التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

١١٦ ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ليس هذا سؤالا من الله لعيسى ، وإنما هو حجة قاطعة على من ادعى لعيسى وأمه هذه الدعوى الكاذبة الكافرة (قالَ) عيسى : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أنا من العارفين بجلالك وكمالك والأمين على وحيك والمجاهدين في الدعوة إلى عبادتك هذا و (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) تعلم ما أعلم ، ولا أعلم ما تعلم.

١١٧ ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) المصدر المنسبك من أن اعبدوا بدل من ضمير (بِهِ) ولا يجوز أن تكون (أَنِ) مفسرة لأن حروف القول لا تفسر وثانيا لأن الله لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم. (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي كنت أراقبهم بدقة ، وأمنعهم من الكفر والمغالاة (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أديت وظيفتي من غير تقصير في ظل طاعتك ، والذي حدث من بعدي علمه عندك وأمره لك وحدك لا شريك لك.

١١٨ ـ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وأنت وحدك صاحب هذا الحق (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغني عن عذابهم (الْحَكِيمُ) الحليم الذي يشاهد العصاة لأمره ولا يعاجلهم بالعقوبة ، ويومئ هذا القول من عيسى إلى أنه يطلب من الله العفو عن المذنبين ، ولا غرابة ، فهذا هو شأن الأنبياء والأصفياء ، فقد عانى محمد (ص) الكثير من قومه ومع ذلك قال : اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون. وقال إبراهيم أبو الأنبياء : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ ٣٦ ابراهيم».

١١٩ ـ (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أبدا لا نجاة إلا لمن صدق في نيته ، وأخلص في عمله (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) لأنهم اهتدوا بهديه (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أتاهم من فضله (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وفي المقابل غضبه تعالى هو الخسران المبين.

____________________________________

الإعراب : (اتَّخِذُونِي) تتعدى الى مفعولين ، لأنها بمعنى صيروني ، والمفعول الأول الياء ، والثاني إلهين ، (وَأُمِّي) مفعول معه. و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بمحذوف صفة ل (إِلهَيْنِ). وقال صاحب مجمع البيان : من زائدة هنا. وهذا اشتباه لأن من تزاد بعد النفي ، ولا نفي هنا. والمصدر المنسبك من (أَنْ أَقُولَ) اسم يكون ، و (لِي) متعلق بمحذوف خبرا ل (يَكُونُ). و (بِحَقٍ) الباء زائدة وحق خبر ليس ، واسمها ضمير مستتر يعود الى ما. والمصدر المنسبك من (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بدل من ضمير (بِهِ). ولا يجوز أن تكون (أَنِ) هنا مفسرة لأن حروف القول قد صرح بها. (وَأَنْتَ) ضمير فصل لا محل له من الاعراب.

١٦١

سورة الأنعام

مكية وهي مائة وخمس وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي قولوا : الحمد لله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بنظام وإحكام (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي أوجد السبب الموجب لوجودهما (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) بالرغم مما أراهم من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي خلق أصلكم من طين أو تراب (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) وهو أجل الموت وأجل مسمى عنده وهو أجل النشر والبعث (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) تشكون في الله مع قيام الشواهد والدلائل.

٣ ـ (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي أنه تعالى في كل مكان بقدرته وتدبيره وعلمه (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من خير أو شر.

٤ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) المراد بالآية هنا الحجة القاطعة على وجود الله ونبوة محمد (ص) والمعنى الظاهر أن الأدلة قائمة ومتوافرة على صدق الإسلام ، وهي في غاية الوضوح والبساطة ، ولا عذر إطلاقا لجاحد ، لأن هذه الأدلة لا تتطلب من العاقل الا أن ينظر إليها بعقله دون هواه. وهكذا أكثر الناس يصرون على الرفض والإنكار بلا بحث وروية.

٥ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) بل وسخروا غير مكترثين دون أن ينظر إلى حججه وبيناته (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) لا بد وأن ينكشف لهم القناع عن جزاء عنادهم وتمردهم.

٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) كان

____________________________________

الإعراب : (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) على حذف مضاف ، أي خلق أصلكم ، (وَأَجَلٌ) مبتدأ ، ومسمى صفة له. و (عِنْدَهُ) متعلق بمحذوف خبر المبتدأ (وَهُوَ) مبتدأ أول ، و (اللهُ) مبتدأ ثان ، وجملة يعلم خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منه ومن خبره خبر المبتدأ الأول و (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بيعلم. (مِنْ آيَةٍ) من زائدة ، وآية فاعل. و (مِنْ آياتِ) متعلق بمحذوف صفة لآية. و (كَمْ) استفهام في موضع نصب ب (أَهْلَكْنا). (مِنْ قَبْلِهِمْ) بيان لها. وجملة (مَكَّنَّاهُمْ) في محل جر صفة لقرن الذي معناه الجماعة. و (مِدْراراً) حال من السماء.

١٦٢

على من أنكروا نبوة محمد (ص) وحاربوه بكل وسيلة أن يعتبروا بهلاك الأمم الماضية (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أعطيناهم ما لم نعطكم ، ثم بين سبحانه نوع العطاء بقوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) تدر بالمطر (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي من تحت أشجارهم وديارهم كناية عن الرخاء وكثرة الانتاج ، لأن خير الأرض من خير السماء (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ولم يغن مال أو سلطان (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً) أهل عصر (آخَرِينَ) والعاقل من اتعظ بهم وبأمثالهم ، والمعروف بين المفسرين أن الله سبحانه ترك أمة محمد (ص) وذنوبهم إلى يوم الدين ، وليست هذه كرامة للمسلمين بالذات أولا لأن عذاب الآخرة أشد. وثانيا لقوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ـ ١٧٨ آل عمران» أجل ، الكرامة لمحمد (ص) ليبقى اسمه ببقاء الله سبحانه دنيا وآخرة ، وفي شتى الأحوال فإن الصلاة على محمد وآله خير وسيلة إلى الله وشفيع اللهم صل على محمد وآل محمد.

٧ ـ (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) كهذه الكتب المعروفة (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مكابرة وعنادا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وهكذا كل منافق يسمي الأشياء بأضدادها يرفع شعار الإيمان وهو مراء كذاب.

٨ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) وهل يستقيم أمر الناس مع مخلوق مباين لهم خلقا وخلقا؟ (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي أهلكناهم فورا ، لأنهم ـ والله أعلم ـ لا يؤمنون به ، ويقولون : هلا أرسل إلينا واحدا منا نتبعه ، كما هو شأن الإنسان ، أحب شيء إليه ما يمنع عنه حتى إذا ناله طلب سواه ، وهكذا إلى ما لا نهاية!.

٩ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي في صورة رجل حيث لا تحتمله العقول لو بقي على صورة الملك ، ومجيئه في صورة البشر لا يغير من الأمر شيئا (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) لاشتبه الأمر عليهم ، وقالوا : هذا انسان لا ملك ، ونحن نريد ملكا لا إنسانا.

١٠ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ ...) وبمخلصين ومصلحين ، ولا شيء أسهل على الفم من مضغ الهواء بالسخرية والاستهزاء والغيبة والافتراء! والعبرة بالعاقبة وهي إلى وبال لا محالة.

١١ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) واضح ، وتقدم في الآية ١٣٧ من آل عمران.

١٢ ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) وساغ أن يكون النبي هو السائل والمجيب حيث لا خلاف بينه وبين المسئولين أن الله هو خالق الكون ومالكه والقصد إلقاء الحجة (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ما من شك؟ أن هذا إيجاب فضل وكرم ، ولكن نسأل عن سره وسببه وهو في منتهى البساطة والوضوح ، لأنه تعالى غني عن كل شيء ، وإليه يفتقر كل شيء (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

١٦٣

لا رَيْبَ فِيهِ) حيث لا يستقيم في عدله أن يفلت المسيء من العقاب ، ويحرم المحسن من الثواب.

١٣ ـ (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من السكنى لا من السكون ، والقصد عموم الملك لكل كائن أينما كان ومتى يوجد.

١٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ...) وهو الخالق الرازق (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) بطبيعة الحال لأنه هو الداعي الأول إلى القرآن والإسلام (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي نهيت عن الشرك كما أمرت بالإسلام.

١٥ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لقد وضعت هذه الآية محمدا مع غيره على مستوى واحد أمام الله ، بلا امتياز وحقوق مقدسة لأي إنسان إلا بما يقدمه من خدمة لأخيه الإنسان ، ومن هنا جاءت عظمة محمد (ص) وغيره من الأنبياء والعظماء ، هذا هو الإسلام في واقعه : عدل ومساواة.

١٦ ـ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) العذاب (يَوْمَئِذٍ) القيامة (فَقَدْ رَحِمَهُ) أي ينال رحمة الله وثوابه.

١٧ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) مهما كان نوعه (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) حتى الدواء الذي يشفيك من مرضك والطبيب الذي عالجك هما من خلق الله. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على إزالته وعلى دوامه ومضاعفته ويجب أن لا ننسى أن الشرط الأساس لكل نجاح في الحياة الدنيا والآخرة هو العمل (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ـ ٢ العصر ... (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ـ ٣٩ النجم».

١٨ ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) يقصم ظهور الطغاة والجبارة.

١٩ ـ (قُلْ) يا محمد لمن يجحد بنبوتك : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) هل تريدون مني دليلا؟ فعندي أعظم دليل (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وكفى بالله هاديا وشهيدا (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) القرآن هو الشاهد والدليل من الله على نبوة محمد ، وقد تحدى وما زال كل جاحد ومعاند (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ

____________________________________

الإعراب : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ لِمَنْ) متعلق بمحذوف خبر مقدم و (ما) مبتدأ مؤخر ، والجملة مفعول لقل. ولله متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، أي قل هو كائن لله. (الَّذِينَ خَسِرُوا) مبتدأ ، (فَهُمْ) مبتدأ ثان ، ولا يؤمنون خبر للمبتدإ ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول. (أَغَيْرَ اللهِ) غير مفعول أول لاتخذ ، و (وَلِيًّا) مفعول ثان. و (فاطِرِ) صفة لله.

١٦٤

آلِهَةً أُخْرى) كيف تجعلون مع الله شركاء بعد وضوح الأدلة على وحدانيته (قُلْ لا أَشْهَدُ) لا أجعل مع الله إلها آخر (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وهذا هو التوحيد : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ ...).

٢٠ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) الضمير في يعرفونه لمحمد (ص) والمراد بأهل الكتاب علماء اليهود والنصارى في عهد الرسول ، وتقدمت هذه الآية في سورة البقرة الآية ١٤٦ ، وأيضا تأتي في سورة الأعراف ١٥٧ : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ).

٢١ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كل من كذب على الله ورسوله عامدا متعمدا في سلب أو إيجاب ـ فهو كافر بالاتفاق ، وعليه فالمراد من الظلم هنا الكفر.

٢٢ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) ولا مهرب لأحد من ذاك اليوم الشاهد المشهود (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تعبدون من دون الله حجرا كان أو إنسانا أو متاعا من ملذات الدنيا.

٢٣ ـ (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي معذرتهم الكاذبة الكافرة (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) أي ما كنا نعتقد بأننا على الشرك والضلال. أو أن في القيامة مواقف في بعضها يستطيعون الكذب ، وفي بعضها (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) ـ ٤٢ النساء».

٢٤ ـ (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) حيث أنكروا الشرك وهو في أعماقهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) غاب عن المشركين الإله الذي كانوا يعبدونه من دون الله ٢٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) يا محمد وأنت تتلو القرآن ، ولكنهم لا ينتفعون به ولا بغيره من الدلائل والبينات (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) جمع واحدها كنان وهو الغطاء (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أن يفهموا القرآن (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ثقل السمع ، وصحت النسبة إلى الله تعالى ، لأنه خالق كل شيء حتى السم القاتل ، وأيضا النسبة إلى الفاعل القادر المختار لتوسط الإرادة والاختيار.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) وكل ذاتي لا يؤمن إلّا بذاته ، ولا يقتنع إلا بمنفعته ، ويستحيل في حقه أن يحتمل ويرتقب الخطا من نفسه إلا نظريا لا عمليا ، أقول هذا عن حس لا عن حدس وبشهادة العيان والوجدان (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) في القرآن وهم مصرون سلفا على الكفر به على كل حال حتى وإن قام عليه ألف دليل ودليل (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ضلالات وخرافات.

١٦٥

٢٦ ـ (وَهُمْ) المشركون (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) عن محمد (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) لا يقربون من النبي (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أرادوا الكيد للإسلام ونبيه فدارت عليهم دائرة السوء.

٢٧ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ويا هول ما رأوا (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهل يرجى من رجعة العمر ما مضى في الحياة الدنيا؟ فكيف بالآخرة؟

٢٨ ـ (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) لا ينجو في الآخرة إلا من كان صريحا واضحا في الدنيا ، وأوضح من هذه الآية على ذلك قوله تعالى : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ـ ١١٩ المائدة». (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) وكم قرأنا وسمعنا عن مجرمين تابوا في غياهب السجن ، حتى إذا خرجوا عادوا إلى الحرام والآثام.

٢٩ ـ (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) من أحمق الحمق أن نسرع إلى الحكم قبل أن نعرف الصواب من الخطأ ، ونستدل بترك هذه الدار على عدم الانتقال منها إلى دار ثانية.

٣٠ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) في الدار الثانية (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) الذي حذّرتم من ضره وحره؟ (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) بعد أن رأوا العذاب ، تقطعت بهم الأسباب.

٣١ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) وفاز المؤمنون به العاملون له (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) فجأة (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي في الحياة الدنيا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) آثامهم (عَلى ظُهُورِهِمْ) أي ملازمة لهم ، والتعبير بالظهور لأن الأثقال تحمل على الظهر عادة.

٣٢ ـ (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) إلا لرجلين : رجل أذنب فتاب ، ورجل يسارع في الخيرات

____________________________________

الإعراب : المصدر المنسبك من (أَنْ يَفْقَهُوهُ) مفعول لأجله لجعلنا ، أي كراهية ان يفقهوه. و (إِذا) شرط متضمن معنى الظرف ، وهو متعلق ب (يَقُولُ). وجملة (يُجادِلُونَكَ) حال من الواو في (جاؤُكَ). و (إِنْ هذا) ان نافية بمعنى ما ، ومثلها ان يهلكون. و (لَوْ تَرى) جواب (لَوْ) محذوف ، وتقديره لشاهدت أمرا عظيما. و (لا نُكَذِّبَ) منصوب بأن مضمرة بعد الواو ، ومثله ونكون ، والمصدر المنسبك معطوف على مصدر متصيد من نرد ، والتقدير يا ليت لنا الرد وعدم التكذيب وكوننا من المؤمنين. (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ان نافية ، وهي مبتدأ ، و (حَياتُنَا) خبر ، و (الدُّنْيا) صفة للحياة ، لأنها بمعنى الأول أو الدنيّة أو القريبة. وبغتة مصدر في موضع الحال من الساعة ، أي باغتة وساء فعل مستتر ، و (ما) تمييز بمعنى شيء ، والمخصوص بالذم محذوف ، والتقدير ساء الشيء شيئا وزرهم.

١٦٦

(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) تقية الآمل المتخوف

٣٣ ـ (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) يا محمد (الَّذِي يَقُولُونَ) عنك ، ومن ذلك : (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) ـ ١٤ ـ الدخان». ولما ذا مجنون؟ لأنه جاء بجديد. هكذا كل جاهل بجهله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) يا محمد (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ما كذبوك إلّا لأنهم أعداء الحق! وسلام الله على من قال : ما ترك الحق لي صاحبا.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) وما أنت بأول رسول لاقى من قومه الأذى والتكذيب (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) فهوّن عليك ولا تبال تماما كما فعل الرسل من قبل (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) على المكذبين ، ويأتيك هذا النصر وزيادة (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) إشارة إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) ـ ١٧٢ الصافات».

٣٥ ـ (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) يريد محمد (ص) الحياة للناس ، كل الناس ، فيدعوهم إليها ويجتهد ، فينفرون ويبتعدون ، ولا وسيلة لديه إلا التوجع والحسرات ، فخاطبه المولى بقوله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً) منفذا (فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) يؤمنون بسببها فافعل وإلا فسلم الأمر إلى الله ، وكأن هذا الخطاب الحكيم منه تعالى لقلب نبيه الكريم روح وريحان وسكينة واطمئنان ، وإن يك في أسلوبه أشبه بالعتاب (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ولا شيء أهون عليه من ذلك ، ولكنه عنف وإرغام ، ولا طاعة وثواب لمكره مرغم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي لا ينبغي أن يكون تحسرك على تكذيبهم أشبه بتحسر الذين يجهلون أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى.

٣٦ ـ (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) وهؤلاء صم لا يسمعون (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) دعهم يا محمد ، إنهم سوف يموتون ويبعثون عندئذ يرون ويسمعون.

٣٧ ـ (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي معجزة معينة كانوا اقترحوها (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) من النوع الذي اقترحوه ، ولكن لا يستجيب لطلبهم ما دام تحكما وتعنتا بالباطل.

____________________________________

الإعراب : (قَدْ نَعْلَمُ) مضارع بمعنى الماضي ، أي قد علمنا. وحتى بمعنى إلى ، وان مضمرة بعدها ، والمصدر المنسبك مجرور بها ، متعلق بصبروا. وفاعل جاءك محذوف ، والتقدير جاءك نبأ من نبأ المرسلين. وجواب (إِنْ كانَ كَبُرَ) فان واستطعت. وجواب (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) محذوف أي فافعل. (وَالْمَوْتى) الواو للاستئناف والموتى مبتدأ وخبره جملة يبعثهم. (مِنْ رَبِّهِ) متعلق بمحذوف صفة لآية.

١٦٧

٣٨ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في سعيها وكدحها وهدايتها إلى حوائجها ، والفرق أننا نفعل ذلك عن علم وعقل وعقيدة وإرادة ، أما هي فتفعل آليا بالطبع والغريزة تماما كدورة الدم في جسم الحي (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ما من شيء يحتاج إليه الناس من أمور دينهم عقيدة وشريعة إلا وقد أنزل الله سبحانه في كتابه ببيان خاص أو بأصل عام ، وتجدر الإشارة أن السنة النبوية بحكم القرآن الكريم ، لقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ـ ٧ الحشر».

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) هم كالصم لأنهم لا يستمعون إلى الحق ، وهم كالبكم لأنهم لا ينطقون به ، وفوق ذلك هم في الظلمات ، أي ظلمات بعضها فوق بعض (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) إن اختار هو الضلال لنفسه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ ٥ الصف» (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إن اختار هو لنفسه الهداية والاستقامة : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) ـ ١٧ محمد» ٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) التاء للمخاطبين ومحلها مع الميم الرفع ، والكاف حرف لا محل لها من الإعراب حيث لا يجتمع خطابان معربان في فعل واحد ، والمعنى أخبروني عن رأيكم أو حالكم (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) القيامة (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) كل مشرك وملحد إذا اشتد به البلاء ، ويئس من أهل الأرض ـ يلجا فطريا وآليا إلى رب السماء خاضعا متضرعا من غير شعور وتصميم ، ولا تفسير لهذا إلا أن النفس ترجع إلى خالقها بالطبع والغريزة حيث لا عقبات ولا حاجز من الشهوات.

٤١ ـ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) حيث لا ملجأ إلا إليه (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) وإن لم يشأ لم يكن (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) في الرخاء يذكرون الشيطان ، وينسون الرّحمن ، وفي الشدائد تنعكس الآية ، وهكذا عند الشدائد تستحق الحقائق.

٤٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) أرسلنا بالبينات فكذبوهم (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) من البؤس ، وهو الفقر وشدة الحاجة (وَالضَّرَّاءِ) من الضر وهو البلاء والداء العياء (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) ويتوبون إلى الله تعالى كما قال :

٤٣ ـ (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) أدبهم سبحانه بسوطه كي يستقيموا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فهي كالحجارة أو أشد.

٤٤ ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) ذكرهم سبحانه قبل كل شيء بالقول ، ثم البأساء والضراء ولكن لا حياة لمن تنادي (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من الرزق والرخاء لإلقاء الحجة والاستدراج بالنعم (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما

١٦٨

أُوتُوا) من فضل الله ، وازدادوا بطرا وأشرا (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أنزل بهم العذاب على حين غفلة (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) متحيرون آيسون من النجاة والرحمة.

٤٥ ـ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي آخرهم ، ولم يترك منهم أحدا.

٤٦ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ ...) يذكر سبحانه العصاة والطغاة بقدرته ويحذرهم منها عسى أن يتوبوا ويثوبوا ، وفي نهج البلاغة : فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) نكرر العظات في شتى الأساليب ، ولا مزدجر ومغير.

٤٧ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) أخبروني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) بلا إنذار وإشعار (أَوْ جَهْرَةً) مع الإنذار والإشعار (هَلْ يُهْلَكُ) دنيا وآخرة (إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أما الأبرار فلهم أجرهم مرتين بما صبروا.

٤٨ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب (فَمَنْ آمَنَ) بالله مخلصا (وَأَصْلَحَ) من عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهل يخشى البريء من سلطان الحق وسيف العدل؟

٤٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) ولذا يخافون العدل في دار الأمان.

٥٠ ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أبدا لا أحد يملك مع الله شيئا حتى الأنبياء (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) إنما الغيب لله (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وهكذا يحدد محمد (ص) نفسه في أنه يقف مع كل الناس أمام سلطان الله وقدرته على قدم المساواة ، فأين مكان الحقيقة المحمدية في كتاب الله ، وأنها الروح الذي سرى في جميع الكائنات والنور الذي خلق الله منه جميع الموجودات؟ وأعظم ما في محمد وآل محمد الأطهار أنهم بلغوا من كمال البشرية وجلالها الغاية والنهاية بحيث لا موجود فوقهم إلا خالق الوجود وخالقهم وكفاهم بذلك عظمة وكرامة (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أبدا لا أحد يقاس بمحمد وآل محمد. فهم المطهرون من الرجس والدنس تطهيرا بإرادة الله ، ومودتهم حق وفرض على الناس في كتاب الله.

____________________________________

الإعراب : (مَنْ) مبتدأ ، و (إِلهٌ) خبر ، وغير الله صفة لإله ، وجملة (يَأْتِيكُمْ) صفة ثانية. والضمير في (بِهِ) يعود إلى معنى المأخوذ ، وهو السمع والبصر. (كَيْفَ) حال من ضمير نصرّف. و (بَغْتَةً) حال من ضمير أتاكم. و (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حال من المرسلين. (وَبِما كانُوا) ما مصدرية والمصدر المنسبك مجرور بالباء متعلق ب (يَمَسُّهُمُ).

١٦٩

٥١ ـ (وَأَنْذِرْ بِهِ) بالقرآن (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) وهم المهتدون بالفعل ومن ترجو هدايتهم بالإنذار والتكرار (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) بعض الذين يستمعون إليك يا محمد يؤثر فيهم كلامك ، ويشعرون بالخوف من الله في أعماقهم ، فامض معهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإنهم يهتدون ويتقون.

٥٢ ـ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) صباحا ومساء (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) تعالى (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) في الآية ٤ من القلم و ١٢٨ من التوبة ، يشهد سبحانه لنبيه الكريم بأنه على خلق عظيم وبالمؤمنين رؤوف رحيم ، وهنا يقول له : «(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ... (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)» إذن هناك سر .. أجل ، وخلاصة هذا السر أن مجلس الرسول (ص) لا يكاد يخلو من فقراء المؤمنين فقال له بعض من نفخ الشيطان بأنفه من أهل الشرك : اطرد هؤلاء المساكين حتى نأتيك ، ونسمع منك. فنزلت الآية لتفهم الذين طلبوا الطرد أنهم أولى به ، وأن المساكين أفضل شأنا عند الله وأعظم قدرا.

٥٣ ـ (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ابتلينا المترفين الذين يستهلكون ولا يعملون ، بالكادحين البائسين (لِيَقُولُوا) المترفون ، واللام للعاقبة مثل لدوا للموت (أَهؤُلاءِ) الكادحون (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) تماما كما قال فرعون عن موسى : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) ـ ٥٣ الزخرف».

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) لا طبقات عند الله في المال والجاه والنسب ، بل درجات في الجهاد والعمل النافع حتى الإيمان والإخلاص عمل كله ، ولا إيمان ولا إخلاص بلا عمل.

٥٤ ـ (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) ليس المراد بالمؤمن من اسودت جبتهه من أثر السجود وكفى ، بل من ابيضت نفسه وطابت ، وصفت دخيلته وخلصت من الحقد والحسد (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحية أهل الجنة (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ) تفضلا منه وكرما (الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) بسفاهة لأن من أقدم على عمل السوء عن علم وعمد فهو أسوأ حالا من الجاهل (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) صادقا (وَأَصْلَحَ) في عمله مخلصا (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومن رحمته أنه يحب التوابين.

٥٥ ـ (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) في صفات الصالحين والطالحين (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) ونفهم من هذا أن فضيحة المجرمين والخائنين مندوبة وفضيلة.

٥٦ ـ (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) عقلا ووحيا (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وأي عاقل يعبد ما لا يضر ولا

١٧٠

ينقع (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) لأنها تقود إلى الهاوية (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) كما ظللتم.

٥٧ ـ (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) آمنت بالله عن علم وبرهان (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) عن جهل وتقليد ، ولا يتبع جهلكم وأهواءكم إلا من فقد رشده وعقله. (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) حين دعاهم النبي إلى الإيمان قالوا له : أمطر علينا حجارة من السماء. قال لهم : هذا بيده تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَ) يقول الحق ويفعله.

٥٨ ـ (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بإهلاك من ظلم منكم غضبا لله تعالى.

٥٩ ـ (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) أي لا شيء يغيب عن علمه تعالى (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) حيث لا شريك له في شيء (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) كماله تعالى مطلق من كل وجه ، ومعنى هذا أن علمه عين ذاته وغير مستفاد ، وأيضا معناه أنه يحيط بكل شيء علما ولو غاب شيء عن علمه كسقوط ورقة عن شجرة أو حبة في ظلمات الأرض ـ لأخل ذلك بكماله ، تعالى عن ذلك.

٦٠ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) النوم ضرب من الوفاة حيث تتعطل الحواس عن أعمالها (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ما كسبت جوارحكم (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي في النهار ، يوقظكم من نومكم (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) لتستوفوا آجالكم (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بعد الموت (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير أو شر.

٦١ ـ ٦٢ ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) بالموت والفناء والكرب والبلاء. (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) كرب ومصائب ، وكدح ومتاعب ، وحساب وعقاب ، هذا هو الإنسان ، وهذه حياته ومع ذلك يرى نفسه شيئا مذكورا.

____________________________________

الإعراب : (إِذاً) معناها الجزاء ، أي ان اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وضمير (بِهِ) يعود إلى (رَبِّي). (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) يجوز أن تكون الواو للاستئناف ، ويجوز للحال على إضمار قد قبل كذبتم ، لأن المقرون بالواو لا يكون حالا إلا مع قد ظاهرة أو مضمرة. جملة (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) حال من مفاتح. و (مِنْ وَرَقَةٍ مِنْ) زائدة وورقة فاعل تسقط. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) لا يجوز أن يكون استثناء من وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، إذ يصير المعنى انه تعالى يعلم كل شيء إلا الموجود في كتاب مبين فإنه لا يعلمه ، تماما كما تقول : لا شيء إلا أنا عالم به إلا ما في الصندوق ، وعليه يتعين ان يتعلق في كتاب مبين بخبر محذوف لبمتدأ محذوف ، تقديره إلا هو موجود في كتاب مبين. (بِالنَّهارِ) الباء بمعنى في.

١٧١

٦٣ ـ (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كناية عن الشدائد التي لا ينجو منها صغير ولا كبير (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) متضرعين بألسنتكم ومسرين في أنفسكم (لَئِنْ أَنْجانا) الله (مِنْ هذِهِ) المصيبة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) هذي لغة التجار ، يشكرون الله لا إخلاصا له ، بل بشرط أن يعطيهم النجاة والخلاص من الآلام ، وهكذا يتعاملون مع الشيطان يعطونه الدين والعقل والضمير بشرط أن يعطيهم شيئا من متاع الدنيا وزخرفها ، ولكن الله سبحانه يعامل كلا بما هو أهل «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

٦٤ ـ (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) إن الله سبحانه ينجيكم ويشفيكم مما يعجز عنه أهل الأرض بالكامل ، ولكن تعودون بعد الشفاء والنجاة إلى الرذائل والسيئات.

٦٥ ـ (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كالصواعق والطوفان (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كالخسوف والزلازل (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) يخلطكم او يجعلكم أحزابا متطاحنة (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) يقتل بعضكم بعضا (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) نقيم للناس الحجج على الحق ، عسى أن يعملوا به.

٦٦ ـ (وَكَذَّبَ بِهِ) بالقرآن (قَوْمُكَ) قريش (وَهُوَ الْحَقُ) ولذا جحدوه وعاندوه (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بل بشير ونذير.

٦٧ ـ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) لكل خبر يوم يعرف فيه صدق المخبر من كذبه.

٦٨ ـ (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ...) تقدم

____________________________________

الإعراب : ومولاهم صفة لله. والحق صفة ثانية. جملة (تَدْعُونَهُ) حال من مفعول ينجيكم. و (تَضَرُّعاً) مصدر في موضع الحال ، أي متضرعين. و (مِنْ فَوْقِكُمْ) متعلق بمحذوف صفة لعذاب. و (شِيَعاً) حال من مفعول يلبسكم. (كَيْفَ) مفعول (نُصَرِّفُ). و (بِوَكِيلٍ) الباء زائدة ، ووكيل خبر ليس ، و (عَلَيْكُمْ) متعلق بوكيل. و (لِكُلِ) خبر مقدم ، و (مُسْتَقَرٌّ) مبتدأ مؤخر.

١٧٢

في الآية ١٣٩ من النساء (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) النهي عن مجالستهم (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فان الوحدة خير من جليس السوء.

٦٩ ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لا يجب على المؤمنين أن يحاسبوا المستهزئين بآيات الله ، إن حسابهم على من إليه إيابهم (وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ولكن على المؤمنين التذكير والتحذير بالحسنى عن هذا المنكر.

٧٠ ـ (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) الدين قدس الأقداس لأنه لله ومن الله ، والاستخفاف به هرطقة وإلحاد (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فباعوا دينهم بدنياهم (وَذَكِّرْ بِهِ) بالقرآن (أَنْ تُبْسَلَ) ترتهن (نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌ) ناصر (وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) المراد بالعدل هنا الفداء ، و «كل» مفعول مطلق لأنها مضافة إلى المصدر (أُولئِكَ) أشار إلى من اتخذ دينه لعبا ولهوا (الَّذِينَ أُبْسِلُوا) ارتهنوا (بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) يغلي في البطون.

٧١ ـ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) لا دنيا ولا آخرة (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) وتصلح هذه الآية تحديدا للرجعي ، وأنه من يرتد عن الهدى إلى الضلال ، وعن الحق إلى الباطل ، وعن الرشد إلى الغي (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) هذا تمثيل لمن ران الحمق على قلبه وعقله وضل الطريق الهادي ، فأشفق عليه أحبابه وأصحابه ، فأرشدوه إلى سبيل النجاة ، فأعرض وأبى.

____________________________________

الإعراب : الضمير في (غَيْرِهِ) يعود إلى معنى الآيات ، وهو القرآن. و (مِنْ شَيْءٍ) من زائدة ، وشيء مبتدأ وخبره (عَلَى الَّذِينَ) ، و (مِنْ حِسابِهِمْ) متعلق بمحذوف حالا من شيء ، والتقدير شيء كائنا من حسابهم ، وضمير حسابهم يعود إلى الخائضين الذين دل عليهم يخوضوا ، و (ذِكْرى) مفعول مطلق ، أي ذكروا تذكيرا. و (دِينَهُمْ) مفعول أول لاتخذوا ، و (لَعِباً) مفعول ثان. و (الدُّنْيا) صفة الحياة. وتسبك ان و (تُبْسَلَ) بمصدر مفعولا من أجله لذكر به. و (وَلِيٌ) اسم ليس ، و (لَها) خبرها ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) في موضع الحال من ولي. وكل عدل مفعول مطلق ، لأن كلا تعطي ما تضاف اليه. و (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا) مبتدأ وخبر ، وجملة (لَهُمْ شَرابٌ) حال من الواو في (أُبْسِلُوا). (كَالَّذِي) الكاف بمعنى مثل في محل نصب صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي نرد ردا مثل رد الذي استهوته. و (حَيْرانَ) حال من ضمير استهوته. و (لَهُ أَصْحابٌ) مبتدأ وخبر ، صفة ل (حَيْرانَ).

١٧٣

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) وحدد سبحانه هداه في كتابه بالصراط المستقيم أو بالاستقامة قلبا ولسانا وعملا (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ونعتصم به وحده.

٧٢ ـ (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) حيث لا إسلام إلا بها فإنها رمز التوحيد والتسليم لأمر الله (وَاتَّقُوهُ) أي اتقوا معصية الله.

٧٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بما فيها من نظام ونواميس لا يستقيم الكون إلا بها (وَيَوْمَ) أي حين (يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) وفاعل هذين الفعلين ضمير مستتر ، والتقدير يقول للشيء كن فيكون (قَوْلُهُ الْحَقُ) مبتدأ وخبر (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) كناية عن بعث من في القبور (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) والمراد بالغيب هنا ما غاب عن المخلوق ، لأن الخالق لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء كما في الآية ٦١ من يونس وغيرها.

٧٤ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قال الشيعة الإمامية : هذا اسم عمه أو جده لأمه ، وأطلق على الأب مجازا ، ويعزز هذا القول ما جاء في التوراة سفر يشوع الاصحاح ٢٣ فقرة ٢ أن اسم أبي ابراهيم تارح (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) وفي مذهب الشيعة : لا مشرك إطلاقا في آباء محمد (ص) وأجداده ، وكل أمهاته وجداته مطهرات من الفحشاء (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بعبادة الأصنام.

٧٥ ـ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أيقن ابراهيم (ع) بوحي من عقله الكبير وفطرته النقيبة بأن قومه على ضلال في الكثير من عاداتهم بخاصة عبادتهم الأصنام ، فثار ثورة عاقلة واعية عليهم وعلى ما يعبدون ، بل يسوغ أن نسمي ثورته هذه بالكونية لأنه انطلق من عجائب الكون وآياته إلى توحيد الخالق وعظمته.

٧٦ ـ (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي ستره (رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) كان قومه يعبدون الكواكب فيما يعبدون ، فقال محاكاة لزعمهم : هذا ربي ، فاطمأنوا إليه. (فَلَمَّا أَفَلَ) غاب الكوكب تحت الأفق ، أيقظ عقولهم ، ولفت نظرهم إلى أن الآلهة لا تتقلب من حال الى حال و (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وعبادتهم. لأن الخالق لا يحول ولا يزول ولا يجوز عليه الأفول.

٧٧ ـ (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ) مستدرجا قومه : (هذا رَبِّي) لأنه أسطع نورا من الأول وأكبر حجما (فَلَمَّا أَفَلَ) القمر وغاب ، إذن ما زالت المشكلة قائمة (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ما زال إبراهيم (ع) يستدرج قومه ، ويسير معهم ، لأنه على العلم اليقين بأنه الهادي المهدي.

٧٨ ـ (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ) ولا رجعة بعد هذه الطلقة الثالثة ولذا

١٧٤

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بريء من هذه الكواكب التي جعلتموها شريكة لخالقها.

٧٩ ـ (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) مائلا عن عبادة الكواكب إلى عبادة الواحد الأحد.

٨٠ ـ (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) ولا حجة لديهم إلا هذا التقليد الأعمى : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) إلى التوحيد بالفطرة والعقل (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) من الكواكب وغيرها. لأنها لا تضر ولا تنفع (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) حتى لو أن صنما مما تعبدون قطعني إربا إربا ، أبقى راسخ الإيمان بالله وحده ، وأقول هو سبحانه سخره وسلطه علي (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فلا يصيبني أي شيء إلا بعلمه وإرادته.

٨١ ـ (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) أتريدونني أن أخاف من أصنام لا حول لها ولا قوة (وَلا تَخافُونَ) أنتم (أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) ولا تخافون افتراءكم بأن له شركاء من خلقه (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) : الفريق الموحد أو الفريق المشرك؟ ٨٢ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) لم يخلطوا إيمانهم الخالص بأية شائبة من الشرك (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) هذا بيان للفريق الناجي من عذاب الله الآمن من غضبه وأنهم أهل التوحيد.

٨٣ ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) أي الحجج التي نطق بها ابراهيم ، وأفحم بها قومه نحن ألهمناه إياها ، وكل حجة أو كلمة يحق بها الحق ، ويبطل بها الباطل فهي حجة الله وكلمته (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) في الإسلام درجات متفاوتات في العلم والإيمان والإخلاص ، وقد بلغ ابراهيم أرفعها ، لا في المال والجاه والأنساب.

٨٤ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ) لإبراهيم (ع) (إِسْحاقَ) للصّلب مباشرة من زوجته سارة (وَيَعْقُوبَ) ابن اسحق

____________________________________

الإعراب : (ما تُشْرِكُونَ بِهِ) ضمير به يعود إلى الله. وتسبك (أَنْ يَشاءَ رَبِّي) بمصدر في محل نصب على الاستثناء المنقطع ، أي لا أخاف إلا مشيئة الله. و (عِلْماً) تمييز. و (كَيْفَ) تكون خبرا للمبتدإ إذا وقعت قبل ما لا يستغني عنه نحو كيف أنت ، وحالا أو مفعول مطلقا إذا كانت قبل ما يستغني عنه كما في الآية ، وعليه يكون محلها النصب على انها مفعول مطلق على معنى أي خوف أخاف ، أو حال أي على أي حال أخاف و (الَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ أول ، و (أُولئِكَ) مبتدأ ثان ، والأمن مبتدأ ثالث ، و (لَهُمُ) خبره ، وهو مع خبره خبر الثاني ، وهذا مع خبره خبر الأول. (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) مبتدأ (آتَيْناها) حال. و (دَرَجاتٍ) مجرورة بإلى محذوفة.

١٧٥

وابن الابن ابن و (كُلًّا) من اسحق ويعقوب (هَدَيْنا) وأيضا (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) لأنه أقدم من ابراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) ذرية نوح أو ابراهيم (داوُدَ) ابن ايشا ، ومعناه في العبرية محبوب (وَسُلَيْمانَ) بن داود ، ومعناه في العبرية رجل سلام (وَأَيُّوبَ) اسم عبري ، ولا يعرف معناه كما في قاموس الكتاب المقدس الذي ننقل عنه (وَيُوسُفَ) ابن يعقوب ، اسم عبري ، ومعناه يزيد (وَمُوسى) بن عمران ومعناه في اللغة المصرية ولد ، وفي العبرية منتشل (وَهارُونَ) وهو بكر أبيه وأكبر من أخيه موسى بثلاث سنوات كما في قاموس الكتاب المقدس. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) حتى ولو لم يكونوا أنبياء ومرسلين.

٨٥ ـ (وَزَكَرِيَّا) وفي اللغة العربية زكر الإناء : امتلأ (وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ).

٨٦ ـ (وَإِسْماعِيلَ) بن إبراهيم من زوجته هاجر المصرية ، ومعناه في العبرية يسمع الله (وَالْيَسَعَ) وفي قاموس الكتاب المقدس : «اليشع اسم عبراني معناه الله خلاص (وَيُونُسَ وَلُوطاً) ابن أخي ابراهيم الخليل (وَكلًّا) أي كل واحد من هؤلاء المذكورين (فَضَّلْنا) أي فضلناه في النبوة (عَلَى الْعالَمِينَ) في زمانه هو لمكان نبوته لا في كل زمان وإلا لكان كل واحد من هؤلاء الأنبياء أفضل من كل الأنبياء السابقين عليه واللاحقين له ، وهذا عين التناقض والتهافت حيث يكون كل واحد فاضلا ومفضولا في آن واحد.

٨٧ ـ (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) من هنا للتبعيض ، والمعنى وهدينا بعض آباء من ذكرنا من الأنبياء وبعض أولادهم وبعض إخوانهم ، لأن من ذرياتهم وإخوانهم كانوا كافرين ، بل لم يكن لعيسى ويحيى نسل وذرية (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا المديح والثناء تمهيد لقوله تعالى :

٨٨ ـ (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ليست هداية الله وقفا على فرد دون فرد ولا على فئة دون فئة ولا هو أكثر رعاية وعناية بعبد دون عبد من عباده ، بل هو ، جلت حكمته ، لكل من استمع وأطاع ، وتأتي الرعاية منه تعالى والمعونة على قدر التقوى والإخلاص.

(وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وأيضا هو سبحانه في غضبه وعذابه لمن عصى تماما كما هو في مرضاته وثوابه لمن أطاع ، من استقام فإلى الجنة ، ومن زل فإلى النار أيا كان ويكون.

٨٩ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) كصحف ابراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود (وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) والمراد بالحكم هنا معرفة القضاء وفصل الخطاب ، والنبوة أعم وأشمل (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) المشركون وغيرهم ممن جحد نبوة محمد (ص) (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) بنبوة محمد ورسالته (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم المؤمنون بالله ورسوله المخلصون في أقوالهم وأفعالهم.

٩٠ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ولا

١٧٦

محل لهذه الهاء من الإعراب ، وتسمى هاء السكت والوقف ، والمعنى سر على طريقة الأنبياء في الإيمان بالله وتوحيده والإخلاص له (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) كل من يطلب من الناس أجرا على عمل فهو يعبد الله على حرف (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) وليست الذكرى للتجارة والمساومة ، بل لمجرد الإرشاد والهداية.

٩١ ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) كل من جعل مع الله إلها آخر أو أنكر كتابا من كتبه أو رسولا من رسله ـ فهو جاهل بالله وعظمته ، فكيف بمن جحده من الأساس أو آمن به وأنكر أن يكون له رسول أو كتاب ، وإلى هؤلاء أشار سبحانه بقوله : (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) جحدوا كل كتاب سماوي لا لشيء إلا عنادا للقرآن تماما كمن يقول : فلان خسيس وشحيح لأنه ما أفاض علي من ماله (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى ...) قال الشيخ الطبرسي : «إن اليهود هم الذين أنكروا نزول الكتب من السماء على وجه العموم لا لشيء إلا «مبالغة في إنكار نزول القرآن فألزموا بما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى» وهذا التفسير هو الأقرب والأصح لأن اليهود يعتقدون أن النبوة هبة من الله لهم وحدهم ووقفا عليهم من دون العالمين ... حتى خالق الخلق مختص بهم ومتجنس بهويتهم وحميم يدافع عنهم ويعمل لمنفعتهم دون الخلائق أجمع. اقرأ التوراة سفر التثنية الإصحاح الرابع والعاشر وغيره ، وأيضا اقرأ للفيلسوف اليهودي اسبنوزا كتاب رسالة في اللاهوت الفصل الثالث رسالة العبرانيين.

٩٢ ـ (وَهذا كِتابٌ) القرآن (أَنْزَلْناهُ) على محمد (مُبارَكٌ) صفة للقرآن ، أما بركات محمد والقرآن فقد عمت الشرق والغرب ، وتحدث عنها القاصي والداني (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعترف بأنبياء الله ورسله بلا استثناء حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) وهي مكة المكرمة ، وخصها سبحانه بالذكر حيث منها انطلقت دعوة القرآن (وَمَنْ حَوْلَها) وانتقلت هذه الدعوة من مكة إلى جوارها ، ومن الجوار إلى الأقرب فالأقرب (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) وضمير «به» للقرآن ، وهو بشير ونذير للعالمين المطيع منهم والعاصي ، أما الأول فيبشره النبي بالثواب إن استمر على الطاعة ، وينذره بالعقاب إن انحرف وخالف ، وأما الثاني فينذره بالعقاب إن استمر على المعصية ، ويبشره بالثواب إن تاب وأناب.

٩٣ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كل من قال : هذا حرام الله ، وهذا حلال الله من عندياته فهو كذاب ومفتر على الله حتى ولو أصاب الواقع ، ومن قال مثل ذلك مستندا إلى كتاب الله وسنة رسوله ، ومراعيا للأصول والقوانين فهو مأجور حتى ولو أخطأ الواقع (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ ...) ولا شيء أيسر وأهون من إطلاق اللسان حتى في ادعاء الربوبية ، ولكن أسواءه وأدواءه تعود على صاحبه (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ ...)

١٧٧

كل من يجحد الخالق واليوم الآخر أو يسيء إلى عيال الله ولو مثقال ذرة ـ فهو ظالم ، وما من ظالم على الإطلاق إلّا ويلاقي جزاء ظلمه في الدنيا قبل الآخرة ولو ساعة الاحتضار ونزع الروح من جسده حيث تؤخذ منه بالتنكيل والعذاب الوبيل ، قال علي أمير المؤمنين (ع) : «الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة ، وفك قيود وأغلال إلى أفخر الثياب ، وآنس المنازل ، وهو للكافر كخلع ثياب فاخرة إلى أوسخها وأخشنها ، ومن المنازل الأنيسة إلى أوحشها وأعظم العذاب».

٩٤ ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) بصيغة الماضي ، ومعناها المستقبل أي تجيئوننا (فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي منفردين لا مال ولا رجال ولا ما كنتم تعبدون من دون الله (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) للوراث ، لهم النعيم والخيرات وعليكم الحساب والتبعات (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) زعمتم أن السيد المسيح (ع) أو غيره اشتركوا مع الله في خلقكم أو رزقكم ، فأين هم؟ (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تولدون يوم القيامة ولادة جديدة تماما كما خرجتم من بطون الأمهات مع فارق واحد ، وهو أنكم في الولادة الأولى لا تسألون عن شيء ، وفي الثانية تسألون عما كنتم تقولون وتعملون.

٩٥ ـ (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِ) بالنبات (وَالنَّوى) بالشجر ، ولكن بواسطة الماء والتراب والهواء (يُخْرِجُ الْحَيَ) النبات والشجر (مِنَ الْمَيِّتِ) الحب والنوى (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) كما يخرج سبحانه من الحب الجامد نباتا ناميا كذلك يخرج من النبات النامي حبا جامدا ، كل ذلك يحدث بأسبابه الطبيعية ، وبكلمة إن عظمة الله سبحانه لا تتجلى بإيجاد الطبيعة كيف اتفق ، بل وبما أودع فيما من نظام ونواميس وأسباب لا يستقيم الكون والحياة إلا بها (ذلِكُمُ) الحكيم المدبر هو (اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) كيف تنصرفون عنه إلى غيره؟

٩٦ ـ (فالِقُ الْإِصْباحِ) كناية عن النهار الذي يسعى فيه الإنسان لرزقه وتدبير شئونه (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) يسكن فيه الإنسان ، ويستريح من عمل النهار (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) لحساب الأوقات ومعرفتها (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ومن تقديره تعالى وحكمته أنه جعل الأرض في مكان تتحرك فيه تلقائيا وآليا حركتين : حركة تتم في ٢٤ ساعة ، وعليها مدار حساب الأيام ، وحركة تتم في سنة وبها توجد الفصول الأربعة ، وعليها مدار حساب السنة ٩٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) والمراد بالنجوم هنا ما عدا الشمس والقمر من النيرات ، وهي من أهم العلامات التي يهتدي بها الملاح في سفينته ، والراكب في سيارته ، والمرتحل على راحلته.

٩٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) لم تلد عبدا ولا أمة ، بل الحياة الاجتماعية هي التي أولدت العبيد حيث لا آلة وأداة للعمل إلا الأيدي وكفى ، وتكلمنا عن ذلك مفصلا في بعض مؤلفاتنا.

١٧٨

(فَمُسْتَقَرٌّ) في الرحم (وَمُسْتَوْدَعٌ) في الصلب وعن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قسم الإيمان إلى مستقر راسخ حتى الموت ، ولا يكون هذا إلا في قلب من تتفق أقواله مع أفعاله ، وإيمان مستودع متزلزل في قلب من تخالف أقواله أفعاله.

٩٩ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) لو لا الماء العذب لكانت الأرض صحراء جرداء ، ولم يكن للحياة عليها من أثر ، وأسند سبحانه إليه انزال الماء والإنبات ، لأنه مسبب الأسباب ، من قدرته تبتدئ ، وإلى إرادته تنتهي مهما امتدت الحلقات (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) ضمير منه يعود إلى النبات ، والمراد بالخضر الغض والطراوة ، أي تشعب من النبات أغصان غضة طرية (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) ضمير منه يعود إلى الخضر ، أي يخرج من الأغصان سنابل القمح ونحوها كثمر الرمان الذي يركب بعض حبوبه بعضا (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) الطلع أول ما يخرج من النخلة في اكمامه ، وقنوان جمع قنو ، وهو العنقود من الثمر ، ودانية قريبة من الأرض سهلة التناول.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) وخصّ سبحانه هذه الأصناف الثلاثة بالذكر لشيوعها وإلا فنعمه كعجائبه لا حد لها ولا عد (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أي ونضجه والمعنى انظروا بعيونكم ، وفكروا بعقولكم في صنع الله ومخلوقاته ، ولا تمروا بها مرور البهائم والسوائم (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نشير إلى هذه الآيات والظواهر البينات لكي تؤمنوا بالله وحكمته عن حس وعقل لا عن تقليد أعمى ، وأيضا كي نقيم الحجة على كل جاحد ومعاند ١٠٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) هذا الظاهر واضح الدلالة على أن قوما من خلق الله تعالى يعبدون الجن ، ولم يبين من هم هؤلاء القوم ، ونحن نسكت عمن سكت الله عنه ، وفي شتى الأحوال فقد رد سبحانه على هؤلاء بكلمة واحدة ، وهي (وَخَلَقَهُمْ) كيف يكون لله شركاء ، وهو خالق كل شيء؟ (وَخَرَقُوا) اختلقوا وابتدعوا (لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال بعض المشركين من العرب الملائكة بنات الله ، وقالت طائفة ثانية عزير ابن الله ، وثالثة : المسيح ابن الله رجما بالغيب ، وأيضا يروي عن النملة أن لله شاربين أشبه بشاربيها ، أما قصة العابد الزاهد وحمار الله فهي مسجلة في كتب الحديث! ١٠١ ـ ١٠٢ ـ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) والولادة من صفات الأجسام ، وخالق الأجسام ليس بجسم (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) ولا ولادة بلا زوجة وصاحبة (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ومن كان بهذه الصفة فهو غني عن كل شيء ، وإليه يفتقر كل شيء ، وفي هذا الاحتجاج وأسلوبه من الله تعالى درس بليغ ومفيد للدعاة إلى الإيمان والعمل الصالح ، وأن عليهم أن ينزلوا إلى مستوى الجاحد ، تواضعا ، ويخاطبوه بالحكمة ومنطق العقل لا بالرعونة والحمق ، لأن الغرض الأول من التبليغ والإرشاد هو الإقناع والتبشير لا الصراع والتنفير.

١٠٣ ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لأنه غير متحيز في

١٧٩

جهة (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) وغيرها (وَهُوَ اللَّطِيفُ) بعباده (الْخَبِيرُ) بأعمالهم ومقاصدهم.

١٠٤ ـ (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) دلائل وبينات (مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ) الحق وعمل به (فَلِنَفْسِهِ) أحسن (وَمَنْ عَمِيَ) عن الحق أو تهاون (فَعَلَيْها) وحدها يقع الضرر (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) بل بشير ونذير.

١٠٥ ـ (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي أنزلنا عليك يا محمد آيات القرآن في أساليب شتى ، ليهتدي بها المشركون والضالون ، ولكنهم تمردوا وعاندوا ، وقالوا من جملة ما قالوا : إن آيات القرآن ليست من عند الله ، بل درستها أنت وتعلمتها يا محمد من اليهود وغير اليهود (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي نبين القرآن (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أنه من عند الله لا من عند محمد (ص).

١٠٦ ـ (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) امض يا محمد في سبيل التبليغ والدعوة إلى الحق والتوحيد ، ولا تبال بالقيل والقال.

١٠٧ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) لا يريد الله أن يؤمنوا به مقهورين بل مختارين (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) وهاتان الجملتان تفسير وتوكيد لقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) والهدف الأول من هذا التوكيد هو تحديد مهمة النبي وغيره من الدعاة ، وأنها التبليغ دون التنفيذ.

١٠٨ ـ (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا تسبوا أصنام المشركين (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) أي ظلما وعدوانا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بعظمة الله وجلاله ، وفيه دلالة على أن النهي عن المنكر إذا أدى إلى زيادته ينقلب معصية (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) الشيطان هو الذي يزين القبيح لفاعله ، وليس الرّحمن ، قدّست أسماؤه ، وأسند سبحانه التزيين إليه لمجرد الإشارة أنه قادر على ردعهم عن القبيح قسرا وجبرا ، ولكنه لا يريد أن يسلب الإنسان حريته وإرادته (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وإذن فلندع الحساب على الدين لله وحده ما دام صاحبه يكف عن الأذى والعدوان على الآخرين.

١٠٩ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) المشركون حلفوا بالله مجتهدين (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) لئن أتاهم محمد (ص) بمعجزة من النوع الذي فرضوه وعينوه (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) وبمحمد (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) لا عندي أنا ، وهو ينزل منها ما تقوم به الحجة الكافية على الجميع ، وما زاد فينزله أو يمنعه تبعا للحكمة ، ولكن الصحابة تمنوا أن يستجيب الله لطلب الكافرين رغبة منهم في إسلامهم ، فخاطبهم سبحانه بقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) ما يدريكم (أَنَّها إِذا جاءَتْ) المعجزة التي اقترحوها (لا يُؤْمِنُونَ) بها ولا بمحمد ، وتقدم نظير ذلك في الآية ٣٧ من هذه السورة.

١١٠ ـ (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) كناية عن علم الله بحقيقتهم وإصرارهم على الضلال حتى ولو جاءتهم

١٨٠