مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

موضوعا ؛ ولو فرضنا الشك في وجوب الإعلام فأصل البراءة يقتضي عدم وجوبه.

نعم لو كان ما يرتكبه الجاهل من الأمور المهمّة التي يعلم بعدم رضى الشارع بوقوعها خارجا من أيّ شخص وفي أيّة حالة كالتصرف في الدّماء المحترمة والفروج بل والاموال أيضا على احتمال قوي فالظاهر وجوب الإعلام حينئذ ، فلو اعتقد الجاهل أنّ زيدا مهدور الدم شرعا فأراد قتله ، أو المرأة الفلانية جائزة النكاح له فأراد نكاحها وعلمنا بذلك وأن الواقع على خلاف ما اعتقده فالظاهر وجوب الإعلام حينئذ للعلم بعدم رضى الشارع بوقوع امثال ذلك خارجا وإن لم تقع على وجه العصيان والطغيان.

وقد قالوا : إنّ في أمثال هذه الأمور المهمّة يستكشف إيجاب الشارع للاحتياط ، وأمّا غير ذلك من الأمور فوجوب الإعلام فيها ممّا لا دليل عليه ، بل ربّما يستكشف من بعض الأخبار عدمه ، بل يمكن القول بحرمته إن صار موجبا للأذى ، فتدبّر. (١)

الفائدة السادسة :

حول ما أفاده الشيخ (ره) من تصوير

العلّية التامّة بين فعل المكرِه وفعل المكرَه

«الصور الأربعة التي كان لفعل شخص تأثير وسببية في وقوع الحرام في الخارج وملاحظة النسبة بين السبب والمباشر.

والحاصل أنّ هنا أمورا أربعة :

أحدها : أن يكون فعل الشخص علّة تامّة لوقوع الحرام في الخارج ، كما إذا أكره غيره على المحرّم. ولا إشكال في حرمته وكون وزر الحرام عليه ، بل أشدّ لظلمه.» (٢)

أقول : للأستاذ الإمام (ره) في هذا المقام بيان تفصيلي في باب الإكراه ينبغي نقله إجمالا فإنّه كلام متين يظهر منه كون تعبير المصنّف على خلاف المصطلحات العلميّة :

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ١٩ إلى ٢١.

(٢) نفس المصدر ، ص ٢١.

٨١

قال (قده) ما ملخّصه ببيان منّا :

«أنّ هنا جهات من البحث :

الجهة الأولى : الظاهر أنّ مراده بصيرورة فعل الشخص علّة تامّة لتحقق الحرام أن يكون فعله علّة تامّة لوقوع الحرام من الغير ، كما هو مقتضى عنوان البحث والمثال بالمكره.

وفيه : أنّ العلّة التامّة ما لا يكون لغيرها دخل في تحقق المعلول ويكون تمام التأثير مستندا إليها ، وفي المقام لا يعقل تصوّر كون العلّة التامّة لفعل «المكره» (بالفتح) فعل «المكره» (بالكسر) ، إذ المباشر للفعل هو نفس المكره (بالفتح) يوقعه باختياره وإرادته لدفع ما أوعد به. فهو بعد الإكراه باق على اختياره ويتخير طبعا بين إيقاع الفعل المكره عليه وبين تحمّل ما أوعد به فيرجح الفعل المكره عليه باختياره على تحمّل ما أوعد به فيوجده بإرادته لكونه أقلّ المحذورين بنظره. والمكره (بالكسر) لا دخل له إلّا في إيجاد أرضية هذا الترجيح للمباشر. وبعد فهو باق على اختياره واصطفائه لأحد طرفي الفعل.

ويدلّ على بقاء الاختيار مع الإكراه حرمة الإقدام على القتل إن أكره عليه ويعاقب إن قتل ويقتصّ منه.

فالفرق بين المختار الاصطلاحي وبين المكره ليس في وجود الاختيار وعدمه ، بل في أمر مقدّم على الاختيار وهو مبدأ ترجيح أحد الطرفين في النفس ، فإنّه قد يحصل الترجيح بلا اضطرار ولا إكراه بل بحسب الاشتياق إلى الفعل بالطبع لكونه ملائما لميله وهواه ، وقد يحصل بسبب الاضطرار كمن دار أمره بين قطع يده وبين أن يموت فيختار قطع اليد باضطراره حفظا لنفسه ، وقد يحصل بسبب الإكراه ، وفي هذه الصوره أيضا لم يسلب منه الاختيار والإرادة. فالعلّة التامّة لفعل المكره (بالفتح) هو اختياره وإرادته لا إكراه المكره.

بل إرادة الفاعل المباشر أيضا ليست علّة تامّة لوجود الفعل منه ، ضرورة

٨٢

توسّط مبادي أخر بينها وبين وجود الفعل خارجا كالأعضاء والأوتار والعضلات والقوى المنبثة فيها ، فالنفس في عالم الطبيعة فاعلة بالآلات لا بنفسها.

نعم ، قد يمكن أن يقهر بعض النفوس القوية قوى الفاعل وآلاتها ، ويسخّرها تحت إرادته بحيث يسلب منه الاختيار والإرادة بالكليّة فيكون الفعل حينئذ صادرا عن المسخّر القادر القوي لا عن المسخّر (بالفتح).

الجهة الثانية : أن الفعل الصادر عن المكره تارة لا يخرج بالإكراه عن الحرمة الفعليّة الثابتة لولاه ، كالإكراه على قتل النفس المحترمة فإنّه محرّم على المباشر وإن أكره عليه وأوعد بقتل نفسه أيضا ، واخرى يخرج بالإكراه عن الحرمة الثابتة لولاه كما في غالب موارد الإكراه ، وثالثة يكون قبل الإكراه خارجا عن الحرمة الفعليّة بسبب آخر كالاضطرار إليه فلم يفعله فأكره عليه ، بل قد يصير الإكراه حينئذ واجبا كما لو اضطرّ إلى أكل الميتة بحيث توقّفت حياته عليه ومع ذلك لم يأكله فإنّه حينئذ يجب إكراهه حفظا لنفسه ، ومن هذا القبيل أيضا إكراه الحاكم من استنكف عن أداء حقوق الغير.

فحكم الإكراه والفعل المكره عليه مختلف بحسب الموارد. فليس كل ما أكره عليه محرما ولا كل إكراه حراما وظلما.»

إلى آخر ما ذكره (قده) بطوله ، فمن أراد فليرجع إلى كتابه. (١)

والغرض هنا بيان أنّ فعل المكره (بالكسر) ليس علّة تامّة لفعل المكره خلافا لما يظهر من المصنّف (قده).

وكيف كان فمورد نظر المصنّف هنا القسم الثاني من أقسام الإكراه ، أعني ما يكون رافعا لحرمة متعلّقه ، ولا إشكال في حرمته إجمالا لكونه ظلما ولكونه تسبيبا إلى وقوع الحرام ، وهما بأنفسهما محرّمان.

قال الأستاذ الإمام (ره) في هذا المجال :

__________________

(١) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني (ره) ، ج ١ ، ص ٩٢ وما بعدها (ط. الجديدة ، ج ١ ، ص ١٣٨).

٨٣

«وعلى المكره وزر الظلم والإكراه بإيجاد المبغوض وتفويت المصلحة ولا دليل على كونه بمقدار وزر الفاعل لو كان مختارا. نعم ورد في باب إكراه الزوجة على الجماع نهارا في شهر رمضان أنّ على المكره كفارتين وضرب خمسين سوطا ، وإن كانت طاوعته فعليه كفارة وضرب خمسة وعشرين سوطا وعليها مثل ذلك (١) ... وقد ذكر الفقهاء بلا نقل خلاف أنّ ضمان التلف على المكره (بالكسر) دون المكره.» (٢)

أقول : يمكن أن يستأنس من هذين الموردين أنّ الإكراه يوجب انتقال وزر المكره بكمّه وكيفه إلى المكره (بالكسر) ، والعرف أيضا يساعد على ذلك إذ العقوبة دنيويّة كانت أو أخرويّة من تبعات الفعل وآثاره ، والفعل وإن صدر عن المباشر لكن السبب هنا أقوى عند العرف فيكون وزر الفعل عليه ، ويؤيّد ذلك مثل قوله عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه.» (٣)

ولا ينافي هذا كون نفس الظلم الصادر عنه أيضا موجبا للعقوبة ، إذ لا مانع من استحقاقها من جهات متعددة ، فتأمّل. (٤)

الفائدة السابعة :

تصوير سائر أقسام إلقاء الغير في الحرام

«وثانيها : أن يكون فعله سببا للحرام كمن قدّم إلى غيره محرّما ، ومثله ما نحن فيه. وقد ذكرنا أنّ الأقوى فيه التحريم لأنّ استناد الفعل إلى السبب أقوى فنسبة الحرام إليه أولى. ولذا يستقرّ الضمان على السبب دون المباشر الجاهل ، بل قيل : إنّه لا ضمان ابتداء إلّا عليه.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٧ ، ص ٣٧ ، الباب ١٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٢) المكاسب المحرّمة للإمام الخمينى (ره) ، ج ١ ، ٩٥ (ط. الجديدة ، ج ١ ، ص ١٤٢).

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٩ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٤) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٢١ الى ٢٤.

٨٤

الثالث : أن يكون شرطا لصدور الحرام ، وهذا يكون على وجهين :

أحدهما : أن يكون من قبيل إيجاد الداعي على المعصية ، إمّا لحصول الرغبة فيها كترغيب الشخص على المعصية ، وإمّا لحصول العناد من الشخص حتى يقع في المعصية كسبّ آلهة الكفّار الموجب لإلقائهم في سبّ الحقّ عنادا ، أو سبّ آباء الناس الموقع لهم في سبّ أبيه. والظاهر حرمة القسمين ، وقد ورد في ذلك عدّة من الأخبار.

وثانيهما : أن يكون بإيجاد شرط آخر غير الداعي كبيع العنب ممّن يعلم أنه يجعله خمرا ، وسيأتي الكلام فيه.

الرابع : أن يكون من قبيل عدم المانع ، وهذا يكون تارة مع الحرمة الفعليّة في حقّ الفاعل كسكوت الشخص عن المنع من المنكر ، ولا إشكال في الحرمة بشرائط النهي عن المنكر ، واخرى مع عدم الحرمة الفعليّة بالنسبة إلى الفاعل كسكوت العالم عن إعلام الجاهل كما فيما نحن فيه ، فإنّ صدور الحرام منه مشروط بعدم إعلامه. فهل يجب رفع الحرام بترك السكوت أم لا؟ وفيه إشكال. (١)»

لا يخفى أنّ العلّة التامّة مركّبة من ثلاثة أجزاء أصلية : المقتضي ، واجتماع الشروط ، وارتفاع الموانع ، فإذا تحققت الأجزاء الثلاثة برمّتها وجب قهرا تحقّق المعلول. والمراد بالمقتضي ـ ويقال له السبب أيضا ـ المؤثّر الذي يترشح منه وجود المعلول ، والمراد بالشرط ما له دخل في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل ، والمراد بالمانع ما يمنع من تأثير المقتضي أثره. فالنار مثلا مقتضية للإحراق ، والمجاورة لها شرط لتأثيرها ، ورطوبة الشيء مانعة عنه.

والظاهر أنّ المصنّف أراد من تربيع الأقسام بيان أنّ عمل الشخص إمّا أن يكون علّة تامّة لفعل الغير ، وإمّا أن يكون من أجزاء علّته بنحو الاقتضاء ، أو الشرطيّة ، أو عدم المانع ، فهذه أربعة أقسام :

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٢٥.

٨٥

فالقسم الأوّل أعني الإكراه عنده من قبيل العلّة التامّة ، وقد مرّت مناقشة الأستاذ الإمام في ذلك.

وجعل القسم الثاني أعني تقديم العالم شيئا محرّما للجاهل من قبيل المقتضي والسبب لصرفه في الحرام ، ثمّ حكم بحرمة ذلك لاستناد الفعل إليه عرفا وكونه في ذلك أقوى من المباشر الجاهل ولذا يستقرّ الضمان عليه في باب الإتلاف إن لم نقل بتوجّهه إليه ابتداء ، ولا محالة أراد المصنّف صورة العلم بصرفه في الحرام أو كونه معرضا لذلك ، فلو علمنا بأنّه لا يصرفه الّا في الحلال كالاستصباح مثلا فلا سببيّة للحرام كما هو واضح.

وجعل القسم الثالث من قبيل الشروط وجعله على وجهين ، إذ عمل الشخص إما أن يكون من قبيل إيجاد الداعي أو العناد في قلب المباشر ، وإمّا أن يكون من قبيل إيجاد بعض المقدّمات الخارجيّة لفعله كبيع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا.

وجعل القسم الرابع أعني السكوت في قبال عمل المباشر من قبيل عدم المانع ، وقسّمه إلى قسمين ، تارة مع الحرمة الفعليّة بالنسبة إلى الفاعل كسكوت الشخص عن المنع من المنكر ، واخرى مع عدم الحرمة الفعليّة في حقّه لكونه جاهلا.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنتعرّض حول كلام المصنف لجهات :

الجهة الأولى : قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه :

«أنّ في كلام المصنّف تهافتا واضحا ، حيث جعل ما نحن فيه تارة من القسم الثاني واخرى من القسم الرابع.

ويمكن توجيهه بوجهين : الأوّل : أن يراد بالفرض الذي أدخله في القسم الثاني فرض اعطاء الدهن المتنجس للغير الجاهل فإنّه لا يخلو من التسبيب إلى الحرام ، وبالفرض الذي جعله من القسم الرابع فرض الثوب المتنجّس الذي يصلّي فيه ، المذكور في سؤال السّيد المهنّا ، حيث إنّه ليس فيه تسبيب بل يكون من قبيل عدم المانع.

الوجه الثاني : أن يراد في كلا الموردين مسألة إعطاء الدهن المتنجّس للغير مع الالتزام فيها بإختلاف الجهتين ، بأن يكون الملحوظ في القسم الثاني كونه

٨٦

تسبيبا لإيقاع الجاهل في الحرام ، وفي القسم الرابع حرمة السكوت نفسا مع قطع النظر عن التسبيب.» (١)

أقول : الظاهر أنّ الوجه الأوّل أولى ، إذ الثاني لا يخلو من تكلّف ، مضافا إلى استلزامه لكون الشخص بفعل واحد مرتكبا لمعصيتين : معصية التسبيب إلى الحرام ومعصية السكوت في قباله ، ويشكل الالتزام بذلك.

الجهة الثانية : جعل المصنّف (ره) القسم الثاني أعني تقديم العالم شيئا محرّما للجاهل من قبيل السبب أي المقتضي.

والظاهر عدم صحّة ذلك ، إذ قد عرفت أنّ المقتضي ما منه وجود المعلول كالنار للإحراق مثلا ، ولا يخفى أنّ فعل المباشر معلول لإرادة نفسه بمبادئها النفسانيّة من تصوّر الفعل والتصديق بفائدته والميل والشوق ، وأمّا الشيء المشتاق إليه فموضوع للإرادة وشرط لتحقّقها وفعلها ، والشرط ما له دخل في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل.

وبالجملة فإعطاء الشيء للفاعل المباشر من شروط فعله ، كسائر الشروط المذكورة في القسم الثالث ، ولا يصحّ عدّه سببا له ، وبذلك صرّح المحقّق الإيرواني (ره) في حاشيته ، قال : «لم يتّضح لي الفرق بين هذا ولا حقه بقسميه حتى يصحّ عدّ هذا قسما برأسه وتسميته بالسبب وذاك بالشرط ، فإنّ تقديم الطعام أيضا قد يكون من قبيل إيجاد الداعي على الأكل ، وقد يكون من قبيل التمكين منه مع وجود الداعي كما في بيع العنب لمن يعمله خمرا.» (٢)

الجهة الثالثة : لا يخفى أنّ تقسيم المصنّف في المقام ـ مضافا إلى كون بعض تعبيراته على خلاف المصطلحات العلميّة كما مرّ ـ لا يفيد في المقام ، إذ التقسيم يجب أن يكون بلحاظ إختلاف الأقسام في الأحكام وكون كلّ قسم موضوعا لحكم خاصّ ، والأقسام الأربعة في كلام المصنّف ليست كذلك.

وقد صرّح بهذه النكتة المحقّق الإيرواني ومصباح الفقاهة. (٣)

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ١٢٣.

(٢) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني ، ص ٩.

(٣) راجع نفس المصدر السابق والصفحة ؛ ومصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ١٢١.

٨٧

الفائدة الثامنة :

أنحاء صدور الفعل عن المباشر

والأولى في مقام التقسيم أن يقال : إنّ صدور الفعل عن المباشر إمّا أن يقع عصيانا وطغيانا على المولى متّصفا بالحرمة الفعليّة ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل يقع منه عن اضطرار أو إكراه رافع للحرمة أو جهل يعذر فيه.

والجهل إمّا أن يكون بالحكم الكلي الإلهي وإمّا أن يكون بالموضوع ، والموضوع إمّا أن يكون بواقعه موضوعا للحكم الشرعي كالنجس بالنسبة إلى حرمة الاكل ، وإمّا أن يكون العلم مأخوذا فيه كالنجس بالنسبة إلى الصلاة فيه حيث إنّ المانع عن صحّتها هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة.

ثم الموضوع إما أن يكون من الأمور المهمّة التي لا يرضى الشارع بتحقّقها من أيّ شخص كان وفي أيّ حال كان كما في الدّماء والفروج والأموال ، ومثلها الأمور المرتبطة بحفظ نظام المسلمين وكيانهم ، وإمّا أن لا يكون كذلك بل من المحرّمات الجزئية الشخصيّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى المباشر.

وأمّا غير المباشر فإمّا أن يقع منه عمل وجودي من التسبيب أو الإغراء أو إيجاد الدّاعي ، وإما أن لا يقع منه إلّا السكوت في قبال المباشر وعمله.

فهذا ملخّص تقسيم مورد البحث بلحاظ إختلاف أحكامه.

فهنا مسائل :

١ ـ أن يقع الفعل عن المباشر عن عصيان وطغيان ، ففي هذه الصورة يقع التسبيب إليه وإغراؤه وتشويقه وإيجاد الداعي بالنسبة إليه حراما قطعا لا لقوّة السبب بل لأنّ التسبيب إلى المنكر والإغراء إليه قبيح عقلا ومحرّم شرعا ومن أظهر مصاديق الإعانة على الإثم مطلقا سواء قوي السبب أم ضعف.

ومن هذا القبيل توصيف الخمر له مثلا بأوصاف مشوّقة ليشربها ، أو سبّ آلهة المشركين

٨٨

الموجب لسبّهم الإله ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ.)(١)

وبذلك يعلم أنّ بيع العنب بقصد أن يجعل خمرا حرام قطعا ، وكذا إيجاد الداعي في نفس المشتري لذلك ، وأمّا بيعه ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا بدون قصد ذلك وبدون إيجاد الداعي في نفسه فهل يصدق عليه الإعانة على الإثم أم لا؟ فيه كلام ، والأخبار الصحيحة وردت بجوازه ، وسيأتي البحث فيه في النوع الثاني. هذا.

وكما يحرم الإغراء على المنكر يحرم السكوت في قباله أيضا ، لوجوب النهي عن المنكر مع تحقّق شرائطه.

وأما إذا كان صدور الفعل عن المباشر لا عن عصيان وطغيان بل لعذر رافع للحرمة فعلا من اضطرار أو إكراه أو جهل.

٢ ـ فإن كان عن اضطرار فالتسبيب إلى فعله والإغراء عليه حينئذ لا يحرم بل قد يجب حفظا لنفس المضطرّ.

٣ ـ وإن كان عن إكراه رافع للحرمة فلا يجوز معاونته في فعل الحرام ، وعمل المكره بنفسه محرّم لا لأقوائيّته بل لكونه ظلما في حقّ المكره وتسبيبا إلى الحرام ، وهما بنفسهما محرّمان كما مرّ ، ووزر المكره عليه كما أنّ ضمان إتلافه يستقرّ عليه إن لم نقل بتوجّهه إليه ابتداء.

٤ ـ وإن كان عن جهل يعذر فيه وكان الجهل بالحكم الكلي وجب على العالم إعلامه مطلقا لوجوب إرشاد الجاهل وتبليغ احكام الله ـ تعالى ـ نسلا بعد نسل إلى يوم القيامة ، كما يشهد بذلك الكتاب والسنّة :

قال الله ـ تعالى ـ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٢)

وفي موثقة طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قرأت في كتاب عليّ عليه‌السلام : إنّ الله لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهّال ، لأنّ العلم كان قبل الجهل.» (٣)

__________________

(١) سورة الأنعام (٦) ، الآية ١٠٨.

(٢) سورة التوبة (٩) ، الآية ١٢٢.

(٣) الكافي ، ج ١ ، ص ٤١ ، كتاب فضل العلم ، باب بذل العلم ، الحديث ١.

٨٩

٥ ـ وإن كان الجهل بالموضوع وكان العلم مأخوذا في الموضوع فالظاهر عدم وجوب الإعلام ، كمن رأى نجاسة في ثوب المصلّي ، لما مرّ من أنّ المانع عن صحّة الصلاة هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة

وقد مرّت موثقة ابن بكير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه وهو لا يصلّي؟ فيه؟ قال : «لا يعلمه.» قال : قلت : فإن أعلمه؟ قال : «يعيد.» (١)

والأمر بالإعادة محمول على الاستحباب أو كون الإعلام في أثناء الصلاة.

وفي صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلّي؟ قال : «لا يؤذنه حتى ينصرف.» (٢)

٦ ـ وإن لم يكن العلم مأخوذا في موضوع الحكم بل كان الموضوع بواقعه مبغوضا للمولى غاية الأمر جهل المباشر به جهلا يعذر فيه فهل يجوز من الغير التسبيب والإغراء إليه كتقديم الطعام النجس أو الحرام إليه ليأكله مع جهله أم لا؟

الظاهر أيضا الحرمة كما مرّ ، لاستظهار ذلك من الأخبار الدالّة على وجوب الإعلام في الدهن المتنجّس لمن يشتريه ، وعدم جواز بيع المختلط بالميتة إلّا لمن يستحلّها ، وعدم جواز بيع العجين بالماء النجس إلّا لمن يستحلّ الميتة ونحو ذلك ممّا مرّ.

وقد مرّ منّا بيان أنّ الأحكام الواقعيّة ليست مقيدة بعلم المكلفين بها وأنّها ليست جزافيّة بل تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة ، والغرض من البعث أو الزجر ليس الّا تحصيل المصالح الملزمة والاحتراز عن المفاسد الملزمة ، وكون المباشر معذورا لجهله لا يصحّح فعل العالم. وكما يحرم مخالفة التكاليف وأغراض المولى مباشرة ، يحرم مخالفتها بالتسبيب أيضا بإلقاء الجاهل فيها ، فتأمّل.

ولا نريد بذلك صحّة إسناد فعل المباشر إلى السّبب حتى يناقش في ذلك بأنّ شرب الخمر مثلا صدر عن المباشر الجاهل لا عمّن قدّمها له ، بل نريد بيان أن نفس التسبيب بما أنّه موجب لصدور مبغوض المولى ونقض غرضه يكون محرّما شرعا.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢ ، ص ١٠٦٩ ، الباب ٤٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٣.

(٢) نفس المصدر ، الحديث ١.

٩٠

قال الأستاذ الإمام (ره) في هذا المجال ما لفظه :

«ولا يبعد أن يكون مراد الشيخ من كون فعل الشخص سببا للحرام وقوّة السبب وضعف المباشر ما أشرنا إليه من أنّ الفعل المجهول بقي على مبغوضيّته ، ومعه لا يجوز التسبيب إلى ارتكاب الجاهل ، وأنّ وجود المبغوض مستند إلى السبب بنحو أقوى ، وليس مراده صدق آكل النجس وشاربه على السبب حتى يستشكل عليه بأن عنوان المحرّم إذا كان اختيار مباشرة الفعل كما هو ظاهر أدلة المحرّمات لا ينسب إلى السبب بل ولا إلى العلّة التامّة ، فمن أوجر الخمر في حلق الغير قهرا لا يصدق عليه أنّه شرب الخمر ، بل في مثله لا يتحقّق عنوان المحرّم رأسا فإنّ الشارب غير مختار ، والعلّة غير شارب.» (١)

ما ذكرنا إلى الآن كان فيما إذا صدر عن غير المباشر عمل وجودي من التسبيب والإغراء ونحوهما.

٧ ـ وأمّا إذا لم يكن منه الا السّكوت في قبال عمل المباشر فإمّا أن يكون مع علم المباشر بحرمة فعله ، وإمّا أن يكون مع جهل يعذر فيه ، ثمّ الجهل إمّا أن يكون بالحكم الكلي أو بالموضوع الخارجي. والمحرّم إمّا أن يكون من الأمور المهمّة وإمّا أن يكون من المحرّمات العادية.

أمّا مع علم المباشر بالحرمة الفعليّة فقد مرّ عدم جواز السكوت في قباله لوجوب النهي عن المنكر بشرائطه. وكذا مع الجهل بالحكم الكلي لوجوب إرشاد الجاهل وتبليغ الأحكام كما مرّ.

وأمّا مع الجهل بالموضوع ففي الأمور المهمّة يجب الإعلام بل الردع إن لم يرتدع بمجرد الإعلام كما في المتن ويظهر من المصنّف حصرها في الثلاثة ، أعني الدماء والفروج والأموال ، مع أنّ المصالح العامّة كحفظ نظام المسلمين وكيانهم مثلا من أهم المسائل التي يجب رعايتها بأيّ نحو كان.

__________________

(١) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني ، ج ١ ، ص ٩٧ (ط. الجديدة ، ج ١ ، ص ١٤٥). والمستشكل هو المحقّق الشيرازي في حاشيته على المكاسب ، ص ٢١ و٢٢.

٩١

وأمّا في المحرمات العادية الجزئية فلا دليل على وجوب الإعلام والأصل يقتضي العدم ، بل يمكن القول بحرمته إن أوجب العسر أو الأذى. وقد دلّت الأخبار والفتاوى على عدم وجوب السؤال والتحقيق في الموضوعات ، فلا يجب الإعلام فيها أيضا ولا يجري فيها أدلّة النهي عن المنكر ولا أدلّة وجوب إرشاد الجاهل ، إذ المفروض جهل المباشر فلا يقع الفعل منه منكرا وأدلّة إرشاد الجاهل تختصّ بالأحكام الكليّة.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ المفروض أنّ العمل بواقعه مبغوض للشارع لاشتماله على المفسدة الملزمة ، فإذا أمكن المنع منه حكم العقل بلزومه حفظا لغرض الشارع ، نظير ما قلنا في مسألة تقديم الطعام النجس للجاهل ، فتدبّر. (١)

الفائدة التاسعة :

بيع العنب ممن يعمله خمرا وفيها خمس مسائل اصولية :

«١ ـ مفهوم الإعانة على الإثم ومصاديقها ومقدمة الحرام وأقسامها.

٢ ـ الأمر والنهي المولويان هل يتعلقان بالمقدمات أم لا؟

٣ ـ هل يمكن تعلق الأمر المولوي بإطاعة الأوامر والنواهي المولوية أم لا؟

٤ ـ هل قصد الحرام والتجري حرام شرعي أم لا؟

٥ ـ هل الكفار مكلّفون بالفروع ، كما أنهم مكلّفون بالاصول أم لا؟» (٢)

تعقيب المصنف البحث فيما يعتبر في صدق مفهوم الإعانة على الإثم

أقول : محصّل ما ذكره المصنّف (ره) أنّ وزان بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا وزان إعطاء العصا للظالم ، إذ الداعي في كليهما تمكين الغير من مقدمة عمله ، وأمّا في تجارة التاجر فإنّ داعيه إلى تجارته تحصيل المال لنفسه لا للعشّار ولم يقصد وصول العشّار إلى مقدمة فعله.

ولكن يمكن أن يناقش أوّلا بأنّ تجارة التاجر شرط لأخذ الظالم العشور ، والمفروض كون هذا الشرط مقصودا للتاجر ، فوزانها وزان تملك المشتري للعنب الذي هو مقدمة لعمله

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٢٥ إلى ٣٣.

(٢) نفس المصدر ، ص ٣٢٣.

٩٢

المحرّم ، وفي كليهما قصد ذات المقدمة لا بما انّها مقدمة للعمل المحرّم.

وثانيا : ـ كما سيشير المصنّف أيضا ـ بأنّ الاعتبار في صدق المفاهيم ليس بالدّقة العقلية بل بالصدق العرفي ، والعرف يفرّق بين مثال إعطاء العصا للظالم وبين بيع العنب لمن يخمّر ، حيث إنّ الظالم قصد الضرب فعلا وتهيّأ له ، واختياره وإن لم يسلب بعد لكن لمّا لم يكن بين قصده وبين تحقق الضرب منه حالة منتظرة الّا وقوع العصا في يده صارت فائدة إعطاء العصا له في هذه الحالة منحصرة في الضرب بها ويعدّ هذا سببا لوقوع الضرب والجزء الأخير من علّته ، وهذا بخلاف بيع العنب ، لوقوع الفصل الزماني بين قصد المشتري للتخمير وبين وقوعه خارجا ، ويمكن انصرافه عن قصده وصرف العنب في مصرف آخر حلال ، فلا يعدّ البيع منه سببا لوقوع التخمير خارجا ولا سيّما إذا لم ينحصر البائع في هذا الشخص وأمكن تحصيل العنب من بائع آخر. وإلى ما ذكرنا أشار المحقق الأردبيلي في آيات احكامه ، حيث جعل صدق الإعانة مدار القصد أو الصدق العرفي. (١) ولو فرض انعكاس الأمر في المثالين انعكس الصدق العرفي أيضا كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال بفرق العرف أيضا بين قصد الغاية المحرمة وعدم قصدها في صدق الإعانة ، كما يفرّق بين صورة العلم بترتّب الغاية وعدمه ، وإن منعنا ذلك سابقا. وعدم كون الإعانة من العناوين المتقوّمة بالقصد كالتعظيم ونحوه ـ على ما مرّ بيانه ـ لا ينافي توقف صدقها وانطباقها على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على قصد هذه الغاية الخاصة والعلم بترتبها معا.

وبالجملة فرق بين قصد العنوان في العناوين القصدية الاعتبارية وبين قصد الغاية للفعل ، فكون الإعانة من العناوين الواقعية غير المتقوّمة بقصد عنوانها لا ينافي توقف صدقها عرفا على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على قصد هذه الغاية. فافهم. (٢)

هل شرط الحرام حرام مطلقا أم لا؟

«فإذا بنينا على أنّ شرط الحرام حرام مع فعله توصّلا إلى الحرام ـ كما

__________________

(١) زبدة البيان ، ص ٢٩٧.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٢٣ و٣٢٤.

٩٣

جزم به بعض ـ دخل ما نحن فيه في الإعانة على المحرم ، فيكون بيع العنب إعانة على تملك العنب المحرم مع قصد التوصل به إلى التخمير وان لم يكن إعانة على نفس التخمير أو على شرب الخمر.» (١)

وممّن جزم بذلك الفاضل النراقي (ره) في العوائد ، حيث عقد فيه لهذه المسألة عائدة مستقلّة وقال ما ملخّصه :

«مقدمة الحرام إن كانت سببا له فهو حرام ومعصية كما ثبت في الاصول كوضع النار على يد زيد بعد النهي عن إحراقها ، وإن كانت شرطا له فإن لم يكن قصده من فعله التوصّل إلى المحرّم فلا شكّ في عدم حرمته وعدم كونه معصية ، كما إذا أوقد نارا في المثال أو اشترى فحما أو حطبا أو سافر إلى بلدة فيها من نهي من قتله أو فيها فاحشة أو خمر من غير أن يريد التوصل بها إلى الحرام. وإن قصد من فعله التوصل إلى المحرّم كأن يسافر إلى البلدة المذكورة لأجل قتل الرجل أو شرب الخمر ونحوهما فالظاهر كون هذا الفعل معصية وحراما ، فلو سافر بهذا القصد وحصل له مانع عن فعل أصل المحرّم ولم يفعله يكون آثما بأصل المسافرة عاصيا به مستحقا للعقاب لأجله ، بل لو فعل المحرّم يكون له العقاب والإثم لأجلهما. ويتفرع عليه أيضا حرمة المعاونة على هذه المقدمة إذا فعلت بقصد التوصّل وإن لم يعلم أنّه يحصل له التوصّل ويتمّ ما قصده وأراده ...» (٢)

هذا. والمصنّف ناقش في ذلك ، وقد مرّ منا أيضا أنّ المحرّم شرعا ليس الّا ما اشتمل على المفسدة وتعلّق به النهي المولوي النفسي دون مقدماته. فكما لا وجوب لمقدمة الواجب وجوبا شرعيا وإن أمر به إرشادا كما في قوله : «ادخل السوق واشتر اللحم» كذلك لا حرمة لمقدمة الحرام أيضا وإن كانت سببية وتعلق بها النهي صورة.

نعم لا نأبى عن تعلق النهي المولوي بها في بعض الموارد سياسة واحتياطا على ما قيل في غرس العنب للخمر وكتابة الربا والشهادة عليه ونحو ذلك. كما لا ننكر كون الإتيان بها بقصد التوصّل إلى الحرام مبغوضا من باب التجري. ولكن هذا غير عنوان العصيان المنتزع عن

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٢٤.

(٢) عوائد الأيّام ، ص ٢٥ ، العائدة السادسة.

٩٤

مخالفة الأمر والنهي المولويين في قبال عنوان الإطاعة المنتزع عن موافقتهما. والالتزام باستحقاق عقوبات كثيرة في ارتكاب حرام واحد مشتمل على مقدمات كثيرة أتي بها بقصده عجيب. (١)

كلام الفاضل النراقي في شرط الحرام ونقده

«وإن شئت قلت : إنّ شراء العنب للتخمير حرام كغرس العنب لأجل ذلك ، فالبائع إنّما يعين على الشراء المحرم ... وكذا الكلام في بائع الطعام على من يرتكب المعاصي فإنّه لو علم إرادته من الطعام المبيع التقوي به ـ عند التملك ـ على المعصية حرم البيع منه. وأمّا العلم بأنّه يحصل من هذا الطعام قوة على المعصية يتوصّل بها إليها فلا يوجب التحريم. هذا.

ولكن الحكم بحرمة الإتيان بشرط الحرام توصلا إليه قد يمنع ، الا من حيث صدق التجري.

والبيع ليس إعانة عليه وإن كان إعانة على الشراء الا انّه في نفسه ليس تجرّيا ، فإنّ التجري يحصل بالفعل المتلبس بالقصد.

وتوهّم أنّ الفعل مقدمة له فيحرم الإعانة مدفوع بأنّه لم يوجد قصد إلى التجري حتى يحرم والّا لزم التسلسل ، فافهم.» (٢)

كان محصّل كلام الفاضل النراقي (ره) :

«أنّ شرط الحرام إن أتي به بقصد الحرام يكون حراما شرعا وإن لم يترتب عليه نفس الحرام. ومقتضى ذلك كون شراء العنب بقصد التخمير حراما وكون البيع إعانة على هذا الشراء المحرّم فيحرم لذلك لتحقق شرطيها من القصد وترتّب المعان عليه.»

ومحصّل كلام المصنّف في ردّه :

«منع حرمة شرط الحرام وإن أتي به بقصده ، فلا يحرم الشراء في المثال إلّا من

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٢٤ و٣٢٥.

(٢) نفس المصدر ، ص ٣٢٦.

٩٥

حيث التجري. ولو فرض حرمة التجري لم يكن البيع إعانة عليه بل على نفس الشراء ، وهو بنفسه ليس تجريا وحراما بل بضميمة قصد التخمير به ، إذ قد اعترف الفاضل بأنّ شرط الحرام ليس حراما إلّا مع قصد التوصّل به إلى الحرام.» وتوهّم انّ نفس الشراء وإن لم يكن تجريا لكنه مقدمة للتجري المحرّم فيكون محرما من جهة أنّه شرط للحرام ويكون البيع إعانة عليه ، مدفوع بما أوضحه المحقق الشيرازي (ره) في حاشيته ، ومحصّله :

«أنّ المفروض عدم كفاية المقدمية في التحريم ما لم تقع بقصد ترتب ذي المقدمة المحرم ، فلا يحرم الشراء في المقام ما لم يقع بقصد وقوع الحرام أعني التجري الأوّل ، فيكون تجريا ثانيا مقدمة للتجري الأوّل ، فيلزم التسلسل ، إذ ننقل الكلام حينئذ إلى هذا التجري الثاني فيقال : إنّ البيع مقدمة لذات الشراء وذات الشراء فيه ليس محرما بل إذا وقع بقصد ترتب التجري الثاني عليه ، فيحتاج إلى قصد ثالث ويحصل تجرّ ثالث وهكذا إلى ما لا نهاية له من القصود والتجريّات وفي كلّ مرتبة ليس البيع إعانة على الشراء بقصد التجري بل على ذات الشراء.» (١)

أقول : وقول المصنّف : «فافهم» لعلّه إشارة إلى أمرين :

الأوّل : أنّه على فرض صحة التسلسل ووقوع قصود وتجريات غير متناهية في الخارج لا ينفع الفاضل (ره) ، إذ مع ذلك لا يصير ذات الشراء محرما حتى يحرم البيع بعنوان الإعانة عليه ، والبيع مقدمة لذات الشراء لا للتجري المحرم.

الثاني : أنّه لا دليل على حرمة التجري شرعا وإن كان قبيحا عقلا. بل وزانه وزان العصيان والإطاعة المنتزعتين عن مخالفة الأوامر والنواهي المولوية وموافقتهما ، فهي عناوين واقعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر أو النواهي المولوية ومنتزعة عنها ، فلا يتعلق بأنفسها أمر أو نهي مولوي نفسي وإلّا لزم تسلسل الأوامر أو النواهي في كل مورد ورد فيه أمر أو نهي مولوي ووقوع إطاعات أو عصيانات أو تجريات غير متناهية واستحقاق عقوبات غير متناهية في مخالفة كلّ أمر أو نهي ، وهذا باطل جزما. وعلى هذا فالأمر المتعلق بعنوان الإطاعة كالنهي المتعلق بالعصيان أو التجري إرشادي محض ، فتدبّر.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٥٠ ، ذيل قول المصنّف : ... مدفوع بأنّه لم يوجد قصد التجري.

٩٦

نقد المحقق الإيرواني لكلام الشيخ

وأورد المحقق الإيرواني (ره) في حاشيته في المقام على المصنّف بوجهين :

الأوّل : ما حاصله :

«أنّه إن قلنا بأنّ الحرام في باب التجري هو قصد الشراء لم يكن البيع إعانة عليه ، وأمّا إذا قلنا بأنّ الحرام فيه هو نفس الفعل المتجرأ به أعني الشراء دون القصد ، والقصد واسطة في الثبوت ولحوق الحكم بالفعل الخارجي كان البيع إعانة عليه فكان إعانة على الإثم.»

الثاني : ما حاصله :

«أنّ القصد إنّما يعتبر في حرمة المقدمات الخارجية للحرام دون المقدمات الداخلية. فإذا حرم الفعل أعني الشراء بقصد التوصّل به إلى الحرام بعنوان التجري حرم نفس الفعل ضمنا بعين حرمة الكلّ لا بحرمة اخرى مقدميّة لتحتاج إلى قصد آخر حتى يلزم التسلسل في القصود.» (١)

أقول : محصّل كلامه يرجع إلى البحث في أنّ المحرّم في باب التجري ـ على القول بحرمته ـ هل هو القصد دون الفعل ، أو الفعل فقط والقصد علّة محضة ، أو هما معا؟

والذي يسهّل الخطب ما مرّ من منع الحرمة الشرعية فيه رأسا وأنّ وزانه وزان العصيان والإطاعة. والالتزام بحرمة القصد فقط مخالف لما يستفاد من مذاق الشرع من عدم العقوبة على النيات والقصود ما لم تبرز في الخارج. كما أنّ الالتزام بالحرمة الشرعية لذات الفعل الحلال بمجرد تعلق قصد الحرام به ـ كشرب الماء بقصد كونه خمرا ـ بعيد في الغاية. نعم لا إشكال في حكم العقل بقبحه بعنوان التجري على المولى.

فإن قلت : قد حكموا بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع أيضا ، فحكم العقل بالقبح يستتبع حكم الشرع بالحرمة.

قلت : ما حكموا به إنّما هو في العناوين الأوّليّة وملاكاتها من المصالح والمفاسد النفس

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٦ ، ذيل قول المصنّف : والبيع ليس إعانة ... وقوله : مدفوع بأنّه ...

٩٧

الأمرية لا في العناوين الواقعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر والنواهي المولوية كعناوين الإطاعة والعصيان والتجري كما مرّ بيانه. (١)

موارد النهي بالخصوص عن بعض شروط الحرام

«نعم لو ورد النهي بالخصوص عن بعض شروط الحرام كالغرس للخمر ، دخل الإعانة عليه في الإعانة على الإثم. كما أنّه لو استدللنا بفحوى ما دلّ على لعن الغارس على حرمة التملك للتخمير حرم الإعانة عليه أيضا بالبيع.

فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ قصد الغير لفعل الحرام معتبر قطعا في حرمة فعل المعين ، وأنّ محلّ الكلام هي الإعانة على شرط الحرام بقصد تحقق الشرط دون المشروط وأنّها هل تعدّ إعانة على المشروط فتحرم أم لا فلا تحرم ما لم يثبت حرمة الشرط من غير جهة التجري.» (٢)

ففي الوسائل عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها.» (٣)

وفيه في حديث المناهي :

«أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يشتري الخمر وأن يسقي الخمر ، وقال : لعن الله الخمر وغارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه.» (٤) هذا.

ولكن ـ مضافا إلى ضعف الروايتين سندا ولا سيّما الأولى منهما بعمرو بن شمر (٥) يمكن المناقشة في دلالتهما ، لعدم وضوح دلالة اللعن ـ ولا سيّما إذا تعلّق بالشخص ـ على النهي

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٢٦ الى ٣٢٩.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٢٩.

(٣) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٦٥ ، الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤. وسنده : الكليني ، عن أبي علي الاشعري ، عن محمّد بن سالم ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر.

(٤) نفس المصدر والباب ، الحديث ٥. وسنده : الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد ، عن الحسين بن زيد.

(٥) تنقيح المقال ، ج ٢ ، ص ٣٣٢.

٩٨

المولوي الشرعي. وهل لا يصحّ لعن المتجري على المولى بفعل بعض مقدمات الحرام بقصد التوصل بها إليه؟ فتأمّل.

وقال المحقق الإيرواني (ره) في حاشيته :

«ليت شعري ما الفرق بين أن يرد النهي بالخصوص عن الغرس لأجل التخمير وبين أن يحرم ذلك بعنوان التجري؟ فإنّ قصد الحرام معتبر في كلا التقديرين مع أن البيع ليس إعانة إلّا على ذات ما هو المقصود ، فإن حرم ذات ما هو المقصود ضمنا بحرمته بما هو مقصود أو كان القصد واسطة في الثبوت دون العروض كان البيع إعانة على الحرام وإلّا فلا.» (١)

أقول : ويرد هذا الإشكال بعينه أيضا على ما ذكره المصنّف من الاستدلال لحرمة التملك للتخمير بفحوى ما دلّ على لعن الغارس ، إذا التملك بنفسه ليس محرما بل إذا وقع بقصد التخمير.

ويرد أيضا على القول بحرمة المقدمة إذا أتي بها بقصد التوصل بها إلى ذيها كما في كلام الفاضل النراقي (ره) ، فلم خصّ المصنف الإشكال بفرض التجري؟ والحلّ في الجميع ما ذكره المحقق الإيرواني من الوجهين ، فتدبّر. (٢)

الفائدة العاشرة :

الإشكال المهم على الاستدلال للمسألة بآية التعاون

«ومن ذلك يعلم ما فيما تقدم عن حاشية الإرشاد من أنّه لو كان بيع العنب ممن يعمله خمرا اعانة لزم المنع عن معاملة اكثر الناس.» (٣)

من الإشكالات المهمّة الواردة على الاستدلال بآية التعاون في المقام ما مرّ عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد من أنّه لو تمّ هذا الاستدلال يمنع معاملة أكثر الناس. وقد مرّ بيان ذلك بأنّ السيرة قد استمرّت على بيع المطاعم والمشارب للكفّار في شهر رمضان ، مع علمهم بأكلهم ،

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٦ ، ذيل قول المصنّف : نعم لو ورد النهي ...

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٢٩ و٣٣٠.

(٣) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٣١.

٩٩

وعلى بيعهم بساتين العنب والنخيل مع العلم بجعل بعضه خمرا ، وعلى معاملة الملوك والأمراء فيما يعلم صرفه في تقوية العساكر المساعدين لهم على الظلم والباطل ، وعلى إجارة الدور والمساكن والمراكب لهم ، إلى غير ذلك.

فالمحقق الثاني تخلّص عن هذا الإشكال ، بأنّ المعتبر في صدق الإعانة قصد البائع ترتب الحرام ، والبائع في هذه الموارد لم يقصد ذلك وإن علم به.

وقال المصنّف : إنّ قصد الغير لفعل الحرام معتبر قطعا في حرمة فعل المعين ، فلو علم إرادته من الطعام المشترى التقوي به على المعصية حرم البيع منه ، وأمّا العلم بأنّه يحصل له قوّة عليها فلا يوجب التحريم ، فكلامه هنا ناظر إلى هذا التفصيل وأنّ البائع غالبا لا علم له بإرادة المشتري ذلك.

ولكن هنا شيء وهو أنّ هذا الكلام من المصنّف كان على مبنى حرمة الشرط المأتي به بقصد التوصّل إلى الحرام وقد منع ذلك هو إلّا من حيث صدق التجري.

وفي مصباح الفقاهة أنكر حرمة الإعانة على الإثم وجعل استقرار هذه السيرة من أدلّة جوازها. (١)

جواب الأستاذ الإمام (ره) عن الإشكال ونقد جوابه

والأستاذ الإمام (ره) قال في مقام الجواب عن هذا الإشكال ما ملخّصه :

«أمّا عن السيرة ببيع المطاعم للكفار وبيع العنب لهم فحكم العقل بالقبح وصدق الإعانة على الإثم فرع كون الإتيان بما ذكر إثما وعصيانا ، وهو ممنوع ـ لا لكون الكفار غير مكلفين بالفروع فإنّ الحقّ أنّهم مكلفون ومعاقبون عليها ـ بل لأنّ أكثر هم إلّا ما قلّ وندر قاصرون لا مقصّرون ، أمّا عوامّهم فظاهر ، لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم ، بل هم قاطعون بصحّة مذهبهم وبطلان سائر المذاهب ، نظير عوامّ المسلمين ، والقاطع معذور في متابعة قطعه ولا يكون آثما وعاصيا. وأمّا غير عوامّهم فالغالب فيهم أنّه بواسطة التلقينات من

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ١٨٣ ، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

١٠٠