مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه

آية الله الشيخ حسين النوري الهمداني

مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين النوري الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-230-0
الصفحات: ١٧٦

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

المسألة ١ : يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهدا أو مقلّدا أو محتاطا.

______________________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وأهل بيته الطيّبين الطّاهرين سيّما بقيّة الله في الأرضين ، واللعن على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدّين.

هذه أول مسألة من المسائل الفقهيّة المدوّنة في الرسائل العمليّة وهي متكفّلة لبيان وظائف المكلّفين بالنسبة إلى أحكام الله الواقعيّة المنجّزة عليهم بسبب علمهم بها إجمالا ، وهي تتلخّص في أحد امور ثلاثة :

الاجتهاد والتقليد والاحتياط

وجوب الامور المذكورة فطري وعقلي.

وأمّا كونه فطريّا فمن جهة ان مقتضى فطرة كلّ ذي حياة هو الفرار والتحرّز عن الضرر ، والإنسان أيضا من جهة كونه واجدا لأعلى درجة من الحياة يحترز من الضرر ، وحيث انّ أحكام الله تعالى الواقعية قد تنجّزت عليه بسبب علمه بها ـ كما قلنا ـ فلذا يرى التعرّض لها والخروج عن عهدتها لازما عليه دفعا للعقاب المحتمل ، وهو لا يحصل إلّا بأحد الامور الثلاثة المتقدّمة.

وأمّا كونه عقليّا فمن أجل لزوم شكر المنعم عقلا ، فإن الإنسان من

٣

جهة كونه عاقلا ومن جهة ايمانه بخالقه وصفات جلاله وجماله وانه تعالى بلطفه ومنّه «قد بعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبيائه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم الآيات المقدّرة من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، وأحداث تتابع عليهم ، ولم يخل سبحانه خلقه من نبيّ مرسل أو كتاب منزل أو حجّة لازمة أو محجّة قائمة». (١)

يحكم عقله حكما قاطعا بأنه يلزمه الشكر لنعمه المتوافرة ، وهو لا يحصل إلّا بالعمل بأحكامه تعالى اجتهادا أو تقليدا أو احتياطا.

الاجتهاد هو الأصل الوحيد

وليعلم انّ الاجتهاد وهو التصدّي لتحصيل العلم بالحجّة للاستناد إليها في مقام العمل هو الأصل الوحيد والركن السديد من بين الامور الثلاثة المتقدّمة «الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط».

وأما التقليد : وهو العمل برأي من قامت عنده الحجّة على الحكم الشرعي ، ويقتضيه ارتكاز العامي وفطرته الحاكمة برجوع الجاهل إلى العالم ، وعليه أيضا جرى بناء العقلاء في حياتهم الاجتماعية ، فهو انّما تصل إليه النّوبة بعد العجز عن الاجتهاد ، وفي ظرف عدم القدرة عليه ، فهو في طول الاجتهاد بحسب المرتبة لا في عرضه.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة الاولى.

٤

وقد ظهر ممّا ذكرنا ان أصل لزوم التقليد عقلي ، ولا يمكن أن يكون تعبّديا وتقليديّا لاستلزامه حينئذ الدّور أو التسلسل ، لأنّ وجوب الرجوع إلى زيد «المجتهد مثلا» لو كان بتقليد عمرو «المجتهد» ننقل الكلام إلى قول عمرو ، فبأيّ دليل صار حجّة ، فإن كان بسبب قول بكر وهكذا يلزم التسلسل (والمراد من التسلسل في أمثال المقام هو عدم انتهائه إلى حدّ يقف فيه لا التسلسل الفلسفي) وإن رجع حجّية قول عمرو إلى قول زيد مثلا يلزم الدور ، وسيأتي البحث في بعض الجوانب الأخر من التقليد.

وأمّا العمل بالاحتياط فهو : أوّلا : مما لا يمكن في جميع الموارد لاستلزامه اختلال النظام لكثرة المحتملات وكذا في أغلب الموارد لاستلزامه العسر والحرج «ولذلك لم نر من يعمل به من بين المسلمين».

وثانيا : انه لا يتمشّى فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة ، وفيما إذا كان محتمل الوجوب عبادة واحتمل المكلّف عدم جواز الامتثال الإجمالي في العبادات عند التمكّن من امتثالها تفصيلا اجتهادا أو تقليدا ، وكذا إذا احتمل دخالة قصد الوجه والتمييز ولو بالاجتهاد أو التقليد ، فيلزم عليه حينئذ الاجتهاد ولو لم يمكن فالتقليد ، فانقدح ان العمل بالاحتياط ليس في عرض الأوّلين بحسب المرتبة ، بل في طولهما ، فالاجتهاد هو الأصل الوحيد والركن السديد كما ذكرنا.

الاجتهاد

وأخصر ما قيل في تعريفه انه : تحصيل الحجّة على الحكم عن ملكة.

٥

ويتوقّف الاجتهاد على امور :

١ ـ معرفة اللغة العربية وقواعدها ، فإن الكتاب المجيد والأخبار الصادرة عن النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام قد وردت باللغة العربية ، فالاستفادة منهما واستيعاب مفاهيمهما بدون الاطّلاع على اللغة العربية غير ممكن.

٢ ـ معرفة الكتاب العزيز بالمراجعة إلى التفاسير خصوصا التفاسير المتكفّلة لتفسير الآيات بالأخبار الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام كتفسير البرهان ونور الثقلين والصافي.

٣ ـ علم الاصول ، ومسيس الحاجة إليه في الاجتهاد ممّا لا يخفى ، فإن القواعد التي قد تكفّل هذا العلم لتشييدها وتنقيحها سواء أكانت من المسائل المرتبطة بالألفاظ وهيآتها أم من القواعد العقلية المحضة ، أم من القواعد المتعلقة بحجية الاصول ومجاريها وأحكام تعارضها وغيرها ، أم من القواعد المبيّنة لكيفيّة الجمع بين المتعارضين من الأخبار العلاجية وغيرها ممّا لا يستغني عنه أيّ مجتهد.

فما ذهب إليه الأخباريّون من أصحابنا من إنكار شأن علم الاصول فممّا لا ريب في بطلانه ، فهل يسوغ للأخباري أن يستغني عن مثل هذه المسائل مع ان أكثر مداركها مأخوذ من الكتاب العزيز والأخبار الصادرة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهذا صاحب الحدائق وقد عدّ من رؤساء الأخباريين ، هل كان يمكن له أن يستنبط الأحكام من الكتاب العزيز وأخبار الأئمّة الأطهار مع قطع النظر عن هذه القواعد؟ وإن شئت فارجع إلى الحدائق تجد صحّة ما ذكرنا.

٦

٤ ـ التتبّع التامّ في الأخبار الصادرة عن أهل البيت عليهم‌السلام والانس والإحاطة بها ، إذ بها دارت رحى الاستنباط عند فقهاء الإماميّة في عامّة الأدوار والأعصار وبالممارسة فيها تحصل القوّة القدسيّة التي بها يكون الفقيه فقيها.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا». (١)

وقال عليه‌السلام أيضا : «ممّن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا. (٢)

٥ ـ علم الرجال والدراية ، وذلك لأنّ غالب الأحكام الشرعية يستفاد من الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام وليس كل خبر حجّة ، لأنهم عليهم‌السلام قد قالوا إنّا لا نخلو عن كذّاب يكذب علينا ، فلا بدّ من تمييز الغثّ عن السمين ، ولا يحصل ذلك إلّا بالبحث والتنقيب عن أحوال الرواة الواقعين في سلسلة السند واحدا بعد واحد.

٦ ـ الاطلاع على فتاوى الأصحاب خصوصا قدمائهم الذين كان دأبهم الفتوى على أساس متون الروايات ، وكذا الاطلاع على فتاوى العامّة الدارجة في أعصار الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وذلك لأنه يظهر من كثير من الأخبار ان الأئمة الأطهار عليهم‌السلام كانوا ناظرين إلى ما في أيدي العامة وفقهائهم من الروايات والفتاوى في تلك العصور المظلمة ، وعليه فتمييز ما هو الصادر منهم عليهم‌السلام تقية أو ردّا على ما هو الدارج في أيديهم يحتاج إلى الاطّلاع على فتاويهم ورواياتهم في تلك الأزمنة.

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٢٧ ج ١٨

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١ ج ١٨

٧

معنى التقليد

واللّازم في المقام هو البحث عن أمرين :

١ ـ ما هو التقليد؟

٢ ـ ما هو الباعث للعامي على التقليد؟

أما الأول : فنقول :

التقليد لغة : من القلادة ، وهي الّتي تجعل في العنق ، في عنق نفسه أو في عنق غيره ، ومناسبة معناه لبحث الاجتهاد والتقليد واضحة ، لأنّها إمّا باعتبار ان العامي يجعل دينه وتبعات أعماله المرتبطة بدينه في عنق مفتيه ، فمعنى تقليده للفقيه جعل دينه الّذي نزّل منزلة القلادة في عنق الفقيه ، وإمّا باعتبار انه يجعل فتاوى الفقيه التي قد شبّهت بالقلادة في عنق نفسه ، بمعنى انه يلتزم بها ولا يتحرّك ولا يسكن إلّا معها وباستنادها ، فإطلاق لفظ التقليد في المقام مشتمل على تشبيه وتنزيل من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.

ويشهد على صحّة الإطلاق بالاعتبار الأوّل ما رواه أبو بصير قال : دخلت أمّ خالد العبديّة على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده فقالت : جعلت فداك يعتريني قراقر في بطني وقد وصف لي اجناد العراق النّبيذ بالسويق؟ فقال عليه‌السلام : ما يمنعك من شربه؟ فقالت : قد قلّدتك ديني ، فقال عليه‌السلام : فلا تذوقي منه قطرة لا والله لا آذن لك في قطرة منه ، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك هاهنا ، وأومأ بيده إلى حنجرته ـ يقولها ثلاثا ـ أفهمت؟ فقالت : نعم ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما يبلّ الميل ينجس حبّا من ماء يقولها

٨

ثلاثا. (١)

وشهادة العرف على صحّة الإطلاق بالاعتبار الثاني أيضا واضحة.

فالمكلّف العامي في مقام الامتثال لأحكام الله الواقعيّة التي قد صارت منجّزة عليه بسبب علمه بها اجمالا لا بدّ من أن يستند إلى الحجّة ، وليست هي ـ بعد عدم العمل بالاحتياط ـ إلّا قول المفتي ـ على ما سيجيء ـ وحينئذ لا طريق له في الخروج عن عهدتها إلّا التقليد بالمعنى الّذي ذكرناه.

هذا بحسب معناه اللّغوي وأمّا المراد منه في عرف الفقهاء والاصوليّين وكلماتهم ، فقد اختلفوا فيه على أقوال شتّى ، وفرّعوا على الخلاف فيه بعض المسائل الفقهيّة ـ كما سنذكره ـ والأقوال كما يلي :

الأول : انّه الالتزام بقول الغير كما في تعريف السيّد الفقيه الطباطبائي في العروة.

الثاني : انّه قبول قول الغير من غير دليل كما عن الفخر.

الثالث : انّه الأخذ بقول الغير.

الرابع : انّه تعلّم الأحكام عن الغير.

الخامس : انّه نفس العمل بقول الغير كما عن النهاية والمعالم وشرح المختصر. (٢)

ومن جملة المسائل الّتي فرّعوها على الخلاف في المراد من التقليد بعض المسائل المرتبطة بالعدول عن مجتهد إلى آخر ومسألة البقاء على تقليد الميّت.

فمن الثاني : ما في رسالة الاجتهاد والتقليد لشيخنا الأعظم الأنصاري

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ص ٢٧٥ الحديث ٢ من الباب ٢٠ من أبواب الأشربة المحرّمة.

(٢) وسيظهر لك ممّا نذكره انّ القول الخامس هو الأوجه.

٩

فإنه ربّما يتوهّم منه انه لو قلنا بأن التقليد هو الالتزام لجاز البقاء على تقليد الميّت فيما إذا مات المجتهد بعد الالتزام بالعمل على فتواه وإن لم يعمل بها وإن قلنا بأنه العمل لم يجز البقاء ما لم يعمل به. (١)

كما انه من الأوّل ما في كلمات بعضهم في مسألة العدول عن الحيّ إلى الحيّ المساوي فإنه لا يجوز العدول إلى الثاني بعد الالتزام وإن لم يعمل لو قلنا بأن التقليد هو الالتزام وهذا بخلاف ما لو قلنا انه هو العمل بقول الغير فإنه يجوز العدول إلى الحيّ حينئذ وإن حصل التعلّم والالتزام لعدم تحقّق التقليد على الفرض ما لم يعمل.

وفساد هذا التوهّم وأمثاله ممّا لا يخفى لأنّ حرمة العدول في الفرض وجواز البقاء على تقليد الميّت وعدمه لا تدور مدار انّ التقليد هو الالتزام أو التعلّم لا العمل بل المتّبع في ذلك هو ما تقتضيه القواعد ، واطلاقات أدلّة حجّية الفتوى من الآيات والأخبار والسيرة وسيأتي ذكرها ، إذ ليس عنوان البقاء على تقليد الميّت وكذا عنوان العدول عن التقليد بمالهما من المعنى واردين في لسان الدليل كي يلحظ تحقّق مفهوم البقاء على التقليد أو العدول عن التقليد في مورد وعدم تحقّقهما فيه.

والقائلون بكون التقليد عبارة عن الالتزام انّما قالوا به فرارا عن محذور سبق الشيء على نفسه كما في الكفاية للمحقّق الخراساني فإنه بعد تعريفه بأنه أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات قال : ولا يخفى انّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ضرورة سبقه عليه ، وإلّا كان بلا تقليد ، انتهى.

ومراده «رحمه‌الله» ان العمل مسبوق بالتقليد ومتوقّف عليه ، وحينئذ

__________________

(١) رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ الأعظم الأنصاري ص ٤٦

١٠

فلو كان العمل محقّقا للتقليد كان التقليد مسبوقا بالعمل فيلزم سبق الشيء على نفسه.

وفيه ما لا يخفى من عدم صحّة المقدّمة الثانية ، فإن التقليد حينئذ نفس العمل الكذائي لا انه مسبوق به ومتوقّف عليه ، وتوضيحه : انّ العمل يكون على نحوين :

١ ـ العمل المستقلّ.

٢ ـ العمل التابع للغير.

والثاني هو التقليد ، فالتقليد هو نفس العمل الكذائي ـ أي العمل الصادر عن الشخص تبعا للغير ـ لا انه متوقّف عليه ومتأخّر عنه.

والتحقيق ـ كما ظهر ممّا ذكرنا آنفا ـ : انّه لا فائدة في البحث عن مفهوم التقليد لأنّه لا يثمر شيئا ، إذ ليس في الأدلّة الدائرة في المقام شيء مترتّب على لفظ «التقليد» حتّى يلزم علينا البحث عن معناه ، فالمهمّ بيان ما هو وظيفة الجاهل في مقام الخروج عن عهدة التكاليف الشرعيّة.

ولا ريب ان وظيفته هي العمل على طبق فتوى المجتهد ، كما انّ وظيفة المجتهد هي العمل على طبق ما استنبطه ، كما ان المهم في بحث جواز البقاء على تقليد الميّت وعدمه ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ هو البحث عن انّ الأدلّة التي اقيمت على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم تأسيسا أو امضاء هل تشمل الميّت أيضا ابتداء أو بقاء أم لا؟ وعلى تقدير الشمول هل المانع عنه موجود أم لا؟

والمهم في بحث جواز العدول عن المجتهد إلى المساوي هو البحث في ان التخيير المستفاد من الأدلّة هل له اطلاق يشمل جميع الأحوال حتى بعد

١١

العمل على رأي المجتهد الأوّل أو هو بدويّ لا يشمل شيئا من ذلك.

وعليه ففي كلّ مورد من الموارد المذكورة وأمثالها لا بدّ أن يلاحظ الدليل الخاص في ذلك المورد ويعمل على مقتضاه ، ولا يرتبط البحث والثمرة بمفهوم لفظ التقليد حتّى يبحث فيه.

هذه خلاصة الكلام في المقام الأوّل.

ما يدعو العامي إلى التقليد

وأمّا المقام الثاني فهو : توضيح ما هو الباعث للعامي على التقليد ، وهو يستدعى التنبيه على أمرين :

الأمر الأول : انّ العامي بعد ايمانه بالله تعالى وانّه تعالى لم يتركه سدى ومهملا وأرسل لهدايته الرسل وأنزل الكتب وشرّع الشريعة يذعن بأن عدم التعرّض لامتثال أوامره ونواهيه المندرجة في الكتاب والسنّة خروج عن زيّ الرقّية ورسم العبودية وكفران لنعمه تعالى وموجب لاستحقاق الذم والعقاب من قبل المولى.

الأمر الثاني : انّ كيفيّة امتثال التكاليف لا تتحقّق إلّا بأحد أمرين :

إمّا بتحصيل العلم بها باستخراجها من مظانّها من الكتاب والسنّة وتحصيل الحجّة عليها منهما ، وهو المسمّى ب «الاجتهاد».

وإمّا بإتيان جميع المحتملات الموجب للقطع بامتثالها ، وهو المسمّى ب «العمل بالاحتياط» ، ومع عدم التمكّن من تحصيل الحجّة على التكاليف لكونه عاميّا وعدم التمكّن من الاحتياط لمكان العسر والحرج أو عدم معرفة

١٢

طريق الاحتياط يذعن العقل بنصب طريق آخر ، وهو التقليد والاستناد إلى من له الحجّة على الأحكام.

وهذا الذي نعبّر عنه ب «التقليد» ورجوع الجاهل إلى العالم ليس إلّا حكم العقل ، وعليه جرى أيضا بناء العقلاء في حياتهم.

قال المحقّق الخراساني في الكفاية : ان جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة (١) يكون بديهيّا جبليّا فطريّا ، وإلّا لزم سدّ باب العلم به (٢) على العامي مطلقا (٣) غالبا لعجزه عن معرفة ما دل عليه كتابا وسنّة ، ولا يجوز التقليد فيه أيضا ، وإلّا لدار (٤) أو تسلسل.

وناقش فيه المحقّق الاصفهاني في حاشيته على الكفاية في المقام بمنع كون جواز التقليد بديهيّا جبليا فطريّا وذلك لوجهين :

الأوّل : ان المقصود بالفطري إمّا أن يكون القضية الفطرية المعدودة في كتاب البرهان من القضايا الستّ البديهية ، وإما أن يكون الفطري بمعنى الجبلّة والطبع ، وعلى كل من المعنيين لا يكون جواز التقليد فطريّا.

أمّا على الأول : فلأن القضية الفطريّة هي التي تكون قياساتها معها ،

__________________

(١) والمراد بقوله في الجملة : اثبات فطرية جواز رجوع الجاهل إلى العالم في ظرف اجتماع الشرائط في المجتهد فلا يكون الرجوع إلى الفاسق أو المتجزّي أو الصبي فطريا بديهيا.

(٢) أي بجواز التقليد.

(٣) أي سواء أكان العامي اميا لا حظّ له من العلم أصلا أم كان له نصيب من العلم لكن لم تكن له ملكة الاستنباط.

(٤) إذ لو كان جواز التقليد بتقليد آخر فإن كان ذلك التقليد الآخر بهذا التقليد لزم الدور ، وإن كان بتقليد آخر أيضا وهلم جرا لزم التسلسل.

١٣

كقولهم : الأربعة زوج ، فإنها قضية فطرية لاستغنائها كسائر البديهيات عن الاستدلال ، بل العقل يذعن بزوجيّة الأربعة بمجرد التفاته إلى انقسامها بمتساويين ، ومن المعلوم ان الفطري بهذا المعنى هو كون العلم نورا وكمالا للعاقلة ، لا لزوم التقليد عند الشارع أو عند العقلاء.

وأمّا على الثاني : فلأن الفطري الجبلّي لكل انسان هو شوق النفس إلى رفع نقص الجهل وكمال ذاتها أو قواها لا لزوم التقليد شرعا أو عند العقلاء.

الثاني : أن الجمع بين البداهة والفطرة والجبلّة لإثبات جواز التقليد لا يخلو عن شيء ، إذ الظاهر من كون الشيء بديهيّا انه من البديهيات مثل : «النقيضان لا يجتمعان».

ومن المعلوم ان جواز التقليد ليس كذلك لابتنائه على مقدمات كما ذكرنا (١)

ولكن يمكن أن يقال : ان مراد المصنف من الفطري ليس معناه المصطلح عند أهل الميزان ، بل المراد انه من الفطرية الارتكازيّة ، ومقصوده من قوله بديهيّا انه واضح بحيث لا يحتاج إلى اقامة برهان ، وذلك من جهة رسوخ مسألة لزوم رجوع الجاهل إلى العالم في النفوس بحيث لا يحتاج إلى امعان النظر ، ولعلّه لأجل هذا الحكم الفطري الارتكازي أهمل المحقّق الخراساني هنا الاستدلال ببناء العقلاء على جواز التقليد مع انه جعله من جملة الأدلة على جواز تقليد المتجزّي.

وبالجملة : فالمستفاد من كلمات الاصوليّين والفقهاء اقامة الدليلين

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٦ ص ٣٩٩

١٤

على جواز التقليد :

أحدهما : حكم العقل المستقل ، وهو الذي عبّر عنه صاحب القوانين ب «بديهة العقل».

ثانيها : بناء العقلاء ، إذ الرجوع إلى العارف والخبير من الارتكازيّات المغروسة في نفوسهم ، وعليه جروا في حياتهم الاجتماعية.

ولو قطع النظر عن الوجه الأول أمكن الاعتماد على السيرة العقلائية بضميمة تقرير الشارع لها ، فإنه بما هو عاقل بل رئيس العقلاء متحد المسلك معهم في كيفية ايصال أحكامه إلى المكلّفين وعدم ابداع طريقة اخرى لذلك.

فرجوع العوام من المسلمين إلى المجتهدين المستنبطين لأحكام الله تعالى من منابعها الناظرين في حلال الأئمّة عليهم‌السلام وحرامهم والعارفين لأحكامهم ممّا جرت عليه سيرة المسلمين من الصدر الأوّل وهي من جهة كونها بمرأى ومسمع من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام مع عدم ردعهم عليهم‌السلام عنها كانت مرضيّة عندهم ومجازة لديهم.

شبهة الأخباريّين

وانّ الاجتهاد بدعة والتقليد حرام

لكنه قد وقع ريب وشبهة من أصحابنا الأخباريّين في باب الاجتهاد والتقليد وهي ان بناء العقلاء على أمر انما يصير حجّة إذا أمضاه الشارع الأقدس ، وامضاء الشارع وعدم ردعه عن شيء لا يستكشف إلّا في عمل يكون بمرأى ومنظر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام كبنائهم على اصالة الصحّة

١٥

والعمل بقول الثقة وأمثالهما ممّا كان رائجا في عصر المعصومين عليهم‌السلام.

وأما إذا كان بنائهم على عمل مستحدث لم يتّصل بزمانهم عليهم‌السلام فلا يمكن استكشاف امضاء الشارع لمثله ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّه وإن ورد لفظ «التفقّه في الدين» في الكتاب العزيز ، وألفاظ «الفقه» و «الفقيه» و «الفقهاء» و «الأفقه» وأمثالها في الروايات الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، ولكنه وردت أيضا ألفاظ «رواية الحديث» و «راوي الحديث» و «رواة الحديث والأحاديث» في موارد كثيرة منهم عليهم‌السلام ، وعليه فلم لا يكون المراد من لفظ «الفقه» و «الفقهاء» رواية الحديث ورواة الحديث؟

وقالوا : انّ الفقه لم يكن في عصر الأئمّة عليهم‌السلام إلّا من العلوم الساذجة البسيطة ، وكان عبارة عن نقل روايات من الأئمّة عليهم‌السلام مع الإسناد أو مع حذف الأسناد كالمقنع والهداية لرئيس المحدّثين الصدوق «رضوان الله عليه» ورسالة أبيه عليّ بن بابويه «رحمة الله عليه».

وبالجملة : لم يكن إلّا روايات سمعوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من الأئمّة عليهم‌السلام في الجواب عن أسئلتهم المختلفة التي كانت ترد على حسب الوقائع المختلفة أو روايات صدرت منهم عليهم‌السلام ابتداء من غير سبق سؤال على حسب القضايا والموارد المتفاوتة ، ولم يكن التفقّه في تلك الأعصار إلّا تعلّم تلك الأحاديث وحفظها ونشرها ، كما انّه لم يكن الرجوع إلى الفقيه في تلك العصور إلّا لاستماع ما سمعوا من النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام من الروايات.

ولكنّ «الفقه» قد تطوّر واتّسع وأصبح في أمثال عصرنا من العلوم النظريّة الوسيعة كالعلوم الفلسفية والرياضية ، وأصبح التفقّه معرفة الروايات

١٦

الصادرة عن أهل البيت عليهم‌السلام مع معرفة القواعد الكثيرة ، ومعرفة مجاري الاصول في الشبهات الحكميّة والموضوعية واعمال الظنون والأنظار في استنباط الأحكام ، وصار الرجوع إلى الفقيه رجوعا إلى من عرف هذه الامور واستخرج الأحكام بالظنّ الاجتهادي أو بالرجوع إلى الاصول العمليّة.

وعليه فما جرى عليه الأمر من زمن الشيخ المفيد بل قبله من زمن القديمين الحسن بن أبي عقيل العمّاني وأحمد بن الجنيد الاسكافي إلى زماننا من الفقه والتفقّه والرجوع إلى الفقيه هو أمر مستحدث لا يمتدّ إلى زمان المعصومين عليهم‌السلام.

ومجرّد ارتكاز رجوع الجاهل في كلّ صنعة أو حرفة إلى أصحاب الصنائع والحرف والبناء عليه إذا لم يكن متصلا بزمن المعصومين عليهم‌السلام حتى يستكشف منه الإمضاء منهم عليهم‌السلام لا يجدي شيئا ، فانقدح انّ ما هو المتداول في أمثال زماننا لا يتّصل إلى زمن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وما كان هو المتداول في زمانهم عليهم‌السلام ليس معمولا في عصرنا.

قالوا : فشأن الفقهاء والعلماء لا بدّ أن يكون مقصورا بنقل الرواية عن المعصوم عليه‌السلام كما لم يكن شأن أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام أيضا إلّا ذلك ، فالاجتهاد والإفتاء مثل استعمال القياس حرام ورجوع العوام إليهم في ذلك وتقليدهم لهم من الامور المستحدثة فهو أيضا بدعة وحرام.

والفرق بين الرواية والفتوى ممّا لا يخفى فالأوّل ليس إلّا حكاية ما سمعه من المعصوم عليه‌السلام بلا واسطة أو بواسطة بلفظه أو بلفظ آخر ، وليس فيه اعمال النظر من نفسه بالنسبة إلى حكم الله تعالى.

١٧

وأمّا الثاني : فهي عبارة عن الإخبار بأحكام الله تعالى بحسب اعتقاد المفتي ونظره.

فالمفتي على أساس الظنون الاجتهاديّة في الأحاديث الواصلة عنهم عليهم‌السلام وحمل بعضها على بعض وترجيح بعضها على بعض بحسب نظره يتّخذ رأيا ويظهر رأيه ونظره بسبب الفتوى ، ثم إن لم يكن في البين بخصوصه حديث عنهم عليهم‌السلام يرجع إلى الاصول ولكنّ تعيين مجاري الاصول وتقدم بعضها على بعض على أساس فنّ الاصول وضوابطها ينتهي إلى نظره واجتهاده أيضا.

قال الشيخ الأعظم الأنصاري : ان ما سوى نقل الحديث باللفظ أو بالمعنى فلا يجوّزه الأخباريّون ويلحقونه بالقول بالقياس والاستحسان ويعتقدون انّ أرباب الفتاوى خرجوا بذلك عمّا هو المأخوذ عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وزعموا انهم في ذلك تبعوا العامّة في العمل بالرأي والاجتهاد المنهى والاستحسان (١)

وبالجملة : انّ الأخباريين ينادون بأعلى أصواتهم : ان الاجتهاد واستنباط الأحكام استنادا إلى فنّ اصول الفقه وسائر القواعد التي قد صارت معمولة ورائجة من زمن القديمين قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل في أعصار مثل الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي والمحقّق الحلّي والعلّامة وفخر المحقّقين والشهيدين والمحقّق الثاني وشيخنا البهائي واستاذ الكل في الكل المحقّق الخوانساري والاستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني والشيخ الكبير الشيخ جعفر الخضري والمحقّق النراقي والفقيه الأكبر صاحب الجواهر والشيخ

__________________

(١) مطارح الأنظار ص ٢٥٦

١٨

الأعظم الأنصاري والمحقّق النائيني والآية العلّامة السيد حسين الطباطبائي البروجردي وصاحب الثورة الإسلامية الإمام الخميني «قدس الله أسرارهم» كلها أمر منكر شرعا وبدعة وحرام ، ووجّهوا إلى الفقهاء والمجتهدين أنواع اللوم والذمّ وعيّروا أساطين الفقه وحفاظ شريعة سيد المرسلين لذلك.

وقد ذكر في روضات الجنّات في ترجمة محمد أمين الاسترآبادي المتوفّى ١٠٣٣ تسعة وعشرين فرقا بين جماعة المجتهدين والأخباريّين ونحن نذكر بعضا منها :

منها : ان المجتهدين يوجبون الاجتهاد عينا أو تخييرا والأخباريون يحرّمونه ويوجبون الأخذ بالرواية عن المعصوم عليه‌السلام.

منها : انهم يقولون ان الأدلّة عندنا أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل ، والأخباريّون لا يقولون إلّا بالأوّلين بل بعضهم يقتصر على الثاني.

منها : انّ أغلبهم لا يجوّزون تقليد الميّت ، ولكن الأخباريّين يجوّزونه.

منها : انهم يعملون بأصالة الإباحة أو البراءة فيما لا نص فيه ، والأخباريّون يأخذون بطريقة الاحتياط.

منها : انهم يقولون بوجوب اطاعة المجتهد مثل الإمام ، والأخباريّون لا يوجبونها.

منها : انهم يحصرون الرعيّة في صنفين : مجتهد ومقلّد ، والأخباريّون يقولون : الرعيّة كلّها مقلّدة للمعصوم. (١)

__________________

(١) روضات الجنّات ج ١ ص ١٢٠ ـ ١٢٦

١٩

وقد ورد في كلمات الأخباريّين التّشنيع الشديد والافتراء الواضح على الجمّ الغفير من علمائنا امناء الدين وورثة الأنبياء والمرسلين ، ومن أراد الاطّلاع على شطر من ذلك فليراجع الجواهر فإنّه «قدّس سره» قد أظهر تألّمه وتأسّفه البالغين من هذه المأساة المشجية في بحث صلاة الجمعة حيث انه بعد تزييفه لما في الرسالة التي ألّفها الشهيد الثاني لوجوب صلاة الجمعة تعيينا قال :

ولقد وقفت على جملة من الرسائل المصنفة في المسألة (١) نسجوا فيها على منوال هذه الرسالة ، وقد أكثروا فيها من السبّ والشتم خصوصا رسالة الكاشاني التي سمّاها بالشهاب الثاقب ورجوم الشياطين ولو لا انه آية في كتاب الله (٢) لقابلناه بمثله ولكن لا يبعد أن تكون هذه الرسالة وما شابهها من كتب الضلال يجب اتلافها إلّا أن يرجح بقائها انّها أشنع شيء على مصنّفها لما فيها من مخالفة الواقع في النقل وغيره ، بل فيها ما يدلّ على انّهم ليسوا من أهل العلم كي يعتدّ بكلامهم ويعتنى بشأنهم ... (٣)

وفي روضات الجنّات : ان بعضا من الأخباريّين قد ألّف كتابا لتقوية طريقة الأخباريّين وتضعيف طريقة المجتهدين وخاطب في أوّل الكتاب ابنه وقال : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)(٤)!!!

__________________

(١) مراده من الرسائل المصنّفة في المسألة هي الرسائل الّتي صنّفت من قبل الأخباريّين لإثبات وجوب صلاة الجمعة تعيينا.

(٢) الآية ١٢٧ من سورة النحل.

(٣) الجواهر ج ١١ ص ١٧٧

(٤) روضات الجنّات ج ١ ص ١٢٦

٢٠