مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه

آية الله الشيخ حسين النوري الهمداني

مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين النوري الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-230-0
الصفحات: ١٧٦

من هذه الجهة.

ومثله يقال في خبر أبي خديجة المتقدم قال بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام الى اصحابنا فقال : «قل لهم اياكم اذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء ان تحاكموا الى احد من هؤلاء الفساق اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته عليكم قاضيا واياكم ان يخاصم بعضكم بعضا الى السلطان الجائر». (١)

فالنظر فيه ايضا الى المنع الشديد عن الرجوع الى قضاة العامة ولزوم الرجوع الى فقهاء الشيعة وامّا لو وقع الاختلاف في فتاوي فقهاء الشيعة فكيف يكون التكليف فلا نظر اليه حتى يكون له اطلاق يؤخذ به ومثله الأخبار الدالة على الإرجاع الى زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وأبان ابن تغلب وبريد بن معاوية وزكريا ابن آدم ويونس بن عبد الرحمن وامثالهم فان النظر في ارجاعهم عليهم‌السلام اليهم عنايتهم عليهم‌السلام بأن لا يأخذ الشيعة معالم دينهم من غير رواتهم وشيعتهم ويدل عليه ايضا قول أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا فانك ان تعديتهم اخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا اماناتهم انهم ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدّلوه (٢) والنظر فيما عن ابي محمد العسكري عليه‌السلام : «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» (٣) مع الغضّ عن

__________________

(١) الحديث ٦ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ٩٨.

(٢) الحديث ٤٢ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٩.

(٣) الحديث ٢٠ من الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ٩٥.

١٠١

سنده أيضا الى أصل لزوم الرجوع الى الفقهاء من الشيعة المتّصفين بهذه الأوصاف لأن العبارة التي قبلها هكذا ... فان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علمائهم بالكذب الصراح وأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام ... وكذلك عوامنا اذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه الخ. ثم قال عليه‌السلام : في آخره وذلك لا يكون الّا بعض فقهاء الشيعة.

فظهور الخبر في انه في مقام النهي عن الرجوع الى الفساق ولزوم الرجوع الى الفقهاء العدول من الشيعة مما لا يخفى.

وبالجملة الظاهر من الأخبار انها تدل على اصل لزوم الرجوع الى فقهاء الشيعة ولا نظر فيها الى ازيد من ذلك حتى يكون لها اطلاق احوالي بالنّسبة الى كون بعضهم اعلم من بعض.

الثاني : من الأدلة التي استدلّوا بها على جواز تقليد غير الأعلم سيرة المتشرّعة وقالوا بأنها جرت على رجوعهم في المسائل التي يبتلون بها إلى أيّ فقيه يمكن لهم الرجوع اليه من غير ان يفحصوا عن الأعلم أو حتى مع العلم بوجود الأعلم فيما بين الفقهاء الموجودين في عصرهم فلو كان تقليد الأعلم واجبا لزم عليهم الفحص عن وجوده والرجوع اليه فقط.

وقد استدل بهذا الدليل النّراقي في المستند وصاحب الفصول

١٠٢

والعلّامة الكني في كتاب قضائه. (١)

وقال في الجواهر (٢) في عداد الوجوه المستدل بها على جواز تقليد غير الأعلم : وللسيرة المستمرة في الإفتاء والاستفتاء منهم مع تفاوتهم في الفضيلة.

وفيه ان المتيقن من السّيرة ـ حيث انه دليل لبّي ـ صورة العلم بعدم المخالفة وامّا في صورة العلم بالمخالفة بينهما فلم يثبت السّيرة بالرجوع الى غير الأعلم بل الأمر بالعكس ففي هذه الصّورة يرجعون الى الأعلم كما هو المشاهد منهم في غير الأحكام فتريهم اذا عيّن الطبيب دواء لعلاج المريض وخالفه في ذلك من هو أعلم منه لم يعتمدوا برأيه في العلاج بوجه خصوصا اذا كان نظره مخالفا للاحتياط وانّما يتّبعون رأي الأعلم.

الثالث : انه لا ريب ان الأئمة عليهم‌السلام مع وجودهم بين الناس كانوا يرجعون الناس الى اشخاص معيّنين من اصحابهم كزرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم فاذا كانت فتاوي هؤلاء حجّة معتبرة مع وجود نفس الإمام عليه‌السلام كانت فتاوي الفقهاء المفضولين عند وجود الأعلم والأفضل بطريق اولى فان الأعلم لا يزيد عن نفس الإمام عليه‌السلام.

قال في الجواهر : فان الأئمة عليهم‌السلام مع وجودهم كانوا يأمرون الناس بالرجوع الى اصحابهم من زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وغيرهم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يولّي القضاء بعض اصحابه مع حضور

__________________

(١) المستند ج ٢ ص ٥٢١ والفصول ص ٤١٩ وكتاب القضاء للعلّامة الكني ص ٣٠ ـ ٣٦.

(٢) الجواهر ج ٤٠ ص ٤٢ ـ ٤٦.

١٠٣

امير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو اقضاهم قال في الدروس : لو حضر الإمام في بقعة وتحوكم اليه فله ردّ الحكم الى غيره اجماعا انتهى. (١)

وفيه ان ارجاع الأئمة عليهم‌السلام الناس الى امثال هؤلاء الاشخاص من اصحابهم وامثالهم قد كان ممّا لا محيص عنه لانه لا يمكن لهم بأنفسهم الجواب لكل من المراجعين والمستفتين الذين كان يبلغ عددهم آلاف الوف وكانوا يزيدون شيئا فشيئا سيّما مع كونهم في الأقطار المختلفة المتباعدة.

فعن علي بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا عليه‌السلام : «شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : «من زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت اليه». (٢)

وعن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج اليه من معالم ديني أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج اليه من معالم ديني؟ فقال : نعم. (٣)

هذا مع انهم عليهم‌السلام كانوا غالبا محصورين وممنوعين عن الوصول اليهم في شدة التقيّة والابتلاء فعن علي بن سويد السّائي قال : كتب اليّ ابو الحسن عليه‌السلام وهو في السجن : «وأمّا ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك؟ لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا». (٤)

فحينئذ يمكن ان يكون مقصودهم عليهم‌السلام من ارجاع الناس الى امثال

__________________

(١) الجواهر ج ٤٠ ص ٤٦.

(٢) الحديث ٢٧ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٦.

(٣) الحديث ٣٣ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٧.

(٤) الحديث ٤٢ من الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ الوسائل ص ١٠٩.

١٠٤

هؤلاء مضافا الى امكان اخذ الجواب وسهولة تعلم المسائل الشرعية هو ابلاغ جواز الاجتهاد والإفتاء والاستفتاء من غير المعصوم في زمانهم وبمرأى ومنظرهم عليهم‌السلام ليأتلفوا ذلك ولئلّا يتوهّم ان الإفتاء في زمن المعصوم لا يجوز لغيره وقد قال الصادق عليه‌السلام لأبان بن تغلب اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني احب ان يرى في شيعتي مثلك. (١)

وعليه فلا يستفاد من الأخبار الواردة في ارجاعهم عليهم‌السلام الناس الى امثال اصحابهم انه يجوز الرجوع اليهم واخذ فتاويهم حتى في صورة العلم بمخالفة فتواهم مع الإمام عليه‌السلام ليستدل به على ما نحن فيه بالأولوية فان البحث بين القائلين بوجوب تقليد الأعلم والقائلين بعدمه انما هو في صورة مخالفة فتوى غير الأعلم مع فتوى الأعلم لا في جواز افتاء غير الأعلم في مقابل الأعلم اذ لا شكّ في جواز افتائه وكون فتواه حجّة له بنفسه وحرمة تقليده غيره وجواز تقليد الغير له ما لم يخالف فتوى الأعلم لفتواه.

الرّابع : ان وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلفين والعسر والحرج مرفوع في الشريعة المقدّسة وأما كونه عسرا فمن جهات :

١ ـ من جهة تعيين مفهوم الأعلم وقد وقع الكلام فيما هو اللازم في تحقّق الأعلمية من أنواع العلوم ومقدر الحاجة منها.

٢ ـ من جهة تمييز مصداقه فان العامي كيف يمكن له تمييز مصاديقه مع كون الفقهاء منتشرين في البلاد والأقطار.

٣ ـ من جهة تعلّم فتاواه وآرائه مع امكان كونه بالنسبة الى هذا

__________________

(١) فهرست النجاشي ص ٧.

١٠٥

العامي في اقصى نقاط العالم والاستدلال بهذا الدليل قد صدر من الجواهر (١) وصاحب الفصول (٢) والعلّامة الكني في كتاب قضائه (٣) وفيه انه لا عسر في ايّ من الجهات المذكورة امّا من جهة تعيين المفهوم فلوضوح ان المراد به من كان أقوى استنباطا للأحكام وأجود استنتاجا لها من أدلّتها وهذا يتوقف على معرفته بالقواعد والكبريات واتقانه لها واستقامة ذهنه وحسن ذوقه في تطبيقها على صغرياته وردّ الفروع والصغريات على كبرياتها.

وأمّا من جهة تمييز المصاديق فهو كما في بقية الصنائع والعلوم كالهندسة والطب وغيرهما يكون من شأن اهل الفن فهم كما يميزون الأعلم في الطّب والهندسة وغيرهما كذلك اهل الفن والمتخصّصون في فن الفقه يميّزون الأعلم من غيره فالأعلمية نظير غيرها من الامور تثبت بالعلم الوجداني وبالشياع المفيد له وبالبيّنة ولا يمسّه أيّ حرج.

وامّا من جهة تحصيل فتاواه وتعلمها فلأنه يتيسّر بأخذ رسالته مثلا ونشر الرسالة وطبعها قد اصبح في زماننا هذا ومنذ زمن بعيد امرا سهلا وليست فيه شائبة حرج ، مع انه لا يكون حرجا على كل احد والملاك في باب الحرج الرافع للتكليف هو العسر والحرج الشخصي وعليه فيختص عدم الوجوب بمن عليه الحرج والحال ان المدّعى عام وقال المحقق الخراساني في الكفاية مع ان قضية نفي العسر الاقتصار على موضع العسر فيجب فيما لا يلزم منه عسر.

__________________

(١) الجواهر ج ٤٠ ص ٤٢ ـ ٤٦.

(٢) الفصول ص ٤١٩.

(٣) كتاب القضاء للعلّامة الكني ص ٣٠ ـ ٣٥.

١٠٦

هذا تمام الكلام في الوجوه المستدل بها على جواز تقليد غير الأعلم وقد عرفت ضعفها وعدم تماميته شيء منها وامّا الوجوه التي استدل بها على لزوم تقليد الأعلم فقد عرفت قوة الثالث منها وتماميته عندنا هذا مضافا الى انه ان لم يتم شيء من أدلّة الطرفين فلا مناص من الرجوع الى الاصل وقد ذكرنا في مستهلّ البحث ان الاصل الوحيد الذي يكون مرجعا عند عدم تمامية الأدلة الاجتهادية في المقام هو أصالة عدم الحجية ومقتضاه عدم حجية قول غير الأعلم في مقابل قول الأعلم.

١٠٧

المسألة ٤٧ (١) : إذا كان مجتهدان احدهما أعلم في أحكام العبادات والآخر اعلم في المعاملات فالأحوط تبعيض التقليد وكذا اذا كان احدهما اعلم في بعض العبادات مثلا والآخر في البعض الآخر.

______________________________________________________

أقول : يتضح ما ذكره قدس‌سره بذكر امور :

١ ـ انّ سعة علم الفقه وتفنّن أبوابه وتكثّر انشعاباته وفصوله مما لا يخفى على أحد فإنّه من حيث تكفّله لجميع شئون الحياة وبيانه للمعارف والقواعد الكثيرة للامور العبادية والسياسيّة والاقتصادية ونظام الأسرة وسائر الارتباطات البشرية وسيع ومنبسط جدا ومرتبط مع عشرات الآلاف من الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة سلام الله عليهم أجمعين.

٢ ـ اختلاف الاستعدادات والمواهب في الأشخاص الذين يقتحمون هذا المجال الواسع بحسب الخلقة الإلهيّة كثير جدّا.

فيكون أحدهم أكثر اطّلاعا بالمصادر والأخبار المرتبطة بالعبادات

__________________

(١) من العروة.

١٠٨

واكثر تضلّعا في الفروع العباديّة وبعضهم اقدر على الاطّلاع بالضوابط والجهات الاقتصادية ويكون جمع منهم أكثر احاطة بالقواعد الاصولية والكبريات العامّة والجمع الآخر منهم أقدر على الجمع بين متعارضات الرّوايات.

ويكون بعضهم اكثر احاطة على مقتضيات الأزمنة والعصور وبعضهم اعرف بمقتضى الأمكنة المختلفة والمناطق المتشتّتة.

ويكون جمع منهم اوفر اطّلاعا على الجهات السياسيّة في المستوى العالمي او مستوى المناطق الخاصة والجمع الآخر منهم أكثر اطلاعا على اقوال فقهاء العامة في عصر صدور الأخبار من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام وعلى سير كل مسألة من المسائل الفقهية في مسيرها التاريخي في الأدوار والأعصار الماضية.

ويكون بعضهم أخبر بالمسائل المستحدثة والبعض الآخر اعرف بأحوال الرواة وعلم الدراية وهكذا ولجميع ذلك تأثير في كيفيّة الاستنباط ولكل منها مراتب متفاوتة وقد تجتمع المرتبة العليا من كل منها في فرد منهم ـ وان كان قلّ ما يتفق ـ وقد يكون بعضهم أعلم في بعض منها والبعض الآخر منهم في البعض الآخر منها.

٣ ـ مقتضى ما ذكرنا من اصالة التعيينيّة عند الدوران في التخيير والتعيين في باب الحجج والسّيرة العقلائية القائمة على الرجوع إلى الأعلم والأخبر في كل فنّ وباب هو الرجوع إلى الأعلم في كل باب من ابواب الفقه واتّباع الأعلم فيما هو أعلم.

فما في المتن من ان الأحوط التبعيض في التقليد حينئذ إنما يصح

١٠٩

على مبناه «قدس‌سره» وامّا على ما ذكرنا فالأقوى ذلك كما لا يخفى.

لزوم الفحص عن الاعلم في كل باب

ثم ان ما سنذكره من وجوب الفحص عن الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم يأتي هنا ايضا فيجب عليه الفحص لتشخيص الأعلم في احكام العبادات والأعلم في احكام المعاملات والأعلم في الاحكام السياسية وهكذا فان ميزه بعينه في كل مورد من الموارد يجب تقليده بلا كلام والّا فما نذكره هناك من الصّور في الموارد المشتبهة بجميعها يأتي هنا ايضا. والصور هي كما يلي :

١ ـ العلم بالتفاضل مع العلم بالاختلاف بينهما في الفتوى.

٢ ـ الجهل بالتفاضل مع العلم بالاختلاف بينهما في الفتوى.

٣ ـ العلم بالتفاضل مع الجهل بالاختلاف في الفتوى.

٤ ـ الجهل بهما معا.

فعلى ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري (١) وصاحب المفاتيح (٢) والعلّامة الحكيم (٣) والآية الخوئي «قدّس الله أسرارهم» (٤) في مسألة وجوب الفحص وسيأتي ان شاء الله تعالى انما يجب الفحص في الصورتين فقط وهما صورتا العلم بمخالفة فتوى احدهما مع الآخر وامّا

__________________

(١) رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ص ٨٠ ـ ٨١.

(٢) رسالة تقليد الأعلم للعلّامة الميرزا حبيب الله الرشتي ص ٦٥.

(٣) المستمسك ج ١ ص ٣٠.

(٤) التنقيح ج ١ ص ١٥٩ ـ ١٦٠.

١١٠

مع عدم العلم بالمخالفة فيجوز التقليد من أيّ واحد منهما من دون فحص وامّا على ما سيأتي منّا في تلك المسألة فيجب الفحص في جميع الصّور الأربع المذكورة.

وحيث انجرّ الكلام الى التّبعيض في التقليد ينبغي التّنبيه على أمر وهو انّ التبعيض في التقليد في الامور المستقلة ـ سواء أكانت في المسائل السياسيّة أو الاقتصادية أو العبادية أو الاجتماعية مما لا بحث فيه ولا كلام فيقلد في بعض المسائل منها مجتهدا وفي البعض الآخر منها مجتهدا آخر وامّا اذا كان العمل عملا واحدا مركّبا ذا اجزاء مرتبطة بعضها مع بعض فهل يصح ايضا التبعيض ففيه خلاف.

قال في العروة في المسألة ٦٥ من مسائل الاجتهاد والتقليد في صورة تساوي المجتهدين يتخيّر بين تقليد ايّهما شاء كما يجوز له التبعيض حتى في احكام العمل الواحد حتى إنّه لو كان مثلا فتوى احدهما وجوب جلسة الاستراحة واستحباب التثليث في التسبيحات الأربع وفتوى الآخر بالعكس يجوز ان يقلّد الأوّل في استحباب التثليث والثاني في استحباب الجلسة.

والتحقيق ان اللازم في المقام هو الرجوع الى الأدلة الدالة على جواز التقليد للعامي وانها بعد دلالتها على الجواز في التبعيض في الأعمال المستقلة هل تدلّ على جواز التبعيض في التقليد في اجزاء العمل الواحد وفي شرائطه كالصلاة مثلا؟ بان يقلّد في حكم بعض اجزائها كجلسة الاستراحة عن بعض وفي البعض الآخر منها كتعداد التسبيحات الأربع في الركعة الثالثة والرابعة عن بعض آخر أو في بعض الأجزاء عن

١١١

بعض وفي حكم بعض الشرائط كحكم اللباس المشكوك عن آخر.

وعلى تقدير دلالتها على جواز التّبعيض في التقليد في العمل الواحد هل يلزم عليه مراعاة عدم أدائه الى بطلان العمل على كلا القولين أو الأقوال ام لا؟

فلو كان هناك مجتهدان احدهما يقول بعدم جواز الصلاة في اللباس المشكوك والآخر يقول بالجواز فيه فقلد الأول في جميع مسائل الصلاة الّا مسألة اللّباس المشكوك وفيها فقط قلّد الثاني وصلّى في اللباس المشكوك فلا اشكال حينئذ في البين لان صلاته على قول المجتهد الثاني صحيحة ولكنّه لو كان احدهما قائلا بجواز ترك جلسة الاستراحة والآخر قائلا بجواز الاكتفاء بتسبيحة واحدة في الركعة الثالثة والرابعة (ولكن الأول قائل بوجوب التسبيحات ثلاثا والثاني قائل بوجوب جلسة الاستراحة) فقلّد الأول في مسألة جلسة الاستراحة والثاني في مسألة التّسبيحات الأربع فاتي بصلاة مع ترك جلسة الاستراحة ومع التسبيحات الأربع مرّة واحدة فكل من المجتهدين المذكورين يرى ان هذه الصلاة باطلة امّا الأول فلترك التسبيحات ثلاثا ، وامّا الثاني فلترك جلسة الاستراحة.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام من الفقهاء المعاصرين كالسيد الفقيه الجليل صاحب العروة واكثر محشيها في المسألة الخامسة والستين من مسائل الاجتهاد والتقليد المذكورة فعلى قول صاحب العروة وجمع من محشّيها لا يلزم مراعاة عدم الأداء الى بطلان العمل على كلا القولين وانه يجوز التبعيض في التقليد مطلقا وجمع آخر منهم كالإمام الخميني والآيات الخوئي والگلبايگاني والميلاني والخوانساري

١١٢

«نوّر الله مضاجعهم» ذهبوا الى لزوم مراعاة ذلك.

وعن تقريرات درس الآية الخوئى «قدس‌سره» : والوجه في ذلك ان صحة كل جزء من الأجزاء الارتباطيّة مقيّدة بما اذا أتى بالجزء الآخر صحيحا فمع بطلان جزء من الأجزاء الارتباطيّة تبطل الأجزاء بأسرها وان شئت قلت ان صحة الأجزاء الارتباطيّة ارتباطيّة فاذا أتى بالصلاة فاقدة للسّورة (المفروض في كلامه افتاء احد المجتهدين بجواز ترك السورة والآخر بالاكتفاء بالمرّة الواحدة في التسبيحات الأربع) مع الاكتفاء بالمرّة الواحدة في التسبيحات الأربع واحتمل بعد ذلك بطلان ما أتى به لعلمه بانه خالف أحد المجتهدين في عدم اتيانه بالسورة كما خالف احدهما الأخر في اكتفائه بالمرّة الواحدة في التسبيحات الأربع فلا محالة يشك في صحة صلاته وفسادها فلا مناص من ان يحرز صحتها ويستند في عدم اعادتها الى الحجة المعتبرة لأن مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإعادة وبقاء ذمّته مشتغلة بالمأمور به لبطلانها عند كليهما وان كانا مختلفين في مستند الحكم بالبطلان لاستناده عند احدهما الى ترك السورة متعمدا ويراه الآخر مستندا الى تركه التسبيحات الأربع ثلاثا ومع بطلانها عند كلا المجتهدين وعدم افتائهما بصحة الصلاة لا بد للمكلف من اعادتها وهو معنى بطلانها. (١)

واللازم في المقام كما ذكرناه هو البحث في المبنى ومقتضاه الرجوع الى الأدلة الدالة على جواز تقليد العامي للفقيه والعمدة فيه على ما تقدّم السيرة القائمة على لزوم رجوع الجاهل الى العالم والظاهر انها كما تدل

__________________

(١) التنقيح ج ١ ص ٣٠٥ ـ ٣٠٧.

١١٣

على جواز التبعيض في التقليد في الأعمال المستقلة كذلك تدل على جواز التبعيض في التقليد في الأعمال المركّبة فكما يجوز للعامي ان يقلّد في مسائل الصلاة عن زيد وفي مسائل الزكاة عن عمرو كذلك يجوز له التقليد في بعض اجزاء الصلاة عن زيد وفي بعضها الآخر عن عمرو وبعد قيام الحجّة على جواز التّبعيض في التقليد يكون العمل الواحد المركّب كالأعمال المتعددة المستقلة في الاستناد في كل مسألة الى الحجة المعتبرة وهي قول المجتهد وبعد الاستناد الى الحجة في ترك جلسة الاستراحة وفي الإتيان بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة فلا مورد لإجراء قاعدة الاشتغال والحكم ببقاء ذمته مشغولة بالمأمور به ، إذ لا مقتضى لاعتبار ان يكون كل جزء منه صحيحا في نظر المجتهد الواحد وبالجملة بعد البناء على جواز التبعيض في التقليد وشمول الدليل للتبعيض في الأعمال المستقلة والمركبة لا وجه لاعتبار عدم أداء التبعيض إلى بطلان العمل على كلا القولين أو جميع الأقوال والارتباط الذي ذكره في كلامه لا دليل على اعتباره نعم لا ريب ان الارتباط بين الأجزاء في مثل الصلاة بمعنى اعتبار كل واحد من الأجزاء في صحة الأجزاء الأخر لازم والمفروض ان الصحة في كل جزء بحسب استناده الى الحجة المعتبرة حاصلة.

نعم إذا كان التبعيض في التقليد موجبا لحصول العلم التفصيلي بالبطلان لا يجوز.

وذلك فيما اذا كانت الملازمة الواقعيّة بين المسألتين موجودة فاذا كان احد المجتهدين اعلم في مسائل الصلاة والآخر اعلم في مسائل الصوم وقلّد كلا منهما فيما هو اعلم به وكانت فتوى احدهما قصر الصلاة

١١٤

والصوم فيما لو سافر اربعة فراسخ ولم يرجع ليومه وكانت فتوى الآخر اتمام الصلاة وصحة الصوم في الفرض المذكور ولازم التقليد بهذا النحو قصر الصلاة واتمام الصيام في السفر المذكور وهو مخالف لما دل على الملازمة بين تقصير الصلاة وافطار الصّيام ففي صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «هذا واحد إذا قصّرت افطرت وإذا افطرت قصّرت (١) وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : «وليس يفترق التقصير والإفطار فمن قصّر فليفطر» (٢) ويحصل حينئذ العلم التفصيلي بالبطلان من ناحية التبعيض في التقليد فاللازم في مثله هو العمل بالاحتياط وان لم يمكن فالتخيير.

__________________

(١ و ٢) الوسائل ج ٧ ص ١٣٠ الحديث ١ و ٢ من الباب ٤ من أبواب من يصحّ منه الصوم.

١١٥

ويجب الفحص عنه (١)

وهل يجب الفحص عن الأعلم؟

ثم انه إذا ميّز الأعلم فلا كلام وامّا إذا لم يميّزه بعينه ففي المسألة صور :

الاولى : العلم بالتّفاضل مع العلم بمخالفة فتوى البعض لبعض آخر.

الثانية : العلم بالتفاضل مع الجهل بالاختلاف بينهما في الفتوى.

الثالثة : الجهل بالتفاضل مع العلم بالاختلاف بينهما في الفتوى.

الرابعة : الجهل بهما جميعا.

وامّا الصورة الأولى فان اراد المكلّف الاحتياط في الجمع بين الفتويين وكان الاحتياط ايضا ممكنا كأن كان مسافرا لأربعة فراسخ ولم يرد الرجوع ليومه فافتى احدهما بوجوب القصر والآخر بوجوب الإتمام وهو يريد الجمع بين القصر والإتمام لا يجب عليه حينئذ الفحص عن اعلمهما لأنّه عامل بالاحتياط ولا يجب التقليد في المسألة وامّا اذا لم يرد

__________________

(١) العروة فصل الاجتهاد والتقليد.

١١٦

الاحتياط وجب عليه الفحص عن الأعلم فلو عمل بفتوى احدهما من غير فحص عن اعلميّته لم يحصل له القطع بفراغ ذمّته لاحتمال ان يكون الأعلم غيره فمقتضى حكم العقل بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني دفعا للضرر المحتمل هو لزوم الفحص عن الأعلم ليستند في عمله الى الحجة.

وما يرى في بعض العبارات (١) من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بحيث يرسلونه ارسال المسلمات فالظاهر عدم جريانه فيما نحن فيه لأن القول بعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية انما يصح اذا كان المورد من باب الشك في التكليف وامّا فيما نحن فيه حيث كان المفروض اشتغال ذمّته بالواقع فيجب في مقام الخروج عن العهدة الاستناد الى الحجة ليحصل له الفراغ اليقيني ولا يحصل هذا الّا بالعمل بفتوى الأعلم فيجب الفحص عن الأعلم وجوبا عقليّا ارشاديّا الى عدم وقوع المكلف في معرض احتمال المخالفة والعقاب.

ثم اذا فحص عن الأعلم وميّزه بشخصه يأخذ فتواه ويعمل بها وامّا اذا فحص بقدر الإمكان ولم يحصل له التمييز فان كان الاحتياط في المسألة ممكنا وجب عليه العمل به لتنجّز الأحكام الواقعية عليه وانحصار طريق امتثالها ـ ان لم يرد العمل بالاحتياط ـ بفتوى الأعلم والمفروض انه مردّد بين اثنين أو أكثر فيجب عليه الاحتياط تحصيلا للعلم بالموافقة ـ على ما هو الحال في موارد العلم الإجمالي واشتباه الحجة بلا حجّة.

وامّا اذا لم يمكن الاحتياط كأن افتى احدهما بوجوب شيء والآخر

__________________

(١) منها في التنقيح ج ١ ص ١٦١

١١٧

بحرمته فيتخيّر بينهما للعلم بوجوب تقليد الأعلم وهو مردّد بين شخصين أو اشخاص من غير ترجيح لبعضهم على بعض.

ومما ذكرنا ظهر حكم الصورة الثالثة ـ اذ هي تشترك مع الاولى في العلم بالاختلاف بينهما في الفتوى ـ وحيث يحتمل فيها أعلمية احدهما يلزمه الفحص لانه لو كان احدهما اعلم من الآخر واقعا كان قوله هو الحجة عليه دون قول الآخر وقد قلنا ان الشك في مثل المقام لا يكون شكا في أصل التكليف ، لأن التكليف بالأحكام الواقعية قد ثبت عليه وتنجز بسبب علمه الإجمالي وعليه الامتثال واليقين بالفراغ وهو لا يحصل الّا بالعمل استنادا الى الحجة وحينئذ فان تفحّص وثبت له انهما متساويان في الفقاهة يتخيّر في الأخذ بقول ايّهما شاء وان ثبت اعلمية احدهما بعينه يأخذ بفتواه دون فتوى الآخر وان ثبت أعلمية احدهما لا بعينه فعليه الأخذ باحوط القولين ان كان والّا فالعمل بالاحتياط وان لم يمكن فالتخيير.

وامّا الصورة الثانية وهي صورة العلم بالتفاضل مع الجهل بمخالفة فتوى احدهما لفتوى الآخر فهل يجب فيه الفحص لتمييز الأعلم بينهما لتقليده ام لا يجب عليه الفحص وله تقليد اي منهما شاء؟ وجهان بل قولان :

فيظهر من الشيخ الأعظم الأنصاري في رسالته المعمولة في الاجتهاد والتقليد والعلّامة الحكيم في المستمسك والآية الخوئى على ما في تقريرات درسه الشريف الذهاب الى الأوّل وعدم وجوب الفحص وذهب صاحب الفصول الى الثاني قال الشيخ الأعظم الأنصاري : (هذا

١١٨

كلّه مع العلم بالاختلاف «يعني ان وجوب الفحص انما يجب مع العلم بالاختلاف في الفتوى» وان لم يعلم مخالفة الأعلم لغيره فالأصح جواز تقليد غيره وان كان ظاهر جماعة تعين الأعلم في هذه الصورة ايضا لكن استدلال كثير منهم بقوة الظن في جانب الأعلم يدل على اختصاصه بصورة المخالفة والظاهر اختصاص الإجماع المدّعى بهذه الصورة «اي بصورة العلم بمخالفة فتوى الأعلم لفتوى غير الأعلم» وأوضح من ذلك كله اختصاص المقبولة واخواتها بذلك «خبر داود بن الحصين وموسى بن اكيل النميري الحديث ٢٠ و ٤٥ من الباب ٩ من أبواب صفات القاضي اي اختصاصها بصورة العلم بالمخالفة» بل ظاهر جواز الرجوع الى مطلق العالم بالأحكام كمشهورة أبي خديجة.

وبالجملة فالظاهر ان فتوى الفقيه حجة بالنسبة الى المقلد فإن عارضتها حجة اخرى يلزم اعمال المرجح وان لم يعلم له مرجح جاز له العمل به لقيام المقتضى وعدم ثبوت المانع والفحص عن المعارض غير لازم كما يلزم على المجتهد في العمل بالروايات للعلم الإجمالي فيها بغلبة المعارض بل قلّما يوجد خبر سليم عن معارض من خبر أو غيره عام أو خاص أو مساو فيلزم من عدم الفحص عن المخصص الهرج والمرج ولا يلزم مثله في فتاوي المجتهدين لتوافق المجتهدين الموجودين في عصر في اغلب المسائل وان كان الخلاف ايضا كثيرا لكن لا اعتبار به ما لم يصر من قبيل الشبهة المحصورة بالنسبة الى المقلد الواحد فيما يريد تقليد المجتهد فيها من المسائل والّا فمجرد العلم الإجمالي بتخالف المجتهدين في بعض المسائل لا يقدح في الرجوع الى اصالة عدم المعارض ولا يوجب الفحص

١١٩

عن المعارض على المقلد.

نعم ربّما يدعى انه لا دليل على ان قول المجتهد في نفسه حجة مطلقا ليكون اللازم التعارض في فتوى الأعلم وغيره لم لا يكون الحجة هي فتوى اعلم الناس في كل زمان من دون ان يكون فتوى غيره حجة وحينئذ فيجب الفحص عن فتوى الأعلم التي هي الحجة لا غير لكن الظاهر انه خلاف الظاهر المستفاد من الأدلة انتهى. (١)

وظاهره كما ترى عدم وجوب الفحص عن المعارض (وهو فتوى الأعلم المخالفة لفتوى غير الأعلم) وجواز تقليد غير الأعلم في صورة العلم بأعلمية بعض الفقهاء من بعض استنادا الى ظواهر الأدلة الدالة على جواز الرجوع الى العالم بالأحكام والى اصالة عدم المعارض وظاهر أواخر كلامه ابتناء البحث في وجوب الفحص وعدمه على انه لو كان مفاد الأدلة هو حجية فتوى اعلم الناس في كل زمان وان غيرها لا يكون حجة يجب الفحص عن فتوى الأعلم التي هي الحجة لأنه يكون حينئذ من باب اشتباه الحجة باللاحجة ولو كان مفادها حجية كلتيهما ذاتا وان فتوى الأعلم اذا كانت مخالفة لفتوى غير الأعلم لا يجب الفحص ويؤخذ بفتوى أيّ فقيه في صورة الجهل بالمخالفة لأصالة عدم المعارض وقال : ان الظاهر انّ المستفاد من الأدلة هو الثاني.

وقال العلّامة الحكيم في المستمسك : ان مقتضى اطلاق ادلة الحجية حجية كل واحدة من الفتويين واحتمال الاختلاف بين الفتويين الموجب لسقوط الإطلاق عن الحجية لا يعتني به في رفع اليد عن الإطلاق كما في

__________________

(١) رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ص ٨٠ ـ ٨١.

١٢٠