مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

الفصل الثاني :

النواهي

وهو يشتمل على فوائد :

٦١
٦٢

الفائدة الاولى :

النهي في المعاملات

«النهي في المعاملات هل يقتضي فسادها؟ ويبحث عن أقسام النهي ، ومنها : أن يكون المتعلق للنهي التسبّب بهذا السبب إلى هذا المسبّب ، من دون أن يتعلق النهي بنفس السبب أو المسبّب.»

يمكن أن يمثل له بالنهي عن تملك الزيادة بالبيع الربوي فإنّ نفس الإنشاء وكذا تملك الزيادة بمثل الهبة ونحوها لا محذور فيه ، وإنما المحرم هو التسبّب بالبيع لتملك الزيادة. (١)

الصور الثلاث لتعلق النهي بالمعاملات

«محل البحث حرمة الاكتساب وأنها قد تكون تكليفية محضة وقد تكون وضعية والمراد منهما ، ويبحث أيضا عن الصور الثلاث لتعلق النهي بالمعاملات ، وعما هو الموضوع في الأحكام التكليفية هل هو أفعال المكلفين بشرط صدورها عن قصد ، او قصود المكلفين ، أو المركب من الفعل والقصد؟» (٢)

لا يخفى أنّ حرمة الاكتساب قد تكون تكليفيّة محضة ، وقد تكون وضعيّة فقط ، وقد تكون تكليفيّة ووضعيّة معا. فالبيع وقت النداء يحرم تكليفا فقط. وإن شئت قلت : ليس البيع بما أنّه معاملة خاصّة حراما بل بما أنّه شاغل عن الجمعة ، فيعمّ الحرمة كلّ فعل شاغل بما أنّه فعل. وبيع ما لا ينتفع به ، حرام وضعا فقط ، وبيع الخمر حرام تكليفا ووضعا وكذلك المعاملة الربويّة.

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٨٦.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ١ ، ص ١٥٩.

٦٣

ثمّ اعلم : أنّه حين إنشاء المعاملة يفرض هنا أمور :

الأوّل : السبب أعني القول أو الفعل الصادر بقصد الإنشاء.

الثاني : المسبّب المنشأ في عالم الاعتبار بنحو الجدّ.

الثالث : اعتبار العقلاء والشرع لما اعتبره المتعاملان وأنشئاه.

الرابع : الآثار المترتبة خارجا من تسليم العوضين والتصرّف فيهما على أساس ما اعتبراه.

الخامس : قصد تحقّق المسبّب وقصد ترتّب الآثار المتحقّق في قلب المتعاقدين.

فما هو موضوع الحرمة التكليفيّة من بين هذه الأمور الخمسة؟ في المسألة أقوال :

القول الأوّل : أن يكون الموضوع لها حقيقة المعاملة ، أعني النقل والانتقال الجدّي بقصد ترتّب الآثار المحرّمة عليها.

وبعبارة اخرى : المحرّم هو المسبّب ولكن مقيّدا بقصد ترتّب الآثار المحرّمة عليه. وهو الظاهر من كلام المصنّف.

أقول : النقل والانتقال في كلام المصنّف يحتمل بدوا أن يراد بهما إنشاء النقل والانتقال ، وأن يراد بهما حقيقة النقل والانتقال الاعتبارية المتحقّقة بالإنشاء والقصد الجدّي ، وأن يراد بهما النقل والانتقال الخارجيان أعني الإقباض والقبض.

ولكن الظاهر منه إرادة الثاني ، فيكون الحرام عنده تكليفا هو العقد المسبّبي أعني حقيقة النقل والانتقال الجديّة الاعتباريّة مقيّدة بقصد ترتيب الآثار المحرّمة عليها ، وعلّل ذلك أخيرا بقوله : «لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف ...» يعني أنّه لو قصد الآثار المحلّلة لم تحرم المعاملة تكليفا بالحرمة الذاتيّة وإن كانت فاسدة بحسب الوضع فتحرم حينئذ إن أتي بها تشريعا. فلو باع الخمر لا بقصد الشرب بل بقصد التخليل أو التطيين بها مثلا أو بنحو الإطلاق لم يشمله دليل حرمة بيعها وإن حرم من باب التشريع.

نقد كلام الشيخ في المسألة

ويرد على ما ذكره أوّلا : ما أورده في مصباح الفقاهة ومحصّله :

«أن تقييد دليل حرمة البيع بالقصد المذكور لا موجب له بعد إطلاق الدليل.

٦٤

نعم لو كان الدليل لها الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته أو عموم دليل الإعانة على الإثم لتمّ ما ذكره في الجملة ، لكن كلام الشيخ أعمّ من ذلك. ودعوى الانصراف المذكور جزافيّة. ونظير ذلك أن يدّعي انصراف أدلّة تحريم الزنا إلى ذات البعل مثلا. والالتزام بمثل هذه الانصرافات يستدعي تأسيس فقه جديد.» (١)

وثانيا : لو سلّم انصراف دليل التكليف إلى صورة القصد المذكور فلم لا يقال بانصراف دليل الوضع أيضا إلى هذه الصورة؟ وعلى هذا فلا تفسد المعاملة مع قصد المنافع المحلّلة العقلائيّة وإن كانت نادرة إذا كانت يرغب فيها. بل مرّت دلالة رواية تحف العقول على دوران حرمة المعاملة مدار الآثار المحرّمة ، حيث علّل فيها حرمة بيع النجس وغيره بقوله : «لما فيه من الفساد» وصرّح فيها بحلّيّة الصنائع المشتملة على جهة الفساد والصلاح معا. وفي ذلك إشعار بحلّيّة المعاملة عليها أيضا إذا وقعت بقصد المنافع المحلّلة.

وعمدة الدليل على حرمة بيع المحرّمات وفساده هو الإجماع. والمتيقّن من موارده صورة القصد المذكور. ومقتضى ذلك جواز بيع الخمر للتخليل والدّم للتزريق بالمرضى مثلا.

والشيخ وأمثاله وإن حملوا لفظ الحرمة في الرواية على الحرمة التكليفيّة لكن نحن منعنا ذلك وقلنا باستعمال اللفظ في الأعم من التكليف والوضع وأقمنا لذلك شواهد.

هذا مضافا إلى أنّ الشيخ (ره) لا يقول بجعل الأحكام الوضعيّة مستقلا بل بانتزاعها من الأحكام التكليفيّة (٢). فإذا قال بانصراف التكليف في المقام إلى صورة القصد المذكور كان اللازم أن يقول بانصراف الوضع أيضا لأنّه فرعه.

وثالثا : أنّ مقتضى كون الموضوع للحرمة التكليفية المسبّب أعني حقيقة النقل والانتقال هو صحّة المسبّب وتحقّقه بإيجاد سببه ، إذ الحرمة التكليفيّة تتعلّق بما هو تحت اختيار المكلّف. فإن كان المسبّب يتحقّق بسبب إيجاد سببه كان مقدورا للمكلّف بالقدرة على سببه. وإن كان لا يتحقّق بذلك فلا يكون تحت اختياره حتى يحرم عليه.

وبعبارة اخرى : النهي عن حقيقة المعاملة يكشف عن صحّتها لو أوقعت وإلّا لم يكن

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٢٩.

(٢) راجع فرائد الأصول ، ص ٣٥٠.

٦٥

معنى للنهي التحريمي عنها. ولكن المشهور القائلين بحرمة بيع الخمر وأمثالها قائلون بفساد المعاملة أيضا ، فلا يمكن كون متعلّق النهي حقيقة المسبّب.

فإن قلت : صحّة المعاملة تتقوّم باعتبار المتعاملين لها جدّا مضافا إلى اعتبار العرف والشرع لذلك. وليس اعتبار العرف والشرع تحت اختيار المكلّف حتى يتعلّق به التحريم ، فالتحريم يتعلّق بالقسمة التي تكون تحت اختياره أعني النقل بقصد الجدّ مع قطع النظر عن إمضاء الشرع له.

قلت : هذا رجوع عن كون المتعلّق للحرمة حقيقة النقل والانتقال ، ومآله إلى كون المحرّم إنشاء المتعاملين أو المنشأ في اعتبارهما فقط.

نقد آخر لكلام الشيخ في المسألة

ورابعا : أنّ ما ذكره الشيخ أخيرا من أنّه لو قصد الأثر المحلّل تكون المعاملة محرّمة من حيث التشريع.

يرد عليه أوّلا : أنّ التشريع إنّما يصدق إذا أتي بالمعاملة بقصد أن يكون صحيحا في الشرع ، وليس كلّ من يقدم على معاملة فاسدة يريد إدخالها في الشرع ، بل ربّما يريد التسلّط على العوض المأخوذ ، صحيحة كانت المعاملة أو فاسدة.

وثانيا : أنّ المحرّم في باب التشريع هو القصد الذي يتحقق في قلب المشرّع ، وسراية الحرمة إلى العمل المشرّع فيه محلّ كلام. نظير ما قيل في التجري من عدم سراية المبغوضيّة والحرمة إلى الفعل المتجرى به ، فتأمّل.

القول الثاني : أن يكون الموضوع للحرمة التكليفيّة : حقيقة النقل والانتقال من دون تقييدها بقصد الأثر المحرّم.

قال في منية الطالب ما ملخّصه :

«ثمّ إنّ الحرمة المتعلّقة بالمعاملة عبارة عن حرمة تبديل المال أو المنفعة لا حرمة إنشاء المعاملة ولا حرمة آثارها كالتصرّف في الثمن أو المثمن ، ولا قصد ترتّب الأثر عليها. وذلك لأنّ نفس الإنشاء من حيث إنّه فعل من الأفعال وتلفّظ

٦٦

بألفاظ لا وجه لأن يكون حراما. وهكذا قصد تحقّق المنشأ من حيث إنّه أمر قلبيّ. وأمّا حرمة الآثار فهي مترتّبة على فساد المعاملة وحرمتها ؛ لا أنّها هي المحرّمة ابتداء. فما يكون محرّما حقيقة هو نفس التبديل الذي اعتباره بيد مالكه لو لا نهي الشارع الذي هو مالك الملوك. وبعبارة اخرى : نفس المنشأ بالعقد هو المحرّم لا آلة الإيجاد ولا القصد ولا الآثار.» (١)

أقول : بيانه في الحقيقة تنقيح لكلام الشيخ بنحو لا يرد عليه ما مرّ من الإشكالات. ويظهر من قوله : «لو لا نهي الشّارع» أنّ مقصوده بالتبديل ليس حقيقة التبديل والتبدّل بل القسمة التي تكون بيد المتعاملين ، وبعبارة اخرى : النقل والانتقال اللولائي ، فلا يرد عليه الإشكال الثالث أيضا. نعم يمكن أن يقال : إنّ المنشأ مع قطع النظر عن إمضاء الشرع لا واقعيّة له إلّا بواقعيّة الإنشاء. فمآل هذا القول والقول الرابع الذي يأتي عن الأستاذ الإمام إلى أمر واحد ، فتأمّل.

القول الثالث : ما في حاشية المحقّق الإيرواني ، قال :

«بل معنى حرمة الاكتساب هو حرمة إنشاء النقل والانتقال بقصد ترتيب أثر المعاملة أعني التسليم والتسلّم للمبيع والثمن ، فلو خلّي عن هذا القصد لم يتّصف الإنشاء الساذج بالحرمة. وأمّا قصد ترتيب المشتري للأثر المحرّم وصرف المبيع في الحرام فلا دليل على اعتباره. ودعوى انصراف مثل لا تبع الخمر إلى ما لو أراد بالبيع شرب المشتري لها مجازفة.» (٢)

أقول : لو اقتصر على هذا الكلام أمكن توجيهه بأنّه لا يريد تقييد الإنشاء المحرّم شرعا بقصد التسليم والتسلّم حتى يورد عليه بعدم الدليل على هذا التقييد ، بل يريد بيان أنّ الحرام هو الإنشاء عن جدّ في قبال الإنشاء الصوري. وعلامة الجدّ أنّه يرضى بالتسليم عقيبه فذكر القصد المزبور لبيان كون الموضوع للحرمة الإنشاء الجدي كما في القول الرابع.

ولكنّه ـ قدس‌سره ـ ذكر قبل ذلك ما يستفاد منه أنّ المحرّم في الحقيقة هو الإقباض والتسليم لا البيع. قال ما ملخّصه :

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٣.

(٢) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني ، ص ٣.

٦٧

«أنّ ظاهر الرواية التحريم بعنوان الإعانة ، وعنوان الإعانة لا ينطبق على الإنشاء الساذج ، بل الإعانة حاصلة بالتسليط والإقباض للمبيع سواء أنشأ بيعها أم لم ينشأ ، وكأنّ توصيف البيع بالإعانة لأجل ملازمتها العرفيّة للإقباض فيكون التحريم ملحقا أوّلا وبالذات بالتسليط وثانيا وبالعرض بالبيع.» (١)

تقسيم آخر لتعلق النهي بالمعاملات

وناقشه في مصباح الفقاهة ومحصّلها :

«أنّ تقييد موضوع الحرمة بالتسليم والتسلّم إنّما يتمّ في الجملة لا في جميع البيوع المحرّمة. وتحقيقه : أنّ النواهي المتعلّقة بالمعاملات على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون النهي عنها بلحاظ انطباق عنوان محرّم عليها كالنهي عن بيع السلاح لأعداء الدين عند حربهم مع المسلمين. فإنّه لانطباق عنوان تقوية الكفر عليه ، ولذا يجوز بيع السلاح لهم إذا لم يفض إلى تقويتهم عليهم ، وحرم نقل السلاح إليهم بغير البيع أيضا كالهبة والإجارة والعارية إذا أفضى إلى ذلك.

ومن هنا يتّضح أن بين عنوان بيع السّلاح منهم وبين تقوية الكفر والإعانة عليه عموما من وجه.

الثاني : أن يتوجه النهي إلى المعاملة من جهة تعلقها بشيء مبغوض ذاتا كالنهي عن بيع الخمر والخنزير والصليب والصنم.

الثالث : أن يكون النهي عنها باعتبار ذات المعاملة لا المتعلّق كالنهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة والنهي عن بيع المصحف والمسلم من الكافر بناء على حرمة بيعهما منه.

إذا عرفت ذلك ظهر أنّ تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم والتسلّم إنّما يتمّ في القسم الأوّل فقط ، إذ المحرّم فيه في الحقيقة هو تسليم المبيع لا أصل البيع. وأمّا في الثاني والثالث فلا بدّ من الأخذ بإطلاق أدلّة التحريم. نعم لو كان دليلنا على

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٣.

٦٨

التحريم عموم دليل الإعانة على الإثم أو الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته لجاز تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم والتسلّم ، فإنّ الإعانة والمقدّمية لا تتحقّقان إلّا بهما.» (١)

أقول : قد مرّ منّا : أنّ المحرّم في البيع وقت النداء ليس البيع بما أنّه معاملة بل بما أنّه عمل شاغل عن الجمعة ، ولذا يحرم كلّ عمل شاغل عنها ولا يحرم البيع غير الشاغل كما يقع في طريق السعي إليها. وأمّا في بيع المصحف والمسلم من الكافر وكذا في بيع الخمر والميتة ونحوهما فلا يبعد صحّة ما ذكره المحقّق الإيرواني (ره) إذ المقصود من النهي عنها عدم تسليط الكافر على المصحف والمسلم وعدم إشاعة الخمر والميتة في المجتمع. فالمحرّم فيها في الحقيقة هو التسليم والإقباض ، فتدبّر.

القول الرابع : ما اختاره الأستاذ الإمام (ره) في مكاسبه ، ولعلّه الأظهر وملخّصه :

«أنّ المحرّم على فرض ثبوته هو المعاملة العقلائيّة أي إنشاء السبب جدّا لغرض التسبيب إلى النقل والانتقال ، لا النقل والانتقال ، ولا هو بقصد ترتّب الأثر ، ولا تبديل المال أو المنفعة. ولا يعقل أن يكون المحرّم النقل وما يتلوه ، لأنّهما غير ممكن التحقّق بعد وضوح بطلان تلك المعاملة نصّا وفتوى. وإرادة النقل العقلائي مع قطع النظر عن حكم الشرع ولو لا عدم الإنفاذ ، لا ترجع إلى محصّل لعدم الوجود للنقل اللولائي. وما يمكن أن يتّصف بالحرمة هو المعاملة السببيّة أي الإنشاء الجدي بقصد حصول المسبّبات لا بمعنى كون القصد جزء الموضوع ، بل بمعنى أنّ موضوع الحرمة ، الإنشاء الجدي الملازم له.» (٢)

القول الخامس : ما اختاره آية الله الخوئي (ره) على ما في مصباح الفقاهة ، ومحصّله :

«أنّ ما يكون موضوعا لحلّيّة البيع بعينه يكون موضوعا لحرمته. بيان ذلك : أنّ البيع ليس عبارة عن الإنشاء الساذج سواء كان الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللفظ كما هو المعروف عند الأصوليين ، أم كان بمعنى إظهار ما في النفس من

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٢٨ و٢٩.

(٢) المكاسب المحرمة للإمام الخميني (ره) ، ج ١ ، ص ٤ و٥.

٦٩

الاعتبار كما هو المختار عندنا ، وإلّا لزم تحقق البيع بلفظ بعت خاليا عن القصد.

ولا أنّ البيع عبارة عن مجرّد الاعتبار النفساني من دون أن يكون له مظهر ، وإلّا لزم صدق البائع على من اعتبر ملكيّة ماله لشخص آخر في مقابل الثمن وإن لم يظهرها بمظهر.

بل حقيقة البيع عبارة عن المجموع المركّب من ذلك الاعتبار النفساني مع إظهاره بمبرز خارجي سواء تعلّق به الإمضاء من الشرع والعرف أم لم يتعلّق. وإذن فذلك المعنى هو الذي يكون موضوعا لحرمة البيع وكذا لحلّيته ، وهكذا الكلام في سائر المعاملات.» (١)

أقول : مآل هذا القول أيضا إلى القول الرابع وإن افترقا من جهة ، حيث إنّ الحرام على هذا القول هو المركّب من الإنشاء والقصد ، وعلى القول الرابع الإنشاء الجدي الملازم للقصد من دون أن يكون القصد جزء للموضوع. وهذا هو الأظهر ، إذ موضوع الأحكام التكليفيّة أفعال المكلفين بشرط صدورها عن قصد لا القصود ولا المركب من الأفعال والقصود كما لا يخفى.

القول السّادس : ما حكاه في مصباح الفقاهة ، قال :

«الوجه الثاني : أن يراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتّب إمضاء العرف والشرع عليه بحيث لا يكفي مجرّد صدوره من البائع خاليا عن ذلك القصد.» (٢) وأورد عليه بما محصّله :

«أنّه لا وجه لتقييد موضوع حرمة البيع بذلك ، لإطلاق دليل الحرمة. فلو باع أحد شيئا من الأعيان المحرّمة كالخمر مع علمه بكونه منهيّا عنه فقد ارتكب فعلا محرّما وإن كان غافلا عن قصد ترتّب إمضاء الشرع والعرف عليه.» (٣)

أقول : لعلّ القائل بالقول السّادس أراد إرجاع الحرمة في المقام إلى الحرمة التشريعيّة وبيان أنّ المحرّم قصد التشريع. فتقييده موضوع الحرمة بقصد ترتّب إمضاء الشرع والعرف لبيان تحقّق التشريع الذي هو بنفسه من العناوين المحرّمة عندهم.

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٣٠.

(٢) نفس المصدر ، ص ٢٩.

(٣) نفس المصدر.

٧٠

كما يحتمل بعيدا أنّ الشيخ أيضا أراد من قوله : «بقصد ترتّب الأثر المحرّم» ذلك أي قصد البائع حلّيّة الآثار المحرّمة تشريعا.

ولكن يرد على ذلك ما مرّ أوّلا : من أنّه ليس كلّ من يقدم على معاملة محرّمة يريد التشريع وإدخالها في الشريعة.

وثانيا : أن سراية الحرمة في التشريع إلى نفس العمل محلّ كلام بينهم.

الفائدة الثانية :

ما هو المراد من الحرمة في المعاملات المحرّمة؟

وفي الختام نقول تتميما للبحث : حيث إنّ المعاملة في المعاملات المحرّمة فاسدة من رأس لا يترتّب عليها أثر شرعا ويكون وجودها من جهة الأثر كالعدم لا محالة ، ومن ناحية اخرى لا بدّ في بعضها من القول بالحرمة التكليفيّة المؤكدّة أيضا كالربا الذي درهم منه أشدّ عند الله من ثلاثين زنية بذات محرم (١) والآكل له في معرض الحرب من الله ورسوله ، وكبيع الخمر التي لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها عشرة ، ومنها بائعها ومشتريها وآكل ثمنها ، (٢) لوضوح أنّ هذه التأكيدات ليست بجهة فساد المعاملة والتصرّف في مال الغير فقط ، فلأجل ذلك وقع الإشكال في تعيين موضوع الحرمة التكليفيّة ، ووقع الأعلام لأجل ذلك في حيص وبيص.

ولا يخفى أنّ الموضوع لها لا بدّ أن يكون من أفعال المكلّفين وتحت اختيارهم ، والذي يصدر عن المكلّف في المعاملات ويكون فعلا له حلالا كانت المعاملة او حراما هو الإنشاء لها بالقول او الفعل ، ولا يصدق عليه المعاملة عرفا إلّا إذا كان ناشئا عن قصد جدّي ، والمنشأ أيضا من حيث انتسابه إلى الفاعل عبارة اخرى عن الإنشاء إذ نسبة المنشأ إلى الإنشاء نسبة الوجود إلى الإيجاد ، وقد حقّق في محلّه اتحادهما ذاتا واختلافهما بحسب الاعتبار فقط ، فبالإضافة إلى الفاعل يقال له الإيجاد وبالإضافة إلى القابل يقال له الوجود. وعلى هذا فالحرام هو الإنشاء الناشي عن قصد جدّي ، وهو الحلال أيضا في المعاملات المحلّلة ، فتدبّر.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٤٢٣ ، كتاب التجارة ، الباب ١ من أبواب الرّبا ، الحديث ٤.

(٢) نفس المصدر ، ج ١٧ ، ص ٣٠٠ ، كتاب الأطعمة والأشربة ، الباب ٣٤ من أبواب الأشربة المحرمة.

٧١

معنى حرمة المعاملة وضعا

ما ذكرناه كان في بيان معنى حرمة المعاملة تكليفا. وأمّا حرمتها وضعا فيراد بها بطلانها وعدم ترتّب الأثر عليها.

ولا فرق عندنا وكذا عند العامّة غير الحنفيّة بين البطلان والفساد ؛ فكلّ باطل فاسد وبالعكس. وأمّا الحنفية ففرّقوا بينهما :

قال في متن الفقه على المذاهب الأربعة :

«الفاسد والباطل بمعنى واحد في عقود البيع ، فكلّ فاسد باطل وبالعكس وهو ما اختلّ فيه شيء من الشروط والأركان التي سبق ذكرها. والبيوع الفاسدة كلّها محرّمة فيجب على الناس اجتنابها وهي كثيرة.»

وعلّق على ذلك ما ملخّصه :

«الحنفية قالوا : إنّ الباطل والفاسد في البيع مختلفان ، فالباطل هو ما اختلّ ركنه أو محلّه. وركن العقد : الإيجاب والقبول ، فإذا اختلّ الركن كأن صدر من مجنون أو صبي لا يعقل كان البيع باطلا غير منعقد. وكذلك إذ اختلّ المحلّ وهو المبيع كأن كان ميتة أو دما أو خنزيرا.

وأمّا الفاسد فهو ما اختلّ فيه غير الركن والمحلّ كما إذا وقع خلل في الثمن بأن كان خمرا ، فإذا اشترى سلعة يصحّ بيعها وجعل ثمنها خمرا انعقد البيع فاسدا ينفذ بقبض المبيع ولكن على المشتري أن يدفع قيمته غير الخمر لأنّ الخمر لا يصلح ثمنا. وكذلك إذا وقع الخلل فيه من جهة كونه غير مقدور التسليم أو من جهة اشتراط شرط لا يقتضيه العقد ، فإن البيع في كلّ هذه الأحوال يكون فاسدا لا باطلا ...» (١)

أقول : ظاهر عبارة الماتن أنّ جميع المعاملات الباطلة تكون محرّمة عندهم بحسب التكليف. ولكن لا دليل على هذا التعميم. والظاهر أنّ محطّ نظر القدماء من أصحابنا في باب

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ٢ ، ص ٢٢٤ ، كتاب البيع ، مبحث البيع الفاسد.

٧٢

المعاملات المحرّمة بيان بطلانها وفسادها لا الحرمة التكليفيّة وإن عبّروا عن ذلك بلفظ الحرمة تبعا لما ورد في بعض الأخبار. (١)

الفائدة الثالثة :

النهي عن المعاملة هل يدل على فسادها او صحتها؟

«هل النهي عن المعاملة يدل على فسادها وبطلانها او يدلّ على صحّتها كما قيل؟ ويبحث عن ملاحظة النسبة بين العنوان المنهي عنه وعنوان العقد ، وما إذا تعلق النهي بنفس المعامله او بعنوان آخر ، وعن تزاحم الدليلين وتعارضهما وعن اجتماع الأمر والنهي ، وعدم الخلط بين متعلقات الأحكام وموضوعاتها.» (٢)

توضيح الكلام أنّ النهي تارة يتعلق بنفس عنوان المعامله كقوله عليه‌السلام : «لا تبع الحنطة بالشعير إلّا يدا بيد.» (٣) واخرى بعنوان آخر ربما ينطبق أحيانا على المعاملة كالإعانة على الإثم في المقام ـ بناء على حرمتها ـ ، حيث إنّ بينها وبين عنوان البيع مثلا بحسب المورد عموما من وجه كما لا يخفى. ولعلّ من هذا القبيل أيضا النهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة ، إذ النهي وإن تعلق بالبيع صورة لكنه لا بما أنّه بيع ومعاملة خاصّة ، بل بما أنه عمل شاغل عن الجمعة ، فكأنّه قال : «ذروا ما يزاحم الجمعة من الأعمال» مضافا إلى أنّه نهي تبعي وقع تأكيدا لقوله ـ تعالى ـ (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ). (٤)

أمّا في القسم الأوّل فإن كان ظاهرا في الإرشاد إلى الفساد ـ كما هو الظاهر غالبا ـ فهو ، وأمّا إن فرض دلالته على حرمة المتعلق تكليفا فهل تقتضي حرمته الفساد ـ كما قيل ـ أو الصحة ـ كما عن أبي حنيفة وتلميذه محمد بن الحسن الشيباني ـ أو لا تقتضي شيئا منهما وإنّما

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ١ ، ص ١٥٩ إلى ١٧٠.

(٢) نفس المصدر ، ج ٢ ، ص ٣٧٣.

(٣) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٤٣٩ ، الباب ٨ من أبواب الربا ، الحديث ٨.

(٤) سورة الجمعة (٦٢) ، الآية ٩.

٧٣

يعرف الفساد أو الصحة من الخارج؟ في المسألة وجوه.

ربما يقال باقتضائها الفساد ، إما لأنّ صحة المعاملات تكون بإمضاء الشارع لها وحكمه بوجوب الوفاء بها ، ومن المستبعد جدّا اعتبار الشارع وإمضاؤه لما يكون حراما ومبغوضا له ، وإمّا لأنّ المهمّ عند الشارع والعقلاء في باب المعاملات الآثار العملية المترتبة عليها ، لا نفس الأسباب بما هي ألفاظ ، ولا نفس المسبّبات الاعتبارية كالملكية الاعتبارية المنشأة مثلا. وعلى هذا فالنهي عنها في الحقيقة نهي عن ترتيب الآثار المترقبة منها عليها ، ومقتضى ذلك فسادها ، إذ لا معني لصحة المعاملة واعتبار المسبّب مع حرمة ترتيب الآثار عليها ، فتدبّر.

الاستدلال على دلالة النهي على الصحة ونقده

وأمّا القائل باقتضائها الصحة فربّما يستدلّ له بأنّ الظاهر من النهي المتعلق بها وحرمتها حرمة المسببات أو التسبّب بالأسباب إليها ، ومقتضى ذلك صحتها ووقوعها باعتبارها ، إذ متعلق التكليف يجب أن يكون مقدورا للمكلّف. وعلى فرض فسادها وعدم وقوعها قهرا عليه لا تكون مقدورة. نعم لو تعلقت الحرمة بنفس الأسباب لم تقتض الصحة ولا الفساد. هذا.

والأولى أن يقال ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ إنّ النهي في هذه الموارد ظاهر في الإرشاد إلى المانعية والفساد ، بتقريب أنّ المتبادر من الأوامر والنواهي الواردة من الشارع الحكيم المتعلقة بالعبادات المركبة المخترعة أو بالمعاملات بنحو خاصّ وكيفية خاصّة ، كونها للإرشاد إلى جزئية الشيء الخاصّ أو شرطيّته أو مانعيته ، وليست بصدد بيان الحكم التكليفي ، وهذا نظير أمر المتخصّص في الأدوية والمعاجين بجعل شيء خاصّ في معجون خاصّ أو نهيه عن جعله فيه ، حيث إنّ المتبادر من الأمر في مثله كون متعلق الأمر جزأ أو شرطا ، ومن النهي كونه مانعا ومضرا ، فلا وجه لحمل النهي على الحرمة التكليفية حتى يبحث عن اقتضائها الفساد أم لا.

هذا كلّه في القسم الأوّل أعني فيما إذا كان النهي متعلقا بنفس عنوان المعاملة.

وأمّا القسم الثاني أعني ما إذا تعلق النهي بعنوان آخر ربما ينطبق أحيانا على المعاملة كالإعانة على الإثم في المقام فقد يقال : إنّ النهي لم يتعلق بنفس المعاملة بنحو خاصّ حتى

٧٤

يتبادر منه الإرشاد إلى المانعية والفساد ـ على ما مرّ بيانه ـ بل تعلّق بعنوان آخر غيرها ، وظهوره في حرمة المتعلق وإن كان لا ينكر لكن المفروض كون المحرّم غير عنوان المعاملة. وانطباقه عليها أحيانا لا يوجب سراية الحرمة منه إليها حتى تقتضي فسادها ـ على ما مرّ من الوجهين ـ فهذا بوجه نظير ما قالوا في مبحث الاجتماع من أن النهي عن التصرّف في أرض الغير مثلا لا يسري إلى عنوان المأمور بها المتّحد معه أحيانا كالصلاة. فالبيع في المقام بما أنّه إعانة على الإثم أو مسامحة في دفع المنكر محرّم تكليفا ولكنه بعد وقوعه يصير مصداقا لقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

الفائدة الرابعة :

موارد انطباق العنوانين على مورد في المعاملات

ولكن يمكن أن يناقش ـ كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة ـ بأنّ ما ذكرت من أنّ انطباق عنوانين على مورد واحد لا يوجب سراية حكم أحدهما إلى الآخر ، إنّما يصحّ في متعلقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين مع وجود المندوحة في البين ، كالتصرف في أرض الغير مع الصلاة مثلا ، حيث إنّ الحكمين لا يتزاحمان في مرحلة الجعل والتشريع ، وإنّما جمع بينهما العبد في مرحلة الامتثال بسوء اختياره ، فلا يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر. وأمّا في موضوعات الأحكام ولا سيما فيما إذا لو حظت بنحو العامّ الاستغراقي كالعقود في قوله ـ تعالى ـ (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) مثلا ـ فهي في مرحلة الجعل والتشريع لو حظت مفروضة الوجود ، وكلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشارع المجعول على نحو القضية الحقيقة. فإذا فرض كون العقد بلحاظ وجوده الخارجي مصداقا للإعانة على الإثم ومبغوضا للشارع لذلك فكيف يحكم بوجوب الوفاء به؟ وهل لا يكون هذا الحكم منه نقضا لغرض نفسه؟

وبالجملة فصحّة المعاملة ـ على ما مرّ ـ عبارة عن إمضاء الشارع لها وحكمه بوجوب الوفاء بها ، وكيف يعقل إمضاؤه لما يكون مبغوضا له؟!

فإن قلت : بين عنوان الإعانة على الإثم وعنوان العقود عموم من وجه فيمكن انفكاكهما خارجا ، ووجوب الوفاء وضع على عنوان العقود فلا يسري من موضوعه إلى الحيثيات الأخر المتحدة معه.

٧٥

قلت : الجعل في قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وإن كان جعلا واحدا ولكن مقتضى عمومه الاستغراقي تكثر الحكم بتكثر أفراد الموضوع ، فكلّ فرد من العقد بعد تحققه في الخارج يصير محطّا للحكم المجعول قهرا ، فإذا فرض اتحاده خارجا مع عنوان آخر مبغوض فلا محالة يكون الحكم الفعلي فيه تابعا لأقوى الملاكين ، وفي أمثال المقام يترجح جانب الحرمة قهرا ، فتدبّر.

الفرق بين متعلقات الأحكام وموضوعاتها

والعمدة وجود الفرق بين متعلقات الأحكام ، أعني أفعال المكلفين ، وبين موضوعاتها ، أعني الأمور الخارجية التي يتعلق بها أفعال المكلفين كالعقود في المقام المتعلق بها الوفاء الواجب ، فإنّ المتعلق للحكم في مرحلة الجعل والتشريع نفس طبيعة فعل المكلف الواجد للملاك لا وجوده الخارجي ، بل وجوده الخارجي مسقط للحكم ، فإذا كان بين الفعلين عموم من وجه كالصلاة والتصرف في أرض الغير مثلا لم يكن بين الحكمين المتعلقين بهما تزاحم في مرحلة الجعل والتشريع ، والمكلف يقدر على التفكيك بينهما في مرحلة الامتثال ، فلا وجه لتقييد أحدهما بعدم الآخر في مرحلة الجعل بعد كون الملاك للطبيعة بإطلاقها.

وأمّا الموضوع للحكم فهو عبارة عن الوجود الخارجي الذي يتعلق به فعل المكلف ، فالملحوظ في مرحلة الجعل وإن كان هي الطبيعة لكنها جعلت مرآة لوجوداتها الخارجيّة ، وكلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشرع ، فإذا فرض كون وجوده في الخارج متحدا مع عنوان مبغوض فلا محالة يتزاحم الملاكان ويكون الحكم تابعا لأقواهما ملاكا ولازمه التخصيص في الدليل الآخر لبّا.

وهذا نظير قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «لا تكرم الفسّاق» ، حيث يتزاحم الملاكان في العالم الفاسق فيتعارض الدليلان فيه ويكون الحكم في مرحلة الجعل تابعا لأقواهما ملاكا ويتصرف في الدليل الآخر.

وبذلك يظهر المناقشة على كلام الأستاذ المرحوم آية الله العظمى البروجردي ـ طاب ثراه ـ حيث عدّ المثال من باب التزاحم المصطلح على ما كتبنا عنه في نهاية الأصول ، وناقشناه في ذيل كلامه بأنّ المثال من قبيل تعارض الدليلين لا من قبيل التزاحم المصطلح ،

٧٦

فيجب أن يكون الكسر والانكسار بين الملاكين في مرحلة الجعل والتشريع ، فراجع النهاية. (١)

فإن قلت : العقد بنفسه يوجد بفعل المكلّف فكيف تعدّه من موضوعات الأحكام؟

قلت : نعم ولكنه بلحاظ وجوده الخارجي يصير موضوعا لوجوب الوفاء.

هذا كلّه على فرض كون العقد بنفسه إعانة على الإثم ومبغوضا لذلك على ما يظهر من كلماتهم ، وأمّا على ما مرّ من مصباح الفقاهة من أنّ عنوان الإعانة لا ينطبق على العقد بل على التسليم الخارجي فلا وقع لهذه الإشكالات ، فتدبّر. هذا.

تفصيل الأستاذ الإمام قدس‌سره في المسألة بين البيع بالصيغة او بالمعاطاة

وللأستاذ الإمام في هذا المقام كلام طويل يناسب التعرّض له إجمالا ، قال ما ملخّصه :

«التفصيل أن يقال : إنّ المعاملة قد تقع بالمعاطاة ، وقد تقع بالصيغة : فالأقوى صحتها في الأوّل ، لأنّ المحرم عنوان آخر منطبق على المعاملة الخارجية ، وبينهما عموم من وجه ، والموضوع الخارجي مجمع لهما ، ولكل منهما حكمه. وبذلك يدفع استبعاد تنفيذ الشارع سببا يؤدي إلى مبغوضه ، لأنّ التنفيذ لم يقع إلّا على عنوان البيع ونحوه وهو ليس بمبغوض.

وعلى الثاني تقع المزاحمة ـ بعد وقوع المعاوضة ـ بين دليل حرمة التعاون على الإثم ودليل وجوب تسليم المثمن. فإن قلنا بترجيح الثاني يجب عليه التسليم ويعاقب على الإعانة على الإثم. وإن قلنا بترجيح الأوّل فلا يجوز له التسليم.

فحينئذ ربما يقال : إنّ المعاوضة لدى العقلاء متقوّمة بإمكان التسليم والتسلّم ، ومع تعذّره عقلا أو شرعا لا تقع المعاملة صحيحة ، ففي المقام يكون تسليم المبيع متعذّرا شرعا لعدم جوازه فرضا. ومع عدم تسليمه يجوز للمشتري عدم تسليم الثمن. والمعاوضة التي هو حالها ليست عقلائية ولا شرعية فتقع باطلة.

وفيه : أنّ ما يضرّ بصحة المعاوضة هو العجز عن التسليم تكوينا أو نهي

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٣٥.

٧٧

الشارع عن التسليم بعنوانه ، والمقام ليس من قبيلهما ، لعدم العجز تكوينا وعدم تعلّق النهي بتسليم المبيع بعنوانه ، بل النهي عن الإعانة على الإثم صار موجبا لعدم التسليم.

وإن شئت قلت : إنّ البائع قادر على التسليم وغير ممتنع عنه بشرط رجوع المشتري عن قصد التخمير ، فنكول البائع إنّما هو بتقصير من المشتري وفي مثله لا يكون النكول منافيا لمقتضى المبادلة ، بل يجب على المشتري تسليم الثمن.» (١)

أقول : الظاهر صحّة ما ذكره أخيرا ، حيث إنّ نكول البائع عن التسليم إذا كان ناشئا عن تقصير المشتري لا يكون مجوّزا للمشتري لأن يتخلّف عن وظيفته أعني تسليم الثمن ، فتأمّل. ويظهر من بيانه أيضا أنّ الإعانة على الإثم إنّما يتحقق بتسليم المثمن لا بنفس العقد.

نقد كلام الأستاذ الإمام رحمه‌الله

ولكن يمكن المناقشة فيما ذكره أوّلا بأنّ كون إنشاء البيع بالتعاطي أو بالصيغة لا يكون فارقا في المقام ، إذ بعد إنشائه بأحدهما هل ينفّذه الشارع ويحكم عليه بوجوب الوفاء أم لا؟ فعلى الأوّل يلزم نقضه لغرضه ، وعلى الثاني يقع باطلا ، إذ قد مرّ أنّ معنى صحّة المعاملة إمضاء الشارع وتنفيذه لها.

وقوله (ره) : «وبذلك يدفع استبعاد تنفيذ الشارع ...» لم يظهر لي وجه دفعه ، لما مرّ من أنّ العقد بلحاظ وجوده الخارجي يقع موردا للتنفيذ والحكم بوجوب الوفاء ، والمفروض أنّه بوجوده الخارجي مبغوض للمولى فكيف ينفّذه ويوجب الوفاء به.

اللهم إلّا أن ينطبق عليه بعد تحققه عصيانا عنوان ذو مصلحة أقوى تقتضي وجوب الوفاء به مع بقاء ملاك الحرمة أيضا ، نظير ما قالوا في التصرّف الخروجي من الأرض المغصوبة بعد الدخول فيها عصيانا ، وكما إذا حصّل لنفسه بالاختيار مرضا مهلكا يتوقف الشفاء منه على شرب الخمر مع علمه بذلك ، ولكن الالتزام بهذا الانطباق يحتاج إلى دليل ، إلّا أن يقال باستكشاف ذلك بعمومات وجوب الوفاء وحلّيّة البيع والتجارة ، فتدبّر. هذا.

__________________

(١) المكاسب المحرّمة للإمام الخمينى (ره) ، ج ١ ، ص ١٤٩ ، في النوع الثاني من القسم الثاني.

٧٨

ثم لا يخفى : أنّ ما ذكر كان على فرض إثبات التحريم من جهة الإعانة على الإثم أو المسامحة في دفع المنكر ، وأمّا إذا استفدنا من الروايات الحاكية للعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخمر وغارسها وعاصرها وبائعها ومشتريها كون بيع العنب لها أيضا مبغوضا ومحرّما بالذات بطريق أولى ولو لم يكن عن قصد ـ كما مرّ بيانه ـ فالحرمة وقعت ـ على هذا ـ على نفس عنوان البيع فكان الأمر أوضح ، لما مرّ من الوجهين لبيان أنّ حرمته تلازم الفساد ، فتدبّر. (١)

الفائدة الخامسة :

أنحاء مقدمة الحرام

«هل يكون قبح اكل الحرام وشربه في حق الجاهل ثابتا أم لا؟ ويبحث هنا مضافا إلى بيان وجه ثبوته عن :

١ ـ كيفية جعل الأحكام الواقعية ومسألة التصويب.

٢ ـ أدلة البراءة في قبال ملاكات الأحكام الواقعية.» (٢)

إنّ الأحكام الواقعيّة ـ كما ثبت في محلّه ـ ليست مقيّدة بعلم المكلّفين وإلّا لزم التصويب المجمع على بطلانه ، وهي عند العدلية تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، والغرض من البعث او الزجر ليس إلّا تحصيل المصالح الملزمة والاجتناب عن المفاسد.

غاية الأمر أنّ الجاهل بجهله ربّما يكون معذورا ظاهرا وغير معاقب على المخالفة بسبب جهله.

وأمّا المكلف العالم بالحكم والموضوع فكما يحرم عليه مخالفة الأوامر والنواهي الواردة بالمباشرة فكذلك يحرم عليه التسبيب إلى مخالفتها بإلقاء الجاهل فيها ، لأنّ مناط الحرمة ليس إلّا حفظ أغراض المولى.

وأدلّة البراءة وإن جرت بالنسبة إلى الجاهل المباشر ولا يكون عاصيا لكن الحكم الواقعي باق بملاكه ، فكما لا يجوز للعالم مخالفة التكليف بنفسه لا يجوز له أيضا إلقاء الجاهل فيها.

__________________

(١) المكاسب المحرّمة ، ج ٢ ، ص ٣٧٣ إلى ٣٧٩.

(٢) نفس المصدر ، ص ١٩.

٧٩

فلو فرض أنّ المولى نهى جميع عبيده عن الدخول عليه في ساعة خاصّة لغرض الاستراحة مثلا فكما يحرم على كلّ منهم الدخول عليه في تلك الساعة يحرم عليه التسبيب إلى دخول غيره أيضا وإن لم يصل التكليف إلى ذلك الغير ، وكما يصحّ عقاب العالم بلحاظ مخالفته مباشرة صحّ عقابه بلحاظ ذلك التسبيب أيضا لبقاء الحرمة وملاكها بالنسبة إلى الجميع.

والظاهر أنّ غرض المصنّف من التعبير بالقبيح بالنسبة إلى الجاهل هي الحرمة الواقعيّة وملاكها ، لوضوح أن القبح حكم العقل ولا يحكم العقل بالقبح الفاعلي بالنسبة إلى المباشر الجاهل وإنّما يحكم بقبح التسبيب الصادر من العالم ، فتدبّر.

هذا كلّه على فرض كون إعطاء الحرام للغير معرضا لصرفه في الحرام ، وامّا إذا علم بأنّه لا يصرفه إلّا فيما يجوز كصرف الدهن المتنجّس مثلا في الاستصباح فلا وجه حينئذ لوجوب الإعلام إذ ليس تغرير وتسبيب إلى الحرام كما هو واضح.

الوقوع في الحرام مع الجهل الموضوعي وعدم وجود تسبيب في البين

ما ذكرنا إلى هنا كان فيما إذا وقع من العالم التسبيب بالنسبة إلى وقوع الحرام من الجاهل.

وأمّا إذا لم يكن منه تسبيب وإنّما يقع الفعل من الجاهل لجهله من دون إغراء من قبل العالم فإن كان هذا لجهله بالحكم الكلي فالظاهر كونه من موارد إرشاد الجاهل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبين بحكم الشرع ، وأمّا إذا كان ذلك لجهل المباشر بالموضوع من دون تسبيب ، كما إذا لم يعلم بنجاسة ما يريد أكله أو الثوب الذي يصلّي فيه فهذا ما حكى المصنّف عن العلامة في أجوبة المسائل المهنّائيّة من وجوب الإعلام فيه مستندا إلى وجوب النهي عن المنكر.

ولكن الحكم بذلك مشكل لعدم دخل العالم وعدم تسبيبه. وأدلّة النهي عن المنكر لا تجري إلّا فيما إذا كان صدور الفعل من هذا الفاعل منكرا ، وليس المقام كذلك ، إذ المفروض جهل الفاعل وعدم وقوع الفعل منه عصيانا وطغيانا ولا سيّما في مسألة نجاسة الثوب في الصلاة إذ النجاسة بذاتها لا تمنع من صحّة الصلاة وإنّما المانع منها العلم بها حيث أخذ العلم فيه

٨٠