلى الدين والعقيدة ، ولا يسوغ على حكمة الله سبحانه أن يترك عباده في الضلالة والجهالة بلا راع وهاد ، ولا على عدله أن يعاقب بلا بيان (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي كان سعيهم في الدنيا صادقا ومشكورا عند الله (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) ولما ذا ساحر؟ أبدا لا لشيء إلا لأن الله اختاره من دونهم ، ولو نزل الوحي عليهم لكان حقا وصدقا.

٣ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم في الأعراف الآية ٥٤ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أمر الكون ، لا لشيء فيه إلا وراءه قضاء وتقدير بكلمة «كن» أو بالنواميس والعناصر التي أودعها سبحانه في الطبيعة (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) وبالأولى لا شريك ، وخير شفيع عنده تعالى كف الأذى عن عباده وعياله ، وهل تغفر أنت وتصفح عمن يسيء إلى أهلك وعيالك؟

٤ ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) للحساب والجزاء والمصلحة العامة تستدعي ذلك ، لأن من ينكر البعث يرى الدنيا فريسة الغانم ، ومن الحماقة عنده أن يضيع أية فرصة للسلب والنهب إذا ضمن السلامة وأمن العقاب ، أما المؤمن بالله واليوم الآخر حقا وواقعا فيقبل على عمله وهو على يقين من قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) ٣٠ ـ آل عمران» (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) كل أقواله تعالى

____________________________________

الإعراب : المصدر المنسبك من أن أوحينا اسم كان ، وعجبا خبرها ، وللناس حال من العجب وأن أنذر (ان) مفسرة بمعنى أي. والمصدر المنسبك من أنّ لهم قدم صدق مجرور بالباء المحذوفة ، ويتعلق ببشر. جملة (يدبر) حال من الضمير في استوى. و (ما مِنْ شَفِيعٍ) (من) زائدة وشفيع مبتدأ ، ومن بعد إذنه (من) زائدة. وجميعا حال من الضمير في مرجعكم. وعد الله منصوب على المصدر. ومثله حقا.

٢٦٥

وأفعاله حق لا وعده فقط «ذلك بأن الله هو الحق» (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وفي نهج البلاغة : عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) حيث لا يستقيم في عدله تعالى أن يستوي مصير الصالح والطالح.

٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) نور القمر من الشمس ، ولذا قيل : الضياء أقوى من النور والآية لم ترد لبيان شيء من ذلك ، بل تشير إلى قدرة الله وعظمته (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أي قدر القمر وأحكم صنعه ، وجعل له منازل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل تماما كغيره من سنن الطبيعة ، والهدف من ذلك ما أشار إليه سبحانه بقوله (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) لتعلموا الأوقات التي تنظم وظائف الحياة بشتى نواحيها ، وأن هذا التنظيم خاضع للتدبير الإلهي (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) الذي هو عين الواقع والحكمة وإلا لعجز العقل البشري أن يكتشف شيئا من أسرار الطبيعة ، ويخترع أحقر الآلات والأدوات فضلا عن سفينة البر والبحر والفضاء بل لم يكن هناك كون على الإطلاق.

٦ ـ (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) هذه الآية ونظائرها تخاطب أرباب العقول وتقول لهم : انظروا إلى الظواهر الكونية بشتى أنواعها ، واربطوا بين الأسباب والمسببات لتصلوا إلى السبب الأول. وتقدم في الآية ١٦٤ من البقرة.

٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ويقولون : من مات فات (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) يضحكون إلى الدنيا ، وتضحك على عقولهم الغارقة في الشهوات والملذات (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) الناطقة بوجود الخالق وعظمته (غافِلُونَ).

٨ ـ (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) هذا هو الهدف الأساس من يوم القيامة : أن توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.

٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي يثيبهم بسبب إخلاصهم في أعمالهم الصالحة النافعة. وفي الحديث : يقول سبحانه يوم القيامة : اليوم أضع نسبكم ، وأرفع نسبي ... أين المتقون.

____________________________________

الإعراب : (وَبِما كانُوا) متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي ذلك بما كانوا. الياء في (ضِياءً) منقلبة عن واو لأن الأصل ضوء. (وَقَدَّرَهُ) بمعنى صيّره ، والهاء مفعول أول ، ومنازل مفعول ثان (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) آيات اسم ان مؤخر ، و (فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ) خبر مقدم (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ) فأولئك مبتدأ أول ، ومأواهم مبتدأ ثان ، والنار خبره ، والجملة من الثاني وخبره خبر الأول ، والأول وخبره خبر ان الذين لا يرجون. ودعواهم مبتدأ.

٢٦٦

١٠ ـ (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ ...) دعاء أهل الجنة : تسبيح وتقديس ، وتحيتهم في دار السلام غبطة ومحبة ، أما الحمد فهو على العتق من النار أولا وقبل كل شيء ... أبدا ما خير بخير بعده النار.

١١ ـ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) قال المشركون : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. فقد استعجلوا وقوع الشر تماما كما يستعجلون الخير ، ولكن الله سبحانه لم يستجب إلى طلبهم ، لحكمة بالغة ، وهي أن بعضهم أسلم وأحسن ، وخرج من صلب آخرين كثير من المؤمنين (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) العمه : عمى البصيرة ، وكل نافر من الحق ، مكابر للنصح يترك وما اختار لنفسه حتى يلقى ربه ، ولا عدوان عليه في الدنيا إلا أن يعتدي ، هذي هي شريعة القرآن والإنسان العارف المنصف. فهل يتعظ ويعتبر الذين يدعون إلى طاعة الله بالحماقة والموعظة السيئة؟

١٢ ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) لو نزل أدنى مكروه بمن استعجل الشر لفقد الصبر ، ولجأ إلى الله خاضعا متذللا في شتى حالاته لنكشف عنه ما نزل به (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أبدا لا عهد له بمن استجار به واستجاب لتضرعه! وهكذا اللئيم يجحد الجميل بصلافة ، وينكر المعروف بكل وقاحة.

١٣ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) تقدم في الآية ٦ من الأنعام.

١٤ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ...) استخلفناكم في الأرض من بعد القرون الأولى ، لننظر : هل تعملون خيرا أو شرا ، فنعاملكم بما تستحقون.

١٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) بكتاب آخر(أَوْ

____________________________________

الإعراب : (سُبْحانَكَ) منصوب على المصدر وهو ساد مسد الخبر ، أو ان خبر المبتدأ محذوف تقديره قولهم سبحانك. و (أَنِ الْحَمْدُ إِنَّ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، أي أنه الحمد ، والجملة خبر آخر ودعواهم مجرور بالاضافة. (بِالْخَيْرِ) الباء للتعدية ، لجنبه في موضع الحال أي دعانا مضطجعا. و (كَأَنْ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف أي كأنه لم يدعنا. و (كَذلِكَ) الكاف بمعنى مثل في موضع نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي تزيينا مثل ذلك. ومثله كذلك نجزي. والمصدر المنسبك من ليؤمنوا متعلق بمحذوف على أنه خبر لكانوا أي وما كانوا مريدين للإيمان. و (كَيْفَ) محل نصب بتعملون.

٢٦٧

بَدِّلْهُ) أو أبقه ولكن احذف منه ما نكره ، وبالإجمال قال المشركون لرسول الله : كيف نؤمن بهذا القرآن وهو ينادي بالتوحيد والمساواة ، ويدعو إلى التجديد وترك العادات ، ائت بما نريد ونهوى ، وعندئذ نؤمن بك وبه ... وهكذا المفسد المضلل يتخذ من هواه مقياسا للحق والإيمان ، وكل ما عداه زور وهذيان (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) هذا هو النبي في واقعه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

١٦ ـ (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم الله به ، والمعنى الله سبحانه هو الذي أنزل علي القرآن ، وأمرني أن أبلغه للعالمين ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وفيه كل الطاقات والمؤهلات لتحقيق ذلك ، ويستحيل على مخلوق أن يأتي بمثله ، بل وعلى كل الخلائق ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ... ومن أجل هذا نؤمن بأن القرآن من وحي السماء ، ومعجزة خاتم الأنبياء. (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن من عاش في قومه أربعين عاما من قبل أن يوحى إليه لم يقرأ فيها كتابا أو يلقن من أحد درسا ، وحياته كلها صدق وفضيلة وأمانة ـ فهو أبعد الناس عن الكذب والافتراء.

١٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) نسب إلى دين الله ما هو بريء منه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أنكر من دين الله ما هو منه في الصميم ، وهذي البدعة التي قال عنها الرسول الأعظم (ص) : «كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار».

١٨ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) كان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة يعبدون العزى ومناة وهبل ... (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) إفكا وزورا (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أتخبرون الله بأن لديه شفعاء لا يعلم عنهم شيئا ، وهو بكل شيء عليم؟ وإذن إنكم لمفترون.

١٩ ـ (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) كل الناس يولدون على الفطرة النقية والسجية التقية ، ومنهم من يستمر على فطرته التي فطره الله عليها بإرشاد من عقله السليم أو من رسول كريم ، ومنهم من يزوغ عنها لسبب أو لآخر. ويعبد حجرا أو كوكبا أو إنسانا وما أشبه ، فيقع الخلاف بين هؤلاء تبعا لتعدد المعبود واختلافه ، وتقدم في الآية ٢١٣ من البقرة (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا وعرف المحق من المبطل ، ولكن سبق في حكمه تعالى وحكمته أن تكون الدنيا عملا بلا حساب ، والآخرة حسابا بلا عمل.

٢٠ ـ (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) على

٢٦٨

شروطهم وأهوائهم (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) والأمر بيده وحده ، ولا أملك شيئا مما تقترحون وغيره ، وسيجيبكم سبحانه عما سألتم واقترحتم (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لعقابكم على هذا التمادي في الغي والضلال.

٢١ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) للمكر معان ، والمراد به هنا ترك الشكر على النعمة ، والمعنى أن الله سبحانه إذا جعل عسر الإنسان يسرا نسي الله وأنه تعالى هو الذي وفق ويسر الأسباب ، بل يعتد بنفسه ، وينسب نجاحه إلى ذكائه ونشاطه تماما كما قال قارون : إنما أوتيته على علم عندي (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) والمراد بمكره تعالى عقاب الماكرين على مكرهم تسمية للمسبب باسم سببه ، وتقدم في الآية ٥٤ من آل عمران.

٢٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) إن الله سبحانه يمنح عبده العقل والإرادة والقدرة ، وبالعقل يميز ، وبالإرادة يختار ، وبالقدرة يفعل ، وعلى هذا الأساس ساغ أن تنسب إليه أفعال العباد بالكامل (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ...) في الآية السابقة أخبر سبحانه عن وضع الإنسان إذا انتقل من عسر إلى يسر ، وفي هذه الآية أخبر عن وضع الإنسان وحاله إذا انتقل من يسر إلى عسر ، وأنه في الحال الاولى ينسى الله ولا يحمده على آلائه ونعمائه ، لأنه في نشوة الفرح من هبوب الريح المواتية له ، وفي الثانية يستغيث بالله جزعا ومنقطعا إليه ، ويكثر الأيمان والمواعيد إذا صرف عنه السوء ، أن يخلص لله ويشكر ويذكر ولا بأس في شيء من ذلك شريطة أن يفي بالعهد ولكن :

٢٣ ـ (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) استجاب سبحانه لدعائهم ، ونكثوا ولم يستجيبوا ، بل انقادوا للشهوات والملذات يبغون ويفسدون ... ولا تفوتنا الإشارة إلى أن هذه الآية توحي بأن وجود الله مستقر حتى في كيان الملحد وفطرته ، وأن هذا الوجود الإلهي يتجلى بوضوح حين تضيق بالملحد مسالك النجاة ، وتسد في وجهه المنافذ ، لأن الحجب تطرح بكاملها في هذه الساعة تماما كما هو الشأن عند نهاية الأجل (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) من سل سيف البغي قتل به.

٢٤ ـ (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا ...) شبه الدنيا في

____________________________________

الإعراب : (إِذا لَهُمْ) إذا للمفاجأة وقعت في جواب إذا أذقنا. و (مَكْراً) تمييز. والنون في جرين ضمير الفلك. وضمير بهم للناس. و (مُخْلِصِينَ) حال من الضمير في دعوا. وإذا هم (إِذا) للمفاجأة وقعت في جواب لما. و (مَتاعَ) الحياة منصوب على المصدر أي تمتعوا متاع الحياة ، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك متاع.

٢٦٩

سرعة انقضائها بنبات الأرض في جفافه بعد خضرته ونضرته (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) إذا نزل الماء على الأرض من السماء تصبح مثل العروس إذا لبست الثياب من كل لون ، وتزينت بالزينة من كل نوع (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) متمكنون من إنتاجها (أَتاها أَمْرُنا ...) بالهلاك ، وتبخرت الأحلام.

٢٥ ـ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) إلى الإسلام ، لأنه اسم سلامة ، وجماع كرامة ... فيه شفاء المشتفي ، وكفاية المكتفي كما في الخطبة ١٥٠ من خطب نهج البلاغة.

٢٦ ـ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) لكل من أحسن وأصاب في رأي أو عقيدة وفي قول أو فعل وفي قصد أو هدف ـ فله المثوبة الحسنى أجرا وجزاء (وَزِيادَةٌ) على ما يستحق (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) غبرة فيها سواد ، وهي هنا كناية عما يظهر في الوجه من الخوف والهلع (وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) الذين جاهدوا وصبروا وأخلصوا دينهم وعملهم لله وحده.

٢٧ ـ (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) ولا زيادة ، بل (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ـ ١٥ المائدة» (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تلحق أو تلصق بالمسيئين ذلة الفضيحة (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يمنع عنهم سوء العذاب (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) يحشر الله سبحانه المسيئين يوم القيامة بوجوه كالليل الأبهم.

٢٨ ـ ٢٩ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) من أحسن اللغة : يرهق وجوههم أي يغشاها ويغطيها. وقتر بفتح القاف والراء غبار أو دخان أسود ، والذلة الهوان ، والعاصم المانع. وزيّلنا فرّقنا وميّزنا.

____________________________________

الإعراب : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) خبر مقدم ، والحسنى مبتدأ مؤخر. (وَالَّذِينَ كَسَبُوا) مبتدأ ، وجزاء سيئة خبر ، وبمثلها متعلق بجزاء ، وقيل : جزاء مبتدأ ثان ، وبمثلها خبره. وقطعا مفعول ثان لأغشيت لأنها بمعنى البست. و (مُظْلِماً) صفة لقطع ، وقيل حال. وجميعا حال من ضمير نحشرهم.

٢٧٠

ومن أساء (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) الزموا مكانكم (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) وانظروا : هل يملكون لكم أو لأنفسهم نفعا ، أو يدرءون عنكم أو عنهم ضرا (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي أنه تعالى يميز يوم الحساب بين الخلائق ، ويظهر كل واحد على حقيقته ، وعندئذ يتبين للمشرك أن الأمر كله لله وحده لا شريك له. (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) بل كنتم تعبدون الشيطان الذي أمركم أن تتخذوا لله أندادا.

٣٠ ـ (هُنالِكَ تَبْلُوا) تجد (كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٣١ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) ... (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) وإذا اعترف المشركون بهذه الصراحة أن الله هو الخالق والمالك ، والمحيي والمميت والمدبر والمقتدر ، فإذن علام النزاع والصراع بينهم وبين أنبياء الله ورسله؟ الجواب : أن الذين صدوا عن دين الله وحاربوا الرسل والأنبياء هم قادة الشرك وجبابرة الترف ، وليس المستضعفون الذين لا عم بهم ولا خال ، وما من شك أن المترفين الأقوياء يعترفون بكل إله يخصهم وحدهم بالقوة والسطوة ، ويختار لغيرهم البؤس والرق ، وجاء هذا جليا وصريحا في العديد من أقوالهم ، من ذلك ما جاء في الآية ٤٧ من يس : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ). ويأبى دين الله إلا الكف عن الفواحش والجرائم وعن الأذى وأكل المال بالباطل وإلا العدل والمساواة بين عباد الله وعياله في جميع الحقوق والواجبات ومن هنا جاء العراك والشقاق بين المرسلين والمترفين أي بين الحق والباطل.

٣٢ ـ (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أبدا لا واسطة إما عدل ومساواة ، وإما ظلم وتعديات.

٣٣ ـ (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وهي كلمة العذاب (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) وفي طليعتهم من لا يكف أذاه عن عيال الله ، ويرى لنفسه امتيازا على سواه (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي حقت عليهم كلمة العذاب لأنهم لا يتوبون ولا يهتدون.

٣٤ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) الخلق بالنسبة إليه تعالى يعني إيجاد شيء من لا شيء ، وبالنسبة إلى غيره يعني إيجاد شيء من شيء كالدار من الأحجار ،

____________________________________

الإعراب : (مَكانَكُمْ) في محل نصب قام مقام فعل الامر أي الزموا. و (أَنْتُمْ) توكيد للضمير في الزموا. (فَكَفى بِاللهِ) الباء زائدة ، والله فاعل ، وشهيدا حال ، ويجوز أن يكون تمييزا على معنى من شهيد. و (إِنْ كُنَّا) وان مخففة من الثقيلة ، واسمها نا محذوف وجملة كنا خبر ، واللام في لغافلين للفرق بين ان النافية والمخففة.

٢٧١

والأبواب من الأخشاب (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إن الله وحده هو الذي يخلق بكلمة «كن» وبها أوجد الكون ، ويعيد الحياة لمن مات (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تتحولون عن الحق إلى الباطل.

٣٥ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) بإقامة الحجج والبراهين وإرسال المبشرين والمنذرين (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) بكتابين : كتاب ينطق بلسان المقال ، وهو القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم ، وكتاب ينطق بلغة الأعمال ، وهو الكون فكل شيء فيه هو «آية تدل على أنه واحد» ولكن هذه الآية لا يفهمها إلّا ذو قلب سليم وعقل مجرد عن التحيز والتقليد. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) ما رأيكم أيها المشركون : هل يتبع طالب الحق الله الذي وهب الإنسان عقلا وحواسا ليدرك ويميز وأرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الكون بآياته البينات ، أو يتبع هذا الذي أشار إليه سبحانه بقوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أمّن كلمتان : أم ومن فأدغمت الميم الاولى في الثانية ، ويهدي بفتح الياء وتشديد الدال معناه لا يهتدي في نفسه ، إما لأنه فاقد الأهلية من الأساس كالأصنام ، وإما واجدها ولكنه يفتقر إلى الإرشاد والهداية ، وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) أن يأخذ الهداية من غيره ، والله سبحانه يعطي ولا يستعطى (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ـ ٥٠ طه» وفي نهج البلاغة : «فمن الذي هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك؟».

٣٦ ـ (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) فيما يعتقدون ويدينون (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وهذا دليل قاطع على أن التحليل أو التحريم لا يسوغ بحال إلا بالعلم مباشرة أو بما ينتهي إليه ، كقول المعصوم : خذ بما تسمعه مني أو بما تسمعه ممن تثق بدينه وعلمه ، فالأخذ من المعصوم مباشرة علم ، ومن الثقة ظن لاحتمال أنه قد أخطأ في النقل ، ولكنه ينتهي إلى العلم ، وهو أمر المعصوم.

٣٧ ـ (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) ما كان ولن يكون أبدا هذا القرآن إلّا من عند الله (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مما تقدمه من الكتب الإلهية (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) عطف على تصديق أي ولكن كان القرآن تصديقا وتفصيلا ، والمراد بالكتاب هنا شريعة الله ، والمعنى أن القرآن بيان كاف واف لأحكامه تعالى وحلاله وحرامه.

٣٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ...) تقدم في الآية ٢٣ من البقرة ، وبالمناسبة قرأت في مجلة آخر ساعة المصرية العدد ٢٢٥٤ تاريخ ٤ ـ ١ ـ ١٩٧٨ : أن رئيس الولايات المتحدة كارتر التقى في أمريكا بالحصري شيخ المقرءين ، فقال له : «أتمنى أن أسمع صوتك وترتيلك للقرآن في القريب. وأن تناح لي هذه الفرصة» وأنّ الشيخ المقرئ أهداه مجموعة كاملة من المصحف المسجل المرتل.

٣٩ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) وهذا هو شأن الجاهل بجهله (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفي عهدهم ومن بعدهم ، وإلى آخر

٢٧٢

يوم ، يكذبون ويسمون الكذب صدقا ، ويظلمون ويسمون الظلم عدلا ، ويمكرون ويسمون المكر عقلا ، ويهذرون ويسمون الهذر علما!.

٤٠ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بالقرآن ، يجاهدون في سبيله ، وجلهم من المغلوب على أمرهم ، ولا يملكون من القوة ما يتحكمون ويستبدون ، ولا تصطدم مصالحهم مع الحق والعدل ، ومع ذلك فلا غبار على إيمانهم ، لأن الإسلام يقف دائما مع المستضعفين والمظلومين ، ويعلن الحرب من أجلهم ، ثم هل من بأس في إيمان من آمن بالله وصفاته لا لشيء إلا لأنه حرم العدوان على أي عبد من عباده؟ (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) جهلا أو خوفا على مكانتهم ومصالحهم.

٤١ ـ (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا محمد (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ...) إن أصروا على معاندة الحق وتكذيبه فقل كلمة الله وامش (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) ٨١ النمل».

٤٢ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) بآذان صم وقلوب عمي (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) علام تتعب نفسك ، وتشغل قلبك من غير جدوى.

٤٣ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) بعين الحقد والحسد فكيف تحاول أن يقنعوا منك ويقبلوا؟

٤٤ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وأغرب من كل غريب أن يقول مسلم : الإنسان مسير لا مخير وهو يقرأ هذه الآية المحكمة الواضحة ... حتى إبليس يقول لأتباعه يوم لا كذب ولا خداع : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ـ ٢٢ ابراهيم».

٤٥ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) هذا تذكير وتحذير لمن يتمادى في الغي والضلال (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يتعارف الموتى في موقف من مواقف يوم القيامة ، ثم ينقطع التعارف ، ويشتغل كل بنفسه لتراكم الأهوال وثقل الأغلال.

٤٦ ـ (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) بحيث ترى بعينك يا محمد الانتقام في الحياة من الذين كذبوك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نعذبهم في الدنيا أو ندع عذابهم فيها (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) يوم الحشر (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) بعدك ، فمن تاب منهم وعمل صالحا فقد فاز والا فحسبه جهنم وبئس المهاد.

____________________________________

الإعراب : (عاقِبَةُ) اسمها مؤخر (يَوْمَ) مفعول لفعل محذوف أي أنذرهم يوم نحشرهم. و (كَأَنْ) مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي كأنهم. وساعة ظرف متعلق بيلبثوا. و (مِنَ النَّهارِ) متعلق بمحذوف صفة لساعة ، وجملة كأنهم وما بعدها حال من ضمير يحشرهم ، أي مشبهين من لم يلبث إلا ساعة. (وَإِمَّا) مركبة من كلمتين ان الشرطية وما الزائدة ، وجواب الشرط فإلينا مرجعهم.

٢٧٣

٤٧ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) يبشرها وينذرها حيث لا عقاب بلا بيان (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) بالبينات الدالة على صدقه وكذبوه (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين النبي ومن كذب برسالته (بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص من ثواب من أطاع ، ولا بزيادة في عقاب من عصى.

٤٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) لا زلت تهدد وتحذر ، فمتى تفعل وتنفذ؟

٤٩ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) تقدم في الآية ١٨٨ من الأعراف ، وتكرر بأسلوب آخر ، وغير بعيد أن يكون القصد من هذا التكرار والتوكيد أن لا يقول المسلمون بمحمد ما قاله النصارى بعيسى. وفي الترجمة العربية لكتاب دراسات في حضارة الإسلام ل «هاملتون» أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد : «فالإسلام حين وضع الإنسان أمام الله بلا واسطة ، أكد بالضرورة مدى التباين بين الله والإنسان» (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ...) لفنائها وجزائها ، وتقدم بالحرف في الآية ٣٤ من الأعراف.

٥٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً) ليلا (أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) هذه الآية بجملتها جواب عن قول الجاحدين : متى هذا الوعد؟ فأمر سبحانه لبيه أن يقول لهم : أي العذابين تستعجلون : الذي يأتيكم وأنتم نيام أو الذي يأتيكم وأنتم قيام بأعمالكم؟ وإذا لم يكن شيء من ذا ولا ذاك ، فأين المفر من يوم الجمع للحساب والجزاء.

٥١ ـ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) حذرناكم من سوء العاقبة ، فسخرتم ولم تحتاطوا لأنفسكم ، فهل معنى هذا أنكم لا تؤمنون وتصدقون إلا بعد الهلاك والتدمير؟ فذلك الحمق بعينه.

٥٢ ـ (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) الذي كنتم به تكذبون.

٥٣ ـ (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) العذاب الذي وعدتنا به يوم القيامة ، وما من شك أن هذا السؤال جاء بوحي من إيمانهم السابق بأن محمدا هو الصادق الأمين (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) وآمن الكثير بمحمد (ص) لصدقه وإخلاصه وخلقه.

٥٤ ـ (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) من هول العذاب وشدته ، ولكن لا فدية ولا معذرة في ذلك اليوم (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ)

____________________________________

الإعراب : (ثُمَ) هنا للترتيب لفظا ، لا معنى. (مَتى هذَا الْوَعْدُ) ، هذا مبتدأ مؤخر ، ومتى خبر مقدم ، والوعد عطف بيان. وما شاء الله (ما) مصدرية والمصدر المنسبك مجرور بباء محذوفة ، أي بمشيئة الله. وبياتا ظرف زمان أي ليلا والعامل فيه أتاكم.

٢٧٤

حيث لا ينفع الندم سرا كان أم علنا (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) تقدم بالحرف في الآية ٤٧ من هذه السورة.

٥٥ ـ ٥٦ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ...) هو مالك الملك ، وخالق الموت والحياة ، وإذا وعد أنجز وعده لا محالة.

٥٧ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي القرآن وهو عظة لأنه يأمر بالواجبات ، وينهى عن المحرمات ، وهو (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) من الشكوك والشبهات والأحقاد والآفات (وَهُدىً) للناس إلى حياة أفضل (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) للطيبين الذين يحبون الخير ، ويعملون به لوجه الله والخير (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ـ ٨٢ الأسراء».

٥٨ ـ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) المراد بفضل الله ورحمته هنا الهداية إلى الحق والخير والنجاة من عذاب الله وغضبه ، وما من شك أن العاقل يفرح بالآجلة لا بالعاجلة. وفي نهج البلاغة : «ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه ، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه».

٥٩ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أحله لكم بالكامل (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) لا صلة لهذه الآية بحياة الناس في العصر الراهن ، وإنما هي إشارة إلى ما كان عليه أهل الجاهلية حيث كانوا يحرمون بعض ما أحل لهم كما مر في الآية ١٠٣ من المائدة ، والكثيرون في عصرنا يحللون ما حرم الله ، فهم أسوأ حالا من أهل الجاهلية.

٦٠ ـ (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي هل يتصور الذين يحللون ويحرمون من تلقائهم أن الله يتركهم غدا بلا عقاب على كذبهم وافترائهم؟ إذن لا فرق عنده بين من اتقى ومن عصى ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

٦١ ـ (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ) أي الشأن (مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) أيها الناس أو أيها المسلمون (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) شاهدين به عالمين ، والمعنى ما من حال يكون عليها النبي وأمته إلا وهي في علم

____________________________________

الإعراب : (شِفاءٌ) هنا مصدر بمعنى الفاعل أي شاف ، مثل رجل عدل بمعنى عادل. وبفضل الله وبرحمته متعلق بفعل محذوف دل عليه الموجود ، أي قل : ليفرحوا بفضل الله وبرحمته. و (فَبِذلِكَ) اشارة الى فضل الله ورحمته ، وتتعلق بفليفرحوا ، والغرض من هذا التأكيد الإيماء الى ان الإنسان لا ينبغي له ان يفرح بشيء لا بفضل الله ورحمته. وما في قوله تعالى : ما أنزل الله للاستفهام الانكاري ، وموضعها النصب بأنزل. و (آللهُ) مركب من كلمتين : همزة الاستفهام ، ولفظ الجلالة ، أي الله. و (ما ظَنُّ الَّذِينَ ما) مبتدأ ، وظن خبر

٢٧٥

الله (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) من أفاض في العمل إذا اندفع فيه ، وهذا أيضا في علم الله (وَما يَعْزُبُ) يبعد ويغيب (عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ ...) وبالاختصار أن الله بكل شيء عليم.

٦٢ ـ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وولي الله هو ولي محمد (ص) لقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ـ ٨٠ النساء» وطاعة العترة الطاهرة هي طاعة الله والرسول لأنهم عدل القرآن بنص حديث الثقلين على رواية مسلم وغيره كثير.

٦٣ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي يترجمون العلم والدين بالأفعال لا بالأقوال.

٦٤ ـ (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) والمراد هنا قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ـ ٧ الزلزلة» وكل ما يرادفه في كتاب الله وسنة نبيه.

٦٥ ـ (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) دعا محمد (ص) الخلق إلى الحق والعدل والمساواة ، فقامت قيامة المستبدين والمستأثرين ، ونعتوه بما هم به أحرى وأولى ، فاستشعر النبي الألم والحزن من كذبهم وبهتانهم ، فقال سبحانه لنبيه الأكرم : لا تبال بما يقولون ، فإن الله وحده هو المعز والمذل ، وسيذل بك وبمن اتبعك جبابرة البغي والضلال.

٦٦ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) كل شيء في قبضته تعالى ، وهو القادر على نصرة دينه ونبيه والانتقام من أعدائه ، أما الذين يدعون من دونه فهم لا يملكون نفعا ولا ضرا ولا حجة ودليلا (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يتصورون تصورا باطلا.

٦٧ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) مظلما (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) للاستراحة من متاعب النهار (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) تبصرون فيه للكدح من أجل الحياة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) كل عاقل يدرك هذه الحكمة البالغة ويربط بينها وبين وجود عليم حكيم.

____________________________________

الإعراب : (أَلا) أداة تنبيه. و (الَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، ولهم البشرى خبر. و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) متعلق بالبشرى. ولا تبديل (لا) نافية للجنس تعمل عمل أن ، وتبديل اسمها ولكلمات الله خبرها. (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) جملة مستأنفة ، وليست مفعولا للقول لأن النبي (ص) لا يحزنه قولهم : العزة لله. (وَما يَتَّبِعُ) ما نافية ، ومفعول يتبع محذوف أي ما يتبعون شريك الله حقيقة ، لأن الله لا شريك له. (إِنْ يَتَّبِعُونَ) ان نافية. وان هم مثلها. والمصدر المنسبك من لتسكنوا متعلق بمحذوف مفعولا لجعل أي جعل الليل مظلما لسكنكم فيه.

٢٧٦

٦٨ ـ ٦٩ ـ (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ولما ذا الولد؟ (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ...) في ذاته وصفاته عن كل شيء وكل شيء يفتقر إليه ، وفي نهج البلاغة : لم يلد فيكون مولودا ، ولم يولد فيصير محدودا.

٧٠ ـ (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) أي ذلك متاع أو لهم متاع.

٧١ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) اقصص يا محمد على الذين كذبوك خبر نوح مع قومه : كيف أهلكهم الله بالغرق ، عسى أن يحذر قومك من الهلاك (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) عظم وثقل عليكم (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) ومن توكل على الله كفاه (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) من أجمع الأمر إذا عزم عليه (وَشُرَكاءَكُمْ) الذين تعبدون واتفقوا على حربي (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مستورا ، بل افعلوا بي ما شئتم أمام الملأ إن استطعتم (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) امضوا فيّ عزمكم (وَلا تُنْظِرُونِ) لا تنظروا.

٧٢ ـ ٧٣ ـ (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ...) فإلى حيث ألقت رحلها ... وأجري عند الله ومقامي هو هو أقبلتم أم أدبرتم ، وتقدم في الآية ٧٢ من الأعراف.

اللغة : (فإن توليتم فما سألتكم من أجر) أي فإن أعرضتم عن دعوتي فلست مباليا باعراضكم ، لأني عامل له ، لا لكم.

النبأ الخبر الذي له شأن. واجمع الأمر عزم عليه من غير تردد. والغمة ضيق الأمر الذي يوجب الحزن ، وضده الفرجة ، وتستعمل في الستر ، يقال : غم الهلال إذا حال الغيم دون رؤيته. وخلائف أي يخلفون من مضى. المبين ص ٢٧٧.

____________________________________

الإعراب : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) إن نافية ، وعندكم خبر مقدم ، ومن زائدة اعرابا ، وسلطان مبتدأ مؤخر ، وبهذا متعلق بسلطان. و (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) خبر مبتدأ محذوف أي ذلك متاع. (إِذْ) ظرف في محل نصب بنبإ. (وَشُرَكاءَكُمْ) بالنصب عطفا على أمركم بتقدير وأمر شركاءكم. و (إِنْ أَجْرِيَ) ان نافية. والمصدر المنسبك من أن أكون مجرور بالباء المحذوفة أي بكوني. و (كَيْفَ) في محل نصب خبرا لكان ، وعاقبة اسمها.

٢٧٧

٧٤ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ ...) يدعونهم بالحجة. والرحمة إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم فقابلوهم بالكبرياء والبغضاء ، فصبروا وضحوا وتسامحوا ولكن قومهم رفضوا حتى رأوا العذاب.

٧٥ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ ...) تقدم بالتفصيل والتطويل في الآية ١٠٣ وما بعدها من الأعراف وبالإجمال فإن تجربة موسى (ع) مع فرعون قد أجدت فيما يعود إلى هلاك فرعون ، ولكن اليهود من بعده قد تركوا أسوأ الأثر والخبر.

٧٦ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وهو المعجزات المشار إليها (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) تماما كما قالت قريش عن محمد (ص) ، أما اليوم حيث لا إيمان بالسحر فإنهم يقولون عنه فوضوي خارج على النظام.

٧٧ ـ (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) والحق يستهدف هداية الناس إلى الواقع (أَسِحْرٌ هذا) والسحر يزيف الواقع ويحرفه (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) وهل يفلح المشعوذ الدجال؟

٧٨ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) تصرفنا (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) هذه معزوفة يرددها من يحافظ على الأوضاع الفاسدة التي تضمن له منافعه ومكاسبه ... فالمسألة مسألة خوف على المصالح والسلطان ، لا مسألة آباء وأصنام (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) هذا قول فرعون وجلاوزته لموسى وأخيه (ع) ، وبهذا يفصح فرعون وملأه عن تخوفهم على ملكهم وطغيانهم ، ولذا قالوا (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) بل مقاومين ومحاربين دفاعا عن منافعنا وامتيازاتنا ٧٩ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) وهو لا يعلم ما يخبئ الدهر له.

٨٠ ـ (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى) مستخفا

____________________________________

الإعراب : المصدر المنسبك من (لِيُؤْمِنُوا) متعلق بمحذوف خبرا لكانوا أي فما كانوا مريدين للايمان. ومفعول أتقولون جملة محذوفة أي أتقولون للحق هو سحر ، ثم استأنف مستنكرا أسحر هدا ، وسحر خبر مقدم ، وهذا مبتدأ مؤخر ، والجملة لا محل لها من الاعراب. وتكون عطفا على لتلفتنا ، والكبرياء اسم تكون ، ولكما خبرها ، وفي الأرض متعلق بالكبرياء. و (بِمُؤْمِنِينَ) الباء زائدة اعرابا ، ومؤمنون خبر نحن.

٢٧٨

بهم وبسحرهم وفرعونهم (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) لأن الله سبحانه وعده الفوز والنصر.

٨١ ـ (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) يظهر بطلانه للناس ، وهو باطل من أصله (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) بل يزيله ويمحقه.

٨٢ ـ (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) الحجج الدامغة والبراهين القاطعة (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) لأن كراهيتهم لا تعطل مشيئة الله.

٨٣ ـ (فَما آمَنَ لِمُوسى) قبل إلقاء العصا وإيمان السحرة (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) الفتيان والشبان من بني إسرائيل لأن الشبان من كل قوم كانوا وما زالوا يتحمسون لكل جديد ، ولكنهم آمنوا بموسى (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) رؤوس الاسرائيليين وأرباب المصالح من اليهود (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) خافوا أن يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدوا عن دينهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) طاغية مستبد (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في استبداده وطغيانه لا يقف عند حد.

٨٤ ـ (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ) لا قوة لي ولا لكم تصد طغيان فرعون عنكم (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) وثقوا بوعده إن العاقبة للمتقين (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) وقد ذكر لهم ثلاثة أوصاف : الإيمان ، وهو التصديق في القلب ، والإسلام ، والمراد به هنا الانقياد والاستسلام لأمره تعالى ، والتوكل ، وهو الإخلاص والتفويض إلى الله وحده ... فمن جمع هذه الأوصاف كان الله معه.

٨٥ ـ (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) وتركنا إليه أمرنا (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) محل عذاب (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكافرين فرعون وقومه.

٨٦ ـ (وَنَجِّنا) خلصنا (بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الظالمين الذين اضطهدوهم وظلموهم.

٨٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) لا تخرجا منها وابقيا فيها واتخذا مساكن لبني إسرائيل يأوون إليها ، ويعتصمون بها (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) متقابلة في جهة واحدة ، أي اسكنوا جميعا ، في حي واحد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) لأنها ترمز إلى الإخلاص لله ، وتجمع القلوب على الإحساس المتحد (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنجاة من فرعون وملائه في الدنيا وبالجنة في الآخرة.

٨٨ ـ (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ

____________________________________

الإعراب : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) ما استفهامية ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة جئتم خبر ، والسحر بدلا من ما على تقدير الاستفهام أي

٢٧٩

زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نزلت هذه الآية في زمن لم يكن الناس يعرفون شيئا عما تحتويه قبور الفراعنة ثم كشف الحفر والتنقيب فيها عن هذه الأموال والزينة التي نص عليها القرآن ، وهذا شاهد محسوس لا يقبل الشك والريب في أن القرآن وحي من علام الغيوب (رَبَّنا لِيُضِلُّوا) اللام للعاقبة مثل لدوا للموت (عَنْ سَبِيلِكَ) أي كان عاقبة الانعام عليهم من الله بالزينة والمال ، وإن ضلوا وعصوه بدلا من أن يطيعوه (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) بمحقها وتدميرها (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) من الشدة والبلاء ضد الراحة والرخاء (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) هذه الجملة معطوفة على ليضلوا عن سبيلك ، والمعنى : أن عاقبة تقلب فرعون وملائه في نعم الله أن ضلوا وأصروا على الكفر ، وان لا يؤمنوا إلا عند حدود العذاب حيث لا يقبل الإيمان.

٨٩ ـ (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) انزال الآفات على أموال فرعون وملائه والمصائب والشدائد على قلوبهم (فَاسْتَقِيما) على الجهاد في سبيل الدعوة إلى الحق (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) عظمة الله وحكمته. وجاز هنا نهي المعصوم عن الذنب لأنه من الله ، لا من سواه ، فإن من شأن الأعلى أن يأمر وينهى ما دونه كائنة ما تكون منزلته.

٩٠ ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) سبق نظيره في سورة البقرة الآية ٥٠ وسورة الأعراف الآية ١٣٨. (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) وبالأمس كان ينتفخ ويقول : أنا ربكم الأعلى (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذا هو شأن الخسيس اللئيم يتعاظم عند النعماء ، ويتصاغر عند البأساء.

٩١ ـ (آلْآنَ) وبعد أن فات ما فات تقول : آمنت (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) حيث كان الخيار بيدك في التوبة والرجوع إلى الحق ، ولكنك طغيت وبغيت (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فذق جزاء عملك بالغرق والهلاك.

٩٢ ـ (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) لا بروحك ونلقي بجثتك على نجوة من الأرض ليشاهدها من كان يعظم من شأنك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يتعظ بها كل من تحدثه نفسه بالسير على طريق الفساد ولكن ما أكثر العبر ، وأقل الإعتبار (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) وغير مغفول عنهم.

٩٣ ـ (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أنزلناهم (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي منزل صدق ، والمراد بالصدق هنا الخصب بدليل قوله تعالى : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ولكنهم كفروا بأنعم الله (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) المراد بالعلم هنا توراة موسى التي تحتوي على الإخبار بنبوة محمد (ص) وكان اليهود قبل نزولها متفقين جميعا على دين الشيطان كفرا وضلالا ، وبعد التوراة اختلفوا فرقا وشيعا.

٢٨٠