تراثنا ـ العددان [ 119 و 120 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 119 و 120 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٥١٠

١

تراثنا

صاحب الامتیاز

مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث

المدير المسؤول :

السيّد جواد الشهرستاني

العدد الثالث والرابع [١١٩ ـ ١٢٠]

السنة الثلاثون

محتـويات العـدد

* المراحل الأربعة في مدرسة التفسير الشيعي

.................................................................. مرتضى كريمي نيا ٧

* تاريخ الحوزات العلمية (الحوزة العلميّة في كربلاء)

............................................................. الشيخ عدنان فرحان ٤٤

* الذكر المحفوظ قراءة جديدة في تاريخ جمع القرآن وما روي في تحريفه (٦).

.......................................................... السيّد علي الشهرستاني ٢٢٦

٢

* مكتبة السادة آل الخرسان

.................................................... أحمد عليّ مجيد الحلّيّ النجفيّ ٣٩٥

* من ذخائر التراث :

* رسالة مختصرة في علم الدراية للسيّد محسن الطباطبائي الحكيم قدس‌سره (ت ١٣٩٠ هـ)

................................................... تحقيق : الشيخ حميد البغدادي ٤٤٣

* من أنباء التراث.

................................................................... هيـئة التحرير ٥٠٢

* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة (رسالة مختصرة في علم الدراية) للسيّد محسن الطباطبائي الحكيم (ت ١٣٩٠ هـ) والمنشورة في هذا العدد.

٣
٤

٥
٦

المراحل الأربعة في مدرسة التفسير الشيعي (١)

(تمهيدٌ في تاريخ التفسير الشيعي)

مرتضى كريمي نيا

بسم الله الرحمن الرحيم

توطئة :

إنّ الجهد الذي بذلناه في هذه المقالة هو عبارة عن تحقيق في مجال تاريخ التفسير الشيعي ، علماً بأنّ هذا النوع من التحقيق لا يرمي إلى بيان صحّة أو عدم صحّة النظريّات المختلفة في علم التفسير ، وذلك مثله مثل ما يقوم به بقية مؤرّخي سائر العلوم ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّنا نرى في بيان تاريخ أيّ علم من العلوم أنّ يد التحقيق لا تستطيع أن تبيّن للقارىء إلاّ بعض الجوانب المهمّة لذلك العلم عاريةً عن البحث في صحّة أو عدم

__________________

(١) تمّ ترجمة البحث إلى العربية من قبل هيئة التحرير.

٧

صحّة نظريّاته ، فبناءً على هذا فإنّ الموضوع الأساسي لهذا البحث بل محور موضوعاته قد دار حول تفكيك الحقب الأساسية الأربعة في تاريخ التفسير الشيعي ، بحيث يمكن أن يكون كلّ واحد من هذه الحقب بمفسّريها ـ مع ما فيها من ظروف اجتماعية وعقائدية وسياسية ـ مدرسة متميّزة قائمة بذاتها تضمّ تحت لوائها مجموعة من العلماء والمفسّرين ذوي أصول وقواعد مشتركة نسبيّاً ، حيث إنّنا نرى مفسّري كلّ مرحلة من تلك المراحل يعملون على نمط واحد تقريباً ، وإنّهم يتّبعون في باب فهم القرآن وتفسيره مناهجاً وسنناً كلّية معهودة لديهم ويعملون وفقاً للأساليب المتّبعة في التفسير في عصرهم.

إنّ معلوماتنا في باب تاريخ تطوّر التفسير الشيعي وبالأخصّ في عهود الحقب الأولى قليلة جدّاً ، فبالقياس مع المطالعات في سائر مدارس البحوث التفسيرية فإنّ عدد المؤلّفات المرتبطة بالتفسير الشيعي تبدو قليلةً جدّاً ، ويبدو هذا الأمر جليّاً في المطالعات والبحوث باللّغات الأوربية بشكل أوضح ، حيث إنّه لم يلتفت أيّ محقّق في الغرب إلى هذا الموضوع قبل گلدتسيهر وكتابه مناهج التفسير ، ومن الطبيعي أيضاً أن گلديسهر قد خطى في هذا الطريق خطواته الأولى وفيها كثير من النقص والاشتباه ، علماً بأنّ البحوث التفسيرية في كتاب المطالعات القرآنية لـ : ونزبرو مع إعداده الفصل الرابع منه كانت منعطفاً في هذا المجال ، فإنّ هذا الكتاب كان يثير بأسئلته الجديدة جدلا في الوسط العلمي ، كما كان يلفت أنظار الجميع إلى مدى

٨

أهمّية المدوّنات التفسيرية في القرون الأولى ، وبالرغم من كلّ ذلك لا هو ولا المؤمنون به من أتباعه ـ مثل آندرويپين ونورمن كالدر ـ لم يكن لديهم أيّ توجّه إلى مدرسة التفسير الشيعي (١) ، إلاّ أنّ انتقاء نماذج التفسير التي قام بها جان ونزبرو لأوّل مرّة بأسلوب ممنهج والتي رسم معالمها في الفصل الرابع من كتابه المطالعات القرآنية (٢) قد جعلنا في خضمّ موضوع التفسير وتاريخ تطوّره في القرون الثلاثة الأولى إلى ما قبل تصنيف تفسير الطبري ، ومن بعد ذلك فقد استقلّ علم التفسير إلى جانب سائر العلوم الإسلامية استقلالا ذا أصالة تميّزه عن غيره ، فقد صُنّفت في تلك الحقبة كتبٌ مثل التبيان للشيخ الطوسي والكشّاف للزمخشري ، وقد نشأت في تلك الحقبة آليّات ومناهج تفسيرية متنوّعة ومتداخلة ، بحيث انتقى كلّ مفسّر لكتابه ما يروق له ويذهب إليه ذوقه ويحدّده ما لديه من العلم وانتمائه المذهبي والظروف التي يعيشها زمنيّاً ومكانيّاً.

__________________

(١) لا يخفى أنّ نورمن گالدر له باعٌ في معرفة المذهب الشيعي ولكن جميع مؤلّفاته جاءت لتبحث في مجال الفقه الشيعي ، ولا يخفى أنّ ونزبرو كان قد تطرّق إلى دراسة بعض الجوانب التفسيرية لعلي بن إبراهيم القمّي ولكن بشكل ناقص.

انظر : Qur\'anic Studies,P.١٤٦,٢٤٥

وإنّ رابرت گليو هو الوحيد من بين تلامذة گالدر الذي تطرّق إلى جانب من تاريخ التفسير الشيعي وهو التفسير الأخباري للحقبة الصفوية ، حيث إنّ هذه الحقبة من تاريخ التفسير الشيعي أساساً لا تمتّ بصلة إلى عهد النشأة الأولى لتفاسير الشيعة. انظر : Gleave,PP.٢١٦ ـ ٢٤٤

(٢) المطالعات القرآنية : ١١٩ ـ ٢٤٦.

٩

لقد طوى التفسير الشيعي (١) تأريخيّاً مراحل عديدة من مراحل تطوّره مثله مثل سائر العلوم الأخرى ، وأنّ وجود بعض الخصوصيّات في التفاسير الشيعية ومؤلّفيها صارت سبباً لتميّزها عن نظائرها من التفاسير السنّية والمعتزلية ، إلاّ أنّ هذه التفاسير كذلك لم تكن على سبك ونسق واحد عبر القرون المتمادية التي مرّت على تطوّر التفسير الشيعي ، حيث أنّ هناك العديد من العوامل التي ساهمت في إيجاد هذا الاختلاف في المنهجية وحتّى في محتوى التفسير على مدى ثلاثة عشر قرن الماضية ، إنّ الجوّ السياسي والاجتماعي لعصر المفسّر ، وانشداد المفسّر ورغبته لنوع من أنواع العلوم ، والعلاقة بين الأستاذ والتلميذ والتي كان لها الأثر الكبير على المفسّر ، وتوفّر المصادر السنّية والمذاهب الأخرى أو عدم توفّرها ، جميعها عوامل ساهمت في رسم معالم الإختلاف فيما بين التفاسير الشيعية ، ولابدّ لنا من الإشارة هنا إلى موضوعين أساسيّين لهما مدخلية في البين أحدهما : معرفة المفسّر للمتن والآخر : المخاطب من قبل ذلك التفسير في كلِّ حقبة ، بناءً على هذا لابدّ من القول أنّ الفارق بين المفسّرين وتفاسيرهم في كلّ حقبة أو مرحلة له صلة مباشرة بما يفهمه المفسّر من المتن ومدى معرفته به ، هذا من جانب ، ومن

__________________

(١) المراد من التفسير الشيعي في هذه المقالة هو ما يشمل جميع التفاسير المنسوبة إلى الطائفة الإثني عشرية فقط ، وإنّ ما ذكرناه في مواطن متعدّدة من هذه المقالة مثل تفسير فرات الكوفي ذو الطابع الزيدي إنّما هو استثناء ، وبناءً على هذا فإنّنا لم نبحث في سائر التفاسير الشيعية الزيدية والاسماعيلية منها مثل رسائل ابن سينا التفسيرية وغيرها.

١٠

جانب آخر فإنّه يرتبط بالمخاطبين الذين كان يخاطبهم كلّ مفسّر أو من يفترضهم المفسّرون كمخاطبين لهم حين تأليفهم لهذه التفاسير.

فإنّ كلّ واحد من هذه العوامل سواء كان تمام العلّة أو جزءاً منها يمكن أن يكون سبباً في التباين بين منهجيّات التفسير الشيعي لمفسّري الشيعة.

ولابدّ هنا من الإشارة إلى مسألة مهمّة جعلتنا نعاني من خلأ في هذا المجال ألا وهي هذا : إنّ ما نعانيه نحن ـ مؤرّخو تاريخ التفسير ـ هو البعد الزمني عن عصر المفسّرين ، بحيث جعلنا ذلك عاجزين عن الوصول إلى جميع الأسباب الظاهرية والباطنية المحيطة بالمفسّر والتي أدّت إلى تبلور منهجيّته وأسلوبه في التفسير ، فإنّ كلّ ما حصلنا عليه من بعد هذه القرون هي مجرّد تخمينات متّفق عليها تقريباً تؤيّدها شواهد من هنا وهناك ، إذن يمكن أن تفاجئنا في كلِّ لحظة شواهد تكون دليلاً على نقض جميع ما بيّناه من خصائص تبيّن منهجية المفسّر في تفسيره.

إنّ التفسير عند الشيعة كسائر العلوم الأخرى له معالمه وأسسه المختصّة به ، وإنّ الظروف التي عاشها مفسّروا الشيعة في غضون هذه القرون المتمادية لم تكن ظروفاًعلى وتيرة واحدة من حيث الزمان والمكان والخصائص ، وبالإضافة إلى التأثير العامّ الحاكم في كلّ زمان فإنّ توجّهات كل مفسّر وميوله الخاصّة لعبت دوراً في رسم معالم تفسيره وميّزته عن غيره من التفاسير ، فإنّ ميوله نحو الغلوّ أو الاعتدال في حقّ الأئمّة عليهم‌السلام ، ورأيه الأخباري أو الأصولي

١١

اتّجاه الآيات والروايات ، والالتزام المحض بنقل الروايات حتّى الضعيف منها ، والاعتماد على المباني العقلية والآراء الكلامية والأدبية و... كلّها عوامل تساهم في رسم معالم كلِّ تفسير.

وقد حاولت في هذه المقالة أن أتناول تقسيماً كلّياً لتاريخ التفسير الشيعيِّ لكي أبيّن من خلاله التحوّل الإجمالي في مجال التفسير ، ليستطيع القارىء أن يرسم صورة لكلِّ تفسير من تفاسير الشيعة وأن يرسم صورةً إجمالية للخصائص الكلّية لذلك التفسير والظروف التي أثّرت في تحديد معالمه ليميّز بينه وبين سائر التفاسير الشيعية المعروفة سواء القديمة منها أو المعاصرة.

وبالجملة ومن خلال كلِّ ذلك نستطيع أن نقسّم تاريخ تدوين التفسير الشيعيِّ إلى أربعة مراحل أساسية ، وذلك لاختلاف خصائص كلّ مرحلة عن المراحل الأخرى ، حتّى يمكننا أن نسمّيها بالمراحل المختلفة (١) ، ويمكن تلخيصها كما يلي :

أ ـ التفاسير التي دوّنت قبل الشيخ الطوسي وهي من مفسّرين مثل : أبو حمزة الثمالي ، الحبري ، السيّاري ، فرات الكوفي ، عليّ بن إبراهيم القمّي ، العيّاشي ، ابن ماهيار ، والنعماني.

__________________

(١) لقد تجاوزنا في هذا التقسيم مرحلة تبلور التفسير الشيعي في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّ هذه المرحلة وبالرغم من أهمّيتها البالغة في رسم معالم أسلوب ومنهجية التفسير الشيعي إلاّ أنّه لم يصل إلينا منها أيّ مؤلّف مخطوط قط.

١٢

ب ـ مدرسة الشيخ الطوسي التفسيرية أو مدرسة آل بويه التفسيرية ، وقد دوّنت فيها تفاسير مثل : التبيان للشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠هـ) ، مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ت ٥٤٨هـ) ، روض الجنان لأبي الفتوح الرازي (من أعلام القرن السادس) ، متشابه القرآن ومختلفه لابن شهرآشوب (٤٨٩ ـ ٥٨٨هـ) ، فقه القرآن لقطب الدين الراوندي (من أعلام القرن السادس) ، نهج البيان لمحمّد بن الحسن الشيباني (ت ٦٤٠هـ)(١) ، وكنز العرفان في فقه القرآن للفاضل المقداد (ت ٨٢٦هـ) (٢).

ج ـ تفاسير العصر الصفوي ، أو تفاسير الأخباريّين ، وفيها تفاسير مثل : تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة للسيّد شرف الدين علي الحسيني الأسترآبادي النجفي (ت ٩٤٠هـ) ، البرهان في تفسير القرآن للسيّد هاشم البحراني (ت ١١٠٧ هـ) ، الصافي والأصفى للمولى محسن فيض الكاشاني (ت ١٠٩١هـ) ، نور الثقلين للعروسي الهويزي ، مرآة نور الأنوار ومشكاة الأسرار لأبي الحسن العاملي (المتوفّى أواخر العقد ١١٤٠هـ)(٣) ، كنز الدقائق

__________________

(١) الأنوار الساطعة : ١٥٦.

(٢) تدلّ بعض العبارات الموجودة في التفسير الفقهي للفاضل المقداد أنّه أيضاً كان متأثّراً بشكل مباشر بتفسير التبيان للشيخ الطوسي ولم يكن متأثّراً بمجمع البيان للشيخ الطبرسي ، وفي هامش الآية ٨٩ من سورة المائدة جاء الفاضل المقداد بنفس التقسيمات ونقل نفس الأقوال التي نقلها الشيخ الطوسي دون الطبرسي ، وكذلك فإنّ نقله للأقوال من تفسير المغربي قد ذكرت في التبيان فقط ومن بعد التبيان قد ذكرت في فقه القرآن للقطب الراوندي ولم ترد في سائر التفاسير من قبيل مجمع البيان.

(٣) بناءً على رأي الشيخ آقا بزرگ الطهراني (الذريعة ٢٠/٢٦٤) فإنّ أبا الحسن العاملي

١٣

للميرزا محمّد المشهدي (المتوفّى حدود سنة ١١٢٥هـ) (١) ، الأمان من النيران للميرزا عبدالله أفندي (١٠٦٦ ـ ١١٣٠هـ) ، وتفسير المولى صالح بن آقا محمّد البرغاني القزويني (المتوفّى حدود سنة ١٢٧١هـ) تحت عنوان تفسير البرغاني أو مفتاح الجنان في حلّ رموز القرآن ، تحقيق عبدالحسين شهيدي صالحي.

د ـ التفاسير المعاصرة والتي جاءت بأسلوب جديد مثل : آلاء الرحمن للبلاغي ، الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي ، پرتوي از قرآن للطالقاني ، تفسير نمونة أو التفسير الأمثل لمكارم الشيرازي ، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة لصادقي الطهراني ، ومن وحي القرآن للسيّد محمّد حسين فضل الله.

كلّ واحد من هذه المراحل الأربعة لها خصوصيّاتها الخاصّة بها ، إلاّ أنّ

__________________

توفّي في أواخر عقد ١١٤٠ هـ وإنّ ما جاء في الطبعة الأولى من نسبة هذا التفسير لعبد اللطيف الگازروني ما هو إلاّ نتيجة اشتباه الناشر ، وإنّه رحمه‌الله ذكر الاسم الكامل لمؤلّف هذا الكتاب بعنوان المولى الشريف العدل أبي الحسن بن الشيخ محمّد طاهر بن الشيخ عبد الحميد بن موسى بن علي بن معتوق بن عبد الحميد الفتوني النباطي العاملي الأصفهاني الغروي.

(١) إنّ الميرزا محمّد المشهدي بن محمّد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمّي المتوفّى حدود عام ١١٢٥ هـ قد اتّخذ في تفسيره طريقاً وسطاً حيث سلك فيه مسلكاً مشابهاً لأسلوب مجمع البيان ، وكذلك تفسير منهج الصادقين للمولى فتح الله الكاشاني المتوفّى سنة ٩٩٨ هـ ، فإنّه أيضاً يعدّ الحلقة الرابطة ـ تقريباً ـ بين حقبة الشيخ الطوسي وتفاسير الأخباريّين في العهد الصفوي ، وبالرغم من أنّه كان من مفسّري العهد الصفويّ إلاّ أنّه كان كثيراً ما ينتهج أسلوب الطوسي والطبرسي في تفسيره ، وكذلك أيضاً كان ينقل أقوال أبناء العامّة.

١٤

هناك بعض التشابهات الكلّية بين المرحلتين الأولى والثالثة وكذلك بين المرحلة الثانية والرابعة ، علماً بأنّ المراحل الأربعة المشار إليها آنفاً ليس لها حدوداً منطقية محسوبة ، فنرى بعض المفسّرين في المرحلة الثانية وذلك في الفترة الممتدّة ما بين القرن الخامس إلى القرن التاسع الهجري انفردوا في فهم وتفسير القرآن من دون التأثّر بالجوّ العلمي لمدرسة الشيخ الطوسي وذلك مثل سائر المفسّرين قبل الشيخ الطوسي ، كما يمكن العثور على موارد مشابهة في المراحل الأخرى أيضاً ، فعلى سبيل المثال فإنّ كتاب فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب للنوري الطبرسي (١٢٥٤ ـ ١٣٢٠هـ) والذي صنّفه في النجف الأشرف في أواخر القرن الثالث عشر الهجري نرى مؤلّفه اتّخذ أسلوب الإخباريّين في العهد الصفوي منهجاً له في تفسيره ، فلذلك وخلافاً للمفسّرين المعاصرين نرى أنّ تفسيره لا يحتوي على تساؤلات تفسيرية جديدة أو تبلور نظرية ما في مصنّفه(١) ، وبالرغم من أنّ محمّد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بـ : ملاّ صدرا (٩٧٩ ـ ١٠٥٠هـ) عاصر الأخباريّين في

__________________

(١) الأنموذج الآخر من تفسير أهل البيت عليهم‌السلام هو ما ألّفه السيّد محمّد الحسيني الميلاني في سنة ١٣٩٤ هـ في النجف الأشرف والذي طبع في قم سنة ١٤٠٧ هـ بواسطة انتشارات تابان ، فبالرّغم من أنّ هذا التفسير ألّف في عهد متأخّر إلاّ أنّ مؤلّفه كان مقيّداً بالأسلوب القديم في التفسير وصبّ جلّ اهتمامه على تفسير الآيات بما يتناسب مع أسلوب تفسير الآيات التي نزلت في شأن أهل البيت عليهم‌السلام وفي شأن محبّيهم والنيل من أعدائهم ، حيث يمكننا أن نعدّ هذا التأليف في إسلوبه امتداداً للإسلوب الأخباري في الحقبة الصفوية.

١٥

العهد الصفوي إلاّ أنّنا لا نستطيع أنْ نصنّف تفسيره من ضمن تفاسير الأخباريّين في العهد الصفوي ، ولا يمكن أن تنطبق عليه الخصائص التفسيرية لتلك الحقبة ، وذلك لآرائه الفلسفية المتميّزة في تفسير صدر المتألّهين.

خصائص المراحل المختلفة للتفسير الشيعي:

المرحلة الأولى :

لقد ألّفت تفاسير هذه المرحلة في جوٍّ من الانغلاق وكأنّها قد اعتمدت في أسلوبها المخاطب الشيعي دون غيره ، حيث تشكّلت أصل هيكليّة هذه التفاسير من روايات أئمّة الشيعة عليهم‌السلام فقط ، وإنّ المفسّرين الشيعة اتّخذوا طريقة الانتقاء حيث اعتمدوا تفسير بعض الآيات في تفاسيرهم دون غيرها ، ولم يعتن مفسّروا هذه التفاسير بردود فعل المخالفين أبداً ، فقد رووا بكلّ جرأة روايات تحريف القرآن والروايات التي تشير الى ذمّ الخلفاء والصحابة ، ولم يُبدوا رغبة في الدخول في المباحث الكلامية والعقلية التي شاعت في المجتمع الإسلامي منذ القرن الثاني الهجري ، ولم يعتنوا بالجانب الأدبي من ذكر اختلاف القراءات ودقائق الإعراب والاشتقاقات والمباحث اللغوية والاستشهاد بالشعر الجاهلي.

من الناحية الزمنية فإنّ مفسّري هذه الحقبة مثل السياري ، علي بن إبراهيم القمّي ، وفرات الكوفي ، والعيّاشي ، والحبري كانوا من أعلام النصف الثاني من القرن الثالث ، أي إنّهم عاصروا مرحلة التكامل النهائي للتفسير الروائي عند أهل السنّة ، وعاصروا أعلاماً مثل الطبري وابن أبي حاتم.

١٦

إنّ التفاسير المدوّنة والمصنّفة منذ بداية القرن الثالث الهجري هي تفاسير أدبية ولغوية للقرآن مثل مجاز القرآن لأبي عبيدة ومعاني القرآن للكسائي ومعاني القرآن للفرّاء وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ، إلاّ أنّ أولى التفاسير الروائية الشيعية لم تعتن بالمدوّنات التفسيرية لأهل السنّة التي كثيراً ما كانت تهتمّ بالجانب الأدبيّ والنحويّ واللغويّ (١) ، وإنّ الرعيل الأوّل من المفسّرين الشيعة صبّوا جلّ اهتمامهم في قبال أهل السنّة في باب التفسير الروائي وذلك فيما يخصّ موارد الاختلاف بينهم.

إنّ المفسّرين الشيعة كانوا يحرصون كلّ الحرص على جمع التراث التفسيري ـ الواقعي أو المنتسب ـ للأئمّة عليهم‌السلام وذلك في القرون التي اشتدّت فيها المناظرات الكلامية بين الشيعة والسنّة ، ولم يقطن مؤلّفوا هذه التفاسير في بلاد أهل السنّة بل كان يقطن أغلبهم في مناطق شيعية مثل قم والكوفة وخراسان.

__________________

(١) تعدّ تأليفات الشريف الرضيّ في هذا المجال مثل (تلخيص البيان عن معجزات القرآن وتفسير حقائق التأويل) وكذلك (المصابيح في تفسير القرآن) للوزير المغربي من أوائل التفاسير الشيعية التي تناولت المباحث اللغوية والنحوية والأدبية للقرآن ، وإنّ هذا الأسلوب هو استمرار لطريقة تفسير الفرّاء وأبي عبيدة وابن قتيبة والزجّاج والنحّاس وبعض أدباء المعتزلة مثل ابن جنّي وأبي الحسن الرمّاني ، وقد سرى هذا الأسلوب إلى التفسير الشيعي وظهر فيه على نطاق واسع منذ زمن الشيخ الطوسي تزامناً مع تأليف تفسير التبيان ، وقد قام الشيخ الطبرسي بتنقيح وتثبيت هذا الأسلوب في تفسيره مجمع البيان معتمداً على الشعر الجاهلي وكلام أعراب البادية وأقوال اللغويّين والنحاة مثل الخليل وسيبويه والكسائي والأزهري وابن دريد ، وإنّ ذكر الوجوه المختلفة للقراءات والوجه الأدبي لكلِّ منها هو أحد خصائص هذا الأسلوب الذي يعدّ عمليّاً من ابتكارات الطريقة التفسيرية للشيخ الطوسي.

١٧

المرحلة الثانية :

ومن ثمّ ابتدأت المرحلة الثانية للتفسير الشيعي تزامناً مع تأليف التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ) ، وقد صنّف هذا التفسير في جوٍّ من المعترك الفكري لحاضر بغداد العلميِّ في القرن الخامس الهجري ، حيث ضمّت هذه المدينة إليها جموعاً من علماء الشيعة ومتكلّمي المعتزلة وفقهاء ومفسّري أهل السنّة ، وذلك قبل قرن تقريباً من تأليف هذا التفسير ، وقد ألّف قبل الشيخ الطوسي بفترة قصيرة كلّ من العالمين والأديبين الشيعيّين الشريف الرضيّ (٣٥٩ ـ ٤٠٦ هـ) وأبو القاسم الوزير المغربي (٣٠٧ ـ ٤١٨هـ) في بغداد تفسيرين لم ينتحيا فيهما المنحى الروائي بل اعتمدا في تفسيرهما الأسلوبين الكلامي والأدبي ، فإنّ حقائق التأويل للشريف الرضيّ ـ حيث لم تصل إلينا منه نسخةٌ كاملةٌ ـ فإنّه يختلف اختلافاً كبيراً مع سائر التفاسير الروائية التي أُلّفت قبل عهد الشيخ الطوسي ، وكثيراً ما أهتمّ بالمواضيع الأدبية والكلامية في تفسير القرآن ، وله شبه كبير بكتاب التبيان للشيخ الطوسي من هذه الناحية ، ولكن ولأسباب لم يعدّ هذا التفسير أنموذجاً للمفسّرين فيما بعد في تدوين تفاسيرهم ، فإذا استثنينا المفسّرين الأخباريّين في العهد الصفوي فإنّ عامّة المفسّرين الشيعة اتّبعوا في تفاسيرهم طريقة التبيان نموذجاً لهم وذلك إمّا بشكل مباشر أو بواسطة مجمع البيان للطبرسي ، حيث يمكننا هنا الإشارة إلى بعض الأدلّة التي تؤيّد هذا المعنى في هذا المضمار :

أوّلا : إنّ مقام الشيخ الطوسي ومنزلته العملية بين علماء الشيعة سواء

١٨

في أيّام حياته وما بعدها كانت أقوى بكثير من مقام ومنزلة الشريف الرضيّ علميّاً ، حيث إنّ الشيخ الطوسي يعدّ أكبر فقيه ومحدّث ورجاليٍّ شيعيٍّ على مدى القرون الوسطى الهجرية ، في حين أنّ الشريف الرضيّ كان أكثر ما يعرف بأسلوبه الأدبيِّ.

إنّ تطوّر المنهج التفسيريِّ الشيعيِّ كان بحاجة ماسّة إلى شخصيّة مثل الشيخ الطوسي ، حيث احتلّ اسمه على مدى القرون الوسطى الهجرية مقام الصدارة بين الفقهاء والمحدّثين والرجاليّين.

والأمر الآخر هو أنّ الشريف الرضي لم يعتمد في تفسيره قط المواضيع التفسيرية الشيعية المؤلّفة قبل عهد الشيخ الطوسي ، في حين نراه كثيراً ما كان يعتمد على الآراء الأدبية والأقوال الكلامية للمعتزلة آنذاك ، وبعبارة أخرى فإنّه على العكس من الشيخ الطوسي إذ لم ينتهج الاعتدال والوسطية في تفسيره بل أوجد تغييراً جذريّاً في التفسير الشيعيّ.

بغضّ النظر عن تفسير الشريف الرضي فإنّ هناك تفسيراً آخر لأبي القاسم الحسين بن علي المعروف بالوزير المغربي تحت عنوان المصابيح في تفسير القرآن ، وعلى الرغم من أنّه ألّف قبل عهد الشيخ الطوسي وأنّ الشيخ الطوسي كان قد اعتمده في تفسيره التبيان إلاّ أنّه لم يكن أنموذجاً للمفسّرين فيما بعد وذلك لكثرة توجّه الوزير المغربي إلى الجانب اللغوي والأدبي في تفسيره (١).

__________________

(١) أقوم حاليّاً بتصحيح وتحقيق هذا التفسير الشيعي القيّم.

١٩

لقد ألّف الشيخ الطوسي أوّل تفسير كامل للقرآن من بين علماء الشيعة ، وقد قلّل في تفسيره من حجم الروايات المنقولة عن أئمّة الشيعة عليهم‌السلام إلى حدٍّ ملفت للنظر ، وخاصّة الروايات الدالّة على تحريف القرآن أو مذمّة الخلفاء فقد حذفها بأسرها من تفسيره ، وإضافة إلى ذلك فإنّه كثيراً ما نقل من تفسير الطبري روايات الصحابة والتابعين ، كما زخر تفسيره بالآراء الكلامية للمعتزلة (١) وتطرّق إلى ردّها أو تأييدها ، وقد ضمّ كتابه كمّاً هائلا من المباحث الأدبية كالإعراب والاشتقاق واللغة والقراءات والشعر الجاهلي (٢) ، فيمكننا أن نقول : إنّ هذه المنهجية هي عبارة عن فكرة جامعة في تفسير القرآن اشتملت

__________________

(١) إنّ الشيخ الطوسي كثيراً ما كان يهتمّ بآراء المعتزلة من أمثال الرمّاني وأبي مسلم الأصفهاني وإلى حدّ ما أبي علي الجبائي ، وذلك لما كان يراه لديهم من سعة النطاق الفكري وحرّية الرأي والنقد ، وإن كان في بعض الأحيان ينتقد آراءهم تارةً أو يردّها ردّاً كلّياً تارة أخرى ، وأمّا آراء المعتزلة فإنّها كانت دائماً محلّ نقد وردّ الشيخ الطوسي ، ومن نماذج انتقاداته وردوده على المعتزلة هو نقده وردّه للشيخ أبي القاسم البلخي الفقيه والمتكلّم المعتزلي (انظر بعض هذا النقد في التبيان ١/١٢ ـ ١٣ ، ٣/٢٩٦ و ٤٠٩) في حين نرى البعض الآخر مثل القاضي عبد الجبّار وبالرغم من أهمّيته الفائقة وكلامه القيّم إلاّ أنّه يُترك ولا يُعتنى به (وللمزيد انظر مقالة كريمي نيا تحت عنوان منابع كلامي شيخ طوسي در تفسير تبيان ٥٢٠ ـ ٥٢٥) والجدير بالذكر أنّ القاضي عبد الجبّار الهمداني كان من أساتذة الشريف الرضي وإنّ الشريف الرضي كان كثيراً ما يطري عليه في تفسير حقائق التأويل وكذلك في المجازات النبوية وتلخيص البيان عن مجازات القرآن فإنّه رحمه‌الله كثيراً ما ينقل منه وغالباً ما كان يقبل آراءه (على سبيل المثال انظر حقائق التأويل : ٣٠ ، ٨٧ ، ٢٥٣ ، ٢٣١).

(٢) كريمي نيا ، التبيان في تفسير القرآن : ٤٦٧ ـ ٤٧١.

٢٠