مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه

آية الله الشيخ حسين النوري الهمداني

مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين النوري الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-230-0
الصفحات: ١٧٦

الحق إذا كشف له حفظا لجاهه وخوفا من الشناءة كما يفعله قضاة السوء.

٥ ـ «ولا تشرف نفسه على طمع» اي لا يحدّث نفسه بالطمع في الاستفادة من المترافعين فيتوجه الى الأوفر منهم ثروة او جاها ليستفيد من ماله أو جاهه.

٦ ـ «ولا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه» بأن يكون دقيقا في كشف القضية المعروضة عليه ولا يكتفي بالنظر السطحي في فهم صدق المتداعين وكذبهم بل يكتنه القضية عن طرق كشف الجريمة وعن طرق كشف الحقيقة.

ثم انه عليه‌السلام لم يكتف بهذه الصفات حتى اكملها بستة اخرى فقال :

١ ـ «واوقفهم في الشبهات» اي لا يأخذ باحد طرفي الشبهة حتى يفحص ويتبين له الحق بدليل علمي يوجب الاطمينان.

٢ ـ «آخذهم بالحجج» فلا يقصّر في جمع الدلائل والأمارات على فهم الحقيقة من اي طريق كان.

٣ ـ «واقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم» اي اقل الناس تضجّرا وقلقا من مراجعة الخصوم وقال ابن ابي الحديد في شرحه في المقام : وهذه الخصلة من محاسن ما شرطه عليه‌السلام فان القلق والضجر والتبرم قبيح واقبح ما يكون من القاضي.

٤ ـ «واصبرهم على تكشّف الامور» اي يكون اصبر الناس على كشف حقيقة الامور بالبحث وجمع الدلائل.

٥ ـ «واصدقهم عند اتضاح الحكم» بان يحكم عند وضوح الحق صريحا وقاطعا ولا يؤخر صدور الحكم.

٦ ـ «ممّن لا يزدهيه اطراء ولا يستميله اغراء» أن لا يؤثر فيه المدح والثناء

٨١

من المتداعيين او غيرهما فينقدح في نفسه العجب ويظهر الكبر ولا يؤثر فيه تحريض الغير فيجلب نظره الى أحد الخصمين. «واولئك قليل» فأعلن عليه‌السلام بعد بيان هذه الأوصاف بأنّ الواجدين لها قليل.

ثم ان اللازم حملها على الاستحباب في باب القضاء والقول بأنها بمجموعها شرط الكمال في القاضي لا شرط الصحة وذلك لأن لزوم مراعاة جميع هذه الصفات في نصب القاضي مع ان الواجد لها قليل كما صرّح به عليه‌السلام مع احتياج المجتمعات في كل قرية وقطر إلى القاضي يوجب اختلال النظام في أمر القضاء لبقاء كثير من الأقطار بلا قاض.

ثم ان من العجيب ما قاله العلامة الكني في المقام جوابا عن المستدلّين بهذا الكلام عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام على اعتبار الأعلمية في المفتي : انّه لعدم صحة السند مع عدم جابر صالح مع ظهور امارات الاستحباب كما لا يخفى على من لاحظه لم يمكن الاستناد اليه في اثبات هذا الأمر العظيم (١) (أي اثبات اعتبار الأعلمية في المفتي).

فإن صحة انتساب نهج البلاغة الذي ألّفه العالم المتضلّع الكبير السيد الرضي المتوفي ٤٠٦ بين علماء الإسلام الذين تلقّوه بالقبول وعكفوا على دراسته وكتبوا عليه مآت من الشروح والتفاسير جيلا بعد جيل كالنار على

__________________

(١) كتاب القضاء للعلّامة الكنى ص ٣٠ ـ ٣٥ ، وقد صدر مثل هذا الكلام عن الآية الخوئي أيضا فإنه في بحث اعتبار الأعلمية في القاضي وعدمه واستشهاد بعضهم لاعتبار الأعلمية بهذه الجملة من عهده عليه‌السلام للأشتر قال : ان العهد غير ثابت السند بدليل قابل للاستدلال به في الأحكام الفقهية وإن كانت عباراته ظاهرة الصدور عنه عليه‌السلام إلّا ان مثل هذا الظهور غير صالح للاعتماد عليه في الفتاوى الفقهية أبدا «التنقيح ج ١ ص ٤٣٠».

٨٢

المنار وكالشمس في رابعة النهار وصدور هذه الخطب والرسائل وكلماته القصار من معدن الحكمة وباب مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بمثابة من الاشتهار والوضوح في ذلك الزمان ان السيّد الرضي «قدّس الله نفسه» ما كان يرى في زمانه لذكر الأسناد لها حاجة فهذا القبيل من المراسيل كالمسانيد المعتبرة في الاعتبار.

وقد الّفت في عصرنا مصادر متعدّدة لنهج البلاغة وفي جميعها ذكر هذا العهد لأمير المؤمنين «عليه آلاف التحية والسلام» مع ذكر سنده.

هذا مضافا الى ان الفصاحة والبلاغة والمتانة الموجودة فيه أصدق شاهد على انها منه عليه‌السلام خصوصا بعض خطبه وكتبه التي هي فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق ومنه هذا الكتاب الذي يكون اطول عهده واجمع كتبه للمحاسن.

كلام عليّ كلام عليّ

وما قاله المرتضى مرتضي

ومنها : ما رواه في البحار عن كتاب الاختصاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تعلّم علما ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس الى نفسه يقول : أنا رئيسكم فليتبوّأ مقعده من النار انّ الرئاسة لا تصلح الّا لأهلها فمن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة». (١)

وهذه الرواية لو لم نناقش في دلالتها بأنها راجعة إلى الخلافة والإمامة فهي من الأحاديث المرسلة والمراسيل لا تصلح للاعتماد عليها والاستناد إليها أبدا.

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ١١٠ من الطبع الحديث.

٨٣

ومنها : ما رواه أيضا في البحار عن الإمام الجواد عليه‌السلام قال مخاطبا عمّه : «يا عمّ إنه عظيم عند الله أن تقف غدا بين يديه فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الامة من هو أعلم منك؟» (١) وهي أيضا وإن كانت تامّة من حيث الدلالة ولكنها ضعيفة سندا لإرسالها.

ومنها : ما في نهج البلاغة في قصار الحكم : «أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به». (٢)

وقال العلامة المتضلّع الطهراني في كتابه القيّم «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» : يستفاد من ذلك تعيّن تقليد الأعلم (٣).

وأنت خبير بأن كونه أعلم بما جاءوا به لا يستلزم كونه أقوى ملكة في مقام الاستنباط كما ان كونه أولى الناس بالأنبياء لا يستلزم تعيّنه للإفتاء والتقليد ولعلّ النظر في كونه أولى الناس بالأنبياء كونه أولى بمنصب الحكومة والزعامة وهو غير منصب الإفتاء والتقليد الذي هو محل البحث.

وقد تبيّن مما ذكرنا انّ الاستدلال بالروايات لاعتبار الأعلمية في جواز التقليد ـ كالاستدلال بالإجماع ـ مخدوش.

ثالثها : السيرة العقلائية ـ فإنّها قد جرت على الرجوع إلى الأعلم والأخبر فى الامور المهمة في جميع الحرف والمهن والعلوم وان شئت فاختبر ذلك في الأمراض المهمّة التي تهدّد حياة الأشخاص فانّهم لا يتردّدون في لزوم الرجوع للمعالجة إلى مهرة الأطبّاء ويرون المتسامح في ذلك مستحقا للتوبيخ والذمّ.

__________________

(١) البحار ج ٥٠ ص ١٠٠ من الطبع الحديث.

(٢) قصار الحكم : ٩٦.

(٣) الذريعة ج ٤ ص ٣٩٠.

٨٤

وما يرى من الرجوع إلى أيّ من الأطبّاء في البلد من غير تحقيق وتفحّص مع علمهم باختلافهم في المهارة فهو في الأمراض غير المهمّة ، وأمّا في المهمّة منها فيراجعون إلى من هو أبصر وأخبر ، ومن المعلوم كون الامور الدينية والمسائل الشرعيّة من الامور المهمّة وتلك السيرة على حسب ما جرت عليها العقلاء والمتشرّعة ممتدّة إلى زمان الأئمّة عليهم‌السلام وهذا الوجه أمتن الوجوه وأقواها عندنا في الدلالة على اعتبار الأعلميّة في محلّ الكلام.

نعم قد نراهم انهم يراجعون إلى غير الأعلم فيما إذا كانت فتواه موافقة للاحتياط وكانت فتوى الأعلم مخالفة له ، ولكنه ذلك لا لأنّ فتوى غير الأعلم حجّة عندهم ، بل لأنه عمل بالاحتياط ، فيأتون بما أفتى به برجاء إدراك الواقع ، فلا يمكن حينئذ اسناد ما أفتى به غير الأعلم إلى الله والإتيان به بقصد أمر الشارع.

والسيرة العقلائية المذكورة مع امتدادها إلى زمان المعصومين عليهم‌السلام ـ كما قلنا ـ هى أقوى الحجج وأتمّها على اعتبار الأعلميّة في التقليد وأنّها بنحو اللّزوم ولكنّه يظهر من الإمام الخميني «قدس الله نفسه» في رسالته الاجتهاد والتقليد الترديد في ذلك حيث قال تحت عنوان : هل ترجيح قول الأفضل لزومي أم لا؟

«نعم يبقى في المقام أمر ، هو انه هل بناء العقلاء على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بمخالفته مع غيره اجمالا أو تفصيلا يكون بنحو الإلزام أو من باب حسن الاحتياط وليس بنحو اللزوم؟ لا يبعد الاحتمال الثاني لوجود تمام الملاك في كليهما واحتمال اقربية قول الأعلم على فرض صحّته لم يكن بمثابة يرى العقلاء ترجيحه عليه لزوميا ولذا تراهم يرجعون الى

٨٥

المفضول بمجرّد اعذار غير وجيهة كبعد الطريق وكثرة المراجعين ومشقة الرجوع اليه ولو كانت قليلة وامثال ذلك ممّا يعلم انه لو حكم العقل الزاما بالترجيح لما تكون تلك الأعذار وجيهة لدى العقل هذا مع علمهم اجمالا بمخالفة أصحاب الفن في الرأي في الجملة فليس ترجيح الأفضل الّا ترجيحا غير ملزم واحتياطا حسنا». (١)

وفيه ان الناظر في سيرة العقلاء وسلوكهم الاجتماعي لا يكاد يشك في انهم في الامور المهمة في حياتهم اذا علموا باختلاف المتخصصين والمهرة في انظارهم وافكارهم يرون الرجوع الى الأعلم والأفضل منهم ـ في صورة الإمكان ـ أمرا لازما بحيث يرون المخالف في ذلك مستحقا للتوبيخ والمؤاخذة وما ذكره «قدس سرّه» من المراجعة الى المفضول معتذرا بأعذار غير وجيهة كبعد الطريق وكثرة المراجعين ومشقة الرجوع الى الافضل ولو كانت قليلة انّما يكون في الامور غير المهمة كرجوعهم الى أيّ طبيب من الأطباء في الأمراض غير المهمة وامّا في الامور المهمة الحياتية فيرون المراجعة الى الأبصر والأحذق امرا لازما والمتخلف للتوبيخ مستحقا ـ كما ذكرنا ـ فتكون دلالة السيرة على مراجعة الأعلم بنحو اللزوم.

الرابع : من الأدلة التي اقاموها على تقديم فتوى الأعلم ان قول الأعلم اقرب الى الواقع فهذا الدليل مركّب من صغرى وكبرى امّا الصغرى فهي ان فتوى الفقيه انّما اعتبرت من جهة كونها طريقا إلى الأحكام الواقعية وفتوى الأعلم لسعة احاطته ووفور اطلاعه على ما لا يطلع عليه غيره من المزايا الدخيلة في جودة استنباطه اقرب الى الواقع.

__________________

(١) رسالة الاجتهاد والتقليد ص ١٣٣.

٨٦

وامّا الكبرى فهي استقلال العقل بتقديم اقرب الطرق الى الواقع عند المعارضة لأن المفروض حجية الأمارات التي ـ منها فتوى الفقيه ـ على الطريقية دون السببية.

ونتيجة المقدمتين ليست الّا لزوم تقليد الأعلم.

وهذا الوجه قد ارتضاه الشيخ الأعظم ايضا في التقريرات حيث قال : «ان الظنّ الحاصل من قول الأعلم اقوى من قول غيره فيجب العمل به عينا لأن العدول من أقوى الأمارتين الى اضعفهما غير جائز. (١)

وقد أجاب عنه جمع من المحقّقين من الفقهاء والاصوليّين كصاحب الجواهر والنراقي والقمي وصاحبي الفصول ومفاتيح الاصول والشهيد الثاني والمحقق الخراساني في الكفاية بمنع الصغرى وانه ربما يكون فتوى المفضول موافقة لرأي الميت الذي هو افضل الأحياء أو موافقة لفتوى المشهور من الفقهاء. (٢)

واجيب بمنع الكبرى ايضا بانه لا دليل على ان الملاك في التقليد ووجوبه هو الأقربية الى الواقع اذ العناوين المأخوذة في لسان الأدلة الدالة على رجوع الجاهل الى الفقيه كعنواني العالم والفقيه وغيرهما صادقة على كل من الأعلم وغير الأعلم وهذا يكفي في الحكم بجواز تقليد أي منهما.

وكما ان الأقربية ليست مرجّحة في الروايتين المتعارضتين ومن هنا تعارض الموثقة مع الصحيحة ولا في البينتين المتنافيتين لوضوح ان إحداهما لا تتقدم على الاخرى في مقام التعارض من جهة مجرّد كونها اقرب

__________________

(١) مطارح الأنظار ص ٢٨٠.

(٢) الجواهر ج ٤٠ ص ٤٢ ـ ٤٦ والمستند للنراقي ج ٢ ص ٥٢١ والقوانين ج ٢ ص ٢٤٠ ٢٤٣ والفصول ص ٤١٩ ومفاتيح الاصول ص ٦٣٠ والمسالك ج ٢ ص ٤٣٩.

٨٧

الى الواقع. كما اذا كات اوثق من الاخرى مع ان حجية الطرق والأمارات من باب الطريقية الى الواقع فكذلك الحال في الفتويين المتعارضتين.

وبالجملة توضيح منع الكبرى وعدم تماميتها يحتاج الى مقدمات :

الأولى : انّ لامتثال الاحكام الواقعية بعد تنجزها علينا مراتب اربع لا تصل النوبة الى المرتبة اللاحقة الّا بعد تعذّر المرتبة السابقة منها شرعا أو عقلا الّا في الموارد الخاصة :

١ ـ الامتثال العلمي التفصيلي

٢ ـ الامتثال العلمي الإجمالي

٣ ـ الامتثال الظنّي التفصيلي

٤ ـ الامتثال الاحتمالي

ومن المعلوم عدم امكان الامتثال التفصيلي في المقام لعدم علمنا بجميع الأحكام الواقعية تفصيلا كما ان من المعلوم عدم وجوب الامتثال العلمي الإجمالي ايضا وذلك امّا لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج أو من أجل ان الشارع المقدس لم يرد ذلك قطعا ولو من أجل تسهيل الأمر على المكلفين ولازمه صرف النظر من جانب الشارع الأقدس وعدم ارادته امتثال جميع الأحكام الواقعية تسهيلا علينا فتصل النوبة الى الامتثال الظنّي وادراك الواقع ظنّا.

الثانية : ان الشارع المقدس لم يرد الامتثال الظني للواقع من أي طريق أمكن وبأي وسيلة حصل فلم يرد ذلك عن طريق القياس مثلا ونهى عنه ولم يرد ذلك عن طريق التقليد من الفقهاء الأموات ولو كانوا أعلم من الأحياء بمراتب وانه قد جعل في هذا السبيل ـ أي سبيل امتثال الواقع ـ بعض الظنون

٨٨

حجة من باب الظن الخاص ومن باب الطريقية دون البعض الآخر منها فجعل لبعض الأمارات القائمة على الأحكام مرجّحا على البعض الآخر بالمرجّحات الخاصة على ما يشهد به الأخبار العلاجية دون كل ما هو الموجب للقرب الى الواقع ولم يلاحظ في الأمارات القائمة على الموضوعات ايضا مجرّد الأقربية إلى الواقع واعتبر في باب الزنا شهادة اربعة عدول وفي باب القتل وكثير من الموضوعات شهادة عدلين واكتفى في البعض الآخر بشهادة عدل واحد مع انضمام الحلف وفي البعض الآخر بانضمام امرأتين واكتفى في بعض الموارد بشهادة اربع نساء وهكذا.

فيستفاد من هذه الامور وامثالها ان الواقع بما هو واقع ليس تمام الملاك في نظر الشارع الأقدس بل نظره إلى الواقع الذي تؤدي اليه الأمارة الخاصة ويحصل الوصول اليه من طريق خاص وإذا لم يكن الواقع بما هو تمام الملاك لا يكون الأقربية اليه ايضا ـ بما هو الأقرب ـ ملاكا في الامتثال.

الثالثة : ان الواجب علينا بعد ثبوت المقدمتين المذكورتين التأمّل والتتبّع لتحصيل ما جعله الشارع حجة وطريقا الى الواقع الذي اراده ولا سبيل إلى تحصيل ما جعله الشارع حجة وطريقا إلى الواقع إلّا الرجوع إلى الأدلة فعلينا ان ننظر فيها ليتبيّن انه هل الحجية والطريقية لقول الفقيه والراوي لحديثهم الناظر في حلالهم وحرامهم العارف باحكامهم مطلقا ـ أي سواء أكان فاضلا أو مفضولا ـ فيتخير المكلف العامي في اخذ الفتاوى من أي منهما شاء او جعل الحجّية لقول الأعلم والأفقه فيتعين عليه حينئذ اخذ الفتوى من الأعلم فقط والمتكفل لتعيين أي من الطريقين ليس الّا الأدلة الدالة على لزوم تقليد العامي للفقيه فلا بد من الرجوع اليها والتأمل في مفادها وعليه فما ذكر في

٨٩

المقام دليلا للزوم الرجوع إلى الأعلم (وهي الكبرى المذكورة في الدليل الرابع) لا يمكن عدّه دليلا مستقلا هذا مضافا الى ان فتاوي الفقيه التي يأخذها المقلد ويعمل بها ليس كلها حجة بلحاظ كونها طريقا إلى الواقع فان جملة كثيرة من فتاوي الفقيه ناشئة من اجراء الأصول كالاستصحاب والبراءة والاشتغال واصالة الحلية والطهارة أو من الرجوع الى القواعد كقاعدة لا ضرر ولا حرج وامثالهما.

فهذا الدليل (أي الدليل الرابع) مع عدم تماميته اخصّ من المدعى لعدم دلالته الّا فيما يفتى به الأعلم استنادا الى الطرق والأمارات دون ما يرجع فيه إلى الأصول والقواعد.

خامسها : ما عن كشف اللثام وشرح الزبدة للفاضل الصالح من ان تقليد المفضول مع وجود الفاضل يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا فيتعين تقليد الفاضل.

وفيه ان المراد من الراجح والمرجوح ان كان نفس الأعلم وغير الأعلم فهو خارج عن البحث اذ البحث من هذه الجهة أي جهة الكمالات النفسانية الموجبة لأفضلية شخص من جميع الجهات على الشخص الآخر يناسب بحث الإمامة الكبرى والخلافة العظمى كما هو احد الأدلة المقتضية لخلافة امير المؤمنين عليه‌السلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكونه عليه‌السلام افضل وان كان المراد منه قول الأعلم وقول غير الأعلم فلا بدّ حينئذ من البحث في وجه رجحان قول الأعلم فان كان وجه رجحانه هو اقربيته الى الواقع يرجع الى الدليل الرابع الذي اسلفنا البحث فيه وان كان من جهة اقتضاء الدليل ذلك اثباتا يرجع الى الدليل الثاني المتقدم وبالجملة لا يكون ما ذكر بعنوان خامس الأدلة دليلا على حدة.

٩٠

هذه هي ادلة القائلين بوجوب تقليد الأعلم وقد عرفت انها كلّها مخدوشة الّا الثالث منها وهي السيرة بتوضيح تقدم وعرفت ان مقتضى الأصل ايضا ذلك والحريّ حينئذ هو البحث عن ادلة القائلين بالتخيير بين الأعلم وغيره. (١)

والكلام فيها أيضا يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في الأصل العملي.

والثاني : فيما تقتضيه الأدلة الاجتهادية.

أمّا الأصل فتقريبه بوجهين :

الأوّل : الاستصحاب.

وهو استصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين في العلم ثم صار أحدهما أعلم من الآخر ويتم في غير هذا المورد بالإجماع المركب.

وفيه ان التخيير الثابت في المقام لم يكن الا حكم العقل بجواز رجوع العامي إلى أيّ منهما شاء من جهة كونهما متساويين في الفقاهة ، فإذا صار احدهما اعلم وانتفى التساوي الذي هو ملاك حكمه وموضوعه لا يكون الموضوع باقيا حتى يستصحب فينتفي الحكم بانتفاء موضوعه.

الثاني : اصالة البراءة عن وجوب تقليد الأعلم المقتضية للتخيير بين الأعلم وغيره وذلك من جهة ان ايجاب العمل بفتوى خصوص الأعلم يوجب الضيق على المكلف العامي فينفي باصالة البراءة نظير الشك في ان الواجب عتق مطلق الرقبة او خصوص المؤمنة مع عدم اطلاق دليل ينفي

__________________

(١) فيتحقّق المنجزية التخييرية والمعذرية التخييرية في قبال التعيينيّة فالمنجّزية التخييرية بمعنى استحقاق العقاب على مخالفة الواقع في صورة ترك موافقتهما والمعذرية التخييرية بمعنى حصول البراءة عن الواقع وعدم استحقاق العقاب بموافقة إحداهما.

٩١

اعتبار هذه الخصوصية كما اذا كان لبيا او مجملا لفظيا فيكون المقام من صغريات دوران الأمر بين التخيير والتعيين التي تجري فيها البراءة. (١)

وفيه منع صغروية المقام لكبرى التعيين والتخيير التي تجري فيها البراءة وذلك لأن الدوران بين التخيير والتعيين قد يكون في الشك في التكليف وفي المسألة الفرعية كالمثال المتقدم وفي مثله يمكن القول باجراء البراءة والمصير الى التخيير وقد يكون في المسألة الأصوليّة والشك في المكلف به في مقام الخروج عن عهدة التكليف الثابت في الذمة فيرجع الباب فيه الى باب الحجج فيشك في الحجية والحاكم حينئذ هو اصالة حرمة العمل بالظن واصالة عدم الحجّية. (٢)

والمقام من قبيل الثاني للشك حينئذ في حجية قول غير الأعلم وقد أوضحنا ذلك في اوائل ذكر ادلة القائلين بوجوب تقليد الأعلم.

وبالجملة ان الأصل بكلا تقريبيه غير جار في المقام.

والمقام الثاني فيما استدل به القائلون بجواز تقليد غير الأعلم وهو وجوه :

اولها وعمدتها على ما في كلمات صاحب الجواهر (٣) والمحقق

__________________

(١) الأصل بهذا التقريب يستفاد من كلام الإمام الخميني «قدس الله نفسه» في رسالته في الاجتهاد والتقليد ص ١٤٧. وهو محتمل كلام النراقي في المستند ج ٢ ص ٥٢١ أيضا حيث تمسّك بالأصل لجواز تقليد غير الأعلم ولم يبيّن المراد.

(٢) وما في كلام المحقّق القمي في القوانين ج ٢ ص ٢٤٠ ـ ٢٤٣ من انه لا أصل لهذا الأصل فضعفه ظاهر.

(٣) الجواهر ج ٤٠ ص ٤٠ ـ ٤٦ من كتاب القضاء.

٩٢

النراقي (١) وصاحب الفصول (٢) والعلامة الكني (٣) الإطلاقات والعمومات الواردة في الآيات والأخبار الدالة على الرجوع الى اهل الذكر والعالم والفقيه وغيرها فإنها بالإطلاق والعموم يشمل الفاضل والمفضول.

امّا الآيات فإحداها آية السؤال قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٤) وهو كما يدل على حجية خبر الواحد كذلك يدل على حجية فتوى الفقيه بل دلالته على الثاني من جهة لفظ اهل الذكر اجلى ، وتفسير الآية بالأئمة عليهم‌السلام من باب الجري على اجلى المصاديق فلا يختص المفاد بهم بل المراد منه الإرشاد إلى الأمر العقلائي وهو رجوع الجاهل إلى العالم وإذا كان السؤال على حسب ظاهر الأمر الواقع في الآية واجبا يكون القبول ايضا واجبا والّا لغى وجوب السؤال.

وثانيتها : آية النفر فإن قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٥) يدل على وجوب الحذر بعد انذار المتفقه في الدين ومقتضى

__________________

(١) المستند ج ٢ ص ٥٢١ كتاب القضاء.

(٢) الفصول ص ٤١٩.

(٣) كتاب القضاء للعلّامة الكني ص ٣٠ ـ ٣٥.

(٤) الآية ٤٣ من سورة النحل والآية ٧ من سورة الأنبياء.

(٥) الآية ١٢٢ من سورة التوبة وفي الخبر ١٠ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ٩٨ عن عبد المؤمن قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انّ قوما يروون ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اختلاف امّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟! قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، انما أراد قول الله عزوجل :

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

٩٣

الإطلاق عدم الفرق بين كون المنذرين متساويين فى العلم والفضل ام مختلفين.

وفيه اولا : ان هذه العبارة أي (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قد وقعت في موردين وهما الآية ٤٣ من سورة النحل والآية ٧ من سورة الأنبياء والعبارة التي قبلها في كلا الموردين هي قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) فالآية واردة في اصول الدين وموضوع النبوة جوابا لاعتراضهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) زعما بأن اللازم ان يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملكا ومن غير جنس البشر.

وثانيا : انه قد ورد في تفسيرها روايات وقد فسّر الذكر في بعضها بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يشمل الآية غير أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وقد اورد في تفسير البرهان ٢٥ حديثا في تفسيرها (١) ففي الرواية ١ و ٢ و ١٠ و ١٤ تفسير الذكر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الخبر ٣ و ٤ و ٥ و ١٢ و ١٣ عن الرضا وعن أبي جعفر عليهما‌السلام : «نحن اهل الذّكر» وفي الخبر ٨ و ١١ و ١٥ و ١٦ و ١٨ و ٢١ و ٢٤ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «الكتاب الذّكر واهله آل محمد عليهم‌السلام» وفي الخبر ٥ و ١٤ و ٢١ الردّ على من قال انهم اليهود والنصارى وعليه فالآية بحسب هذه الروايات التي يشهد بعضها لبعض لا يشمل غير اهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله فيتعلّموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم انما أراد اختلافهم في البلدان لا اختلافا في دين الله انما الدين واحد ، انما الدين واحد.

(١) تفسير البرهان ج ٢ ص ٣٦٩.

٩٤

وثالثا : ان الآية لا اطلاق لها من هذه الجهة اي من جهة الاختلاف والتساوي في المسئولين ومخالفة نظر الفاضل والمفضول لأن الأخذ بالاطلاق في كل كلام انما يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة التي يراد الأخذ باطلاقه والآية في مقام بيان اصل الرجوع إلى اهل الذكر وامّا جريان وقوع اختلاف النظر بين اهل الذكر فلا نظر في الآية اليه وليس في مقام البيان من هذه الجهة.

وبمثله يجاب عن آية النفر ايضا فإنها في مقام البيان في اصل وجوب التفقه واصل وجوب الإبلاغ واما لو وقع اختلاف النظر بين المنذرين فالآية غير ناظرة اليه فلا اطلاق لها من هذه الجهة.

وامّا الأخبار فهي كثيرة وفيها الصحاح والموثقات.

منها : ما في مقبولة عمر بن حنظلة : عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردّ والراد علينا. الرادّ على الله وهو على حد الشرك بالله (١).

ومنها : ما عن أبي خديجة قال : بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام إلى اصحابنا فقال : قل لهم إيّاكم اذا وقعت بينكم خصومة او تداري في شيء من الأخذ والعطاء ان تحاكموا إلى احد من هؤلاء الفسّاق اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا وايّاكم ان

__________________

(١) الحديث ١ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ٩٨.

٩٥

يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر» (١) ودلالتهما على حجية الإفتاء ايضا قد تقدمت في ادلة القول بوجوب تقليد الأعلم.

ومنها : ما عن علي بن المسيب الهمداني قال : قلت للرضا عليه‌السلام : شقتي بعيدة ولست اصل اليك في كل وقت فممن اخذ معالم ديني؟ قال زكريا بن آدم القمي المأمون على الدّين والدّنيا. قال علي بن المسيب : فلما انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألت عمّا احتجت إليه (٢).

ومنها : ما عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت : لا أكاد اصل اليك اسألك عن كل ما احتاج اليه من معالم ديني ا فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج اليه من معالم ديني؟ فقال : نعم. (٣)

ومنها : ما عن علي بن سويد السابي قال كتب اليّ ابو الحسن عليه‌السلام وهو في السجن : «وأما ما ذكرت يا عليّ ممن تأخذ معالم دينك لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا. (٤)

ومنها : ما في التوقيع الشريف بخط مولانا صاحب الزمان «ارواحنا فداه» وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجّة الله (٥).

ومنها : ما عن احمد بن حاتم بن ماهويه قال : كتبت اليه يعني

__________________

(١) الحديث ٦ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٠.

(٢) الحديث ٢٧ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٦.

(٣) الحديث ٣٣ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٧.

(٤) الحديث ٤٢ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٩.

(٥) الحديث ٩ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠١.

٩٦

أبا الحسن الثالث عليه‌السلام أسأله عمن آخذ معالم ديني وكتب أخوه ايضا بذلك فكتب عليه‌السلام اليهما : فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبّنا وكل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى. (١)

ومنها : ما عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام ... : «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه». (٢)

ومنها : قول الصادق عليه‌السلام لأبان بن تغلب : اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني احب ان يرى في شيعتي مثلك. (٣)

ومنها : ما عن معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بلغني إنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت : نعم واردت ان أسألك عن ذلك قبل ان اخرج اني اقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم اخبرته بما يفعلون ويجيء الرجل واعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فادخل قولكم فيما بين ذلك فقال لي : اصنع كذا فإني كذا أصنع. (٤)

ومنها : الأخبار الواردة في ارجاع الأئمة عليهم‌السلام شيعتهم الى اصحابهم من قبيل زرارة ومحمد بن مسلم الثقفي وأبي بصير وبريد بن معاوية العجلي وامثالهم ومن المعلوم انهم لم يكونوا متساوين في العلم

__________________

(١) الحديث ٤٥ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١١٠.

(٢) الحديث ٢٠ من الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ٩٥.

(٣) رجال النجاشي ص ٧.

(٤) الحديث ٣٦ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٨.

٩٧

والفقاهة وقال العلّامة الكني في كتاب قضائه بعد ذكر شطر من الأخبار التي ذكرنا بعضها : ولو كان تقليد الأعلم واجبا لوجب ان يقول الامام عليه‌السلام من اول الأمر ارجعوا الى اعلم علمائكم مطلقا او من يمكنكم الوصول اليهم مطلقا أو مع فرض كونهم في بلدكم الّا مع الموافقة فالتخيير لا ان يقول انظروا الى رجل منكم. (١)

وخلاصة مقالتهم ان المستفاد من الآيات والروايات هو جواز الرجوع الى كل مفت وفقيه وراو لحديثهم الناظر في حلالهم وحرامهم العارف باحكامهم وعالم مسنّ في حبهم كثير القدم في امرهم من غير فرق بين الأعلم وغيره علمت مخالفتهما في الفتوى ام لم تعلم بل حمل مثل آيتي النفر والسؤال على صورة تساوي المنذرين والمسئولين في الفضلية حمل على فرد نادر.

بل ربما يقال ان الغالب بين اصحابهم عليهم‌السلام الذين ارجعوا الناس الى السؤال عنهم في الأخبار المتقدمة هو المخالفة في الفتوى لندرة التوافق بين جمع كثير مع العلم العادي باختلافهم ايضا في العلم والفقاهة لعدم احتمال تساوي الجمع في الفقاهة وهذه قرينة قطعية على ان الأدلة المتقدمة باطلاقها تدل على ان فتوى غير الأعلم كفتوى الأعلم في الحجية والاعتبار وان كانت بينهم مخالفة.

فبالنتيجة يتخير العامي في تقليد ايّ من المجتهدين المختلفين في الفقاهة فيتحقق في المقام المنجزية والمعذرية التخييريتين ومعناها ان كل واحدة من الفتويين منجزة للواقع على تقدير الإصابة وكل واحدة منهما

__________________

(١) كتاب القضاء للعلّامة الكني ص ٣٠ ـ ٣٥ ونظره في الجملة الأخيرة في كلامه إلى مضمون مقبولة عمر بن حنظلة.

٩٨

معذّرة على تقدير الخطأ إذا حصل الاستناد اليها فتتضيّق دائرة المنجزية وتتسع دائرة المعذّرية.

والجواب عنها ان التأمل الصادق في هذه الأخبار يشهد شهادة قاطعة بأن النظر فيها الى الاستبداد الحاكم على مخالفي اهل البيت عليهم‌السلام حيث انهم تركوا الاستضاءة من انوار علومهم الرّبانيّة ونشأ في تلك العصور المظلمة فقهاء قد تدرّبوا على اساس الإعراض عن اهل بيت الوحي والعصمة وعلى مبنى الاستناد الى آرائهم وظنونهم الفاسدة واستحسانهم وأقيستهم الباطلة وكانت القضاء والإفتاء كلها في أيديهم وكانوا يقضون ويفتون على خلاف ما عند الأئمة عليهم‌السلام من احكام الله تعالى وفي حقهم يقول ابو عبد الله عليه‌السلام : «يظن هؤلاء الذين يدّعون انهم فقهاء علماء انهم قد أثبتوا جميع الفقه والدين مما يحتاج اليه الامة وليس كل علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علموه ولا صار اليهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عرفوه وذلك ان الشيء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيسألون عنه ولا يكون عندهم فيه اثر عن رسول الله ويستحيون ان ينسبهم الناس الى الجهل ويكرهون ان يسألوا فلا يجيبون فيطلب الناس العلم من معدنه فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله وتركوا الآثار ودانوا بالبدع وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ بدعة ضلالة» فلو انهم اذ سألوا عن شيء من دين الله فلم يكن عندهم اثر عن رسول الله ردّوه الى الله والى الرسول وإلى اولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطون من آل محمد صلوات الله عليهم. (١)

__________________

(١) الحديث ٤٩ من الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ٤٠.

٩٩

ويقول ابو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام : «لعن الله أبا حنيفة كان يقول : قال علي عليه‌السلام وقلت أنا (١) وكانت فتاواهم المخالفة عند اهل البيت عليهم‌السلام رائجة في تلك الأعصار والأمصار وكان ابناء الزمان الذين هم اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح يتبعونهم ويراجعون اليهم ويأخذون فتاواهم ويعظّمون منزلتهم فمفاد هذه الأخبار الدالة على الإرجاع الى فقهاء الشيعة هو التشديد والمنع الشديد لشيعتهم عن المراجعة الى فقهاء العامة والأخذ منهم.

ففي مقبولة عمر بن حنظلة بعد السؤال عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من اصحابنا بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان والى القضاة أيحل ذلك؟ قال : «من تحاكم اليهم في حق أو باطل فانما تحاكم الى الطاغوت وما يحكم له فانما يأخذ سحتا وان كان حقا ثابتا له لأنه اخذه بحكم الطاغوت وما امر الله ان يكفر به قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)(٢) قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ...» (٣) فالنظر في هذا الحديث الى المنع الشديد عن الرجوع الى فقهاء العامة والتأكيد البليغ الى لزوم الرجوع الى فقهاء الشيعة المتصفين بالأوصاف المذكورة فيه فلا نظر فيها اصلا الى صورة اختلاف فقهاء الشيعة من حيث العلم والفقاهة واختلاف فتاواهم فلا يكون له الاطلاق الأحوالي اذ ليس في مقام البيان

__________________

(١) الحديث ٣ من الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ٢٣.

(٢) الآية ٦٠ من سورة النساء.

(٣) الحديث ١ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ٩٨.

١٠٠