التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

١٠٧ ـ (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) خانوا أنفسهم وظلموها حيث كانوا السبب الأول في عقابها ، وكثيرا ما يقال للمجرم : يا عدو نفسه (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) وأيضا يوصف الخائن بالكفر كما في الآية ٣٨ من الحج.

١٠٨ ـ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) يستترون منهم حياء أو خوفا (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) لا يخافون منه ولا يستحون ، ولكن أين المفر؟ (وَهُوَ مَعَهُمْ) وأقرب إليهم من حبل الوريد (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) كما فعل قوم السارق (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) ولذا فضحهم في الدنيا قبل الآخرة.

١٠٩ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قد يجد الآن الخائن المحتال من ينخدع به ويدافع عنه ، أما غدا (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إذا أدخلهم جهنم مذمومين مدحورين (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) حافظا من عذاب الله وغضبه.

١١٠ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) أبدا لا فرار من الله إلا إليه ، وكل من قرع بابه استجاب له.

١١١ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) قال رجل لأبي ذر : عظني يا صاحب رسول الله ، قال له : لا تسيء إلى نفسك. قال الرجل : وأي عاقل يسيء إلى نفسه؟ قال : كل من يعصي الله فقد أساء إلى نفسه.

١١٢ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) من يكسب الإثم فهو آثم ، ومن يرمي البريء بالإثم فهو باهت ، فجمع بين الرذيلتين في آن واحد.

١١٣ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بما أخبرناك يا محمد عن سارق الدرع (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) عن القضاء بالحق (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن وبال الضلال عليهم وحدهم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) لأن

____________________________________

الإعراب : ها أنتم (ها للتنبيه) وأنتم مبتدأ. وهؤلاء خبر. وجدلة جادلتم عطف بيان وتفسير لهؤلاء. وأم من عطف على فمن يجادل الله.

١٢١

الله حافظك وناصرك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) والمراد بالكتاب القرآن ، وبالحكمة هنا السنة (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من خفيات الأمور.

١١٤ ـ (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) الكلام من فعل الإنسان أو كفعله يكون خيرا أو شرا تبعا لآثاره وثماره (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) وهي خير لأنها تعود بالنفع على من أعطى وأخذ (أَوْ مَعْرُوفٍ) اسم جامع لكل ما هو حسن عقلا وشرعا وعرفا ، ولا يتنازع فيه اثنان (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وفي الحديث : «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام». (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) لا حياء أو رياء ، ولا لمنصب أو جاه (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وكل عامل أجره على من عمل له.

١١٥ ـ (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) يخالفه ويعانده (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) الحق (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) المطيعين لله ورسوله (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نخذله ونخلي بينه وبين من اعتمد عليه.

١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ ...) تقدم في الآية ٤٨ من هذه السورة.

١١٧ ـ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من دون الله (إِلَّا إِناثاً) لم يكن في الجاهلية حي من العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ، ويسمونه أنثى بني فلان (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) حيث أغراهم بعبادة الأحجار فأطاعوه.

١١٨ ـ (لَعَنَهُ اللهُ) ولعن من أطاعه (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) فرض الشيطان أن يأخذ لنفسه من عباد الله ، الضالين المضلين ، ويترك لله الهادين المهديين.

١١٩ ـ ١٢١ (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) بالأباطيل والأكاذيب ، والشيطان في صراحته هذه أفضل ألف مرة

____________________________________

الإعراب : (وَلَوْ لا) حرف يدل على امتناع الشيء لوجود غيره. و (فَضْلُ) مبتدأ وخبره محذوف ، أي لو لا فضل الله عليك موجود. (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) على حذف مضاف ، أي الا نجوى من أمر ، ومحل نجوى هذه المحذوفة النصب على الاستثناء المتصل ، ومن مجرور بإضافتها. و (ابْتِغاءَ) مفعول لأجله ليفعل. (وَمَصِيراً) تمييز. (إِنْ يَدْعُونَ) (ان) نافية. وإلا أداة حصر. (وَإِناثاً) مفعول يدعون ، ومثلها شيطانا. وجملة (لَعَنَهُ اللهُ) في موضع نصب صفة للشيطان. واللام في (لَأَتَّخِذَنَ) وما بعدها واقعة في جواب قسم محذوف.

١٢٢

من العميل المحتال والخائن المنافق (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) البتك : القطع ، والأنعام : الإبل والبقر والغنم ، وكان العرب في الجاهلية يقطعون أو يشقون آذان بعض الأنعام ويوقفونها للأصنام (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) كخصاء العبيد والسحق واللواط (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا ...) قائدا له فهو من القوم الخاسرين دنيا وآخرة.

١٢٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) تقدم أكثر من مرة (أَبَداً) نصب على الظرفية (وَعْدَ اللهِ) مفعول مطلق لسندخلهم (حَقًّا) حال ويجوز أن يكون النصب على المصدر أي حق ذلك حقا.

١٢٣ ـ (لَيْسَ) اسمها محذوف أي ليس الأمر أو ليس ما وعد الله تنالونه (بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) ليست الخيرات بمنى الشهوات ، بل بالجد والعمل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) وإلا كان المحسن والمسيء عند الله بمنزلة سواء.

١٢٤ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ...) لا فرق عند الله والناس الطيبين ، بل ولا في الشرائع والقوانين ، أن فاعل الخير يكرم ويثاب وفاعل الشر يستحق الذم والعقاب ذكرا كان أم أنثى.

١٢٥ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أول شرط من شروط الإيمان ، وهو الإخلاص في القول والعمل (وَهُوَ مُحْسِنٌ) الشرط الثاني أن تحسن لعباد الله وعياله ، وعلى الأقل أن تكف أذاك عنهم (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) مائلا عن طريقة المجرمين إلى طريقة ابراهيم طريقة الله والحق

____________________________________

الإعراب :ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم ، كل فعل من هذه الأفعال الثلاثة قد عمل بشيء محذوف ، أي لأضلنهم عن الهدى وأمنينهم الباطل ، وآمرنهم بالضلال. والمفعول الثاني ليعدهم محذوف ، أي يعدهم النصر. وعنها متعلق بمحذوف حالا من محيص ، أي كائنا عنها محيصا ، ولو تأخر لفظ (عَنْها) لتعلق بصفة لمحيص ، ولا يجوز أن يتعلق بيجدون ، لأن يجدون لا تتعدى بعن. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، وخبره (سَنُدْخِلُهُمْ). و (خالِدِينَ) حال من (الَّذِينَ آمَنُوا). و (أَبَداً) منصوب على الظرفية ، ويدل على استغراق المستقبل. و (وَعْدَ اللهِ) مفعول مطلق لسندخلهم ، لأنه يتضمن معنى الوعد. و (حَقًّا) حال من (وَعْدَ اللهِ) ، ويجوز أن ينصب على المصدر ، أي حق ذلك حقا. (وَمَنْ أَصْدَقُ) استفهام ، فيه معنى النفي ، أي لا أحد أصدق ، ومحله الرفع بالابتداء ، و (أَصْدَقُ) خبر. و (قِيلاً) تمييز ، تماما كقولك : هو أكرم منك فعلا.

١٢٣

والعدل (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) أي جامعا لخلال الحمد ، وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : إن الله اتخذ ابراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، واتخذه نبيا قبل أن يتخذ ، رسولا ، واتخذه رسولا قبل أن يأخذه خليلا.

١٢٧ ـ (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) يسألونك يا محمد عما يجب عليهم في أمر النساء (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) يبين لكم الأحكام بلسان نبيه الكريم (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) وأيضا القرآن فيه تبيان الأحكام وكل ما تحتاجون إليه من أمور الدين ، ومن جملة ذلك ما جاء (فِي يَتامَى النِّساءِ) المحجر عليهن لسبب أو لآخر بدليل قوله تعالى : (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) من إرث أو مهر (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) كان الرجل في الجاهلية يضم اليتيمة إلى نفسه ، فإن كانت جميلة نكحها وأكل مالها ، وإن تك دميمة منعها من الزواج حتى تموت وورثها من دون أرحامها (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) وأيضا يكفيكم الله في الصبيان بأن تعطوهم حقوقهم من الميراث (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) بالعدل في مواريثهم والإنفاق عليهم منها بالمعروف ، وتربيتهم تربية صالحة ذكورا كانوا أم إناثا (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) مع الأيتام والنساء وأي مخلوق (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) أي لا يضيع أجر من أحسن عملا ١٢٨ ـ (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) قد تشعر الزوجة من زوجها ترفعا عليها أو إعراضا عنها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) فلا بأس عليه ولا عليها أن يتصالحا مباشرة أو بواسطة أحد الطيبين ، فيجاهد هو نفسه ، وتصبر هي ، ويرضى كل بما قسم له (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الطلاق وشتات العيال والأطفال (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) مطبوعة عليه ، فلا تسمح بشيء من حقها ، بل وتطمع في حقوق الآخرين ، ومن هنا جاءت المشكلات والمشاحنات.

١٢٩ ـ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) في الحب والمودة (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أولا لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وثانيا أن التكافؤ في ميل القلب بين زوجتين لا يتحقق إلا أن تكون الزوجتان متكافئتين متساويتين خلقا وخلقا وذوقا وذكاء وفي كل المؤهلات! وهذا تعليق على المحال عادة ، ولذا أوجب سبحانه العدل بين الزوجات في النفقة وحسن المعاشرة دون الميل والمودة ، وقال في هذا الميل «(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) ... (وَلَوْ حَرَصْتُمْ)» وقال في النفقة» (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً).

(فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) لا تجوروا على المرغوب عنها (فَتَذَرُوها) تجعلوها (كَالْمُعَلَّقَةِ) لا هي بزوجة تتمتع بحقوق الزوجية ، ولا بمطلقة تلتمس زوجا آخر (وَإِنْ تُصْلِحُوا) حاولوا الصلح ما استطعتم (وَتَتَّقُوا) الله

١٢٤

في النساء وحقوقهن (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر ما سلف بين الزوجين بعد المصالحة وحسن النية.

١٣٠ ـ (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) حيث يتعذر الصلح (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) بحياة أرغد وزوجة أو زوج أسعد.

١٣١ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يهب من خيراتهما ما يشاء لمن يشاء (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ ...) قلنا لكم وللخلق أجمعين من الأولين والآخرين : آمنوا بالله ولا تكفروا ، وأطيعوه ولا تعصوه ، فهو خالقكم ورازقكم ، وإن تكفروا فإن لله في أرضه وسمائه من يعبده ويوحده ، على أنه غني عن خلقه وعبادتهم ، وكرر سبحانه.

١٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ليكون على علم اليقين أنه رب كريم وغني عن العالمين.

١٣٣ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يؤمنون به ، ولا يعملون إلا له ، ولكن أمره قضاء وحكمة ، يقضي بعلم ، ويحكم بعدل ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

١٣٤ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) واشتغل بها عن آخرته ، فقد فوت الحظ الأوفر (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) والعاقل يعمل لهما معا ، فيحرز الثوابين ، ويملك الدارين.

١٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) قوّامين في صيغة المبالغة تأكيدا للصلابة والقوة في العدل والحرص عليه والوفاء به (شُهَداءَ لِلَّهِ) والشهادة لله سبحانه هي عين الشهادة للعدل وبالعدل ، وفيه تنويه على أن الاعتداء على العدل والاستهانة به عين الاستهانة بالله الذي ليس كمثله شيء (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) وهل للعدل من معنى إلا عدم التعصب للنفس والتحيز للقرابة (إِنْ يَكُنْ) المشهود له أو عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) فلا يكن الغنى أو الفقر مبررا للتحريف والتزييف ، كيف والشهادة دين وإيمان! (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا)

____________________________________

الإعراب : (وَإِيَّاكُمْ) معطوف على الذين ، أي وصينا الذين أوتوا الكتاب ووصيناكم. و (أَنِ اتَّقُوا) ان للتفسير بمعنى أي مثل كتبت اليه أن أفعل كذا ، أي افعل كذا ، ويجوز أن تكون (أَنِ) مصدرية ، والمصدر المنسبك مجرور بجار محذوف متعلق بوصينا ، والتقدير وصينا بتقوى الله. (وَكَفى) فعل ماض ، والباء زائدة ، ولفظ الجلالة فاعل ، (وَكِيلاً) حال ، أو تمييز على معنى من وكيل. (شُهَداءَ) خبر ثان لكونوا ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير (قَوَّامِينَ) ، لأن قوّام اسم فاعل. و (عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلق بمحذوف ، أي ولو شهدتم على أنفسكم. (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا) اسم كان محذوف ، أي ان يكن المشهود عليه غنيا. وقال : أولى بهما ، ولم يقل أولى به ، مع ان الضمير يفرد ولا يثنى إذا عطف بأو لأن العطف هنا جرى على المعنى ، لا على اللفظ ، أي الله أولى بغنى الغني وفقر الفقير ، لأن كل ذلك منه تعالى.

١٢٥

لن تكونوا عادلين منصفين في الشهادة إلا إذا تجردتم عن الميول والأهواء (وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم عن شهادة الحق (أَوْ تُعْرِضُوا) عنها وتمنعوها عن صاحب الحق (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) تهديد لمن يكتم الشهادة أو يحرفها.

١٣٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، آمِنُوا) يا أيها المسلمون اثبتوا على الإيمان (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) محمد وبالقرآن والكتب المنزلة والأنبياء المرسلة من قبله ، ولا تؤمنوا ببعض ، وتكفروا ببعض ، (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لا يؤمن بشيء من ذلك على الإطلاق كالكثير الكثير من أبناء هذا الجيل أو يؤمن ببعض دون بعض (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي بلغ الغاية والنهاية في ضلالة وسوء فعاله.

١٣٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بموسى والتوراة ، وعليه يكون المراد بهؤلاء خصوص اليهود (ثُمَّ كَفَرُوا) بمحمد الذي يؤمن بموسى وتوراته ، وعليه يكون كفرهم بمحمد كفرا بموسى والتوراة (ثُمَّ آمَنُوا) بعيسى والإنجيل ، وعليه يكون المراد بهؤلاء النصارى فقط (ثُمَّ كَفَرُوا) بمحمد الذي يؤمن بعيسى وانجيله ، وعليه يكون كفرهم بمحمد كفرا بعيسى والإنجيل (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بالنصب والتعصب ضد محمد (ص) والقرآن (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ذلك بما كسبت أيديهم ، وأيضا تنطبق هذه الآية وتصدق على كل منافق لا يؤمن إلا بمنفعته فيلهث وراءها أينما كانت وتكون.

١٣٨ ـ (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) الذين لا يتاجرون ولا يتعاملون مع أي مخلوق وكائن إلا بالكذب والرياء والغش والضراء (بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) اشتد حره والتهب جمره.

١٣٩ ـ (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) يوالون أعداء الله والدين والإنسانية (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسوله وبالولاية له ولأهل بيته الأطهار! ولما ذا هذا النفاق وهو أشد ذنبا من الكفر بنص القرآن؟ (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ) عند الكافرين (الْعِزَّةَ) والجاه؟ ما هذا الالتواء الفادح والمنطق الفاضح؟ (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ومن اعتز بغيره ذل في الدنيا قبل الآخرة.

١٤٠ ـ (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها ...) الخطاب عام لكل مكلف أو مسم ، والدلالة واضحة على وجوب الإعراض عن كل من يخوض بالباطل أو يعبث ويسخر من قضايا الدين والأخلاق والخير والصلاح (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) احتقروا واستضعفوا شأن كل إباحي يعبث بالقيم الروحية ، وأشعروه بالفعل قبل

١٢٦

القول أنه منبوذ ومرذول (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فيه تنويه بأن مجالسة الكافر أو الفاسق مباحة ذاتا محرمة عرضا أي إذا اشتملت على الحرام (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) في الجرم والجريمة إذا شاركتموهم في الخوض بالباطل والاستهزاء في الحق والعدل.

١٤١ ـ (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) المنافقون الانتهازيون ينتظرون بكم أيها المسلمون دوائر الزمان عليكم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ) أيها المسلمون (فَتْحٌ مِنَ اللهِ) ونصر على الكافرين (قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ونشارككم الضراء والغرم ، فإذن اشركونا في السراء والغنم (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) وكانت لهم القوة والغلبة على المسلمين (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) ألم نتمكن من قبلكم حين كنّا في جيش المسلمين ظاهرا ومعكم باطنا؟ (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي حميناكم من المسلمين بالتثبيط والمكر والخداع؟ فأين الأجر؟ وهكذا كل منافق انتهازي يتعامل مع كل فريق بالمكر والخداع على أساس المنفعة الشخصية. (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالحق ، فيجزي الصادقين بصدقهم والمنافقين بما كانوا يكسبون (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) في عالم التشريع وجعل الأحكام.

١٤٢ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) بإظهار الإسلام كذبا ونفاقا (وَهُوَ خادِعُهُمْ) غالبهم ويجازيهم على نفاقهم وخداعهم (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) لأنهم بها كافرون ، ويتكلفونها لمجرد أنهم (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) والمراد بذكره تعالى هنا الصلاة ، والمعنى لا يصلون إلا حين يراهم الناس ، ولهم أشباه ونظائر في كل عصر.

١٤٣ ـ (مُذَبْذَبِينَ) مضطربين (بَيْنَ ذلِكَ) أي بين المسلمين والكفار تارة هنا وتارة هناك (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) بل إلى أهوائهم ومنافعهم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) تقدم بالحرف في الآية ٨٨ من هذه السورة.

١٤٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وتكرر هذا التحذير في كتاب الله ، والسر أن الكفر ألوان ، ومن آثر موالاة الكافر على موالاة المؤمن فقد ارتكب لونا من ألوان الكفر(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا

____________________________________

الإعراب : جملة (وَهُوَ خادِعُهُمْ) مستأنفه لا محل لها من الاعراب ، كأنّ سائلا يسأل : ما هو جزاء المخادعين؟ فأجيب بأن وبال خداعهم يرجع عليهم. (كُسالى) حال من الواو في قاموا. وجملة (يُراؤُنَ) حال ثانية. و (قَلِيلاً) نعت لمصدر محذوف ، أي إلا ذكرا قليلا.

١٢٧

لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) حجة واضحة تستحقون بها العقاب ، وهي موالاتكم للكافر من دون المؤمن.

١٤٥ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ولا شيء وراء الأسفل ، ومعنى هذا أنه ليس بعد النفاق ذنب ، إلا الكفر كما يقال.

١٤٦ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ندموا واعترفوا بالذنب (وَأَصْلَحُوا) في جميع أعمالهم (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) أي بطاعته واتقاء معاصيه (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) والإخلاص في الدين هو وحده الجامع لخلال الحمد والكمال (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) شركاء معهم في المنزلة والكرامة عند الله.

١٤٧ ـ (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) أيتشفى به من الغيظ أم يستجلب به نفعا أم يستدفع ضرا؟ كلا ، إنه غني عن كل شيء ، وإليه يفتقر كل شيء (إِنْ شَكَرْتُمْ) نعمته (وَآمَنْتُمْ) به (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) يجازي الشاكرين بأضعاف ما يستحقون.

١٤٨ ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أي الإعلان والتشهير بالعيوب والسيئات (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) إلا المظلوم ، يسوغ له أن يذكر ظلامته أمام الناس ومن ظلمه واعتدى عليه ، ونعطف على ذلك : إن كل من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء ، ويسلب الأموال ، فلا حرمة له ولا لدمه.

١٤٩ ـ (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أجل ، للمظلوم أن يقتص ويتظلم ، ولكن العفو وستر القبيح أفضل عند الله وأعظم أجرا.

١٥٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ ...) تقدم معناه في الآية ١٣٦ و ٢٨٥ من البقرة ، والخلاصة أن الإيمان في دين القرآن والإسلام لا يتجزأ ، فمن آمن بالله يجب ان يؤمن بجميع أنبيائه دون استثناء ، ومن أنكر نبوة واحد منهم ، بل من أنكر حكما واحدا من أحكام الله عالما بأنه لله ومن الله فهو كافر به بحكم العقل وبديهته ، وبقوله تعالى :

١٥١ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) على الرغم من شعائر الإيمان ومظاهره وتشييد الصوامع والمعابد.

____________________________________

الإعراب : (مِنَ النَّارِ) متعلق بمحذوف حالا من الدرك. و (الَّذِينَ تابُوا) الذين في موضع نصب على الاستثناء من الضمير في (لَهُمْ). (ما يَفْعَلُ اللهُ) ما استفهام في موضع نصب بيفعل. (بِالسُّوءِ) متعلق بالجهر و (مِنَ الْقَوْلِ) متعلق بمحذوف حال من السوء. (مَنْ ظُلِمَ) استثناء منقطع ، على معنى ولكن من ظلمه ظالم فله أن يجهر بالشكوى من ظلمه. ويجوز أن يكون استثناء متصلا على تقدير حذف مضاف ، أي الا جهر من ظلم ، وهو الأرجح

١٢٨

١٥٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) كل الفرق والمذاهب الإسلامية تؤمن بجميع الأنبياء ، ولا تكفر ببعض ، ولكن بعض الطوائف أو المذاهب الإسلامية تكفر وتكفر بعض الطوائف أو المذاهب الإسلامية ، فهل هذا الكفر والتكفير ، أيضا كفر بالله تماما كالكفر ببعض الأنبياء؟ الجواب : كلنا يحفظ هذا الحديث : من كفّر مسلما فهو كافر.

١٥٣ ـ (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) المراد بهم يهود المدينة آنذاك (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) طلبوا ذلك من محمد (ص) تعنتا لا طلبا للحجة لأنهم منها على علم اليقين (فَقَدْ سَأَلُوا) أي آباء السائلين محمدا سألوا (مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) وصحت النسبة إلى الأبناء لأنهم على دين الآباء وطبيعتهم وأخلاقهم (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ...) تقدم في الآية ٥٥ من سورة البقرة.

١٥٤ ـ (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) اسم الجبل الذي ناجى عليه موسى ربه (بِمِيثاقِهِمْ) رفعنا الجبل فوق يهود موسى ، لأنهم نقضوا العهد والميثاق الذي قطعوه على أنفسهم من وجوب الالتزام والعمل بالتوراة (وَقُلْنا لَهُمُ) بلسان نبيهم (ادْخُلُوا الْبابَ) قيل هو أحد أبواب بيت المقدس (سُجَّداً) ناكسي الرؤوس خاضعين خاشعين ، وتقدم في الآية ٥٨ من البقرة (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) لا تصطادوا السمك في هذا اليوم ، وتقدم في الآية ٦٥ من البقرة.

١٥٥ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ) «ما» زائدة ، ونقضهم متعلق بمحذوف أي لعناهم بسبب نقضهم (مِيثاقَهُمْ) على أن يطيعوا الله (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) ومنها الحجج الدالة على نبوة عيسى ومحمد (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كزكريا ويحيى (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) لا يصل إليها شيء من العظات والدعوات (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ليست قلوبهم غلفا بالخلقة ، بل طغى عليها الكفر والعناد حتى أصبحت كالحجارة أو أشد قسوة (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) منهم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة واسد بن عبيد الله.

١٥٦ ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ) عطف على (نَقْضِهِمْ

____________________________________

الإعراب : اكبر صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي سؤالا أكبر. وجهرة أيضا صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي رؤية جهرة. (مِيثاقَهُمْ) على حذف مضاف ، أي بنقض ميثاقهم ، والمرور متعلق برفعنا. ما في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) ، زائدة ، أي فبنقضهم ، والمجرور متعلق بمحذوف ، أي لعنّاهم. (إِلَّا قَلِيلاً) منصوب على الاستثناء من ضمير (يُؤْمِنُونَ) ، ويجوز أن يكون صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي إيمانا قليلا ، بعض النقص والضعف.

١٢٩

عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) رماها اليهود بما يهتز له العرش ، ومع ذلك الكثير من نصارى العصر الراهن حلفاء أحمّاء لليهود.

١٥٧ ـ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) كذّب سبحانه زعم اليهود بأنهم قتلوا السيد المسيح تماما كما كذّب الذين خاطبوا محمدا بقولهم (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) حيث ردّ عليهم سبحانه بهذه الآية : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) ـ ٢٢ التكوير». (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) حيث ألقى سبحانه على المصلوب شبه عيسى (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) في عيسى وأنه قتل أو لم يقتل ، أو هو إنسان أو إله أو ابن إله (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) وجهل وعمى عنه (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) الذي لا يغني عن الحق شيئا (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) نصبا على المصدرية أي تيقنوا أيها الناس يقينا.

١٥٨ ـ (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) وجعله في منجى من قتلة الأنبياء.

١٥٩ ـ (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) جاء في بعض الأحاديث أن كل إنسان ينكشف له ساعة النزع والاحتضار عما كان يعتقده في الحياة الدنيا حقا كان أم باطلا ، وهذه الآية الكريمة تشهد بالصدق والصحة لتلك الأحاديث حيث دلت بظاهرها على أن كل كتابي يهوديا كان أم نصرانيا لا بد أن يؤمن بعيسى آنذاك مع العلم بأن هذا الإيمان لا يجديه شيئا لأنه تماما كالإيمان في يوم القيامة حيث لا تكليف ولا عمل.

١٦٠ ـ (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ما حرمنا على اليهود بعض الطيبات التي هي حلال بذاتها لهم ولغيرهم ـ إلا لذنب وظلم عظيم ارتكبوه (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) وأيضا من سيئات اليهود أنهم صدوا أناسا كثيرين عن اتباع الحق بكل وسيلة.

١٦١ ـ (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) والمعروف عند أهل الإختصاص ان اليهود هم أول من سنّ الربا وشرع تحليله (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) كالرشوة التي يأخذها أقوياؤهم من ضعفائهم.

١٦٢ ـ (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) كعبد الله ابن سلام ومن آمن معه بمحمد (ص) (وَالْمُؤْمِنُونَ) من المهاجرين والأنصار ، كل أولاء (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا محمد (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) على إبراهيم

____________________________________

الإعراب : (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) عطف بيان من المسيح ، والكلمات الثلاث عيسى وابن مريم بمنزلة الكلة الواحدة ، مثل لا رجل ظريف في الدار ـ هكذا جاء في مجمع البيان ـ ورسول الله صفة لعيسى.

١٣٠

وموسى وعيسى (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) أي وأخص بالمدح المقيمين الصلاة لبيان منزلتها وفضلها (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) والرفع هنا خبر لمبتدأ محذوف أي هم المؤتون الزكاة والمؤمنون بالله.

١٦٣ ـ (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد (كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ...) الأسباط واحدها سبط ، وهو ولد الولد ، والمراد بالأسباط هنا الاثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا ليعقوب ابن اسحق بن ابراهيم ، والزبور : الكتاب بمعنى المكتوب ، والآية جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وخلاصة المعنى أن الله سبحانه أرسل محمدا كما أرسل من كان قبله من النبيين المذكورين وغيرهم ، وغيرهم ، وإن المعجزات قد ظهرت على يد محمد (ص) تماما كما ظهرت على أيديهم ، وقد اعترفتم بنبوة من سبق محمدا فعليكم أن تعترفوا بنبوته ، لأن الأشياء المتماثلة تؤدي إلى نتائج وأحكام متماثلة.

١٦٤ ـ (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وأنت في مكة ، وجاءت أسماؤهم في سورة الأنعام الآية ٨٤ و ٨٥ و ٨٦ (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) وإذا كان الله سبحانه لم يقصصهم على نبيه ونجيه محمد (ص) ، فمن أين جاء العلم لمن قال : إنهم مائة وأربعة وعشرون ألفا؟

١٦٥ ـ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أبدا لا عقاب بلا بيان كما يقول علماء الإسلام ، أو لا عقوبة بلا نص كما تقول القوانين الوضعية ، والدليل على ذلك العدالة الإلهية والبديهية العقلية وأيضا لا عذر إطلاقا لمن يجهل النص والبيان وهو قادر على الوصول إليه بالبحث والدرس.

١٦٦ ـ (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) والمراد بشهادة الله والملائكة الخلق العظيم وأنه (ص) بالمؤمنين رؤوف رحيم كما في الآية ٤ من القلم والآية ١٢٨ التوبة ، والشريعة الإلهية الإنسانية التي نزلت على قلب محمد (ص) وغير ذلك من المعجزات والآثار ، وهكذا كل من ينفع الناس بجهة من الجهات ، يشهد له الله والملائكة والناس أجمعين ، وهل من عاقل على وجه الأرض يسأل : أيحمل المتنبي شهادة خطية بأنه شاعر أو أديسون مخترع الكهرباء بأنه مخترع؟ وجاء في الأشعار «لها منها عليها شواهد».

١٦٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) جمعوا بين رذيلة الكفر ورذيلة الصد عن الحق ، وتنطبق هذه الآية على وسائل الإعلام الكاذبة المضللة في العصر الراهن.

١٣١

١٦٨ ـ ١٦٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ...) سلكوا في الدنيا طريق الفساد والضلال ، فقادهم إلى جهنم وساءت مصيرا ، وهكذا (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ٧٢ الإسراء».

١٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) وهو محمد (ص) (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) ومن كان في ريب من ذلك فليقارن بين عقيدة الإسلام وشريعته وسائر العقائد والشرائع ثم يستفتي قلبه ، ويعمل بفتواه ، إن الإسلام يقاضي المنكر إلى العقل ، ويقول في كتابه : أفلا تعقلون؟ أفلا تتفكرون؟ وأيضا قال نبيه الكريم : أصل ديني العقل ، وأي شيء تقول لمن قاضاك إلى العقل والعقلاء؟ (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) من الكفر بالحق والعدل والإيمان بالجبت والطاغوت و «خيرا» منصوب خبرا لكان المحذوفة أي يكن الإيمان بالحق خيرا لكم.

١٧١ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) والغلو ضد الاعتدال في التجاوز عن الحد بزيادة أو نقصان.

ومثال العدل والاعتدال قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) كإبراهيم وموسى ومحمد (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) وهي (كُنْ فَيَكُونُ). (وَرُوحٌ مِنْهُ) والمراد بالروح هنا الحياة التي لا مصدر لها إلا الله وحده (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) : أب وابن وروح قدس ، وفي قاموس الكتاب المقدس للنصارى ص ١٠٧ طبعة عام ١٩٦٤ ما نصه بالحرف الواحد : «فالأب هو الذي خلق العالمين بواسطة الابن ، والابن هو الذي أتم الفداء وقام به ، والروح القدس هو الذي يطهر القلب والحياة ... وهذي هي الأقانيم الثلاثة». (انْتَهُوا) أيها النصارى عن القول بالتثليث يكن الانتهاء عن هذا القول (خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ـ ٢٢ الأنبياء (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) فيكون مولودا ، ولم يولد فيصير محدودا. كما في نهج البلاغة ، ومعنى المحدود هنا أن لوجوده بداية وهي يوم ولادته.

١٧٢ ـ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) لن يأنف (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) لأن التعبد لله وحده

____________________________________

الإعراب : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) خبر كان محذوف أي لم يكن مريدا ليغفر لهم ، (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) نصب على الاستثناء المتصل من الطريق التي وقعت نكرة في سياق النفي. (خالِدِينَ) حال. و (خَيْراً) خبر كان المحذوفة مع اسمها ، أي يكن الإيمان خيرا ، وقيل مفعول لفعل محذوف ، أي وآتوا خيرا. (الْمَسِيحُ) مبتدأ. و (عِيسَى) عطف بيان. ورسول الله خبر. وكلمته عطف على الرسول. وجملة ألقاها حال. وثلاثة خبر لمبتدأ محذوف ، أي آلهتنا ثلاثة. وخيرا مفعول لفعل محذوف ، أي وقولوا خبرا. والمصدر المنسبك من (أَنْ يَكُونَ) مجرور بمن محذوفه ، والمجرور متعلق بسبحانه ، و (جَمِيعاً) حال من ضمير (فَسَيَحْشُرُهُمْ).

١٣٢

هو السبيل الوحيد إلى الفوز بثوابه والنجاة من عذابه (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) فلا مفر له من سلطانه ونيرانه.

١٧٣ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ملأ سبحانه كتابه الكريم في التشويق والترغيب في عمل الخير والصالحات ، ووعد العامل بكل ما يهواه ويتطلع إليه وزيادة ، ذلك بأن الإنسان أناني بطبعه لا ينجذب إلا إلى الشيء الذي يشتهيه. سبحانك ربنا إنك العليم الحكيم (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بالعدل ولا يظلم مثقال ذرة ، وقد يعفو.

١٧٤ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وأشار إليه بقوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) وهو كتاب الله وسنة نبيه وسيرته ، ونحن لا نطلب من المنكرين إلا أن يتجردوا عن التقليد والتعصب ، ويدرسوا ذلك بإمعان وتدبر ، ويعملوا بوحي من إحساسهم وأعماقهم.

١٧٥ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ...) فهم في رحمة الله وفضله دنيا بالتوفيق والهداية إلى الحق والصواب ، وفي الآخرة ملك دائم ونعيم قائم.

١٧٦ ـ (يَسْتَفْتُونَكَ) يا محمد في الكلالة (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والمراد بها في الميراث قرابة الإنسان ما عدا الوالدين والأولاد (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ولا واحد من الأبوين (وَلَهُ أُخْتٌ) والمراد بها هنا الأخت للأبوين أو للأب فقط حيث تقدم حكم الأخت للأم فقط في الآية ١٢ من هذه السورة (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) بالفرض ، والنصف الثاني بالرد عند الشيعة الإمامية (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ذكر ولا أنثى ولا أحد الوالدين (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) أو أكثر ، شريطة أن يكون الانتساب بالأبوين أو الأب فقط لا بالأم فقط (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الموروث ذكرا كان أم أنثى (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إذا اجتمع الأخوة والأخوات ، وكانوا بالكامل للأبوين أو للأب فقط فللذكر

____________________________________

الإعراب : (صِراطاً) مفعول ثان ل (يَهْدِيهِمْ) ، لأنها بمعنى يعرفهم. و (إِلَيْهِ) متعلق بمستقيم ، لا بيهديهم ، أو بمحذوف حالا من الصراط ، والمعنى يهديهم الله صراطا مؤديا اليه تعالى. (فِي الْكَلالَةِ) متعلق ب (يُفْتِيكُمْ) ، لا ب (يَسْتَفْتُونَكَ) كما قيل. و (امْرُؤٌ) فاعل لفعل محذوف أي ان هلك امرؤ هلك ، وهذا المحذوف لا يجوز ذكره وإظهاره ، لأن الموجود يغني عنه. وجملة (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) حال من ضمير (هَلَكَ). (وَلَهُ أُخْتٌ) أيضا الجملة حال. (وَهُوَ يَرِثُها) الجملة مستأنفة لا محل لها من الاعراب. واختلف المفسرون والنحاة في اعراب (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ). واعراب (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً) وسبب الاختلاف ان ألف (كانَتَا) ضمير يعود على (الْأُخْتَيْنِ) ، وواو (كانُوا) على الاخوة ، كما هو المفهوم من السياق ، وعلى هذا يكون المعنى فان كانت الأختين أختين ، أو الاثنتين اثنتين. وان كان الاخوة اخوة ... وليس من شك ان كلام القرآن منزه عن مثل هذا.

١٣٣

مثل حظ الأنثيين ، وإن كانوا للأم فقط فالذكر والأنثى بمنزلة سواء ، ولا ميراث إطلاقا لأخ أو أخت من الأم فقط مع الإخوة والأخوات من الأبوين ، ويرث مع المتقرب بالأم فقط ، والتفصيل في كتب الفقه. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ومن ذلك علمه بأي الأرحام أقرب إلينا نفعا.

سورة المائدة مدنيّة

وهي مائة وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) جمع عقد ، وهو في اللغة الربط ، وفي اصطلاح الفقهاء : ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروط ، يثبت أثره في محله وبمقتضى طبيعته (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) والبهيمة : كل ذات أربع من دواب البر والبحر ، والانعام : الإبل والبقر والغنم ، وهذه الأصناف الثلاثة حلال ولا يحرم منها (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وقد تلا سبحانه علينا في الآية ١٧٣ من البقرة : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وأيضا يتلو علينا من المحرمات قوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي محرمون في مكة المكرمة ، والمعنى أن كل ما يصطاده المحرم فلا يحل أكله سواء أكان من الأنعام أم من غيرها.

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) وهي أحكام دينه ، ومن أظهرها وأكملها مناسك الحج والعمرة (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم (وَلَا الْهَدْيَ) ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام (وَلَا الْقَلائِدَ) ما يقلد به الهدي من نعل وغيره لكي يعرف فلا يتعرض له أحد (وَلَا آمِّينَ) ولا قاصدين (الْبَيْتَ الْحَرامَ) لا تتعرضوا لأحد منهم بسوء حتى ولو قاصدا للتجارة وما أشبه (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) وكل ما لم يرد فيه نهي من الله فهو فضل منه تعالى ورضوان له. (وَإِذا حَلَلْتُمْ) من إحرامكم (فَاصْطادُوا) إن شئتم ، ولكن في غير أرض الحرم (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) يحملنكم (شَنَآنُ) كراهية (قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ

١٣٤

عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يشير سبحانه بهذا إلى ما حدث للنبي (ص) والصحابة سنة ست للهجرة ، مع المشركين يوم الحديبية ، وتأتي القصة في سورة الفتح (أَنْ تَعْتَدُوا) لا تحملنكم عداوة المشركين على الاعتداء عليهم (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وموضوع هذه الآية التكافل الاجتماعي ، وإن القوي مسؤول عن الضعيف ، والغني عن الفقير. ، والعالم عن الجاهل ، واولي الشأن عن إصلاح ذات البين.

٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) هذه المحرمات الأربعة تقدمت في الآية ١٧٣ من البقرة (وَالْمُنْخَنِقَةُ) التي تموت خنقا (وَالْمَوْقُوذَةُ) والمضروبة بعصا أو حجر وما أشبه (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الساقطة إلى أسفل (وَالنَّطِيحَةُ) نطحتها بهيمة أخرى (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أي ما تبقى من فريسة الحيوان أسدا كان أم ثعلبا أو غيرهما.

ثم استثنى سبحانه من الخمسة الأخيرة ما ندركه حيا. فإنه يحل لنا بالذبح الشرعي ، وإليه أشار سبحانه بقوله (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) وتأتي الإشارة إلى كلب الصيد (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) عطف على المحرمات ، والنصب أحجار نصبها أهل الجاهلية حول البيت الحرام ، ويذبحون لها ، ويشرحون عليها اللحم ، ويغطونها به (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) جمع زلم بضم الزاي وفتحها ، والزلم قطعة من خشب على هيئة السهم ، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر كتب على الزلم أمرني ربي ، وعلى ثان نهاني ربي ، وأهمل الكتابة على الثالث ، ثم يقترع (ذلِكُمْ فِسْقٌ) حرام محرم ، والإشارة تشمل الجميع (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أي الآن وبعد أن أعز الله سلطان المسلمين فقد يئس الأعداء من زوال الإسلام أو تحريفه لأن قوة الدين من قوة أهله ، (فَلا تَخْشَوْهُمْ) لأنكم أقوى منهم (وَاخْشَوْنِ) وإلا نزعت منكم السلطان ، وسلطت عليكم أعداءكم ، كما هو شأن المسلمين في العصر الراهن.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) اتفق المسلمون بشتى فرقهم ومذاهبهم على أن هذه الآية دون سائر آيات المائدة نزلت في مكة السنة العاشرة للهجرة التي حج فيها رسول الله (ص) حجة الوداع وأنه لما رجع إلى المدينة وبلغ في طريقه إليها غدير خم ، جمع الناس ، وخطب فيهم خطبته الشهيرة التي ذكر فيها علي بن أبي طالب من دون الصحابة وأمر المسلمين بموالاته ، وللشيعة كلام طويل حول ولاية علي وخلافته والنص عليها كتابا وسنة علما بأن سيرة علي وخلاله الطبيعية الجلى هي التي تنص عليه بالذات (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى شيء من المحرمات المنصوص عليها (فِي مَخْمَصَةٍ) مجاعة (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) منحرف إلى البغي ومتعد حدود الله (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يسوغ للمضطر أن يتناول من المحرمات بمقدار الضرورة لأنها تقدر بقدرها ، والزائد حرام.

١٣٥

٤ ـ (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من المآكل والمشارب (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهي غير المنصوص على تحريمها ، ومن المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية هذا المبدأ : كل شيء لك حلال حتى يثبت أنه حرام (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) عطف على الطيبات ، والمراد بالجوارح هنا الكلاب فقط دون البازات ونحوها بدليل قوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) مشتق من كلبت الكلب أي علمته الصيد (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) وفي العصر الحديث أساتذة وكتب علمية في عملية التعلم عند الحيوان وتدريبه على سلوك خاص ، والكلب المعلم على الصيد هو الذي إذا أمره صاحبه يأتمر ، وإذا نهاه ينتهي ، وتفصيل الشروط لتحليل ما يصطاده الكلب في كتب الفقه الإسلامي (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ضمير أمسكن للكلاب وعليكم أي أن الكلاب أو الجوارح تحوز الصيد لكم لا لأنفسها ، هذا إذا أدركت الصيد حيا ومات بسبب الإمساك ولو أدركته ميتا لم يحل (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) ويشترط أيضا للتحليل أن يسمي الصائد عند إرسال الكلب إلى الصيد فيقول اذهب على اسم الله وما أشبه. (وَاتَّقُوا اللهَ) لا تقربوا شيئا مما نهاكم عنه.

٥ ـ (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) قال الشيخ علي ابن الحسين بن محيي الدين العاملي في «الوجيز في تفسير القرآن العزيز» وهو يفسر هذه الآية ـ ما نصه بالحرف الواحد : «ظاهره يعم ذبائحهم وغيرها وعليه فقهاء الجمهور وجماعته منا ـ أي من الشيعة ـ ويعضده أخبار» (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) أي ولكم أن تتزوجوا بالعفيفات من المسلمات ، أيضا (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهذه الدلالة ظاهرة في إباحة زواج المسلم بالنصرانية واليهودية حربية كانت أو غير حربية دواما وانقطاعا (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهن الثابتة لهن بالزواج الشرعي لا أجورهن على الزنا (مُحْصِنِينَ) تنكحوهن وأنتم في حصن حصين من العفاف والدين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) غير زانين (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) جمع خدن ، وهو الصديق أي لا تقربوهن سرا ولا علنا إلا على كتاب الله وسنة نبيه (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) بأحكام الله سبحانه (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي بطل (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ٢٢ الفرقان».

٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) هذه الآية تحدد أعضاء الوضوء وصورته غسلا ومسحا واتفقت المذاهب الإسلامية قولا واحدا على أن أعضاء الوضوء أربعة : الوجه واليدان والرأس والرجلان ، واختلفوا في صورة الوضوء فقال الشيعة : هي غسلتان للوجه واليدين ومسحتان للرأس والرجلين. وقال السنة : هي ثلاث غسلات للوجه واليدين والرجلين ، ومسحة للرأس ، ومعنى هذا أن الخلاف في الرجلين فقط مسحا عند الشيعة وغسلا عند السنة ، وأنه لا خلاف في

١٣٦

غسل الوجه واليدين ولا في مسح الرأس كمبدأ أو فكره ، ودليل الجميع قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) بالاتفاق ، ولا خلاف إطلاقا في أصل الغسل للوجه واليدين ولا في المسح للرأس كما أشرنا (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهنا محل الخلاف ، ومصدره أن الأرجل قرئت بالنصب وبالخفض ، فقال السنة يجب غسل الأرجل على القراءتين ، أما على النصب فلعطف الأرجل على الأيدي المنصوبة لفظا ومحلا ، وأما على الخفض فلمجاورة الأرجل للرءوس المجرورة تماما كقول العرب : «حجر ضب خرب». وقال الشيعة يجب مسح الرجلين على القراءتين ، أما على الخفض فلعطف الأرجل على الرؤوس المجرورة بالباء ، وأما على النصب ، فللعطف أيضا على الرؤوس محلا لا لفظا ، لأن كل مجرور لفظا منصوب محلا (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) بالاغتسال (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ...) تقدم بالحرف في الآية ٤٣ من النساء (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) استنتج جميع فقهاء الإسلام من هذه الآية قاعدة كلية ، واعتبروها ركنا من أركان الشريعة الإسلامية ، ويسميها فقهاء الشيعة قاعدة نفي الحرج وفقهاء السنة قاعدة التيسير ، ومعناها ما شرع الله حكما لعباده ، فيه شائبة الضيق والمشقة عليهم فضلا عن الضرر والإضرار (لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أبدا ، كل أحكام الله سبحانه هي وسيلة لطهارة الأخلاق ، وصالح الأعمال ، واخلاص النوايا والمقاصد ... حتى الإيمان بالله إيمان بالعدل والرحمة والانسانية ، والإيمان بالنشر والحشر إيمان بأن عاقبة الغادر الفاجر عذاب النار وسوء الدار ، والإيمان برسالة محمد (ص) إيمان بالعلم والإنسان والأخلاق والأديان التي جاء بها إبراهيم وموسى وعيسى.

٧ ـ (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) والخطاب في واثقكم وضمير المتكلم في سمعنا وأطعنا هما لكل مسلم قال ويقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وهذا القول هو بذاته ودلالته العهد والميثاق المسلم لله بأنه لا يعبد ولا يستعين بسواه ، ومعنى هذا أن أي مسلم يعصي الله في أمر أو نهي فقد نقض عهد الله وميثاقه ، وأكذب نفسه بنفسه.

٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) تقدم هذا النداء منه تعالى للمؤمنين ، في ١٣٥ من سورة النساء ، والقصد من التكرار هو الحث والتأكيد على أن نكون أقوياء في جانب الحق والعدل لا ضعفاء مهزولين ، نلتمس المبررات والمعاذير لجبننا وتخاذلنا ، قد دلتنا المشاهدة وكتب التاريخ أن الإيمان الراسخ لا يقف في وجهه أي حاجز وأن الشهداء هم شهداء الإيمان والعقيدة (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) لا يحملنكم البغض لأعدائكم المشركين وغيرهم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) على أن تظلموا الأعداء لمجرد الكره والتشفي (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) من الاندفاع مع البغض والشنآن الا أن يكون البغض في الله والغضب للحق لا لغرض شخصي أو دنيوي.

١٣٧

٩ ـ ١٠ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) كرر سبحانه وعده بالثواب لمن آمن وأخلص ليزداد جهادا أو إيمانا ، وكرر وعيده بالعقاب لمن خان وبغى لعله يذكر أو يخشى.

١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) خص الله سبحانه محمدا (ص) ومن آمن معه بالعديد من نعمه ، وأهمها جميعا هذه النعمة التي أشار إليها بقوله : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) تحالف المشركون واليهود والمنافقون ضد المسلمين ، فصد الله عنهم قوى الشر والبغي ، وأظهر دينه تعالى على رغم كل حاقد ومعاند.

١٢ ـ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أن لا يتجاوزوا حدود الله والحق (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) بعدد الأسباط ، لكل سبط نقيب أي قائد يدبر أمور جماعته ومرؤوسيه (وَقالَ اللهُ) لبني إسرائيل : (إِنِّي مَعَكُمْ) أنصركم ولا أخذ لكم بهذه الشروط : الأول (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) على أصولها ، الثاني (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) كاملة ، الثالث (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) جميعا دون استثناء ، الرابع (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) عظمتوهم ونصرتموهم ، الخامس ، (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وأيضا تنفقون مع الزكاة قسما آخر من أموالكم في سبيل الله ، وجزاء القيام بهذه الخمسة شيئان : الأول (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) العفو عن السيئات (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) ـ ١١٤ هود» الثاني (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذا الجزاء عند الله سبحانه : العفو والجنة لمن سمع وأطاع (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ) الإفضال والإنعام منه تعالى وأخذ الميثاق بالشكر والطاعة (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) انحرف وجار عن الطريق القويم.

١٣ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) هذا هو دين اليهود ودينهم : نقض العهود ونشر الشرور والسموم ، وجزاؤهم من الله سبحانه اللعنات الدائمة (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) وليس المراد بالجعل هنا الخلق والتكوين وإلا لم يستحقوا ذما ولا عقابا ، وإنما المراد أن الله سبحانه تركهم وشأنهم دون أن يتدخل بإرادته الشخصية ، ويمنعهم بالجبر والقهر عن الجرائم والرذائل (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) تقدم بالحرف في سورة النساء الآية ٤٦ (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) كانت التوراة لليهود كنزا وعزا ، فحرفوا ، وما حرفوا بذلك إلا أنفسهم كما قال سبحانه : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ـ ١٠٢ البقرة». (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) شعار اليهود الخيانة ، ولا يروي عطشهم إلّا الكيد والمكر (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ثبتوا على العهد والميثاق (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) إن كفوا عنك شرهم وضرهم (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) ١٩٣ البقرة».

١٣٨

١٤ ـ (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله ، وقالوا : نحن أنصار الله (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) بأن يسيروا على سنة السيد المسيح (ع) ولا يقولوا : الله ثالث ثلاثة (فَنَسُوا حَظًّا) نصيبهم من الثواب عند الله لو سمعوا وأطاعوا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) وهو الإنجيل الذي حرفوه ، ولو بقي كما أنزل على عيسى ، والتوراة كما أوحي بها إلى موسى ـ لكان الدين واحدا في شرق الأرض وغربها (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ) أي ألصقنا بهم (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) لبعضهم البعض (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ومن أراد أن يسبر غور هذه العداوة والبغضاء فليرجع إلى كتاب الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده وكتاب محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبي زهرة.

١٥ ـ ١٦ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ) نداء لليهود والنصارى (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أخفى النصارى التوحيد ، وأخفى اليهود تحريم الربا وغير ذلك ، ومما أخفوه معا البشارة بنبوة محمد (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من الذين أساؤا إليه من رؤسائكم.

(قَدْ جاءَكُمْ) أيها اليهود والنصارى (مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ...) يهدي للتي هي أقوم دنيا وآخرة ، فأبيتم إلّا العناد والفساد ، فقامت عليكم الحجة ، وانقطعت منكم كل معذرة.

١٧ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) كل من وصف المخلوق بشيء من صفات الخالق كالخلق. والرزق فما هو بمسلم ، ولا يختلف في ذلك اثنان من المسلمين ، وايضا نطق القرآن الكريم بصراحة أنه لا حساب على الآراء والمعتقدات إلا لله وحده ، ومن ذلك قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) ـ ٤٨ الشورى». (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ...) لأن الله سبحانه إذا ملك القدرة على هلاك المسيح فمعنى هذا أن المسيح ليس بإله ، وإن عجز عن هلاك المسيح فمعنى هذا أن الله ليس بإله وعليه فالجمع بين إلهين محال ، فكيف بالثلاثة؟

١٨ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وإن قال قائل : كل أهل دين يقول مثل هذا؟ قلنا في جوابه : إن الإسلام يقرر مبدأ المساواة بين الناس أجمعين كتابا وسنة وعقلا ، فمن الكتاب : «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ـ النساء ... (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ـ ١٣ الحجرات». ومن السنة النبوية : «أيها الناس إن ربكم واحد ، وكلكم من آدم ، وآدم من تراب ... خير الناس أنفع الناس للناس» وفي الآية ٦ من فصلت (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). أما العقل فهو الأساس والأصل الأصيل لعقيدة الإسلام وميزان العدل لشريعته.

١٣٩

(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) لو كنتم أبناء الله لكنتم معصومين بالكامل ، وأنتم لا تدعون ذلك ، وكل مذنب يستحق العقاب والعذاب بحكم البديهة (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) ليس في خلق الرّحمن من تفاوت ، فعلام هذا التعالي والغرور؟ وهل من شيء أضر وأخطر على الشعوب والأمم والإنسانية من ادعاء بعضها أو بعض أبنائها بأن لهم مزايا طبيعية ليست لأحد من الناس غيرهم؟

١٩ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) الحق (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) بعد انقطاع الوحي أمدا من الوقت (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) وهو محمد (ص) أبدا لا عذر إطلاقا لمن يتكاسل ويهمل البحث عن الحق ، وهو عليه قادر ، وهذا كتاب الله وشروحه وعلومه ، وتلك سنة نبيه في مئات الكتب وهؤلاء علماء الإسلام في شرق الأرض وغربها يعدون بالألوف فليبحث باحث ، وليسأل سائل تفقها لا تعنتا.

٢٠ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) اليهود : (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) ٤٩ البقرة». (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ). (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) ـ ٨٧ البقرة (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) أي جعل منكم ملوكا كداود وسليمان (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) لا لشيء إلا للمبالغة في تثبيت الحجة عليهم وتوكيدها وإلزامهم بها ، لقسوتهم ورسوخهم في الضلال والمعاندة والمكابرة ، فقد نصرهم سبحانه على فرعون بلا قتال ، وأطعمهم المن والسلوى بلا كفاح ، وسقاهم الماء بلا جفر آبار وشق أقنية ومع ذلك كله تمردوا على المنعم بدلا من أن يشكروه ، وقتلوا أنبياءه ورسله ، والرسول لا يقتل عند جميع الدول.

٢١ ـ (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) هاجر موسى وقومه العبرانيون من مصر ، يشقون طريقهم إلى سيناء ، ولما بلغوها حاروا إلى أين يذهبون ، فقال لهم موسى : هلموا إلى فلسطين (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أن تعيشوا مع أهلها الحثيين والكنعانيين في أمن وسلام (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) حيث لا تجدون بلدا أقرب من هذه الأرض.

٢٢ ـ (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) أراد موسى أن يتعايش العبرانيون مع أهل الأرض معايشة الأخوان المتعاونين ، فرفضوا إلا طرد الكنعانيين من ديارهم وتشتيتهم في الأرض أيدي سبا كما فعل اليهود سنة ١٩٤٨ م وما أعقبها من ويلات.

١٤٠