التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

ألف آية وآية (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أبدا لا يؤمنون بمحمد في حال من الأحوال حقدا وعنادا ، وموقفهم معه بعد أن يأتيهم بالمعجزات تماما كموقفهم من قبل (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) اختاروا لأنفسهم العمى والضلال ، فهم وما يختارون في الحياة الدنيا ، ولهم في الآخرة سوء العذاب.

١١١ ـ (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) مقابلة وجها لوجه (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) تصوير ليس له من نظير : الموتى بالكامل يخرجون من بطن الأرض وجميع الملائكة ينزلون من السماء ومعهم الكواكب والطيور بشتى أنواعها ، وكل الأسماك وجميع الأحياء في الأنهار والبحار تخرج إلى اليابسة ومعها كل الحشرات وكذا الرمال والأحجار والتراب والأشجار ، وغير ذلك من الكائنات والمخلوقات ، وكلها تقول بصوت واحد : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ومع هذا وفوق هذا لا تلين قلوب المعاندين حتى كأن لم يكن شيء!. ولما ذا؟ لسبب واضح وبسيط ، وهو أن قلوبهم وعقولهم وعواطفهم وميولهم استحالت بكاملها إلى الحرص على مصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية ، ومن أجل هذا لا يجدي معهم أي منطق أو أية لغة إلا لغة القوة التي أشار إليها سبحانه بقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إكراههم وقسرهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أنهم القوم الطاغون الذين لا يستمعون إلا للغة السيف والقوة.

١١٢ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) كل من يغري الناس بالباطل على أنه حق فهو من شياطين الإنس ، أما شيطان الجن فهو من غيب الله ، ونؤمن به لأن النص أثبته والعقل لا ينفيه (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي إغراء بالرذائل والقبائح ، وزخرف القول كلام ظاهره الرحمة وباطنه العذاب (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا محمد لردعهم بالقوة (ما فَعَلُوهُ) أي ما فعلوا شيئا يغضب الله سبحانه.

١١٣ ـ (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي يوحى الأشرار بعضهم إلى بعض زخرف القول ليستمع إليه الكفار (وَلِيَرْضَوْهُ) بعد الاستماع إليه (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) من المعاصي والآثام.

١١٤ ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) قل لهم يا محمد : هل أطلب غير الله حاكما يحكم بيني وبينكم ، ويميز المحق منا من المبطل؟ (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) مبينا فيه الحلال والحرام والكفر والإيمان والشهادة لي بالصدق وعليكم بالكذب والافتراء (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ) تقدم في الآية ١٤٦ من سورة البقرة. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) لا تشكن يا محمد أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن حق وأنك محق في رسالتك.

١١٥ ـ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وكلمته تعالى دينه وقرآنه (صِدْقاً) في جميع أقواله (وَعَدْلاً) في جميع أفعاله (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لأنها تقول للشيء «كن فيكون» (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقولون (الْعَلِيمُ) بما

١٨١

يضمرون ويفعلون.

١١٦ ـ ١١٧ ـ (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ولما ذا؟ الجواب : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) يحكمون بالتهمة ، ويجزمون باللمحة الخاطفة بلا بحث وأساس (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون ويعدون أنفسهم مع الصادقين وبكلمة يكذبون على أنفسهم بأنفسهم. ولو لم يكن للإسلام وفي القرآن إلا هذه الآية لكفى بها دليلا على فضل الإسلام وعظمته حيث رفعت من شأن العلم ، وجعلت كلمته فوق كلمة أهل الأرض أن أخذوا بالجهل والوهم ، على عكس الأديان التي ترى نفسها فوق العلم والعقل.

١١٨ ـ (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) كان أهل الجاهلية يذكرون على ذبائحهم أسماء أصنامهم ، فنهى سبحانه عن ذلك ، وأمر أن يذكر اسمه دون سواه.

١١٩ ـ (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) يظهر أن هناك شبهة عرضت لبعض ، وهي كيف يمكن الجمع بين الذبح عن عمد وبين اسم الله ، فنبه سبحانه أن الحلال ما أحل الله ، والحرام ما حرمه ، وهو الذي أمر بذكر اسمه ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) ومن ذلك الميتة وما أهل لغير الله (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) من الميتة وغيرها ، لأن الضرورات تبيح المحظورات ، وتقدم نظيره في الآية ١٧٣ من البقرة (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ) الناس ، فيحللون ويحرمون (بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ولا هدى ولا كتاب منير.

١٢٠ ـ (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ) ارتكاب الحرام علنا (وَباطِنَهُ) ارتكابه سرا.

١٢١ ـ (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) الضمير في إنه يعود إلى مصدر الفعل أي الأكل ، والفسق المعصية ، ويكفي مجرد اسم الجلالة مثل الله أو الحمد لله أو باسم الله أو الله أكبر ، وأجمع فقهاء المذاهب ما عدا الشافعية على أن الذابح إذا ترك التسمية عامدا حرمت الذبيحة ، واختلفوا في ترك التسمية سهوا. فقال الجعفرية والحنفية والحنابلة لا تحرم الذبيحة (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) المراد بالشياطين أبالسة الإنس ، كانوا يعلمون بعض أذنابهم أن يقولوا للمسلمين : كيف تأكلون الحيوان الذي ذبحتموه بأيديكم ، ولا تأكلون الحيوان الذي أماته الله! أليس قتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم؟. فقال سبحانه لضعاف العقول من المسلمين : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي من أحل أكل الميتة كما أحلها المشركون فهو في حكمهم.

١٨٢

١٢٢ ـ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالجهل والإلحاد (فَأَحْيَيْناهُ) بالعلم والإيمان (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) سميعا بصيرا (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) أي لا يهتدي إلى سبيل النجاة مدى الحياة وأيضا يحشر يوم القيامة أعمى كما قال سبحانه : «ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ٧٢ الإسراء» (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وكل جاهل بجهله يرى الخير شرا وبالعكس.

١٢٣ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) مجتمع من الناس قلّ أو كثر (أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) أي تركناهم وشأنهم ، ولم نردعهم عن المنكر بالقوة ، وخص الأكابر بالذكر لأنهم أصل البلاء والداء العياء (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

١٢٤ ـ (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) قال بعض الذين حسدوا محمدا على ما آتاه الله من فضله : لا نؤمن حتى ينزل علينا الوحي تماما كما نزل على محمد (ص) لأنه ليس بأفضل منا وأكرم ، فرد عليهم سبحانه بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) إن الله لا يصطفي لرسالته إلا عن علم بأن المصطفى كفؤ لها (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) والصغار الذل والهوان ، وهو جزاء من تكبر وتعاظم.

١٢٥ ـ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) بعد أن ذكر سبحانه أنه يصطفي لرسالته من هو أهل لها عظمة وكمالا ، أشار أن الإسلام الذي هو دين الله الحق لا يختاره ويدين به إلا من ينسجم معه طهرا وصفاء ، ومن يك على هذا الوصف ، ويهتدي إلى الإسلام يأخذ الله بيده ، ويوفقه له ولكل خير ، ومعنى هذا أن الخيار في النبوة لله وحده أما الخيار في الإسلام فلعباده بالكامل ، والله في عون من يختاره لنفسه (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أي من يختار الضلال لنفسه فلا يمنعه الله عنه بالقهر والإكراه ، بل يتركه راسبا في غيه كما قال سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ ٥ الصف ... (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) ١٧ محمد» (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) من يختار لنفسه الباطل والضلال يضيق بالهدى والحق حين يدعى إليه تماما كما لو طلب منه أن يصعد على القمر بلا وسيلة ترفعه وتحمله (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) الخذلان والعذاب (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) يضيقون ويتبرمون من الحق ودعوته.

١٢٦ ـ (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) هكذا جرت سنته تعالى مع خلقه أن لا يتدخل بإرادته التكوينية أو

١٨٣

الشخصية في أفعال الإنسان وما يختاره لنفسه ، بل يدعه وشأنه (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) ١٠ الليل».

١٢٧ ـ (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) ضمير «لهم» يعود إلى الذين يسلكون الصراط المستقيم ، ودار السلام هي الجنة ، لأنها سالمة من كل آفة وبلية. (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) كل من آمن بالله ، وعمل صالحا لوجه الله وقع أجره على الله ، وفاز بتوفيقه ورعايته.

١٢٨ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي الإنس والجن ، ويقول سبحانه : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي استكثرتم من تضليلهم وإغرائهم بالرذائل (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي أن الإنس الذين أطاعوا الجن ، يقولون غدا (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على الشهوات ، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) ما زال الكلام للإنس ، والمعنى أن استمتاع بعضنا ببعض كان إلى أجل معين في الحياة الدنيا ، والآن نحن بين يديك ، فاحكم بما تشاء (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هذا هو الحكم الفصل والجزاء العدل.

١٢٩ ـ (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) المجرمون في الحياة الدنيا حلفاء متعاضدون ، وفي الآخرة شركاء في العذاب الأليم.

١٣٠ ـ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ...) يقول سبحانه غدا لكل ضال ومجرم. لقد طغيت وبغيت عن علم وعمد وحذرت وزجرت ، فأعرضت ونأيت ، واليوم تجزى عذاب الهون بما سعيت وكسبت (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) ولكن بعد أن وضعت الأغلال في أعناقهم (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وأعمتهم بزينتها عن الحساب والجزاء ، ولو عملوا فيها للآخرة لأحرزوا الحظين معا ، وملكوا الدارين جميعا.

١٣١ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى إرسال الرسل مبشرين ومنذرين (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) أبدا لا جريمة بلا نص ولا عقاب إلا بعد البيان وإلقاء الحجة.

١٣٢ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) لكل حسب عمله كيفا لا كمّا ، فرب درهم ينفق في سبيل الله لوجه الله خير من مليون ينفق رياء أو توصلا لرياسة أو نيابة كالأموال التي تبذل على مشاريع الخير أيام الانتخابات.

____________________________________

الإعراب : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) مبتدأ وخبر ، وهو وليهم مثله ، و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) تعلق بمحذوف حالا من الضمير في لهم.

١٨٤

١٣٣ ـ ١٣٤ ـ (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) في ذاته وصفاته (ذُو الرَّحْمَةِ) بعفوه وفضله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لأنه في غنى عنكم (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) قوما صالحين مطيعين (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أنتم خلف لمن كان قبلكم ، فيأتي سبحانه بخلف لكم خير منكم وأتقى إن شاء ، والقصد من ذلك مجرد التهديد.

١٣٥ ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) كل ما تمكنتم من معصية الله (إِنِّي عامِلٌ) كل ما أتمكن من طاعة الله (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) الراضية المرضية (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وإن طال بهم الأمد ليستكملوا الخزي ويستوجبوا أشد العذاب.

١٣٦ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) جعل المشركون القدامى (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي لأصنامهم ، كانوا يعينون شيئا من زرعهم وثمارهم وأنعامهم لله ، وشيئا لأصنامهم يأخذه سدنة الأصنام وحراسها.

(فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) كانوا إذا أجدب ما عينوه لله ، وأخصب ما عينوه للأصنام ـ أبقوا لكل نصيبه ، وإذا كان العكس جعلوا المخصب للأصنام ، وقالوا : هي فقيرة لا شيء لها ، ولله كل شيء ، وهكذا يجمع العقل البدائي بين المتناقضات فالصنم أو الحجر الذي ليس بشيء هو في نفس الوقت شريك لخالق كل شيء (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) في الجمع بين من يقول للشيء «كن فيكون» وبين الحجر الأصم ولا غرابة فإن أكثر الناس يجمعون بين الإيمان بالله «بزعمهم» وبين عبادة المال والحطام.

١٣٧ ـ (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) والمراد بهؤلاء الشركاء الكهنة وخدمة الأصنام وغيرهم من الرؤساء ، والمعنى أن المشركين كما جعلوا لله في أموالهم نصيبا ، ومثله للأصنام كذلك زين لهم الكهنة والسدنة قتل أولادهم خوف الفقر أو العار. (لِيُرْدُوهُمْ) من الردى ، وهو الهلاك (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) ولبس الشيء جعله مشتبها بغيره ، واللام للعاقبة والمعنى أن الكهنة زينوا للمشركين القبائح والمنكرات ، فكانت النتيجة هلاك المشركين (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يردعهم عن ذلك قهرا وجبرا (ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) ومثله تماما (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ـ ٤٠ فصلت».

____________________________________

الإعراب : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) مبتدأ وخبر ، أي درجات كائنة لكل واحد. (مِمَّا عَمِلُوا) متعلق بمحذوف صفة لدرجات. و (رَبُّكَ) مبتدأ ، (بِغافِلٍ) خبر والباء زائدة اعرابا.

١٨٥

١٣٨ ـ (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) الحجر الحرام ، أي أن المشركين كانوا يقتطعون قسما من زرعهم وثمارهم وماشيتهم ، ويحرمون التصرف فيه إلا على من يختارون (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) يحرمون ركوبها والحمل عليها ، وتقدم ذكرها في الآية ١٠٣ من المائدة (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) في الذبح بل اسم الأصنام ، وتقدم في الآية ١٢١ من هذه السورة وهذه الآيات إخبار عن الأمم الماضية والقرون الخالية ، وما هي بأقل افتراء على الله من الأمم الحاضرة ، وإن اختلف الشكل والأسلوب ، وربما كان الخلف أكثر ضلالا ، وأسوأ حالا.

١٣٩ ـ (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) كانوا يقولون ما يولد حيا من بطون بعض الحيوانات يأكل منه الذكور فقط (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) أي الإناث (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) وإن سقط الجنين من بطن الحيوان ميتا أكل منه الذكور والإناث على السواء (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) سيعاقبهم سبحانه على هذا الافتراء تحليلا وتحريما.

١٤٠ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) وأي شيء أكثر سفاهة وخسارة من إقدام الوالد على ذبح ولده أو دفنه حيا ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على حياة البؤس والإملاق كما نطقت الآية الآتية ١٥١ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وبهذا نجد تفسير قول الرسول الأعظم : «كاد الفقر يكون كفرا» (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) من الطيبات كما أحلوا بعض المحرمات كأكل الميتة (افْتِراءً عَلَى اللهِ) لأن التحريم منهم ، وليس منه تعالى ، وقد كذب الناس وما زالوا يكذبون على الله وملائكته ورسله ، وعلى بعضهم البعض ، وعلى أنفسهم (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) ولن يهتدوا إلّا قليلا.

١٤١ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) بعد ، أن أشار سبحانه إلى تحريم ما أحل ذكر طرفا من نعمه على العباد ومنها حدائق وبساتين من الكروم مرفوعة فروعها على دعائم (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) متروكة على الطبيعة ممتدة على الأرض (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) عطف على جنات (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) فالحبوب أصناف ، والفواكه أشكال ، والبقول ألوان شكلا وطعما (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) فالرمان والليمون يشبه بعضه بعضا ، ولكن بعضه حلو ، وبعضه حامض (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) تصدقوا منه عند نضجه على أهل الفقر والمسكنة (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) سواء أكان الإسراف في الإنفاق على النفس أم في البذل والصدقة على المعوزين.

____________________________________

الإعراب : (افْتِراءً) مفعول لأجله ليذكرون. (ما فِي بُطُونِ ما) في محل رفع بالابتداء ، / و (خالِصَةٌ) خبر ، وأنت لفظ خالصة على معنى الانعام ، وذكر لفظ محرم حملا على لفظ (ما). واسم يكن ضمير مستتر يعود إلى ما في بطون. وافتراء مفعول لأجله لحرموا.

١٨٦

١٤٢ ـ (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) تحملكم وأثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وأيضا جعل لكم من جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتا وأثاثا ولباسا وفراشا. (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) كهذه الأنعام وغيرها ، واشكروه على فضله (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بتحليل ما حرم الله ، وتحليل ما أحل ، ولا بالتبذير أو التقتير.

١٤٣ ـ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) كلمة الزوج تطلق على كل واحد له قرين كأحد الزوجين وأحد النعلين (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) من الغنم الكبش والنعجة (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) التيس والمعزاة (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) الذكر من الضأن والذكر من المعز (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) من الضأن والمعز (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أم حرم الأجنة من بطن الأنثى من الضأن وبطن الأنثى من المعز.

١٤٤ ـ (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) الجمل والناقة (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) الثور والبقرة (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) من الإبل والبقر (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منهما (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أم الأجنة من بطن الناقة وبطن البقرة (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) من أين علمتم أن الله حرم ما حرمتم؟ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) قيل : إن الذي ابتدع هذه الأحكام ، ونسبها إلى الله تعالى رجل يدعى عمرو بن الحي (لِيُضِلَّ النَّاسَ) عن الحق (بِغَيْرِ عِلْمٍ) عن جهل وعمد. وتجدر الإشارة إلى أن الله سبحانه خاطب هؤلاء القوم من واقع حياتهم وعلى قدر عقولهم ...

١٤٥ ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) في القرآن الكريم حيث ثبت في السنة النبوية العديد من المحرمات لم يذكرها القرآن ، ومنها السنور وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور (مُحَرَّماً) أي طعاما محرما (عَلى طاعِمٍ) آكل (يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) وهي ضد التذكية الشرعية (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) مصبوبا كدم العروق لا كالكبد أو المختلط باللحم. لا يمكن فصله عنه (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) قذر (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ذبح على غير اسم الله (فَمَنِ اضْطُرَّ) دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك (غَيْرَ باغٍ) لا يطلب أكل الميتة ولحم الخنزير وهو يجد غيرهما (وَلا عادٍ)

____________________________________

الإعراب : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً) أي وأنشأ من الانعام حمولة ، و (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) بدل من حمولة وفرشا ، و (اثْنَيْنِ) بدل بعض من ثمانية ، و (آلذَّكَرَيْنِ) مفعول حرم ، ام كنتم شهداء (أَمِ) بمعنى بل.

١٨٧

لا يتعدى حد الضرورة وسد الحاجة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالجائع المضطر ، وتقدم في الآية ١٧٣ من البقرة.

١٤٦ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) اليهود (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) كل ما له أصبع من دابة أو طائر (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) دون اللحم الأحمر ، واستثنى من الشحوم (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) وهو الشحم الملتصق بالظهر (أَوِ الْحَوايا) المصارين والأمعاء ، والمراد أن الشحوم المتصلة بها غير محرمة (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهو شحم الإلية (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) هذا بيان للسبب الموجب لتحريم هذه الأشياء على اليهود ، وأنه البغي والتمرد على أوامر الله ونواهيه.

١٤٧ ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) الخطاب لرسول الله (ص) وما من شك في أن من كذّبه فهو كافر حتى ولو آمن بالله واليوم الآخر ، ومع هذا أمر نبيه الكريم أن يتلطف مع الكافرين ، ويقول لهم : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لأمرين : الأول الترغيب في رحمة الله والحث على نوالها. الثاني على المرشد والمعلم أن يتوصل إلى قلوب الناس وعقولهم باللطف واللين وإلا استحال عليه أن ينقلهم من الظلمات إلى النور ، وفي المقصد الأقصى للغزالي : «إذا جفي الله سبحانه عاتب وما استقصى».

١٤٨ ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) هذا هو التعليل العليل الذي يتذرع به المشركون والمجرمون حين ندور عليهم دائرة السوء وهكذا كل مجرم وفاشل يلقي التبعة والمسئولية على الحظ أو الظروف أو القضاء والقدر أو أي شيء آخر حتى كأنه بلا حرية وإرادة تماما كريشة في مهب الرياح!.

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) كذب مشركوا العرب محمدا (ص) والأمم الماضية كذبت أنبياء الله ورسله ، ولا شيء أكثر من الكذب ولا أظهر من الباطل ، ولا بد من يوم يعض الكاذب والمجرم على يديه ويقول : ليتني لم أك شيئا (قُلْ) يا محمد : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) زعمتم أن الشرك من الله ، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) واضح ، وتقدم في الآية ١١٦ من هذه السورة.

١٤٩ ـ (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) من القوة ما يقطع بها كل عذر (فَلَوْ شاءَ) سبحانه أن يعاملكم بالقوة وإرادة التكوين (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ولكن شاءت حكمته أن يعامل عباده بالنصح والأمر والنهي.

١٥٠ ـ (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) أروني واحدا يقول : إن الله أوحى إليه بأنه تعالى حرم ما حرمتم ، وفيه تهديد شديد لمن يفتي الناس بالخيال والاحتمال (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي كذبهم بالحجة (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) هم يتبعون الأهواء والشهوات ، وعليك يا محمد أن تنهاهم عن

١٨٨

المنكرات ، ولا تسكت عنهم بحال.

١٥١ ـ (قُلْ) يا محمد : (تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ليس الحرام ما حرمتم أنتم ولا غيركم أيها المشركون وإنما الحرام ما حرم الله تعالى ، وأنا أتلوه عليكم (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) التوحيد هو أصل الأصول في دين الله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) قرن سبحانه بر الوالدين بالتوحيد إشعارا بأن حقهما على الولد عظيم ووحيد في بابه (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وتقدم في الآية ١٣٧ من هذه السورة (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) المعاصي والقبائح (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) اتركوها سرا وعلانية (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) كالقصاص ونحوه ، وكل الشرائع السماوية والأرضية تحرم القتل إلا بالحق ، ولكن ما من شريعة قالت : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ـ ٣٢ المائدة» إلا شريعة الإسلام ، أجل جاء في النصوص اليهودية : «الذي يصرع يهوديا إنما يصرع البشرية لأن اليهود وحدهم هم شعب الله المختار».

١٥٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كصيانته وتنميته وتثميره (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) بالرشد والبلوغ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) بيعا وشراء وقرضا ووفاء (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إن اقترضت ما يكال أو يوزن فعليك الوفاء بالمعروف لا بالدقة الواقعية بحيث لا تنقص مثقال حبة من خردل ، لأن ذلك متعذر (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ) المقول له أو عليه (ذا قُرْبى) من القائل ، هذا هو المحك أن تتجرد للحق ، وتنصف الناس من نفسك وذويك تماما كما تطلب منهم أن ينصفوك (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) والوفاء بعهده تعالى أن نأتمر بما أمر ، وننتهي عما نهى.

١٥٣ ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) هذا هو دين الله : التوحيد والعدل والكف عن الأذى والرذائل والوفاء بالعهد وبر الوالدين ، وبالتالي التالف والتعاطف الذي أشار إليه سبحانه بقوله : (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) سيروا جميعا في طريق واحد لا في طرق متعددة متشعبة (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي فتميل السبل العديدة بكم عن سبيل الله وصراطه المستقيم.

____________________________________

الإعراب : (أَتْلُ ما حَرَّمَ ما) مفعول اتل. و (أَلَّا تُشْرِكُوا) ان مفسرة بمعنى أي ولا ناهية ، ويجوز أن تكون ان ناصبة ولا نافية ، والمصدر المنسبك بدل من (ما حَرَّمَ). و (شَيْئاً) مفعول مطلق لتشركوا لأن المراد به الاشراك. و (إِحْساناً) مفعول لفعل محذوف أي أحسنوا بالوالدين إحسانا ، أو أوصيكم بهما إحسانا. وما ظهر منها وما بطن بدل اشتمال من الفواحش. (إِلَّا بِالْحَقِ) في موضع الحال ، أي الا محقين. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) مبتدأ وخبر. (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) اسم كان محذوف أي ولو كان المقول له. (وَأَنَّ هذا) المصدر المنسبك من أن وما بعدها مجرور بلام محذوفة ، والمجرور متعلق باتبعوه. و (مُسْتَقِيماً) حال من صراطي.

١٨٩

١٥٤ ـ (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أنزلنا عليه التوراة (تَماماً) مفعول من أجله (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) وهو موسى ، والمعنى آتينا موسى التوراة لتتم عليه نعمة الله ، لأنه من المحسنين (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً) كانت توراة موسى كافية وافية لقومه وغيرهم في عهده وعصره.

١٥٥ ـ (وَهذا كِتابٌ) القرآن (أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) صفة للكتاب لأنه كثير الخير والنفع (فَاتَّبِعُوهُ) اعملوا بأحكامه وتعاليمه (وَاتَّقُوا) هجره ومعصيته (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ولكن هجرنا القرآن ، وعصينا الرّحمن ، فأغلق دوننا أبواب رحمته وعنايته.

١٥٦ ـ (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) المراد بالكتاب التوراة والإنجيل (عَلى طائِفَتَيْنِ) اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ) أي وأنه (كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ) لليهود والنصارى (لَغافِلِينَ) والمعنى أنزلنا القرآن بلسانكم أيها العرب وعلى رجل منكم وفيكم لئلا تعتذروا عن جهلكم وشرككم بأنه لم ينزل كتاب من السماء بلسانكم كما نزل على اليهود والنصارى ونحن كنا غافلين عن دراسة كتابهم وجاهلين بتعاليمه لأن لسانهم غير لساننا.

١٥٧ ـ (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) قد يبدو للوهلة الاولى أن هذه الآية تكرار للآية التي قبلها ، وبالتأمل نعرف أن معنى الاولى كراهية أن تقولوا : نزل الكتاب على غيرنا لا علينا ، ومعنى هذه الآية كراهية أن تقولوا لو نزل علينا الكتاب لكنا أفضل من الذين نزل عليهم ، ولكن ما ذا نصنع ولا كتاب عندنا (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) القرآن الكريم (مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) فيه الدلائل على نبوة محمد (ص) والتعاليم التي تخرجكم من الظلمات إلى النور (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) وقرآنه ونبيه (وَصَدَفَ) أعرض (عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) والحجة لله عليهم ولا حجة لهم عليه تعالى.

١٥٨ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) تقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي عذابه وانتقامه (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهي (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يوم تقوم القيامة العلامات الدالة على قيام القيامة. (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) قوام الإيمان الرضا التام ، ومجرد التسليم رعبا ورهبا ليس من الإيمان في شيء حتى الإيمان عن قناعة وإيقان لا يجدي شيئا إلا مع العمل الصالح ، لأن الإيمان الحق عمل كله ولا إيمان بلا عمل (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) وكل آت قريب.

١٩٠

١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) جعلوه فرقا وطوائف (وَكانُوا شِيَعاً) كل فرقة وطائفة تتشيع لإمام (لَسْتَ مِنْهُمْ) يا محمد (فِي شَيْءٍ) ولا هم منك في شيء ، (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) فهو وحده يتولى عقاب من يثير العداوة والبغضاء بين أهل الدين الواحد ، والذين لا توحدهم عقيدة التوحيد فهم من حزب الشيطان وأعوانه.

١٦٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي عشر حسنات ، وفي الحديث الشريف : «الحسنة عشر أو أزيد ، والسيئة واحدة أو عفو ، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره». ورب سيئة واحدة كالإلحاد والعدوان على العباد ـ تمحو ألوف الحسنات (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) العدل أن لا تظلم مثقال ذرة حتى من ظلمك تقدر عقوبته بقدرها ، والإحسان أن تعفو عن المسيء ، أو تزيد في جزاء المحسن ، والله سبحانه عادل ومحسن.

١٦١ ـ (قُلْ) يا محمد : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) بالفطرة الصافية والعقل السليم والوحي من عنده (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يبتعد بي عن الباطل ، ويوصلني إلى الحق (دِيناً قِيَماً) قائما دائما بالدعوة إلى القسط والحق (مِلَّةَ) دين (إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) تاركا الباطل إلى الحق (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بل من أعدى أعداء الشرك وأهله.

١٦٢ ـ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) الواجب منها والمستحب (وَنُسُكِي) من حج وصوم وخمس وزكاة (وَمَحْيايَ) أعمالي في الحياة الدنيا (وَمَماتِي) وما أموت عليه من الإيمان والولاء للنبي وأهل بيته ، كل ذلك خالصا (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ١٦٣ ـ (لا شَرِيكَ لَهُ) في عقيدتي وجميع أعمالي ، لأن الشرك جهل ورجس (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) عقلا وشرعا.

١٦٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) وإذن فغيره مثلي مربوب ، فكيف أعبده؟ (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) لكل جزاء عمله خيرا كان أم شرا. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) النفس الوزارة الآثمة هي وحدها تؤخذ بما أسلفت وكسبت من حرام وآثام ، ولا أحد يحمل جرمها وجريرتها ، وبهذا يتبين أن نسبة قول من قال : «يعذب الميت ببكاء أهله» إلى رسول الله (ص) ـ مجرد افتراء لأنه مخالف لكتاب الله ، وفي التوراة سفر خزقيال الإصحاح ١٨ فقرة ٢ قال الرب : «أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين : الآباء أكلوا الحصرم ، وأسنان الأبناء ضرست

____________________________________

الإعراب : (يَوْمَ يَأْتِي يَوْمَ) منصوب على الظرفية متعلق ب (لا يَنْفَعُ) و (أَمْثالِها) صفة لمحذوف أي عشر حسنات أمثالها. (دِيناً) بدل من (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على المحل ، لأن كل مجرور لفظا منصوب محلا ، والمعنى هداني صراطا مستقيما ، مثل قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً). و (قِيَماً) صفة لدين. و (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل من دين. و (حَنِيفاً) حال من (إِبْراهِيمَ). أغير الله (غَيْرَ) مفعول أول لأبغي ، وربا مفعول

١٩١

١٦٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) يخلف أهل العصر اللاحق أهل العصر السابق ، كلما مضى قرن خلفه قرن في انتظام واتساق إلى يوم يبعثون (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في المؤهلات العلمية والعقلية والجسمية (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من مواهب ، هل تستعملونها في الاستغلال والاحتكار واختراع الأسلحة الجهنمية وإثارة النعرات الطائفية ، وما إلى ذلك من الفساد في الأرض ، أو في إنشاء المعامل والمصانع التي تنتج الغذاء والكساء والدواء ، وكل ما ينفع الناس بجهة من الجهات ويسد حاجة من حاجاتهم الضرورية أو الكمالية (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) بمن استغل وبغي ، وكفر وطغى (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) بمن أخلص وعمل صالحا وكف أذاه عن عيال الله.

سورة الأعراف

مكية وهي مائتان وستّ آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (المص) مضى الكلام عن حروف الهجاء في أول البقرة.

٢ ـ (كِتابٌ) هذا كتاب (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا محمد (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) ضيق من تبليغه بما تلاقيه من قوى الشر والضلال ، فالله معك وفي عونك (لِتُنْذِرَ بِهِ) الناس كل الناس ، ويسمى هذا الإنذار في عصرنا الراهن الثورة لقلب الأوضاع الفاسدة من الأساس ومن هنا جاء الضيق والحرج من الغوغاء والبوغاء (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي لتثبيت المؤمنين بالفعل ولمن يريد الإيمان بالحق.

٣ ـ (اتَّبِعُوا) أيها الناس (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) على قلب محمد ولسانه ، أمره تعالى أن يبلغ ، وأمر العباد أن يتبعوه ويطيعوه (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) لأنه ليس دون الرسول والقرآن إلا الضلال.

٤ ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) لأنها كذّبت المرسلين (فَجاءَها بَأْسُنا) عذابنا (بَياتاً) ليلا (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) مستريحون في الظهيرة.

٥ ـ (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) عند الأمان والاطمئنان يهتفون باسم الأصنام ، وعند الشدة والعذاب يدعون الرّحمن وينسون ما يشركون.

____________________________________

الإعراب : و (دَرَجاتٍ) مجرورة بإلى محذوفة. (كِتابٌ) خبر لبمتدأ محذوف ، أي هذا كتاب. (وَلِتُنْذِرَ) الفعل منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك متعلق بأنزل ، (وَذِكْرى) عطف عليه. و (أَوْلِياءَ) مفعول تتبعوا ، ومن دونه متعلق بمحذوف حالا من أولياء. و (قَلِيلاً) صفة. لمفعول مطلق محذوف ، أي تذكرا قليلا ما تذكرون ، و (ما) حرف زائد يؤكد معنى القلة ، وتذكرون أي تتذكرون ، حذفت إحدى التائين للتخفيف.

١٩٢

٦ ـ (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) ما ذا قلتم للمرسلين؟ (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) ما ذا قال لكم الذين أرسلتم إليهم؟ والمؤمن حقا إذا تصور الوقوف بين يدي الله للسؤال ونقاش الحساب يهتز من الأعماق رعبا ، فكيف إذا جاء الجد؟ رحماك اللهم رحماك.

٧ ـ (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) ما قالوه وفعلوه ، أحصاه الله ونسوه.

٨ ـ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) لميزان الدنيا كفتان ، فإذا وضعت في إحداهما ترابا بمقدار كيلو ، مثلا ، وفي الثانية تبرا بهذا الثقل تستوي الكفتان ، ولا شأن للنوع والأثر ، أما ميزان الآخرة فالثقل والشأن للكيف لا للكم ، وللنوع لا للمقدار ، وفي الحديث قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) وهم الذين ائتموا في جميع أعمالهم ومقاصدهم بالقرآن وتعاليمه (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأن الله لا يضيع أجر المحسنين ...

٩ ـ (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) وهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث أوردوها النار وبئس الورد المورود (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي يكذّبون.

١٠ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) زوّد سبحانه الإنسان بكل الطاقات والمؤهلات للاكتشاف والاختراع والسيطرة على الطبيعة (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) لا يوجد جانب إطلاقا من حياة الإنسان ينفصل عن الأرض أو يخلو من برها وخيرها.

١١ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي خلق وصور أبانا آدم حيث قال عز من قائل : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) والسجود لآدم بأمر الله سجود وطاعة لله ، ولكن إبليس (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) تعصبا لأصله وحسدا لآدم.

١٢ ـ (قالَ) سبحانه لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) لا زائدة (إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وكل من يقول متعاظما : أنا خير من فلان فهو من حزب الشيطان ، فرب وضيع عند الناس هو عظيم ورفيع عند الله.

١٣ ـ (قالَ فَاهْبِطْ ...) طرد سبحانه إبليس من رحمته إلى لعنته جزاء على تكبره ومعصيته.

____________________________________

الإعراب : و (دَعْواهُمْ) اسم كان ، والمصدر المنسبك من (أَنْ قالُوا) خبرهاو (بِعِلْمٍ) في موضع الحال أي عالمين. (وَالْوَزْنُ) مبتدأ ، و (يَوْمَئِذٍ) خبر ، و (الْحَقُ) صفة للوزن. و (بِما كانُوا) ما مصدرية تسبك وما بعدها بمصدر مجرور بالباء متعلقا بخسروا ، أي خسروا أنفسهم بسبب ظلمهم. و (مَعايِشَ) مفعول جعلنا. وقليلا ما تشكرون (قَلِيلاً) صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي شكرا قليلا ، و (ما) حرف لتأكيد القلة.

١٩٣

١٤ ـ (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). أمهلني إلى يوم القيامة.

١٥ ـ (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) في الخطبة الأولى من نهج البلاغة : أعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة واستتماما للبلية وإنجازا للعدة.

١٦ ـ (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أرأيت إلى هذا المنطق المقلوب؟ إن الله سبحانه أمر إبليس ، وترك له الخيار ، فاختار الغواية وآثرها على الهداية ، ولكن إبليس عاد وناقض نفسه بنفسه حيث قال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ومعنى هذا أن إبليس هو الغواية والتضليل ، فكيف نسب الغواية هنا إلى نفسه بعد أن نفاها عنه ، ونسبها إلى الله تعالى عن ذاك علوا كبيرا؟ وهل قال سبحانه لإبليس : اصرف عبادي عن طاعتي ، واحملهم على معصيتي؟ على أن إبليس يتبرأ من أتباعه ، ويقول لهم فيما يقول غدا : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) ... (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) ... (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) كما في الآية ٤٨ من الأنفال و ٢٢ من ابراهيم ، وهذه الصورة التي رسمها القرآن لإبليس تنطبق على العديد من شياطين الإنس.

١٧ ـ (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ...) كناية عن وسوسة الشيطان وإغوائه بحيث لا يدع معصية إلا أغرى ضعاف العقول والإيمان بها ، ولا طاعة إلا ثبطهم عنها.

١٨ ـ (قالَ) سبحانه لإبليس : (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) بالهمزة من ذأمه إذا عابه وذمه (مَدْحُوراً) مطرودا (لَمَنْ) اللام للابتداء ، والكلام مستأنف (تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَ) اللام جواب لقسم محذوف أي أقسم لأملأن (جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) خلقت النار لك ولحزبك.

١٩ ـ (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ ...) تقدم في الآية ٣٥ من البقرة.

٢٠ ـ (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) ليظهر ما ستر من عوراتهما (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) في الجنة.

٢١ ـ (وَقاسَمَهُما) حلف لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) عكس اللعين الآية رأسا على عقب وجعل السلب إيجابا ، والإيجاب سلبا حيث أقسم أن عاقبة الأكل من الشجرة الخلود في الجنة ، وهو على علم اليقين بأن الأكل سبب الطرد منها ، وهذا هو المراد بوسوسة الشيطان وحزبه الذين يرفعون شعارات الخير وهم أعدى أعدائه! وينادون بالحرية ويبطشون بالأحرار ، ويتبجحون بالعدالة ويقتلونها غيلة وغدرا ، ويتباكون على الألفة والوحدة وهم الذين شهروا عليها السيوف ومزقوا الصفوف.

٢٢ ـ (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أنزل إبليس آدم وحواء إلى الأكل من الشجرة بما غرهما من القسم بالله (فَلَمَّا ذاقَا

١٩٤

الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ظهرت لكل واحد منهما عورته وعورة صاحبه (وَطَفِقا) شرعا (يَخْصِفانِ) يضعان (عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) ليستترا بهذا الورق (وَناداهُما رَبُّهُما) لائما : ما ذا فعلتما بأنفسكما؟ (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) نهى سبحانه آدم وأنذره وحذره من الشيطان ، وآدم يؤمن بالله عن حس وتجربة ، فقد أوجده من طين لا من أب وأم ، ورأى الملائكة يسجدون له ، وأسكنه الجنة ، وكلّمه ، ولا دليل فوق ذلك ، وكل هذا وغير هذا يبعث آدم إلى الكف عن الشجرة ، فكيف أكل منها؟ والذي يبدو لنا ، والله أعلم ، أن براءة آدم وصفاءه يشبه إلى حد بعيد صفاء الطفل ، وإن كان رجلا لأنه لم يمر بعد بأية تجربة. وقد ظن قياسا على نفسه أن ما من أحد يجرأ على الحلف بالله كاذبا ، ومن هنا أخذ ، ولذا ندم وطلب الصفح بمجرد التنبيه.

٢٣ ـ (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) هذي هي بالذات الكلمات التي أشار إليها سبحانه في الآية ٣٧ من البقرة : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

٢٤ ـ (قالَ اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء وإبليس (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) إبليس يعادي آدم حسدا له ، ويعادي بنيه وذريته انتقاما منه ، أما بنو آدم فأكثرهم من حزبه حيث يجدون عنده اللذة والمتعة ... قال سبحانه : (أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ... (لا يَشْكُرُونَ) ... (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً). والأحمق المغرور هو الذي يقطع ويجزم أنه من الصفوة القليلة (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) تماما كضيوف موقتين ، وعلينا أن نكون مؤدبين لا نتجاوز الناس ، كل الناس ، من أولياء وأشقياء وصعاليك وأمراء ولدوا من هذه الأرض ، وإليها يعودون ، وما لأحد منهم كائنا من كان إلا خمسة أشبار أو ستة من الأرض بعد موته في عرض شبرين ونصف أو ثلاثة ، وكل هذا يهون إذا قيس بالنشر والحشر ، والويل كل الويل عندئذ للمجرمين من عذاب أليم.

٢٦ ـ (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) خلقناه لكم أو أنزلنا السبب الموجب للباس وغير اللباس وهو المطر (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) يسد الحاجة الضرورية (وَرِيشاً) للزينة والحاجة الكمالية ، وهو مستعار من ريش الطائر (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) من كل شيء ، لأن التقوى تقي من عذاب النار وغضب الجبار ، وسلام على من قال : ما خير بخير بعده النار ، وما شر بشر بعده الجنة.

٢٧ ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ...) قال واعظ من الأولين : إن ذنبا واحدا أخرج آدم من الجنة بعد أن دخلها آمنا ، فكيف يدخلها أبناؤه ، وقد تراكمت عليهم الذنوب؟ (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) كل من يكيد للناس في الخفاء ، ويظهر غير ما يضمر فهو شيطان رجيم (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ

١٩٥

أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أبدا لا سلطان للشيطان إلا على أوليائه الذين يستجيبون له عن رضا وطيب نفس تماما كالمومس إذا دعاها الفاجر العاهر إلى الفاحشة.

٢٨ ـ (وَإِذا فَعَلُوا) الضمير لحزب الشيطان وأوليائه (فاحِشَةً) رذيلة (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) وفي العصر الراهن تقول فئة من المسلمين : كل جديد زندقة وهرتقة حتى ولو كان علما نافعا ، وهنا يكمن سر التأخر والتقهقر (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) وهذا عين الافتراء عليه تعالى (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ولكن بعض المنتمين إلى الإسلام يعلمون أن كتاب الله يحرم التقليد ، ويحث على العلم النافع. ومع ذلك ينحرفون عن طريقه ، ولو شاءوا لاستقاموا عليه ، ولكنهم لا يشاءون ولا يستمعون لأية حجة وبينة.

٢٩ ـ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) وبكل جديد مفيد (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي أبيح لكم أن تصلوا وتعبدوا الله في أي مسجد شئتم ، وقيل : المراد بكلمة مسجد هنا مكان السجود تماما كقول الرسول الأعظم : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) والإخلاص في الدين أن تعمل بموجبه ، ولا تتخذ منه وسيلة إلى منافع شخصية. وفي أصول الكافي : «أوحى الله إلى داود لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا يصدك عن طريق محبتي ، فإن أولئك قطاع طريق».

٣٠ ـ (فَرِيقاً هَدى) وهم الذين رغبوا في الهداية (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) ـ ١٧ محمد» (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) وهم الذين زاغوا عن الهدى إلى الضلال : «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ـ ٥ الصف». (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) جهلوا بجهلهم ، فانفصلوا عن واقعهم ، وعاشوا في دنيا الأخيلة والأحلام ، وأيقنوا بأنه لا دين إلا دينهم ولا إيمان إلا إيمانهم ، وهنا يكمن الداء العياء ، وبه جنوا على أنفسهم ومجتمعهم.

٣١ ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) البسوا أثوابا طاهرة نظيفة عند كل عبادة «وثيابكم فطهر ـ ٤ المدثر» (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ما تشتهون وتستلذون إلا ما ورد النهي عنه (وَلا تُسْرِفُوا) في طعام أو شراب أو لباس.

٣٢ ـ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) من مسكن وملبس ومركب وأثاث (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) كيف تكون حراما ، وقد خلقها سبحانه لعباده وعياله؟ (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) طعاما وشرابا وكواعب أترابا ... ومن هنا قال الفقهاء : كل شيء مباح حتى يرد فيه نهي (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) الطيبات واللذات في الدنيا للمؤمن والكافر والبر والفاجر ، وهي في الآخرة للمتقين الأبرار ، أما المجرمون الأشرار فهم في سموم وحميم وظل من يحموم.

____________________________________

الإعراب : (وَأَقِيمُوا) معطوف على معنى الأمر بالقسط ، أي أقسطوا وقيموا. و (مُخْلِصِينَ) حال من واو (ادْعُوهُ). و (الدِّينَ) مفعول ل (مُخْلِصِينَ). (كَما بَدَأَكُمْ) الكاف بمعنى مثل صفة لمحذوف ، أي تعودون عودا مثل بدئكم. (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَ) ، الفريق الأول مفعول هدى ،

١٩٦

٣٣ ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) تقدم في الآية ١٥١ من الانعام (وَالْإِثْمَ) وهو كل ما يعصي الله به من القول أو الفعل (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) الظلم ، وفي نهج البلاغة : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ...) تهديد ووعيد للسفاحين والمجرمين بأن لهم يوما يحاصرون فيه من كل الجهات ، ويؤخذون بما كانوا يجرمون.

٣٥ ـ ٣٦ ـ (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا) مركبة من كلمتين : إن الشرطية وما زائدة مؤكدة ، ولدخولها على إن دخلت النون الثقيلة على (يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) مبشرين ومنذرين.

(فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) البريء لا يخاف العدالة ، والذي يخافها ويمتلئ منها رعبا وهيبة هو المريب.

٣٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ ...) تقدم في الآية ٢١ من الانعام (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) والمراد هنا المكتوب ، والمعنى أن أعمال المجرمين كلها مكتوبة ، وأيضا تصلهم أرزاقهم المقدرة بالكامل (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) وهم ملائكة الموت (يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أن الآلهة التي كنتم تعبدونها؟ (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) لا نحن نعرف أين هم؟ ولا هم يأتون لخلاصنا من العذاب (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) الاعتراف بالذنب يجدي من غير شك إذا كان عن نية خالصة وتوبة صادقة ، أما التوبة عند الاحتضار وتنفيذ العقوبة فإنها تماما كمن ينشد النجاة بعد أن شرب السم القاتل

____________________________________

الإعراب : (ما ظَهَرَ) و (ما بَطَنَ) بدل من الفواحش. و (ما) خبر ، أي أين الآلهة التي كنتم تعبدون. وكلما منصوبة على الظرفية ، واكتسبت هذه الظرفية من (ما) التي هي بمعنى وقت. وجميعا حال من واو اداركوا. وضعفا صفة لعذاب بمعنى مضاعف ، ومن النار متعلق بمحذوف صفة ثانية. (وَلِكُلِ) متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، (وَضِعْفَ) صفة للمبتدإ المحذوف ، والتقدير لكل من الأخرى والأولى عذاب ضعف.

١٩٧

٣٨ ـ (قالَ) أي يقول سبحانه للمجرمين بعد أن يشهدوا على أنفسهم : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) مجرمة مثلكم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) وفعلت فعلكم (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) التي كنتم بها تكذبون (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) وهكذا اللصوص والقراصنة يتعاطفون ، وهم في الطريق إلى السلب والنهب حتى إذا افتضحوا وأخذوا للعقاب تلاعنوا ، وألقى كل التبعة والمسئولية على صاحبه (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أي تلاحقوا واجتمعوا في جهنم ، وأدرك بعضهم بعضا (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) المراد بأولاهم الرؤساء والقادة ، وبأخراهم الاتباع والسواد (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) طلب من الله التابعون أن يضاعف سوء العذاب للرؤساء لأنهم أصل البلاء (قالَ) سبحانه (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي لكل من رؤساء الضلال واتباعهم عذاب عظيم (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) لا يعلم كل فريق مقدار ما يقاسيه الآخر من العذاب وشدته.

٣٩ ـ (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) في الإيمان والعمل الصالح الذي يوجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم ، بل نحن وأنتم سواء في الكفر والضلال (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) بأيديكم أنتم ، ولا تلوموا إلا أنفسكم.

٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) المراد بآياته تعالى الدلائل على وجوده ونبوة أنبيائه (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي لا يقبل الله أعمالهم ما داموا به كافرين ، ويأتي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ـ ١٤٧ من هذه السورة» (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي في ثقب الإبرة ، والمعنى أن المشرك أو الملحد لا يدخل الجنة أبدا ، وليس معنى هذا أنه يدخل النار حتما وجزما حيث لا ترابط بين الأمرين ، فقد يعمل أحدهما للخير والصالح العام ويكف أذاه عن الناس ، ويغيث الملهوف ، ويناصر العدل ، فيكون للظالم خصما ، وللمظلوم عونا ، أو يخترع الكهرباء ، أو يكتشف الدواء للأدواء المستعصية ، وما إلى ذلك لوجه الإنسانية مما ينجيه من النار ولا يدخله الجنة. وفي مجمع البيان عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : إن آية «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» جرت في الكافر والمؤمن والبر والفاجر.

٤١ ـ (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) فراش (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أغطية ، والمعنى لهم من النار لحاف وفراش ودثار.

٤٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الذين مبتدأ (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للإشارة إلى أن طريق الجنة سالكة لمن أراد (أُولئِكَ) مبتدأ ثان (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر الأول.

١٩٨

٤٣ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) وألف تف وأف على الحقد والبغضاء ، والحسد والعداء (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا) إلى طريق جنته ورضوانه ، والبعد عن غضبه ونيرانه (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) برسله وكتبه (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أخبرهم الرسل بالجنة فآمنوا بالغيب ، ولما شاهدوها عيانا فرحوا ، وأصبح الغيب مشهودا (وَنُودُوا أَنْ) بمعنى أي (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها) هي حق لكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فنعم أجر العاملين.

٤٤ ـ (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ..) إن أصحاب الجنة على علم اليقين بأن أصحاب النار قد وجدوا صدق الوعيد والتهديد ، ولكن السؤال لمجرد الشكر على ما أنعم الله عليهم ، وتذكير من كان يسخر منهم في الحياة الدنيا «فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ـ ١٠ الأنعام» (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أعلن معلن (بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) عذابه (عَلَى الظَّالِمِينَ) وفي نهج البلاغة : يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.

٤٥ ـ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الحق ، وقد يكون الصد بقوة السلاح ، وبالكتمان والإخفاء ، وبالتضليل والدعايات الكاذبة في الصحف وغيرها من وسائل الإعلام (وَيَبْغُونَها) الهاء تعود إلى السبيل (عِوَجاً) كذبا ونفاقا وغشا وخداعا.

٤٦ ـ (وَبَيْنَهُما) أي بين الجنة والنار أو أهليها (حِجابٌ) وهو الأعراف الذي أشار إليه سبحانه بقوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أهل الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بعلامات تدل عليهم. (وَنادَوْا) أهل الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وهنيئا لكم بما أسلفتم في الأيام الخالية (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في دخول الجنة ، لأنهم كانوا يؤمنون بالله ومغفرته.

٤٧ ـ (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ

____________________________________

الإعراب : وتسبك ان وهدانا بمصدر مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي لو لا هداية الله حاصلة لنا. و (أَنْ تِلْكُمُ أَنْ) مفسرة بمعنى أي ، وتلكم مبتدأ ، و (الْجَنَّةُ) عطف بيان ، وجملة (أُورِثْتُمُوها) خبر المبتدأ. ان قد وجدنا (أَنْ) مفسرة بمعنى أي ، ومثلها ان لعنة الله. و (حَقًّا) حال من (ما وَعَدَنا) ويجوز أن تكون مفعولا ثانيا لوجدنا على ان تتضمن معنى علمنا. (عِوَجاً) حال من واو يبغونها أي يبغونها معوجين أو ضالين ، وقال الطبرسي في مجمع البيان : ان عوجا مفعول به على معنى يبغون لها العوج. (تِلْقاءَ) منصوب على الظرفية ، والعامل فيه صرفت.

١٩٩

قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أو النار وأهلها ... ويا هول ما رأوا ، فاستعاذوا بالله واسترحموا ... اللهم يا غني الأغنياء أجرنا من عذابك برحمتك وعفوك ، فإننا لا نطيق عدلك ، ولا وسيلة لنا إلى ذلك إلا الولاء لنبيك وآله ، عليهم أفضل صلواتك.

٤٨ ـ (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) المراد بالرجال هنا الجبابرة الذين تسلطوا على المستضعفين ظلما وعدوانا (قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) كنتم في الحياة الدنيا تنقصون من قدر الناس وكرامتهم ، وتتعالون عليهم بما تملكون من جاه ومال فكيف أنتم الآن؟ وفي أية حال من الهوان؟

٤٩ ـ (أَهؤُلاءِ) إشارة إلى المؤمنين المستضعفين (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) أيها الجبابرة المترفون وقلتم (لا يَنالُهُمُ اللهُ) غدا (بِرَحْمَةٍ) في الدنيا قال الأغنياء للفقراء : نحن السعداء في الدنيا والآخرة ، وأنتم البؤساء فيهما ، وحين جاء يوم الجزاء قيل لهؤلاء : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) وقيل لأولئك : ادخلوا النار وبئس القرار.

٥٠ ـ (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) فقد أجحف بنا وأهلكنا العطش (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من طعام ، يستجدون بعد أن كان يستجدي منهم ، مع فارق كبير ، وهو أن فقر الدنيا إلى حين ، ويمكن الصبر عليه ، أما فقر الآخرة. فجحيم وإلى ما شاء الله. وبالمناسبة جاء في الحديث الشريف : اتقوا النار ولو بشق تمرة ... الصدقات كفارات (قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) بالله والانسانية وقيمها ، ولا يؤمنون إلا بأنفسهم وذويهم ومنافعهم.

٥١ ـ (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وتشمل هذه الآية لمكان كلمة «دينهم» المشرك والموحد الذي يؤوّل الدين تبعا لأهوائه وأهدافه الشخصية سواء أفعل ذلك عن قصد وعمد أم عن جهل بأنه يقول ويفعل بوحي من عاطفته ، وهو يظن بأنه من وحي الدين والإيمان حيث لا عذر إطلاقا لمن يعتد برأيه كوحي من السماء (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) نهملهم (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أهملوه ، ولم يعملوا له ، وفي الأشعار : «وكما تراني يا جميل أراك» ناسيا أو ذاكرا.

٥٢ ـ (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) بالقرآن (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً) يهدي إلى الرشد ، ويبين ما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم ضامنا لمن عمل به الهداية في الدنيا والرحمة في الآخرة.

٥٣ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أتنظرون أيها الجاحدون فسوف يظهر للعيان أن كل ما نطق به القرآن من ثواب المتقين وعقاب المجرمين ـ هو حق وصدق. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) بوقوع ما أخبر القرآن عنه حيث يرى كل إنسان جزاء عمله (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ

٢٠٠