التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

ورفعناه فوق اليهود حين أبوا أن يأخذوا التوراة بشرط الالتزام بها وتقدم في الآية ٦٣ من البقرة.

١٧٢ ـ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وأخذ الذرية هنا عبارة عن إخراجهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى الحياة الدنيا جيلا بعد جيل (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) بما أودع فيهم من عقول ، وما في الكون من بينات ودلائل على وجوده تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) والشواهد على وجود الله سبحانه يحملها الإنسان في جسمه وروحه فضلا عن الكون ، بل وفي فطرته حتى ولو كان ملحدا ، والفرق أن وجوده تعالى يتجلى في فطرة الملحد عند ما يصهره الخطب والكرب «وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين «يونس» (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لا عذر لمن شك في الله وهو يرى خلقه الا أن يكون مجنونا ، وإن قال قائل : رأينا ألوف العقلاء يشكون ويجحدون قلنا في جوابه : نريد الجنون الخفي الذي يفسر ويعلل كل شيء بأصله وعلته الا الكون العجيب ، يعلله ويفسره بالصدفة ، ويقول المثل الإنكليزي : «لو كان الجنون يؤلم صاحبه لسمعت الصراخ من كل بيت».

١٧٣ ـ ١٧٤ ـ (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) وهذه الآية واضحة الدلالة على أن من شأن التوحيد أن يكون من المسلمات والبديهات ، وليس موضعا للاجتهاد أو التقليد تماما كوجود الأرض والشمس ، وقال بعض الفلاسفة جاء الخفاء من شدة الظهور والجلاء.

١٧٥ ـ (وَاتْلُ) يا محمد (عَلَيْهِمْ) على اليهود (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) جاء في التفاسير أن عالما من علماء بني إسرائيل اسمه بلعم بن باعور ، أوتي شيئا من علم الكتاب ، ولكنه كفر بعد ذلك وتزندق ، ولم أجد اسم باعور ولا بلعم في قاموس الكتاب المقدس ولا في فهرس هذا الكتاب (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) صار قرينا له.

١٧٦ ـ (وَلَوْ شِئْنا) أن نلجئه قهرا إلى العمل بعلمه (لَرَفَعْناهُ بِها) أي لارتفعت منزلته وخلد ذكره (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي مال إلى الدنيا وزينتها ، ورغب فيها (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) هذه الحال دائمة للكلب في الحر والبرد والتعب والراحة ، وكذلك من ينقاد إلى أهوائه ، وينطلق معها سواء أنصحته أم تجاهلته.

____________________________________

الإعراب : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل اشتمال من بني آدم مع إعادة حرف الجر ، والمعنى أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم. و (بَلى) حرف جواب تبطل النفي ، فإذا قال لك قائل : ليس لي عندك درهم ، وأجبته بلى كان إقرارا منك بالدرهم ، وان أجبت نعم لا يلزمك شيء ، ولذا قيل : لو قالوا : نعم في جواب ألست بربكم لكفروا. والمصدر المنسبك من ان تقولوا مجرور بإضافة مفعول من أجله محذوف أي مخافة قولكم.

٢٢١

(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) حدث اليهود يا محمد عن الذين زاغوا من أسلافهم وما آل إليه أمرهم ، عسى أن يعتبروا بمن مضى ، ويعلموا أنك تنطق بوحي من الله سبحانه ، فتقوم الحجة لله ولك عليهم.

١٧٧ ـ (ساءَ) فعل ماض والفاعل مستتر أي ساء المثل (مَثَلاً) تمييز (الْقَوْمُ) مبتدأ وخبره جملة ساء (الَّذِينَ كَذَّبُوا) بدل من القوم (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي وكانوا يظلمون أنفسهم.

١٧٨ ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) ان المهتدي حقا وواقعا هو من كان عند الله مهتديا حتى ولو كان عند الناس من الضالين (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي من كان ضالا عند الله لا عند الناس (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حتى ولو كانوا في الدنيا سادة وقادة.

١٧٩ ـ (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) خلقنا (لِجَهَنَّمَ) اللام للعاقبة مثل لدوا للموت (كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) خلق سبحانه العقلاء ، ومنحهم مع العقل الحرية والقدرة ، وأمرهم ونهاهم ، فمنهم سمعوا وأطاعوا فدخلوا الجنة ، وكثير منهم عصوا وتمردوا فدخلوا النار بسوء اختيارهم (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ ٤٦ فصلت». (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) العقل من شأنه أن يدرك ، وأيضا من شأن العين أن تبصر والاذن أن تسمع ، ولكن إذا طغت العاطفة فلا إدراك ولا سمع ولا بصر إلا لها ، وأي عاقل يصدق رأي الوالدة في ولدها ، والعدو ضد عدوه (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) غير المغفول عنهم.

١٨٠ ـ (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) كل أسمائه تعالى على مستوى واحد في الحسن حيث لا حالات متعددة ولا صفات متغايرة للذات القدسية (فَادْعُوهُ بِها) بأي اسم شئتم ، فكل واحد منها يعبر عن تنزيهه وتعظيمه ، وليس لله اسم أعظم واسم غير أعظم (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) ينحرفون بها إلى الأصنام كاشتقاق كلمة اللات من الله والعزى من العزيز.

١٨١ ـ (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) بعد أن أشار سبحانه في الآية السابقة أن كثيرا من الجن والإنس للنار. أشار هنا أن أمة أو جماعة للجنة.

١٨٢ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) قد تتابع النعم على الإنسان ، فيتمادى في طغيانه ذاهلا عن المخبآت والمفاجئات حتى إذا قال الناس : طوبى له فاجأته ساعة السوء.

١٨٣ ـ (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) والمراد بكيده سبحانه انه تعالى يمهلهم حتى إذا ركنوا إلى ما هم فيه أخذهم من حيث لا يشعرون. وفي نهج البلاغة : الحذر الحذر ، فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر.

٢٢٢

١٨٤ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) وفي الآية ٢٢ من التكوير : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). قال مشركو العرب للرسول الأعظم (ص) : إنك لمجنون! ولا غرابة ـ على منطقهم وعاداتهم ـ ألم يجعل الآلهة إلها واحدا؟ وثار على أوضاعهم وتقاليدهم ، وقال لهم من جملة ما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ـ ٩٨ الأنبياء. (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ٥٤ الأنبياء». ولو كان محمد (ص) في هذا العصر لقيل عنه : مخرب هدام.

١٨٥ ـ (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أو لم ينظر العقلاء نظرة استدلالية علمية إلى كل ما يقع عليه اسم الشيء في هذا الكون ليعلموا أن الله موجود وأنه على كل شيء قدير ، وقد استوحى الشاعر من هذه الآية قوله : «وفي كل شيء له آية. تدل على أنه واحد» ويتمثل في هذا الاستدلال القرآني الكوني المنهج العلمي الذي يستخدم الاستقراء والقياس معا ، يستقرئ الناظر أولا جزئيات الكون وما فيها من سنن تحكمها وتضبط حركاتها وسكناتها وتفاعلها ، وينطلق من ذلك ليقول : في الكون نظام وتدبير ولكل نظام وتدبير مدبر ومنظم ، فللكون خالق عليم ومدبر حكيم (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) سارعوا أيها العقلاء إلى النظر في الكون ، واستنطقوا ما فيه من آيات بينات تهتدوا بها إلى الحق قبل أن يفاجئكم ، وأنتم غافلون (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) ومن لا يهتدي بموعظة الله وإرشاده لا يهتدي بشيء.

١٨٦ ـ (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) من حاد عن صراطه تعالى فهو ضال تماما كمن يمشي مكبا على وجهه (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) إذا خرجوا من طاعته ، واستنكفوا عن عبادته.

١٨٧ ـ (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ السَّاعَةِ) القيامة (أَيَّانَ مُرْساها) متى وقوعها وحدوثها ، وقال أعرابي لرسول الله (ص) : متى تقوم الساعة؟ قال : وما ذا أعددت لها؟ (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها) لا يظهرها (لِوَقْتِها) في وقتها (إِلَّا هُوَ) وحده لا شريك له (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل وقعها على أهل السموات والأرض لهولها وشدتها (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) من غير اشعار وإنذار (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي كأنك مهتم بالسؤال عنها مثل اهتمامهم.

١٨٨ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) هذي هي عقيدة المسلمين بمحمد (ص) ، إنه واحد من الناس ، يصيبه ما يصيبهم من عوارض الطبيعة ، والفرق أنه بشير ونذير (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ربي ، فهو الذي ينفعني ، ويدفع الضر عني. (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) حيث لا أقدم إلا على ما ينفع (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) حيث أحجم عما يضر ، وما كنت غالبا تارة ومغلوبا حينا في الحروب (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وللذين يريدون أن يهتدوا إلى الحق.

٢٢٣

١٨٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وعلى مستوى واحد في الحقوق والواجبات ، ومن سفه الرأي أن يعتقد الإنسان أفضليته على غيره بالجاه والمال أو بالنسب والعنصر (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) تقدم في الآية الاولى من النساء (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) من السكينة بمعنى الطمأنينة (فَلَمَّا تَغَشَّاها) قاربها الزوج (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) أي خف عليها حمله ، ولم تلق منه أذى وكرب (فَمَرَّتْ بِهِ) استمرت بالحمل ولم تسقطه ، وقامت وقعدت وتصرفت كأن لم يكن حمل (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) حان وقت الولادة ، واقترب الوضع (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الولد الصالح البار سعادة وهناء لوالديه ، والعاق الفاسد شقاء وبلاء.

١٩٠ ـ ١٩٢ ـ (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ). المشهور بين المفسرين أن ضمير المثنى في «آتيتنا» يعود إلى آدم وحواء ، وأن الضمير في «جعلا» يعود إلى أولادهما على حذف مضاف ، والذي نراه أن هذه الحكاية ليست عن حادثة معينة بين زوجين بالخصوص ، وإنما هي حكاية عن حال الإنسان بما هو ، وأنه إذا أراد شيئا دعا الله وتضرع ، وقطع العهود على نفسه والمواثيق حتى إذا آتاه الله ما أراد نكث العهد وخان تماما كقوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ـ ٦٥ العنكبوت».

١٩٣ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) إن تدعوا أيها المشركون أصنامكم (إِلَى الْهُدى) إلى أن يهدوكم لما تريدون (لا يَتَّبِعُوكُمْ) لا يستجيبوا لكم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) لا فرق بين الصامت والناطق عند الأصنام.

١٩٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أي لو افترضنا أن الأصنام أحياء عقلاء ، كما تزعمون أيها المشركون فهم أمثالكم لا تفاضل فيما بينكم ، فكيف تستغيثون بهم إذا نزلت بكم نازلة.

١٩٥ ـ (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ ...) أبدا لا حياة في هذه الأصنام ، فكيف تكون شريكة لله في خلقه! وفي نهج البلاغة : كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم ،

٢٢٤

ونحلوك حلية ـ أعطوك صفة ـ المخلوقين بأوهامهم (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أصنامكم (ثُمَّ كِيدُونِ) أي كيدوني (فَلا تُنْظِرُونِ) أي فلا تمهلوني ، والمعنى قل يا محمد للمشركين اجمعوا أصنامكم لحربي ومضرتي ، ولا تمهلوني لحظة فهذا أوان مقدرتها وسلطانها.

١٩٦ ـ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) هذا من كلام الرسول الأعظم (ص) يخاطب به المشركين ويقول : أنتم تتولون الأصنام ، وأنا أتولى الله الذي نزل علي القرآن ، وهو سبحانه يتولى حفظي وحراستي.

١٩٧ ـ (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ...) تقدم قبل لحظة في الآية ١٩٢.

١٩٨ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) أيضا تقدم في الآية ١٩٣ ، وجاء التكرار ، لأن النبي (ص) تحدى الأصنام وعبدتها الطغام. (وَتَراهُمْ) أي ترى الأصنام (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) تماما كالتماثيل في الكنائس ، وفيه إيماء إلى أن عرب الجاهلية كان لهم شأن في النحت.

١٩٩ ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) والذي يفهم من كلمة العفو للوهلة الأولى التجاوز عن الذنب ، والمراد به هنا ما يعم ويشمل التيسير في كل شيء وعدم التشدد والتعسير في نطاق الشرع وأحكامه ، والمراد بالعرف الخير وكل ما فيه جهة نفع وصلاح ، وبالإعراض عن الجاهلين الحلم والأناة عند الغضب. هذا هو الإسلام في أخلاقه : حياة فاضلة تقوم على اليسر وعدم الحرج في الدعوة إلى كل خير والعمل به ، والاعراض عن القال والقيل وعن الإمام الصادق (ع) : ليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.

٢٠٠ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) إذا رأيت منكرا من سفيه أو معصية من فاسق ، وغضبت لله ، فلا يذهبن الغضب بحلمك ، فاصبر واستعذ بالله ، وخاطبه بالحسنى ، عسى أن يستجيب لك. قال الإمام علي (ع) في وصفه تعالى : «ولا يشغله غضب عن رحمة» ٢٠١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) إن المؤمنين حقا وصدقا إذا اصطدمت عاطفتهم مع دينهم وقام الصراع بينهما ، وأوشكت العاطفة أن تتغلب على الدين (تَذَكَّرُوا) نهي الله سبحانه وغضبه وعذابه (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) بأن العاقبة للمتقين ، فكبحوا عاطفتهم ، وأمسكوها بلجام الدين والتقوى عن معاصي الله ، وقادوها إلى طاعته ٢٠٢ ـ (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) الشياطين هم اخوان المجرمين ، وأولئك يغرون هؤلاء جاهدين في كل قبيح ورذيلة ، وهؤلاء يسرعون إلى الإجابة طائعين ٢٠٣ ـ (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) كان المشركون يطلبون من النبي (ص) معجزات معينة على سبيل التعنت ، فإذا لم يأتهم (قالُوا لَوْ لا) هلا (اجْتَبَيْتَها) افتعلتها من عندك أو طلبتها من ربك (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) الأمر كله في قبضته تعالى ، ولا شيء لي منه إلا السمع والطاعة لما يوحي به إلي.

٢٢٥

(هذا بَصائِرُ) ودلائل من الله سبحانه تهدي عقول ذوي الضمائر إلى حياة أفضل وأكمل دنيا وآخرة.

٢٠٤ ـ (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) وتدبروا معانيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) روى الإمام علي (ع) عن النبي (ص) أنه قال : ستكون فتن من بعدي. فقال الإمام : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : المخرج كتاب الله ... هو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، وهو الذكر الحكيم والصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الترداد ... من عمل به سبق ، ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.

٢٠٥ ـ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أي أذكره عن علم وفهم لمعاني كلمات الجلال والكمال التي تحمده بها وتمجده (تَضَرُّعاً) متضرعا (وَخِيفَةً) خائفا (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) بصوت متوسط بين الجهر والإخفات ، ويروى أن وليا مر بمن يرفع صوته بالقرآن. فقال له : إن ربك غير أصم (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) صباحا ومساء وفي كل حين (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله وطاعته.

٢٠٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الذين لهم مكانة ومثوبة عنده تعالى سواء أكانوا من الإنس أم الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي يتقربون إليه بكل ما أحب (وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) سجود الخاشعين المتقين ...

سورة الأنفال

مدنيّة هي وخمس سبعون وآية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الخطاب لرسول الله (ص) والمراد بالأنفال هنا كل ما أخذ من دار المحاربين بلا قتال ، والأرض الموات ، ورؤوس الجبال ، وبطون الأودية والأحراج ، وميراث من لا وارث له (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) وما كان لله فحكمه لرسوله ، وما كان للرسول فحكمه لمن كان امتدادا له من بعده دينا وإيمانا وحرصا على الإسلام ومصالح المسلمين (فَاتَّقُوا اللهَ) ولا تحكموا بأهوائكم وآرائكم ، وعندكم كتاب الله وسنة نبيه (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) بالاتفاق كلمة واحدة ضد العدو المشترك. ثم حدد سبحانه المؤمنين المتقين بالصفات الاتية : (١) ـ :

____________________________________

الإعراب : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) مصدران في موضع الحال من واو فاستمعوا ، أي متضرعين وخائفين. ودون الجهر أي وأذكر ربك دون الجهر ، والجملة عطف على واذكر ربك في نفسك. و (بِالْغُدُوِّ) متعلق با ذكر.

٢٢٦

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إذا هموا بالمعصية وعزموا عليها ، وأنذرهم نذير بغضب الله وعذابه ـ أحجموا واتقوا وإلا فمجرد خشوع القلب بلا أثر فليس من الإيمان والتقوى في شيء (٢) ـ : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) بأنهم على بصيرة من دينهم ، وأنهم يصبرون على الجهاد في سبيله مهما تكن النتائج. (٣) : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ينهضون إلى العمل ، ويبذلون غاية الجهد ، وفي الوقت نفسه يفوضون أمر النجاح لتوفيق الله وعنايته (٤) ـ :

٣ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أبدا لا يقبل سبحانه الإيمان بلا صلاة ، ولا مبرر عنده لتركها على الإطلاق ، فهي الحد الفاصل بين الكفر والإيمان ، أجل من نطق بالشهادتين يعامل في الدنيا معاملة المسلم ، وإن ترك الصلاة متهاونا لا جاحدا ، وهو في الآخرة من الخاسرين (٥) ـ : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وحكم الزكاة والصلاة واحد بنص القرآن.

٤ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وبهذا يتبين لنا أنه لا إيمان بلا عمل ، وأن الأقوال بلا أعمال ليس من الإيمان الحق في شيء (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) ـ ٣ الصف» (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) تبعا لما يقدمون به من خدمات لأخيهم الإنسان ، وما أكثر أحاديث هذا الباب : «خير الناس أنفعهم للناس ... أفضل الجهاد أن لا تهم بظلم ... أفضل العبادة كف الأذى ... الدين النصيحة والمعاملة» حتى الملحد إذا ثار على الظلم ، وعمل لسعادة المنكوبين والبائسين ، فإنه يلتقي مع الإسلام أراد ذلك أو لم يرد.

٥ ـ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ...) المراد بهذا البيت المدينة المنورة ، وبالحق : الصواب الذي لا محيد عنه ، ويشير سبحانه بهذا إلى غزوة بدر ، وخلاصتها : إن المهاجرين تركوا أموالهم في مكة ، وذهبوا مع النبي (ص) إلى المدينة ، فاغتصبها أبو سفيان وغيره من جبابرة الشرك ، وحملها أبو سفيان إلى الشام للتجارة ، وعاد إلى مكة بالعير مثقلة بكل نفيس وثمين ، فحث النبي (ص) الصحابة أن يقطعوا الطريق ، ويستولوا على العير ، فخرج ٣١٣ رجلا ، ولما علمت قريش بذلك خرجت بقيادة أبي جهل للذب عن العير ، ولكن أبا سفيان سلك طريقا آخر ونجت العير ، وأشير على أبي جهل بالرجوع فأبى. وكان قد وعد سبحانه نبيه الأكرم بإحدى الطائفتين : عير أبي سفيان أو نفير أبي جهل ، فاستشار الصحابة أيمضون لقتال النفير أو يعودون إلى المدينة؟ فقال بعضهم : ما لنا وللقتال؟ إنما خرجنا للعير لا للنفير. فقال النبي (ص) : مضت العير على ساحل البحر. فقال سعد بن عبادة امض لما شئت ، فإنا متبعوك. وقال سعد بن معاذ لو خضت هذا البحر لخضناه معك. وقال المقداد : لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا لفعلنا ... ولا نقول لك ما قال بنو إسرائيل : اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ولكنا نقول : امض لما أمرك ربك ، فإنا معك مقاتلون. ففرح رسول الله (ص) وقال : سيروا على بركة الله.

٦ ـ (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) وهو قتال النفير بقيادة أبي جهل (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) بعد ما أخبرهم النبي (ص) بالنصر (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أسبابه عيانا ، وهل ينجو من الموت من خافه ، ويعطي البقاء

٢٢٧

من أحبه؟

٧ ـ ٨ ـ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) : العير أو النفير (أَنَّها لَكُمْ) المصدر المنسبك بدل من إحدى الطائفتين (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) أي غير ذات القوة وهي العير (تَكُونُ لَكُمْ) من غير قتال (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أن ينصر الإسلام والمسلمين على الشرك والمشركين بآياته المنزلة في محاربتهم (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) قتلا واسرا.

٩ ـ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) إشارة إلى دعاء النبي (ص) يوم بدر : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي يتبع بعضهم بعضا ، وتقدم في الآية ١٢٤ من آل عمران.

١٠ ـ (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي جعل سبحانه وعده بمحاربة الملائكة معكم (إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) وأنتم تقاتلون العدو في جلد وصبر ، لا لتتكلوا على الملائكة (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أبدا ما من شيء يحدث إلا ولله فيه تدبير حتى ولو توافرت جميع أسبابه الطبيعية ، لأنه الأصل الأول لكل شيء.

١١ ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) كان المشركون حوالي ألف مقاتل ، والمسلمون دون الثلث من هذا العدد ، فخاف هؤلاء من كثرة أولئك ، فعالج سبحانه خوفهم بالنوم ، وما استيقظوا منه إلا وأنفسهم تغمرها السكينة ، والطب الحديث يعالج بعض الأمراض بالنوم ، وبخاصة حالة القلق والانهيار العصبي (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) سبق المشركون المسلمين إلى الماء في بدر ، فوسوس لهم الشيطان بأنهم سيموتون عطشا لا محالة ، فأنزل سبحانه المطر حتى جرى الوادي ، فشربوا وتوضأوا واغتسلوا وزالت وسوسة الشيطان (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بالاطمئنان وعدم الخوف (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) في ميدان القتال.

١٢ ـ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ ...) أمر سبحانه الملائكة أن يشجعوا المسلمين على الثبات في جهاد المشركين ، وفعل الملائكة ذلك بطريق أو بآخر ، وثبت المسلمون وانتصروا ، هذا الذي دل عليه ظاهر القرآن ، أما الحديث عن نوع التشجيع والتثبيت من الملائكة فهو رجم بالغيب (فَاضْرِبُوا) أيها المسلمون (فَوْقَ الْأَعْناقِ) اقطعوا رؤوس الطغاة (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) تحمل سلاح العدوان.

١٣ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى السبب الموجب لقتال المشركين الطغاة وقتلهم وهو (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) خالفوهما بالتمرد والعدوان على النبي (ص) والصحابة ، وأخرجوهم من ديارهم ، ثم أعلنوا عليهم الحرب وهم في دار هجرتهم.

١٤ ـ (ذلِكُمْ) العقاب (فَذُوقُوهُ) أيها المجرمون جزاء بما كنتم تظلمون.

١٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا

٢٢٨

زَحْفاً) إذا زحف الأعداء لقتالكم (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) اثبتوا لهم ولا تفروا.

١٦ ـ (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أبدا لا عذر عند الله سبحانه لمن يترك مقامه في القتال إلا لواحد من اثنين : الأول أن يخدع العدو ، ويريه أنه منهزم منه حتى إذا تبعه انعطف عليه : الثاني أن ينحاز إلى جماعة من المقاتلين المسلمين لأنهم بحاجة إلى نصرته.

١٧ ـ (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) بحولكم وقوتكم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بما أمدكم به من الملائكة وإزالة الرعب من قلوبكم وإلقائه في قلوب المشركين ، وفي الآية ١٤ من التوبة «يعذبهم الله بأيديكم» (وَما رَمَيْتَ) يا محمد (إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أجل ، ولكنه اختار سبحانه لرميته كف محمد الذي فضله على جميع خلقه. وكان النبي (ص) قد أخذ يوم بدر قبضة من حصى وتراب ، ورمى بها وجوه الأعداء وقال : شاهت الوجوه ، فانهزموا (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) المراد بالبلاء هنا العطاء ، والمعنى أن الله سبحانه نصر المؤمنين يوم بدر تفضلا منه وكرما.

١٨ ـ (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) الله سبحانه يبطل كيد المجرمين والمبطلين ، ما في ذلك ريب ، وأيضا لا شك ولا ريب أن الله سبحانه يجري الأمور على أسبابها ، والسبب الموجب لانتصار المحق على المبطل أن يعد له العدة وإلا أخذ الباطل مآخذه ، وساد الجور والفساد.

١٩ ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) الخطاب لمشركي مكة الذين حاربوا رسول الله (ص) في بدر ، ومعنى إن تستفتحوا إلى أن تطلبوا الفتح ، والمراد به النصر. ورب قائل : إن المشركين في وقعة بدر قد جاءهم الكسر والقتل والأسر : فكيف قال لهم سبحانه : قد جاءكم النصر؟ الجواب : إن المشركين كانوا قد دعوا الله أن ينصر أحب الطائفتين إليه ، فقال لهم ، تقدست كلماته : سمعت منكم الدعاء ، ونصرت أحب الطائفتين إلي ، ولكن أخطأتم في التطبيق (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أيها المشركون عن حرب المسلمين (خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) إلى حربهم (نَعُدْ) إلى نصرتهم (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) لا غنى لكم في كثرة الرجال ما دمتم على الشرك والضلال (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) العاملين بطاعته المجاهدين في سبيله.

٢٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) لا تعرضوا عن رسول الله (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) كتاب الله.

٢١ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) وما أكثر الذين يؤمنون بالله نظريا ، ويتخذون الشيطان وليا.

٢٢ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ

٢٢٩

لا يَعْقِلُونَ) الغرض من السمع الفهم والعمل بما يسمع الإنسان من نصح ورشاد ، ومن النطق الإقرار بالحق ، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلا سمع ونطق ، بل ولا عقل.

٢٣ ـ (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ) أي في الصم البكم الذين ذكرهم قبل لحظة (خَيْراً) أي ينشدون الخير لوجه الخير (لَأَسْمَعَهُمْ) بتمهيد السبيل إلى فعل الخير ، ولكنهم لا يرون أي شيء ، ولا يؤمنون بشيء إلا بمنافعهم الذاتية الشخصية ، فهي وحدها الخير كل الخير ، وما عداها كلام فارغ (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) حتى ولو قدم لهم الخير والحق على طبق من بلور لحطموه إلا أن يتفق مع أهوائهم وأغراضهم ، وأكثر الناس ينقادون من بطونهم لا من عقولهم بشهادة القرآن الكريم : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ـ ٧٠ المؤمنون».

٢٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) لقد حددت هذه الآية الإسلام بالدعوة إلى العمل من أجل حياة أكمل ، أي الدعوة إلى العلم النافع ، إلى الحقل والمصنع الذي ينتج الغذاء والدواء والكساء ، وإلى المدرسة والميتم والمستشفى ، وإلى المساواة والعدالة الاجتماعية ، وإلى الأخوة والتعاون في هذا الميدان ، وإلى التحرر من كل قيد يقف في سبيل هذه الحياة ... هذا هو الجوهر والأساس لمنهج الإسلام وفلسفته في عقيدته وشريعته وآدابه وأخلاقه وجميع أحكامه. وأخيرا فكل من يعمل لخير الحياة فإنه يلتقي مع دين الإسلام على صعيد واحد كائنا من كان ويكون (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) يملك عليه قلبه ، فيغير نياته ، ويفسخ عزائمه ، ويبد له بالذكر نسيانا ، وبالنسيان ذكرا ، وبالخوف أمنا ، وبالأمن خوفا ، وقدمنا مرات ونكرر أنه لا مسببات بلا أسباب ولا نتائج بلا مقدمات طبيعية وعقلية ، وأن كل الأسباب والمقدمات تنتهي إليه تعالى ، ومن هنا صحت النسبة.

٢٥ ـ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) إذا وقعت الواقعة أخذت مجراها ، وأثرت أثرها طبيعية كانت أو اجتماعية ، ولا تدخل في حسابها الأتقياء والأبرياء ، فأضرار الحرب ـ مثلا ـ لا تبالي بأنصار السلام والأرامل والأيتام. وأيضا إذا هبت الريح جنوبا ، وأبحر الولي التقي باتجاه الشمال ، فإن الله سبحانه لا يأمر الريح بالهبوب شمالا إكراما لوليه وصفيه.

٢٦ ـ (وَاذْكُرُوا) يا معشر الصحابة (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ...) كان العرب قبل محمد (ص) أمة أمية ، وبه أصبحوا ما هو معلوم لدى الجميع حتى صار الكلام عنه تماما كالحديث عن فائدة العلم والماء والنور والهواء.

٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المنتمون إلى الإسلام (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بالخلافات والمشاحنات ، والانقياد للأدعياء الطغاة (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تخونوا مصلحتكم بالصبر والسكوت

٢٣٠

عن الذين يفسدون في الأرض ، وأنتم على علم اليقين بحقيقتهم ، ويروى أن ابن عباس حين سمع قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ـ ١١٣ هود» قال : إذا كان هذا حال من لا يصدر عنه إلا مجرد ركون ، ولم يشترك في قول أو فعل ، فالويل كل الويل لمن أطرى وشارك.

٢٨ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) تقودكم إلى الإثم والحرام ، فكم من رجل آثر زوجته وذويه وأولاده على السائل والمحروم ، ومنعهما من الحق المنصوص عليه بالقرآن ، وأسوأ حالا من هذا من يقبض من أموال الأغنياء أسهم الفقراء وحقوقهم ليوصلها إليهم كأمين ، فيستأثر بها هو وذووه كأنها ميراث من أبيه أو من كد يمينه! (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) إن ثواب الله خير وأفضل من الأموال والأولاد ، ولكن عند المتقين باطنا وواقعا لا شكلا وظاهرا.

٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) إذا تحررتم من عاطفة حب المال والأولاد وطغيانها على دينكم وعقولكم يجعل في قلوبكم هدى ونورا تفرقون به بين الحق والباطل والخطأ والصواب.

٣٠ ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم الجبابرة الطغاة من قريش (لِيُثْبِتُوكَ) ليقيدوك وليوثقوك (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) يشير سبحانه بهذا إلى قصة تآمر قريش على رسول الله (ص) ومبيت عليّ في فراشه ، وخلاصتها أن قريشا أجمعت على الخلاص من النبي ، فأشار بعضهم أن يوثق ويقيد فتشل حركته ودعوته ، وقال آخر : انفوه من مكة ، ثم اتفقوا جميعا أن يختاروا من كل قبيلة رجلا ، ويغتالوه بضربة واحدة مجتمعين وهو نائم في فراشه ، فيتفرق دمه في القبائل ، ولا يقوى بنو هاشم على حرب الجميع ، فأوحى الله إلى رسوله بقصتهم ، وأمره أن يبيت علي في فراشه بعد أن يتشح ببرده ، ولما بادر القوم إلى مضجع الرسول (ص) أبصروا عليا ، فبهتوا وأبطل كيدهم ومكرهم ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (وَيَمْكُرُونَ) أي يدبرون قتل محمد بوسيلة لا يؤخذون معها بدمه (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي يبطل سبحانه مكرهم وكيدهم بما دبر من مبيت علي وهجرة النبي (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أن تدبيره تعالى فوق كل تدبير وتقدير ، وتقدم مثله في الآية ٥٤ من آل عمران.

٣١ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) القرآن (قالُوا) بعض مشركي قريش : (قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) ولما ذا سكتوا؟ وقد تحداهم أن يقلدوا سورة واحدة ، وقرعهم بالعجز والقصور ، وهم الحريصون على تكذيبه ... ولا شيء أيسر على الإنسان من الكلام وحركة اللسان ... لقد أنكر السفسطائيون وجود كل شيء حتى وجودهم!

٣٢ ـ (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ...) هم يعلمون علم اليقين أن محمدا نبي حقا وصدقا ، ولكنهم يفضلون الهلاك والخلود في العذاب الأليم على الخضوع له والاعتراف بفضله ، وهكذا يفعل الحقد والحسد إذا تأججت ناره في الصدور ، وإني لأعرف معرفة شخصية في هذا الوصف أكثر من واحد.

٢٣١

٣٣ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) لا يعذب الله أهل مكة ، وإن كانوا أهلا له ما دام محمد (ص) بين أظهرهم ، وفيه إيماء إلى أنه تعالى يعذبهم إذا هاجر عنهم النبي كما تأتي الإشارة (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وأيضا لا يعذبهم الله سبحانه ما دام في بلدهم قوم من المسلمين المستضعفين ، وهم الذين بقوا في مكة بعد خروج رسول الله منها لعجزهم عن الهجرة.

٣٤ ـ (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) أي لم لا يعذب مشركي مكة بعد خروج النبي منها والبقية الباقية من المسلمين! وقد عذبهم يوم بدر ، وأذلهم يوم فتح مكة (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي شيء يمنع من عذابهم ، وقد منعوا المؤمنين من التعبد لله في الكعبة المقدسة (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) ليس المشركون أصحاب المسجد الحرام ، ولا هم أولياء عليه ، بل هم أعداء الله ورسوله (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) وفي هذا المعنى قول الإمام علي (ع) : «إن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته (أي نسبه) وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته».

٣٥ ـ (وَما كانَ صَلاتُهُمْ) أي صلاة المشركين (عِنْدَ الْبَيْتِ) الحرام (إِلَّا مُكاءً) صفيرا بالفم (وَتَصْدِيَةً) تصفيقا باليد.

٣٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) يبذلونها بسخاء وعن طيب نفس ، لا لشيء إلا (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) والآن تبذل الملايين على الإعلام الملغوم ، والتوجيه المسموم ، وتشويه الحقائق لتضليل الآراء والمعتقدات (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ...) يضحون بكل غال ونفيس ليقضوا على الإسلام ، ويأبى الله سبحانه إلا أن ينصر الإسلام ونبي الإسلام ، ويظهره على الدين كله.

٣٧ ـ (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) لا يستقيم في عدله أن يستوي المجرم والبريء : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) ـ ١٨ السجدة» بل يثيب المؤمن ويعاقب الفاسق (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) يجمع سبحانه غدا المجرمين بعضهم فوق بعض متراكمين متراكبين ، ثم يلقي بهم في نار جهنم تماما كحزمة من حطب تطرح في الأتون دفعة واحدة.

٣٨ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) إن يتوبوا (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) وفي نهج البلاغة : ما كان الله ليفتح على عبد باب التوبة ويغلق عنه باب المغفرة (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي مضت سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وهي عقوبة الكافرين في الدنيا قبل الآخرة ، ونصر المرسلين إليهم.

٣٩ ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ...) تقدم في الآية ١٩٣ من البقرة.

٤٠ ـ (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أصروا على الكفر والجحود بنبوة محمد (ص) (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) يحميكم ويرعاكم (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) بل لا نصر إطلاقا إلا من عند الله بشرط واحد فقط ، وهو أن نطيعه في قوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) ـ ٤٦ الأنفال ... (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ)

٢٣٢

٦٠ نفس السورة».

٤١ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) هذا اللفظ يشمل ويعم كل غنيمة دون استثناء ، لأن «ما» اسم موصول وهي تدل على العموم هنا ، و «من شيء» بيان لما تدل عليه «ما» أي من كل شيء. وعمل الشيعة بهذا العموم وأوجبوا الخمس في كل فائدة على البيان والتفصيل المذكور في كتبهم الفقهية ، وقال السنة : لا ريب في أن دلالة الآية عامة لكل فائدة ، ولكن ثبت عندنا تخصيصها بما أخذ من الكفار على وجه القتال والغلبة ، ولو ثبت هذا التخصيص عند الشيعة لعملوا بقول السنة ، وأيضا لو لم يثبت عند السنة لعملوا بقول الشيعة (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) هذا بيان للذين يستحقون الخمس ، وقال الشيعة : حيث لا نبي بعد محمد (ص) ولا إمام ظاهر يقسم الخمس نصفين : ينفق الأول في تأييد الدين ، وترويج الشريعة ، وكل ما نعلم علم اليقين بأنه يرضي الله ورسوله ، والنصف الثاني ينفق على اليتامى والمساكين وابن السبيل من بني هاشم بالخصوص عند أكثر علماء الشيعة ، وقال بعضهم : بل لكل مسلم من الأصناف هاشميا كان أو غير هاشمي ، ولا يتسع المجال لأكثر من هذا البيان.

(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) حقا وصدقا فعليكم أن توجبوا الخمس في كل غنيمة وفائدة بلا استثناء ، وأن تنفقوها على الذين نصت عليهم هذه الآية (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد وهو القرآن ، وأيضا أنزل عليه النصر (يَوْمَ الْفُرْقانِ) وهو يوم بدر حيث فيه فرق سبحانه بين الكفر والإيمان بإعلاء كلمة الإسلام على الشرك (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) : جمع المؤمنين وجمع المشركين ٤٢ ـ (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) أي جانب الوادي ، والدنيا مؤنث الأدنى (وَهُمْ) المشركون المحاربون بقيادة أبي جهل المعبر عنهم بالنفير (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي بالجانب الأبعد من الوادي (وَالرَّكْبُ) أي العير التي مع أبي سفيان (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) حيث سلك أبو سفيان ساحل البحر خوفا من النبي (ص) (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) لو خرجتم أنتم أيها المسلمون منذ البداية إلى قتال المشركين متواعدين معهم على ذلك في أمد معين ، ثم علمتم بأنهم أكثر منكم لأخلفتم الميعاد ، ولم تذهبوا إلى القتال خوفا منهم (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ولكن دبر هذا اللقاء للقتال على غير ميعاد حيث خرجتم للعير لا للنفير ، فحوله سبحانه عن العير إلى النفير ، ليقع ما أراد من إعزاز الدين وإذلال المشركين (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) المراد بمن هلك ، من كفر ، وبمن حي ، من آمن ، والمعنى أن الله نصر أولياءه ليكون ذلك حجة قاطعة على أهل الكفر ، وقهر أعداءه ليكون ذلك حجة ظاهرة لأهل الإيمان ٤٣ ـ (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) أي يريك المشركين المحاربين (فِي مَنامِكَ) في عينك لأنها مكان النوم كما في بعض التفاسير (قَلِيلاً) كي تجسروا على قتالهم (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) لهبتم وجبنتم عن قتالهم (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) في الرأي ، وتفرقت كلمتكم (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أنعم عليكم بالسلامة من الفشل وتفتيت الصفوف ٤٤ ـ (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) ليشد من عزمكم أيها المسلمون على قتال المشركين (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) كيلا يبالغوا في الاستعداد لقتالكم وإن سأل سائل عن هذا التكرار أجبناه بأنه نوع من أساليب الدعاية

٢٣٣

قال غوستاف لوبون في كتاب الآراء والمعتقدات : «إن التوكيد والتكرار عاملان قويان في تكوين الآراء وانتشارها».

٤٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) باغية تسعى في الأرض فسادا (فَاثْبُتُوا) في جهادهم وقتالهم (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي يجب أن يكون الجهاد خالصا لوجه الله لا للغنيمة أو السمعة ونحوها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فيه إيماء إلى أن النصر والظفر في القتال والجهاد لا يتحقق إلا مع شرف الغاية ونزاهة القصد.

٤٦ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم وهيبتكم ... إن جراحنا نحن المسلمين لا تلتئم ، وأدواءنا لا تنحسم إلا أن نكون كالبنيان المرصوص ، يشد بعضه بعضا ، وهل من مسلم يجهل بأن هذا الخصام والانقسام بين قادة المسلمين هو أشد فتكا بالإسلام والمنتمين إليه ، من أي سلاح حديث؟ ونحن الذين صنعوا هذا السلاح للقاتل ، وقدمناه لعدونا وعدو ديننا بلا مقابل إلا الخزي والهوان ... لقد ابتدأ الإسلام من جمع الشمل ، وانطلق نبي الإسلام من المؤاخاة بين أصحابه وأتباعه ، ومن هنا يجب أن نبدأ وننطلق وإلا فلا وزن للمسلمين وإن كانوا مئات الملايين وأغنى أغنياء الأولين والآخرين.

٤٧ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) يشير سبحانه بهذا إلى النفير بقيادة أبي جهل ، خرجوا من مكة ليحموا العير ، فقيل لهم : ارجعوا لقد سلمت العير ، فقال أبو جهل : لا نرجع حتى نقدم بدرا ، ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ، وهذا بطرهم وغرورهم الذي أشارت إليه الآية بكلمة «بطرا» أما قوله تعالى : (وَرِئاءَ النَّاسِ) فهو إشارة إلى قول أبي جهل : نريد أن يسمع الناس بشجاعتنا وعظمتنا.

٤٨ ـ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) في عداوة رسول الله وحربه (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) فاقدموا على حرب محمد والصحابة (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) مجير ونصير (فَلَمَّا تَراءَتِ) تلاقت (الْفِئَتانِ) المسلمون والمشركون (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع إلى الوراء (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) أشعل النار ونجا بنفسه ، أما الذين غرهم واغتروا به فإلى داهية (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) من أن الله منجز وعده وناصر جند المسلمين لا محالة ، ونسي ما قاله للمشركين قبل ساعة : «لا غالب لكم» ولكن المنافق يحيك الكلام بما يأتي على لسانه ، له كان أو عليه ٤٩ ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم الذين حسدوا محمدا على ما آتاه الله من فضل النبوة : (غَرَّ هؤُلاءِ) المسلمين (دِينُهُمْ) حيث تصدوا لقتال قوم أكثر منهم عددا وأقوى عدة (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ليس النصر بالكثرة ، ولا الخذلان بالقلة ، وإنما النصر بالإخلاص والصبر على الجهاد والتضحية والتوكل على الله ٥٠ ـ ٥١ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ...) يبدأ عذاب المجرمين منذ الساعة الأخيرة

٢٣٤

من حياتهم وهم على فراش الاحتضار ، ويمضي معهم إلى القبر والنشر والحشر ... إلى ما شاء الله ، والمراد بضرب الوجوه والأقفية أن العذاب محيط بهم من كل ناحية.

٥٢ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ...) أخذ سبحانه المشركين يوم بدر بالعذاب كما أخذ آل فرعون وغيرهم ، لأن الأشياء المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة ، وتقدم في الآية ١١ من آل عمران.

٥٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ليس المراد بالنعمة هنا الرزق فإن محمدا كان أخمص الناس بطنا ، وقال كليم الله : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). ـ ٢٤ القصص» وإنما المراد بها الشأن والكرامة ـ مثلا ـ كان للعرب هيبة وسلطان حين اتحدوا وجاهدوا ولما تخاذلوا وتكاسلوا سقوا كأس المذلة والهوان بأيدي الأسافل والأراذل ... أبدا لكل حادثة سبب ، وما ربك بظلام للعبيد.

٥٤ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ...) أعاد سبحانه لمجرد الإشارة إلى أنه قد كان لهم سلطان غالب فمحقوا بعد أن غيروا وبدلوا.

٥٥ ـ ٥٦ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ...) قال المفسرون : المراد بهم اليهود ، لأنهم عاهدوا النبي (ص) أكثر من مرة ، ونقضوا عهدهم في كل مرة.

٥٧ ـ (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) تصادفنهم (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) خذهم بالشدة والقسوة والاحتقار والجفوة (مَنْ خَلْفَهُمْ) ليس المراد اضرب اليهود من الخلف ، اللغة : أصل الدابة لكل ما دب على وجه الأرض ، ثم غلب استعماله في ذوات الأربع ، والثقف الظفر ، والتشريد الإبعاد. والنبذ الطرح. ورباط الخيل حبسها واقتناؤها. وجنحوا مالوا. والسلم بفتح السين وكسرها ضد الحرب ، ويشمل الصلح والمهادنة ، ويذكر ويؤنث.

____________________________________

الإعراب : جملة (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) مفعول لقوم محذوف أي ويقول الملائكة للكفار ذوقوا. وبظلام الباء زائدة ، وظلام خبر ليس ، والمصدر المنسبك من ان الله ليس بظلام للعبيد مجرور بالباء المحذوفة أي بأن الله ليس بظلام. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الكاف بمعنى مثل في موضع رفع خبرا لمبتدأ محذوف أي دأبهم مثل دأب آل فرعون. والمصدر المنسبك من (أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مجرور بحرف جر محذوف متعلقا بمحذوف أي وذلك كائن بأن الله سميع عليم. (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل بعض من الذين كفروا. (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) و (إِمَّا تَخافَنَ) اما مركبة من كلمتين ان الشرطية وما الزائدة ، ودخلت نون التوكيد على الفعل لوجود ما ، ومفعول انبذ محذوف أي عهدهم.

٢٣٥

بل المراد أن وراء اليهود قوما مشركين يشدون أزرهم ، فإذا ضربت اليهود ضربة قاسية اتعظ واعتبر الذين يؤازرونهم.

٥٨ ـ (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) إذا كان بينك يا محمد وبين قوم عهد ، وأيقنت أنهم يتخذون من هذا العهد ستارا يدبرون من ورائه الغدر والاغتيال (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) عاملهم بالمثل في رد العهد حتى يكون تصرفك معهم وتصرفهم معك بمنزلة سواء : قال الإمام علي (ع) : الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله ، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله.

٥٩ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) فاتوا ونجوا من العقاب (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب.

٦٠ ـ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) والمراد بهذا الرباط وتلك القوة كل ما يتم به النصر على الأعداء وأثبت العصر الراهن أنه لا حول ولا قوة لأي مجاهد في ميدان القتال أو الإعلام إلا بالعلم ، بل لا حياة إلا به ، وانه لا وسيلة للجهل إلا الاستسلام للعلم ... أجل ، إن العلم المعملي وحده لا يقود البشرية إلى السعادة والهداية إلا مع الدين والتقوى ، ولكنه يصون من الصغار والهزيمة ـ على الأقل ـ وقد بين سبحانه في الكثير من آياته كيف أخذ المجرمين والطغاة بالبركان والطوفان والزلازل والصواعق. ومعنى هذا أنه لا حق بلا قوة ، ونحن العرب والمسلمين نملك القوة كافية وافية ، ولكن لا نريد استعمالها! ولما ذا! لأن المخططين هكذا أرادوا. (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي كما ترهبون بالقوة أعداء الله وأعداءكم ، أيضا ترهبون بها قوما آخرين ، وهم الأذناب والصراصير الذين يعملون في الخفاء (لا تَعْلَمُونَهُمُ) على حقيقتهم (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) بما ينطوون عليه من لؤم وحقد على كل مصلح ومخلص (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ...) تقدم مرات ، وذكر هنا حيث لا قوة ولا رباط إلا ببذل المال ٦١ ـ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) القائم على العدل فاجنح لها لأن القصد من القتال دفع المعتدين ، وتأديب المفسدين ٦٢ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) إن شككت يا محمد في نوايا الذين طلبوا منك المسالمة ، ولم تجزم بمكرهم ـ فاستجب لهم ، والله كافيك ومعافيك.

٦٣ ـ (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ...) قد يملك الإنسان نفسه ، فيبتلع أخطاء الآخرين ، ويكظم الغيظ ، وأيضا قد يترك ما يحب ، ويفعل ما يكره ، ولكنه لا يستطيع هو ولا أية قوة في العالم أن تسيطر على قلبه ، وتلجئه قسرا على أن يحب أو يكره هذا دون ذاك أجل ، هناك أسباب طبيعية كالإساءة يتولد منها البغض والكراهية ، وكالإحسان يوجب الألفة والمحبة ، قال سبحانه : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ـ ٣٤ فصلت» ومن أهم الأسباب الموجبة لتأليف القلوب وحدة الإيمان والعقيدة ، قال سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ـ ١٠ الحجرات» فالإيمان بمبدإ واحد ودين واحد يوحد بين القلوب ، ويربط بين المصالح والمصائر ، والله سبحانه قد جمع قلوب أصحاب محمد بالإسلام والإيمان ، وحببه إليهم وزينه في قلوبهم كما في الآية ٧ من الحجرات ، ومن

٢٣٦

هنا صحت النسبة إليه تعالى.

٦٤ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لا تبال يا محمد بمن نصب لك العداء وجمع لحربك ، لأنك في حصن حصين من توفيق الله ورعايته ، ومن اخلاص المؤمنين لك ودفاعهم عنك. وجاء في كتب التاريخ والسيرة : إن الصحابة كانوا يقتدون الرسول (ص) بالمهج والأرواح ، وكان الآباء يبارزون الأبناء من أجله ، كما كان الولد يتربص بوالده والأخ بأخيه ، وكانت المرأة تفقد زوجها وأولادها وأباها ، فتحمد الله على نجاة رسول الله (ص).

٦٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) دفاعا عن الإسلام والمسلمين (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ...) مرت دعوة الإسلام بالعديد من المراحل الاولى : مرحلة السخرية والاستهزاء من الإيمان برب واحد والحياة بعد الموت والمساواة بين جميع الناس ، المرحلة الثانية : رحلة المقاطعة والاضطهاد والإيذاء بشتى ألوانه ... إلى مرحلة الحرب والقتال ، وكان المسلمون قلة ، والمنافقون ينشرون بينهم الخوف من المشركين ، ويشيعون الذعر حتى خاف المسلمون أن يتخطفهم الناس من كل جانب كما تقدم في الآية ٢٦ من السورة التي نحن بصددها ، فثبت سبحانه قلوب الصحابة بعد عزيمتهم بشتى الوعود والأساليب ، ومنها هذه الآية.

٦٦ ـ (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ...) قياس الإقدام على الحرب أن لا يكون عملية انتحارية في نظر أهل الاختصاص أما كثرة العدد فليس بالشيء المهم ، كما جاء في الآية ٢٤٩ من البقرة : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) هذا ، إلى أن حرب اليوم بالعلم وأسلحته الجهنمية ، ومحطات التجسس وطائراته وسفنه وغير ذلك ... ورب ضغط بإصبع يدمر مدينة بكاملها أو يفني جيشا عن آخره ، وعليه فلا موضوع اليوم لهاتين الآيتين ، وفوق ذلك هما مختصتان بالنبي والصحابة فقط ـ كما نرجح.

٦٧ ـ (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) حتى يهلك الباطل وأهله ، ونزلت هذه الآية في أسرى المشركين يوم بدر ، وكانوا سبعين ، ولم يؤسر أحد من الصحابة (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) هذا عتاب موجه بصفة خاصة لمن أسر مشركا بقصد الغنيمة وأخذ الفدية غافلا أو غير مكترث بما يترتب على حياته من فساد في الأرض وعدائه للإسلام وأهله ، ولو قتله لأراح الناس من شره. (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وقطع كل أفاك أثيم.

٦٨ ـ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) من لطفه بكم أيها الصحابة ورحمته لكم (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) من الأسرى والفداء (عَذابٌ عَظِيمٌ) وسلام على العالم بالله حيث يقول : «لا يشغله غضب عن رحمة».

٦٩ ـ (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) بما جاهدتم واستجبتم لدعوة الله ورسوله.

٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ...) الله سبحانه يغفر لكم هذا الأسر ، بل ويزيدكم من فضله ، شريطة أن تكونوا صادقين في إيمانكم مخلصين في مقاصدكم خائفين من

٢٣٧

ربكم.

٧١ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) يا محمد ، واو الجماعة في (يُرِيدُوا) تعود للأسرى الذين أطلق سراحهم (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) بحربهم لك (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) ومعنى الآية في جملتها لا تخف يا محمد من خيانة من سرحت وأطلقت من أسرى ، إنهم حاربوك فسلطك الله عليهم ، ومن عاد فينتقم الله منه.

٧٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) يشير سبحانه إلى المهاجرين الأولين وقد ذكرهم جل وعز في العديد من آياته بأكرم الصفات ورفعهم إلى أعلى الدرجات (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وهؤلاء هم الأنصار الذين آووا النبي ومن هاجر معه في مساكنهم ، وآثروهم على أنفسهم وأولادهم وقوله سبحانه : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يشير أن يد المهاجرين والأنصار واحدة على أعدائهم وأعداء الإسلام ، وأمرهم واحد يتولى كل من شأن صاحبه ما يتولى من نفسه نصرة ودفاعا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) تقدم الكلام عنهم عند تفسير الآية ٩٧ من النساء (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو في ذمة الإسلام والمسلمين جميعا سنيا كان أم شيعيا عادلا أم فاسقا ، بمعنى أن من يعتدي عليه لأجل دينه وعقيدته ، ويحاول بطريق أو بآخر أن يرده عن دينه ـ وجب على كل مسلم كفاية أن يبذل كل طاقته للذب عنه وبقائه على هدايته. (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) يختص هذا بالقتال ومعناه أن المسلمين الذين لم يهاجروا من ديار الشرك إذا طلبوا منكم أن تناصروهم بالقتال ، على قوم كافرين بينكم وبينهم عهد وميثاق على التعايش ـ فلا تستجيبوا لطلبهم ، لأن الإسلام يحرم الغدر والخيانة حتى بالكافر إلا إذا هو نكث وأخلف.

٧٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الكفر ملة واحدة يناصر بعضهم بعضا ، والمسلمون أمة واحدة كذلك. قال الرسول الأعظم (ص) : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) إلا ـ هنا مركبة من إن الشرطية ولا النافية ، والهاء في تفعلوه تعود إلى تواصل المسلمين وتعاضدهم (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) إذا تخاذلتم أيها المسلمون أو اتخذتم العدو الكافر وليا تؤيدونه وتؤازرونه ـ فقد أعنتم على أنفسكم وعلى دينكم ، وجعلتم كلمة الكفر والضلال هي العليا تماما كما هو شأن العرب والمسلمين في هذا العصر! ولو لا هم لم يستطع الغرب أن يكون في هذه الحضارة والشوكة ، فهم وحدهم الذين أعطوه العصا السحرية (أي الطاقة ورأس المال).

٧٤ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا ...) أعاد سبحانه هذا النص لمجرد المدح والثناء على المهاجرين والأنصار بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لا الذين يكررون التسبيح والتحميد بعدد حبات المسابح ، وهم يحسبون أنهم

٢٣٨

المؤمنون حقا من دون الخلق أجمعين! لاحظ رسول الله (ص) أن رجلا يرابط في المسجد للعبادة من الفجر حتى العشاء ، فسأله : من يسعى عليك؟ قال : أخي. قال له : أذهب وأعمل ، أخوك أعبد منك.

٧٥ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) كل من عمل أعمال الصالحين السابقين فهو مثلهم من حيث الأجر والحسنات ، والله يضاعف لمن يضاعف من خدماته للدين والإنسانية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) هذه الآية واضحة الدلالة على أن من كان أقرب إلى الميت نسبا فهو أولى بميراثه من الأبعد ، سواء أكان الأبعد ذا سهم بنص القرآن أم لم يكن ، وسواء أكان عصبة أم غير عصبة ، فبنت الميت تحجب أخاه عن الإرث لأنها أقرب منه إلى المورث ، وأخته تحجب عمه لنفس السبب. أما قوله تعالى (فِي كِتابِ اللهِ) فمعناه في حكم الله ، وليس المعنى أن أصحاب الفروض المنصوص عليهم في كتاب الله يرثون بالفرض المنصوص فقط ، ولا يرثون بالرحم والقرابة على وجه العموم كما قيل.

سورة التوبة مدنية

وهي مائة وتسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فتح النبي (ص) مكة في العام الثامن الهجري ، وفي العام التاسع نزلت هذه السورة ، تعلن البراءة من المشركين وتنذر بالحرب كل مشرك يقيم في الجزيرة العربية ، وقال المفسرون : رسول الله دفعها إلى أبي بكر ليقرأها على المشركين ، ثم أخذها منه بأمر من الله وأعطاها لعلي بن أبي طالب.

٢ ـ (فَسِيحُوا) أيها المشركون (فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) بعد إعلان الحرب على المشركين أمهلهم سبحانه ٤ أشهر ينتقلون فيها آمنين حيث يشاءون ، فإن أسلموا بعدها فقد سلموا وإلا فجزاؤهم القتل ، وهذا الحكم لا يقاس عليه ، لأنه استثنائي خاص لسبب خاص (فَاعْلَمُوا) أيها المشركون (أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا نجاة لكم منهم.

٣ ـ (وَأَذانٌ) إعلام (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) بالبراءة من المشركين (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة ، وكان ابتداء الأشهر الأربعة بهذا اليوم من العام التاسع الهجري ، وانتهاؤها في اليوم العاشر من ربيع الآخر من سنة عشر ، وبعد هذه المدة يكون مصير المشركين في الجزيرة العربية الإسلام أو القتل. (فَإِنْ تُبْتُمْ) أسلمتم أيها المشركون (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) حيث يكون لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم

٢٣٩

٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...) استثنى سبحانه من قتل المشركين بعد الأشهر الأربعة قوما كان بينهم وبين المسلمين عهد المهادنة والمسالمة ، وحافظوا على هذا العهد ، ولم يغدروا ويخونوا ولا تعاونوا مع أعداء المسلمين عليهم. استثنى سبحانه هؤلاء ، وأمهلهم إلى مدتهم جزاء على وفائهم. ومضت مع الزمن هذه الأحكام الخاصة بأهل الشرك والجاهلية وأصبحت من أخبار كان الناقصة ، ولا جدوى عامة من إطالة الكلام فيها.

٥ ـ (فَإِذَا انْسَلَخَ) انقضى (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) والأشهر الحرم التي يحرم القتال فيها إطلاقا وعموما هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وليست هذه بمرادة هنا ، بل المراد في هذه الآية الأشهر التي حرم الله فيها قتال المشركين الذين تكلمنا عنهم في الأسطر السابقة ، وتبدأ من ١٠ ذي الحجة سنة ٩ ه‍ إلى ربيع الآخر سنة ١٠ ه‍ ، وقيل : هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وقيل غير ذلك (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) قسرا (وَخُذُوهُمْ) أسرا (وَاحْصُرُوهُمْ) حبسا (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) راقبوهم في كل طريق يمرون به ، ولا تدعوا أحدا يفلت منهم. (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ...) إن أظهروا الإسلام قبل الأجل المضروب ، وأقاموا الشعائر الإسلامية ، وأهمها الصلاة وإيتاء الزكاة ـ فلا تتعرضوا لهم بسوء.

٦ ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ...) إذا طلب المشرك الذي يحمل قتله أمانا من اي مسلم فعليه ان يجيره ويعطيه الأمان على نفسه وماله ، ويدعوه إلى الإسلام بالحكمة وسبل الإقناع ، فإن أسلم فذاك وإلا فعلى المسلم أن يوصله إلى مكان يأمن فيه على نفسه ، وكان هذا يوم كان الإسلام قويا بأهله ، أما اليوم فأهله يستجيرون بأعدائه!.

٧ ـ (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) الله والرسول لا يفيان بعهد الكاذب الجحود ، والخائن العنود (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يشير سبحانه بهذا الاستثناء إلى أن النبي كان قد عاهد قبيلة من العرب تدعى كنانة ، فعلى المسلمين أن يفوا لها بالعهد حتى ولو أصروا على الشرك إلا أن ينكثوا العهد ، فعندئذ يسوغ قتلهم ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (فَمَا اسْتَقامُوا

____________________________________

الإعراب : براءة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه براءة. وأربعة أشهر ظرف متعلق بفسيحوا. وأذان خبر لمبتدأ محذوف أي وهي أذان. ورسوله مبتدأ والخبر محذوف أي ورسوله بريء ، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في بريء لأنه اسم فاعل. إلا الذين عاهدتم (الذين) منصوب على الاستثناء من المشركين. وشيئا مفعول مطلق. كل مرصد منصوب على الظرفية متعلقا باقعدوا ، تماما كالصراط في قوله : لأقعدن لهم صراطك المستقيم. وأحد فاعل فعل محذوف دل عليه ما بعده ، أي وإن استجارك أحد من المشركين استجارك. كيف يكون (كيف) خبر كان وعهد اسمها.

٢٤٠