تراثنا ـ العدد [ 124 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 124 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٤٩٤

إعادة الكلام. كما تقدّم الكلام قبل قليل عن العفو.

حقيقة التوبة :

ذهب الشريف المرتضى إلى أنّ التوبة ـ والتي تعني الندم على الفعل القبيح ، والعزم على أنّ لا يعود الفاعل إلى فعله القبيح(١) ـ لا تزيل العقاب على نحو الوجوب ، وإنّما تزيله من باب التفضّل من الله تعالى ؛ وذلك لدلالة الإجماع والسمع(٢) ، أي أنّه عند التوبة لا يجب زوال العقاب ، وإنّما يتفضّل الله تعالى بإزالته.

وهذا الكلام يتلائم مع ما تقدّم من أنّ التوبة ليست من مسقطات العقاب عند المرتضى ، وإنّما المُسقِط الوحيد للعقاب هو عفو مَن بيده العفو ، وهو الله تعالى في محلّ كلامنا.

وبذلك يختلف الشريف المرتضى مع المعتزلة مرّة أخرى ، حيث ذهبوا إلى أنّ التوبة تُسقِط العقاب وتحبطه على نحو الوجوب ، فتكون من وجهة نظرهم من مسقطات العقاب.

وقد رفض الشريف المرتضى أن تكون التوبة مسقطة للعقاب بنفس الطريقة التي رفض بها التحابط ، فقال : إنّه لا تنافي ولا تضادّ بين التوبة في نفسها وبين العقاب ، فكيف تبطل ما لا تنافيه ولا تضادّه؟!

__________________

(١) الذخيرة ، ص٣٢٠.

(٢) المصدر السابق.

٦١

إضافةً إلى أنّ العقاب المُستحَقّ أمر معدوم ، والتوبة موجودة ، والموجود لا يبطل المعدوم(١). وهذه نفس الطريقة التي أبطل بها التحابط كما تقدّم.

واستدلّ المعتزلة على أنّ التوبة تزيل العقاب وجوباً بأدلّة ناقشها المرتضى كلّها ورفضها ، منها : إنّ التوبة إذا لم ترفع العقاب وجوباً ، لأدّى ذلك إلى قبح تكليف الفاسق بعد فسقه ؛ لأنّ التكليف إنّما يحسن تعريضاً للثواب ، والفاسق إذا استحق العقاب فإنّه لا يجوز أن يستحقّ الثواب ، فينبغي على ذلك أن تكون له طريقة للتخلّص من العقاب لكي ينتفع بما عُرِّض له من الثواب على الطاعة ، ولا طريق سوى التوبة ، فلابدّ أن تُسقِط العقابَ وجوباً(٢).

من الواضح أنّ هذا الدليل ناشي من تشبُّع روح المعتزلة بفكرة التحابط والتنافي بين الثواب والعقاب ، بحيث إذا استحقّ الإنسان العقاب بسبب فسقه ، فإنّ هذا العقاب سوف لن يفسح المجال لأيّ ثواب ، وذلك بسبب التعارض والتنافي بينهما ، فلابدّ أوّلا من زوال العقاب من خلال التوبة ، حتّى يُفسَح المجال أمام استحقاق الثواب.

ولهذا رفض الشريف المرتضى هذا الاستدلال من خلال مناقشة الصغرى ، فإنّه مَن قال إنّ الفاسق المُستحِقّ للعقاب لا يمكنه أن يحصل على

__________________

(١) الذخيرة ، ص٣١٦ ـ ٣١٧.

(٢) المغني (التوبة) ، ج١٤ ، ص٣٤٠ ؛ الذخيرة ، ص٣١٧.

٦٢

شيء من الثواب؟ إنّ هذا أوّل الكلام ، وهو محلّ النزاع ؛ فإنّ المرتضى يرى أنّه لا يستحيل اجتماع استحقاق الثواب والعقاب معاً وفي آن واحد ، كما تقدّم عند البحث عن إبطال التحابط(١).

حقيقة الشفاعة :

اختلف الشريف المرتضى مع المعتزلة أيضاً حول حقيقة الشفاعة ، فالشفاعة عنده تعني إسقاط العقاب عن مُستحِقّه ، ولكن هذا الإسقاط ـ كما تقدّم في التوبة ـ ليس واجباً على الله تعالى ، بل هو تفضّل منه(٢). وبذلك يتّضح ما تقدّم من أنّ المُسقِط الوحيد للعقاب هو عفو مَن بيده العفو ، أمّا التوبة والشفاعة فليستا إلاّ شروطاً أو مقدّمات للعفو والتفضّل بإسقاط العقاب.

أمّا المعتزلة فلم يعرّفوا الشفاعة بذلك أي إسقاط العقاب ، وذلك لأنّهم قسّموا المعاصي إلى كبائر وصغائر ، أمّا الكبائر فعقابها لا يسقط برأيهم أبداً ، بل صاحبها مخلّد في النّار ، وأمّا المعاصي الصغيرة فيمكن أن يرتفع عقابها من خلال إحباطه وإزالته ، وبذلك لم تبقَ لهم حاجة بحسب الظاهر إلى تفسير الشفاعة بسقوط العقاب.

أمّا الشفاعة الواردة في الآيات والروايات ففسّروها بزيادة المنافع

__________________

(١) الذخيرة ، ص٣١٧.

(٢) المصدر السابق ، ص٥٠٥ ؛رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج١ ، ص١٥٠.

٦٣

والدرجات ، وذهبوا إلى أنّ الشفاعة ترفع من منزلة المشفوع له.

لكن أشكل الشريف المرتضى على هذا التعريف للشفاعة بأنّه يلزم منه أن نكون شفعاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا دعونا الله تعالى له بزيادة الدرجات ، ومن الواضح أنّه لا أحد يرضى بتسمية الأشخاص العاديّين شفعاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ، لا لفظاً ولا معنىً(١).

واستدلّ الشريف المرتضى على تعريفه للشفاعة من خلال الحديث النبويّ المشهور : «ادخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي»(٢) ، فإنّه دلّ على أنّ الشفاعة خاصّة بأهل المعاصي والعقاب ، وذلك لأجل إسقاط العقاب عنهم ، لا رفع منزلتهم(٣).

نتيجة البحث

الإيمان عند المرتضى هو التصديق القلبي ، والكفر هو الجحود القلبي ، ولا عبرة باللفظ والفعل ، نعم قد تعتبر بعض الأفعال ـ مثل السجود للشمس ـ علامة على الكفر. وأمّا الفسق فهو ارتكاب المعاصي مطلقاً ، من دون تمييز بين الصغيرة والكبيرة.

__________________

(١) الذخيرة ، ص٥٠٥ ؛ رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج١ ، ص١٥٠.

(٢) المعجم الأوسط ، ج٦ ، ص١٠٦.

(٣) الذخيرة ، ص٥٠٧ ؛ رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج١ ، ص١٥١.

٦٤

أمّا حكم المؤمن فهو الخلود في الجنّة ، وقد كان يرى المرتضى أنّ الثواب إذا ثبت فإنّه لا يزيله شي ، وإنّ المؤمن لا يمكن أن يكفر أبداً. وحكم الكافر الخلود في جهنّم. وأمّا حكم الفاسق فهو انقطاع عقابه ـ لو حصل ـ وجوباً ، وذلك لأنّ إيمانه يدعوه إلى الجنّة.

وأخيراً ذهب الشريف المرتضى إلى أنّ المُسقِط الوحيد للعقاب هو عفو مَن بيده العفو.

٦٥

المصادر

١ ـ الإفصاح في الإمامة : الشيخ المفيد ، تحقيق : مؤسسة البعثة ، الناشر : دار المفيد ـ بيروت ، ط٢ ، ١٤١٤ ـ ١٩٩٣.

٢ ـ الانحرافات الكبرى ، سعيد أيوب : الناشر : دار الهادي ـ بيروت ، ط١ ، ١٤١٢ ـ ١٩٩٢.

٣ ـ أوائل المقالات : الشيخ المفيد ، تحقيق : الشيخ إبراهيم الأنصاري ، الناشر : دار المفيد ، قم ، ١٤١٤ ـ ١٩٩٣.

٤ ـ التوحيد : الشيخ الصدوق ، تحقيق : هاشم الحسيني الطهراني ، الناشر : منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم.

٥ ـ الذخيرة في علم الكلام : الشريف المرتضى ، تحقيق : السيد أحمد الحسيني ، الناشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم ، ١٤١١.

٦ ـ رسائل الشريف المرتضى : تقديم وإشراف : السيد أحمد الحسيني ، إعداد : السيد مهدي الرجائي ، دار القرآن الكريم ، قم ، ط١ ، ١٤٠٥.

٧ ـ شرح الأصول الخمسة : القاضي عبد الجبار ، تعليق : أحمد بن الحسين بن أبي هاشم ، عُني به : سمير مصطفى رباب ، الناشر : دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، ط ١ ، ١٤٢٢ ـ ٢٠٠١.

٨ ـ شرح جُمل العلم والعمل : الشريف المرتضى ، تحقيق : يعقوب الجعفري المراغي ، الناشر : دار الأسوة ، قم ، ط١ ، ١٤١٤.

٦٦

٩ ـ فِرَق تسنن (مجموعة بحوث بالفارسية) : اعداد : مهدي فرمانيان ، الناشر : نشر أديان ، قم ، ط١ ، ١٣٨٦ش.

١٠ ـ الفصول المختارة من العيون والمحاسن : الشريف المرتضى ، الناشر : المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ، ط١ ، ١٤١٣.

١١ ـ الكامل في اللغة والأدب : أبو العباس المبرّد ، تحقيق : جُمعة حسن ، الناشر : دار المعرفة ـ بيروت ، ط١ ، ١٤٢٥ ـ ٢٠٠٤.

١٢ ـ لسان العرب : محمّد بن مكرم ابن منظور الأنصاري ، الناشر : نشر أدب الحوزة ، قم ، ١٤٠٥.

١٣ ـ معجم مقاييس اللغة : أبو الحسين أحمد ابن فارس ، ، تحقيق : عبد السلام محمد هارون ، الناشر : مركز النشر ـ مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، ١٤٠٤ق.

١٤ ـ المعجم الأوسط : الحافظ الطبراني ، تحقيق : قسم التحقيق بدار الحرمين ، الناشر : دار الحرمين ، ١٤١٥ ـ ١٩٩٥.

١٥ ـ المغني في أبواب التوحيد والعدل (التوبة) ، ج١٤ : القاضي عبد الجبّار الهمذاني ، راجعه : د. ابراهيم مدكور ، حقّقه : مصطفى السقا ، إشراف : د. طه حسين.

١٦ ـ مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين : أبو الحسن الأشعري ، ، عُني

بتصحيحه : هلموت ريتر ، الناشر : منشورات فرانز شتاينر ـ فيسبادن ، ط٣ ، ١٤٠٠ ـ ١٩٨٠م.

١٧ ـ الملل والنحل : محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، تحقيق : محمد سيد كيلاني ، الناشر : دار المعرفة ـ بيروت.

١٨ ـ المنقذ من التقليد : الشيخ سديد الدين الحمّصي الرازي ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشرالإسلامي ـ قم ، ط١ ، ١٤١٤ق.

٦٧

ملامح منهج الشريف المرتضى في التفسير

(كتاب الأمالي أنموذجاً)

د. محمّد حسن محيي الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة :

شهدت بغداد في المئة الرابعة الهجريّة عصراً مجيداً من عصور تطوّرها ، فارتفعت فيها منارات العلم ، وكانت مدينة العلم ومثابة العلماء والأدباء والكتّاب ، وفي تلك الحقبة النادرة من تاريخ العلوم ، وفي ذلك العصر «الحالي بأزاهير الفنون والآداب ، وفي تلك الدولة التي قام في أكنافها العلماء والشعراء عاش الشريف المرتضى علي بن الحسين وأخوه الشريف الرضي محمّد بن الحسين ، واتخذا مكانهما بين ذوي المثالة ، وأعيان الشرف والفضيلة من الأعلام»(١).

__________________

(١) الأمالي (غرر الفوائد ودرر القلائد) المقدمة : ١ / ٤.

٦٨

وقد أسماه والده (عليّاً) «ولعلّ ذلك تيمّناً باسم جدّه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إذ قد عرف بعد أن كبر بالمرتضى ، وهو لقبٌ للإمام عليّ بن أبي طالب من بين أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام»(١).

وصف المعرّيُّ الأخوين في رثائه لأبيهما (ت٤٠٠هـ) بقصيدته التي مطلعها :

«أوْدَى فليْتَ الحادثات كفَافِ

مالُ المسيفِ وعنبرُ المستافِ

فقال:

أبقيتَ فينا كوكَبيْن سناهما

في الصبحِ والظلماءِ ليسَ بِخَافِ

متأنّقَيْن وفي المكارم أرتعا

متألّقَين بسؤدد وعفافِ

قدَرَينِ في الأرزاءِ بل مطريَنِ في الـ

ـأجدَاءِ ، بل قمرَين في الإسدافِ

رُزِقَا العلاءَ فأهـلُ نجْـد كلَّمَا

نَطَقَا الفصاحةَ مثلَ أَهلِ ديافِ(٢)

ساوى الرضىُّ المرتضى وتَقَاسَمَا

خططَ العُلا بتناصف وتصافِ»(٣)

«أمّا أبوه فقد حلاّه المؤرّخون بألقاب كثيرة ، فهو الأجلّ الطاهر الأوحد ، ذو المناقب الحسين بن موسى بن محمّد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم عليه‌السلام سابع أئمّة الإمامية ، وأمّا أمّه فهي فاطمة بنت الحسن نقيب العلويّين في بغداد ابن أحمد بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر

__________________

(١) أدب المرتضى : ٦٣.

(٢) دياف : موضع فيه نبط لا فصاحة لهم.

(٣) سقط الزند : ٣٥.

٦٩

الأشرف بن زين العابدين عليه‌السلام رابع أئمّة الإماميّة»(١).

كان مولد السيّد المرتضى ببغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمئة ، وقد ذهبت به أمّه مع أخيه الرضي إلى الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد وهما في سنّ الحداثة ، ويرى محقّق الأمالي أنّه كان «أعظم الشيوخ الذين تأدّب بهم وأفاد منهم»(٢).

وقد روي عن تعليمهما «أنّ الشيخ المفيد رأى في حلمه أنّ فاطمة الزهراء عليها‌السلام بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين فأسلمتهما إليه وقالت : علّمهما الفقه ، فانتبه الشيخ عجباً ...»(٣).

درس الأدب على ابن نباتة .. حتّى إذا بلغ السابعة والعشرين من عمره عُدَّ مرجعاً فقهيّاً وكلاميّاً ، وبدأ الإمامية وغيرهم يتوجّهون إليه بالكتب والرسائل في علمَي الفقه والكلام من مختلف البلاد المسلمة(٤).

وفاته :

كانت وفاته سنة (٤٣٦هـ) «ودفن في مساء اليوم الذي توفّي فيه ،

__________________

(١) أدب المرتضى : ٦٣ ـ ٦٥ ، وينظر مصادر ترجمته فيه.

(٢) الأمالي ، المقدّمة : ١/٦.

(٣) أدب المرتضى : ٧٦ ، وانظر مصادره في ذلك وتعقيبه على الحلم الآخر في المصدر نفسه :٦٨.

(٤) المصدر السابق : ٦٩.

٧٠

فانطوى بموته عَلَمٌ من أعلام القرن الخامس الهجري ببغداد»(١).

كتابه الأمالي :

عدّ محقّقُ أماليه من مؤلّفاته ما زاد على السبعين(٢) ، بينها كتابه الموسوم غرر الفوائد ودرر القلائد الذي شاع إطلاق اسم الأمالي عليه ، وقد طبع بمجلّدين كبيرين وهو : «مجالس مختلفة ، أملاها في أزمان متعاقبة ، تنقّل فيها من موضوع إلى موضوع ، ومن غرض إلى غرض ، اختار بعض آي القرآن الكريم ، ممّا يغمّ تأويله على الخاصّة ، بَلْهَ العامة ، ويدور حولها السؤال ، ويثار الإشكال ، وعالج تأويلها وتوجيهها على طريقة أصحابه من المعتزلة(٣) وأصحاب العدل(٤) كما كان يسمّيهم ، وحاول جهده أن يوفّق بين تأويل الآيات المتشابهة وما دار على ألسنة العرب من نصوص الشعر واللغة ، وفي هذا أبدى تفوّقاً عجيباً ، وأبان عن ذهن وقّاد ، وذكاء ملتهب ، وبصر نافذ ، وأعانه فيما فسّر وأوّل وفرةُ محفوظه من الشعر واللغة ، ومأثور

__________________

(١) المصدر السابق : ٧٦.

(٢) الأمالي ، المقدّمة : ١/١٨.

(٣) كون السيّد المرتضى على طريقة المعتزلة ، مسألة أثارت كثيراً من تباين الرأي ، وكانت من الملاحظ التي وردت على كتاب د. عبد الرزاق محيي الدين (أدب المرتضى) وبعضها نشر ، وبعضها مخطوط بأقلام أصحابه لدىّ من بعضه نسخ مصوّرة لا أجد أنّ البحث يتّسع لإيرادها هنا.

(٤) وفي هذا ما يرد على القائل : أنّ المرتضى من أصحاب المعتزلة، فليس المعتزلة وحدهم من القائلين بالعدل، فقد سبقهم الإمامية إلى القول بذلك.

٧١

الكلام»(١).

وقد ضمّت الأمالي إلى جانب التفسير علوماً أُخر من قبيل اللغة والشعر ، والنقد الأدبي ، زيادة على ما فيها من الأخبار النادرة والطرائف المستملحة في عرض شائق وأسلوب متين ينبئ عن مقدرة الرجل وحسن تأتّيه ، وأبرز ما تكشف عنه تلك الأخبار قدرته على التحرّي والتدقيق ، والإطلاع الواسع ، الذي ينمّ عن ثقافة موسوعيّة واضحة ، ونفس تأبى التعصّب ، ليّن من لهجتها صلات متشعّبة ، ودراسات تأخذ من كلّ فنّ بطرف في مقدرة موسوعية ، تبدو من خلالها طبيعة النهضة العلمية التي بلغتها بغداد في ذلك العصر ، وما اتّسمت به تلك النهضة من انفتاح على الرأي الآخر ، ونبذ التعصّب الذي هو صورة من صور الجهل ، واتّساع الفكر وشموليّته مع تمسّك بأصول الإعتقاد ، لا يبلغ حدّ التعصّب ، ولا يتضاءل حدّ الترخّص ، مع عدم تحيّز نحو الآخرين من حملة الآراء المختلفة.

وتلك نزعة ترتكز على أساس مكين من العلم والورع والإطّلاع ، يتيح القدرة على مقارعة الخصم بالحجّة الداحضة ، زيادةً على فهم لأسس الحوار الموضوعي ، وسبل الحجاج والمخاصمة ، ومحاكمة الآراء ، وصولاً إلى زبد المخاض والرأي الناضج الذي يفرض على الخصم احترامه وإن كنتَ وإيّاه على طرفي نقيض ، إن كان لديه قليل من الإنصاف والعلم.

__________________

(١) الأمالي ، المقدمة : ١/١٨.

٧٢

التفسير ومناهجه في عصر المرتضى :

«التفسير من (فسّر) بمعنى : أبان وكشف ، قال الراغب الإصفهاني : «الفَسر والسَفْر متقاربا المعنى كتقارب لفظيهما ، لكن جعل الفَسر لإظهار المعنى المعقول لإبراز الأعيان للأبصار يُقال : سَفَرَت المرأة عن وجهها وأسفرت ، وأسفر الصبح ، وقال تعالى : (وَلاَ يَأْتُوْنَكَ بِمَثَل إلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحسَنَ تَفْسِيْراً)(١) ، أي بياناً وتفصيلاً.

واصطلحوا على أنّ التفسير ، هو : إزاحة الإبهام عن اللفظ المشكل ، أي المشكل في إفادة المعنى المقصود»(٢).

و «هو العلم الذي يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمّد (صلى الله عليه وآله) ، بيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه»(٣) ، وهو ـ بحقّ ـ أرفع العلوم الإسلامية قدراً وأعلاها شأناً».

وقد اقترن ظهوره بنزول القرآن الكريم ، فكان الرسول (صلى الله عليه وآله) أول المفسّرين وهو يردّ ما أُشكل فهمه لدى الصحابة ، ولم تقف حركة التفسير ، بل ظلّت تسير بسير من اشتهر بالتفسير من الصحابة ، وتستقرّ حيثما استقرّوا ، وحيثما يقم عالم التفسير في أىّ الأمصار يجلس للناس يفسّر لهم كتاب الله عزّوجلّ ، فيحملوا منه علمه ، وينقلوه بعد لمن وراءهم»(٤).

__________________

(١) الفرقان : ٢.

(٢) التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب : ١/١٧.

(٣) علم التفسير : ٦.

(٤) علم التفسير : ٣٠ ـ ٣١.

٧٣

وقد نشأت لذلك مدارس للتفسير قامت على علم هؤلاء الأعلام من الصحابة ، أبرزها :

١ ـ مدرسة مكّة : وقد قامت على علم عبد الله بن عبّاس ، وتلاميذه من التابعين ، ومنهم سعيد بن جبير (ت٦٤هـ) ومجاهد (ت١٠٤هـ) وعكرمة (ت١٠٥هـ) وغيرهم.

٢ ـ مدرسة المدينة : وتنتمي إلى أُبَي بن كعب ، وأشهر تلاميذه من التابعين : أبو العالية (ت٩٠هـ) والقرظي محمّد بن كعب (ت١١٨هـ) وزيد بن أسلم (ت ١٣٦هـ).

٣ ـ مدرسة الكوفة : وقد وضع أسسها عبد الله بن مسعود ، وأشهر تلاميذه من التابعين علقمة بن قيس النخعي (ت٦٢هـ) ومسروق بن الأجدع الهمداني (ت٦٣هـ) والأسود بن يزيد (ت٧٥هـ) ومُرّة الهمداني (ت١١٠هـ) وقتادة السدوسي (ت١١٧هـ).

وقد انماز التفسير في هذه المرحلة بدخول كثير من الإسرائيليّات والنصرانيّات فيه بسبب تساهل بعض المفسّرين من التابعين في قبولها ، وظلّ التفسير محتفظاً بطابع التلقّي والرواية ، فكان علماء كلّ مصر يعنون بالتلقّي عن إمام مصرهم ممّن ذكرنا ، وقد ظهر في تفاسير التابعين الانتصار لبعض المذاهب التي بدأت بالظهور ، وكثر الخلاف بينهم عمّا كان عليه بين الصحابة ، وإن كان الخلاف قليلاً إذا ما قورن بما وقع بعد ذلك بين متأخّري

٧٤

المفسّرين(١).

وجاء عصر التدوين ـ تدوين الحديث ـ فبدأت مرحلة جديدة في علم التفسير شهدت ظهور كتب التفسير الكبيرة منفصلة عن كتب الحديث ، فأصبح علماً قائماً بنفسه ووضع التفسير لكلّ آية من القرآن على حسب ترتيب المصحف ، وأبرز كتب التفسير في هذه المرحلة : تفسير محمّد بن جرير الطبري (ت٣١٠هـ) الذي اشتهر بأنّه أبرز ممثّلي منهج التفسير بالمأثور ، فقد ذكر الأقوال ، ثمّ وجّهها ، ورجّح بعضها على بعض ، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت الحاجة اليه ، كما استنبط الأحكام التي تؤخذ من الآيات»(٢).

وقد بلغت مدرسة التفسير بالأثر لدى الجمهور ذروتها على يده وكان «حافظاً للقرآن بصيراً بالسنن ، فقيهاً بالأحكام»(٣).

«أمّا للإمامية فقد انتهى إلى القرن الرابع كتب كثيرة غالبها من التفسير بالأثر ، منها : تفسير سعيد بن جبير التابعي (ت٦٤هـ) وتفسير إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي (ت١٢٧هـ) وله كتاب أمثل التفاسير ، وتفسير محمّد بن السائب ابن الكلبي ، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشبع ... ، وتفسير جابر بن يزيد الجعفي (ت١٢٧هـ) والحسن بن خالد البرقي ، له كتب في التفسير منها تفسيره الكبير البالغ (١٢٠) مجلّداً من إملاء الإمام العسكري عليه‌السلام

__________________

(١) نفس المصدر : ٣٤.

(٢) علم التفسير : ٣٦.

(٣) أدب المرتضى : ٣٢.

٧٥

وتفسير عليّ بن الحسن بن فضّال ومحمّد بن سعيد بن هلال الكوفي (ت٢٨٢هـ)»(١) وغيرهم.

وكان على رأس التفسير بالدراية (الرأي) جماعة من المعتزلة منذ عهد النظّام والجاحظ حتّى إذا طلع القرن الرابع نهض بأعبائها : أبو علي الجبّائي ، والقاضي عبد الجبّار المعتزلي ، وأبو مسلم محمّد بن بحر الإصبهاني (ت٣٧٠هـ)(٢).

وقد شهد المرتضى في بواكير حياته العلمية وجود هاتين المدرستين في التفسير ، وهما مدرسة التفسير بالرواية (المأثور) وبالدراية (الرأي) ، ولا بدّ من أن يتأثّر منهجه في التفسير بهما.

ولابدّ من عرض سريع لأهمّ منهجين في التفسير عاصر المرتضى شيوعهما وانتفع بهما :

١ ـ التفسير بالمأثور : ويقصد به ـ على أوسع الأقوال ـ «ما نقل عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وما نقل عن صحابته ... وما نقل عن التابعين من كلّ ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم»(٣).

ويستند على الأُسس الآتية كقواعد في التفسير ومصادر له ، وهي :

ـ تفسير القرآن بالقرآن : فهو يفسّر بعضه بعضاً ، فما كان مطلقاً في

__________________

(١) المصدر نفسه : ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) نفس المصدر : ٣٣.

(٣) علم التفسير : ٤٠.

٧٦

مكان قيّد في مكان آخر ، وما أُجمل في مكان فصّل في مكان آخر ... وهكذا.

ـ السنّة النبوية : ويقصد بها السنّة التي جاءت مفسّرة للقرآن الكريم.

ـ آراء الصحابة : استناداً إلى معرفتهم بأسباب النزول واطّلاعهم الدقيق على أسرار اللغة ، وعادات المجتمع ، وتأسّيهم بالرسول (صلى الله عليه وآله). ولابدّ هنا من الإشارة إلى أنّ هناك رأيين في الصحابة ، فهناك من يرى أنّ جميع الصحابة عدول ينبغي الأخذ بما ينقلون ، وبين من يرى أنّ شأن الصحابة كشأن بقيّة المسلمين ، فمنهم من تأكّدت عدالته فيؤخذ بقوله ، ومنهم من قام دليل على عدم عدالته ، فلا يمكن الأخذ بما ينقل.

ـ أسباب النزول : ويُستعان بها على فهم الآية الكريمة ، ودفع الإشكال عنها ، ومعرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

وقد مرّ هذا المنهج بطورَين : طور الرواية وطور التدوين ، وفي الطور الثاني بدأ بتدوين موسوعات في التفسير ، جمعت كلّ ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، وأبرز مَن مثّل هذه المدرسة كما تقدّم تفسير ابن جرير الطبري.

٢ ـ المنهج العقلي في التفسير : وقد بدأ على هيئة محاولات فهم شخصي وترجيح بعض الأقوال على بعض ، مستفيدة من تطوّر المعارف

٧٧

والعلوم المتنوّعة والآراء والعقائد ، وشهدت تلك المرحلة تدوين علوم اللغة والنحو والصرف.

ويسمّى التفسير العقلي أو ما يدعى بالرأي ، وأرى أنّ التفسير بالرأي جزء من التفسير العقلي وليس مرادفاً شاملاً له ، ويسمّى أيضاً : تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسّر لكلام العرب ومناحيهم في القول ، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالاتها ، والاستعانة بالشعر الجاهلي(١) ، ووقوفه على أسباب النزول ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ من آيات القرآن الكريم ، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج اليها المفسّر(٢).

مميّزات منهج السيّد المرتضى :

وفيما يأتي عرض لأبرز مميّزات منهجه في التفسير كما تتجلّى من خلال النصوص الواردة في كتابه (الأمالي) :

أوّلاً : قوله في الجبر والاختيار : ومن ذلك ما ورد في معرض حديثه على بيتَي لبيد بن ربيعة العامري :

إنّ تَقْوَى ربّنا خَيْرُ نفلْ

وبإذنِ اللهِ ريثـِي وعجلْ

__________________

(١) إنّ حصر الشعر بالجاهلي فقط غير دقيق ، والأصوب أن يُقال : الشعر الممتدّ إلى عصر الإحتجاج.

(٢) علم التفسير : ٤٧.

٧٨

مَن هداهُ سبلَ الخيْرِ اهْتَدَى

ناعمَ البَالِ ومَن شاءَ أضلْ

إذ قال : «وقيل : إنّ لبيداً كان على مذهب أهل الجبر ... وإن كان لا طريق إلى نسب الجبر إلى مذهب لبيد إلاّ هذان البيتان ، فليس فيهما دلالة على ذلك ، أمّا قوله : وبإذن الله ريثي وعجلْ ، فيحتمل أنّه يريد : بعلمه ، كما يتأوّل عليه قوله تعالى : (وَمَا هُمْ بِضَارِّيْنَ بِهِ ِمنْ أَحَد إلاّ بِإِذْنِ الله)(١) أي بعلمه ... فأمّا قوله : مَن هداه اهتدى ومَن شاء أضلْ ، فيحتمل أن يكون مصروفاً إلى بعض الوجوه التي يتأوّل عليها الضلال والهدى المذكور في القرآن ، ممّا يليق بالعدل ولا يقتضي الإجبار»(٢).

ـ ومثله ما ورد في تفسير قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِيْنَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوْرِ)(٣) إذ ردّ القائل : أليس ظاهر الآية يقتضي أنّه هو الفاعل للإيمان فيهم؟ ... وهذا خلاف مذهبكم؟ فقال : أمّا النور والظلمة المذكوران في الآية فجائز أن يكون المراد بهما الإيمان والكفر ، وجائز أيضاً أن يُراد بهما الجنّة والنّار ... فلو كان الأمر على ما ظنّوه لما صار الله تعالى وليّاً للمؤمنين ...(٤).

ومثله ما ورد في المجلس الذي بعده(٥).

__________________

(١) البقرة : ١٠٢.

(٢) الأمالي :١/٢١.

(٣) البقرة : ٢٥٧.

(٤) أنظر المصدر السابق : ٢ / ١٤ ـ ١٥ ، وقد أوجزنا في النقل تجنّباً للإطالة ، فليراجع.

(٥) نفس المصدر : ١/٢٦ ـ ٢٨ المجلس (٥١) ، ومثله كثير دعانا الإيجاز إلى تجنّب ذكره.

٧٩

وفي الموضعَين يصرف ظاهر الآية على وفق مذهبه في الاختيار (أو الأدقّ قوله بالأمر بين الأمرين).

ـ ومنه قوله : «فإذا ورد عن الله تعالى كلامٌ ظاهره يخالف ما دلّت عليه أدلّة العقول ، وجب صرفه عن ظاهره ـ إن كان له ظاهر ـ وحمله على ما يوافق الأدلّة العقليّة ويطابقها ، ولهذا رجعنا في ظواهر كثيرة من كتاب الله تعالى اقتضى ظاهرها الإجبار أو التشبيه ، أو ما لا يجوز عليه تعالى»(١).

ـ بل أنّه صرّح بذلك في تأويله لقوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ...)(٢) فقال : «إذا ثبت بأدلّة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم‌السلام صرفنا كلّ ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفاً لما تدلّ عليه العقول من صفاته تعالى ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ...»(٣).

ثمّ زاد على ذلك قائلاً : «ولهذه الآية وجوه من التأويل ، كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبيّ الله تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية»(٤).

ـ ونظير ما تقدّم ما ورد في تأويله لقوله تعالى : (وَنَادَى نُوْحٌ رَّبَّهُ قَالَ

__________________

(١) نفس المصدر : ٢/٣٠.

(٢) يوسف : ٢٤.

(٣) الأمالي ١/٤٧٧.

(٤) نفس المصدر : وانظر أيضاً :١/٤٨١ ـ ٤٨٢.

٨٠