مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

التهذيب بأن يراد به الحال الظاهر في المجتمع.

والمراد بالولايات كون شخص خاصّ واليا او قاضيا من قبل الإمام ، ومن المناكح كون هذا زوجا لهذه أو هذه زوجة لذلك ، ومن الذبائح كون ما في سوق المسلمين حلالا مذكّى ، ومن الشهادات جواز الشهادة بما شاع واستفاض ، ومن المواريث توريث من انتسب إلى أب او أم او طائفة فيكون هذا دليلا على ثبوت النسب بالشياع ، وأظهر من ذلك إن كانت النسخة : «الأنساب» بدل المواريث.

نقد الدليل الرابع لحجيّة الشياع

أقول : للمناقشة في هذا الدليل أيضا مجال واسع وإن تمسّك به في الجواهر وغيره ، إذ يرد عليه أولا : أنّ السند مرسل وإن أمكن أن يقال : إنّ التعبير ببعض رجاله يظهر منه أن الراوي من أصحاب يونس فيستفاد منه نحو مدح له.

وثانيا : أنّ المتن مختلف كما مرّ. وثالثا : أن سؤال السائل لمّا كان عن جواز اعتماد القاضي على الشهود مع عدم معرفتهم فلا بدّ أن يكون الجواب مطابقا للسؤال فيشبه أن تكون النسخة الصحيحة : «ظاهر الحال» وأراد الإمام عليه‌السلام بيان أنّ ظاهر حال المسلم بما أنّه مسلم ، العدالة وعدم الفسق ، وهذا هو الذي عبّر عنه الفقهاء بكفاية حسن الظاهر فيجوز جعله واليا او يقبل دعواه الولاية وكذا يجوز المزاوجة معه او يقبل دعواه في الزوجية وكذا في الانتساب ويحكم بحلّية ذبيحته وتقبل شهادته ، ولا ارتباط لهذه الأمور بالشياع المفسّر بإخبار جمع كثير بمضمون واحد. كيف؟! وهل يتوقّف حليّة ذبيحة المسلم مثلا على إخبار جمع كثير بها اللهم إلّا أن يراد الإخبار بكونه مسلما حتى تحلّ ذبيحته.

الدليل الخامس لحجيّة الشياع

الوجه الخامس : قصة إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام المروية بسند صحيح.

فعن الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد بن عيسى عن حريز قال : «كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله عليه‌السلام دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ،

٤٦١

فقال إسماعيل : يا أبة إنّ فلانا يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينار ، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بني أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل : هكذا يقول الناس. فقال : يا بني لا تفعل. فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأته بشيء منها ، فخرج إسماعيل وقضى أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام حجّ وحجّ إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف بالبيت ويقول : اللهم آجرني واخلف عليّ فلحقه أبو عبد الله عليه‌السلام فهمزه بيده من خلفه وقال له : يا بني فلا والله ما لك على الله هذا ، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته ، فقال إسماعيل : يا أبة إني لم أره يشرب الخمر إنّما سمعت الناس يقولون ، فقال : يا بني إنّ الله ـ عزوجل ـ يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم ولا تأتمن شارب الخمر ، إنّ الله ـ عزوجل ـ يقول في كتابه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن على أمانة فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه.» (١)

فمفاد هذه الصحيحة أنّ شياع أمر بين الناس وشهادة المؤمنين به أمارة معتبرة على ما شاع فيجب ترتيب الأثر عليه فإذا شهدوا مثلا بكون أحد شاربا للخمر صار مصداقا لما دلّ على أنّ شارب الخمر لا يزوّج ولا يشفّع ولا يؤتمن. ولا تنحصر حجيّته في موضوع خاصّ كشارب الخمر مثلا ، بل تجري في كلّ مورد تحقّق الشياع والاستفاضة كما هو الظاهر من الصحيحة.

والظاهر أنّ إسماعيل لم يحصل له العلم ولا الوثوق من الشياع وإلّا لم يكن يتخلّف عن علمه ووثوقه في ماله الذي كان يهتمّ به كثيرا فيستفاد من الحديث حجيّة الشياع ولو لم يفد العلم ولا الوثوق.

نقد اعتماد العلمين : النراقي وصاحب الجواهر على الدليل الخامس

أقول : لعلّ هذا الدليل أحسن ما أستدل به في المقام ، واعتمد عليه صاحب الجواهر

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٣ ، ص ٢٣٠ ، الباب ٦ من كتاب الوديعة ، الحديث ١.

٤٦٢

أيضا. (١)

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الشياع بين الناس أمر وشهادة المؤمنين بما هم مؤمنون أمر آخر ، إذ شهادة المؤمنين تكون من مصاديق البيّنة الشرعيّة التي مرّ اعتبارها تعبّدا ، والشهادة فيها تكون عن حسّ كما في مورد الصحيحة.

وإنّما الإشكال والبحث في الشياع بين الناس إذا لم يعلم حالهم من الإيمان والعدالة بل نعلم إجمالا أن أكثرهم همج رعاع أتباع كلّ ناعق لا يستضيئون بنور العلم ولا يشخصون الحقّ من الباطل ، ومورده الأمور الممتدّة في عمود الزمان التي يتعسّر فيها الحسّ غالبا. ودلالة الحديث على اعتباره محلّ إشكال.

والمحقّق النراقي (ره) أيضا حمل الصحيحة على شهادة البيّنة قال في العوائد ما محصّله :

«إنّ الاستغراق فيه أفرادي لا جمعي فالمعنى كلّ مؤمن شهد عندك فصدّقه ، خرج المؤمن الواحد بالدليل فيبقى الباقي.

مع أنّ إرادة العموم الجمعي منتفية قطعا لعدم إمكان شهادة جميع المؤمنين إلى يوم القيامة ولا جميع مؤمني عصره ، بل ولا نصفهم ولا ثلثهم بل ولا عشرهم ولا واحد من ألف منهم فالمراد إما الاستغراق الأفرادي كما مرّ أو مطلق الجمع الشامل للثلاثة أو جميع أفراد الجموع الشامل للثلاثة المتعدي حكمه إلى الاثنين أيضا بالإجماع المركّب.

وأيضا الحكم مفرّع على قوله ـ سبحانه ـ : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).

وهو وارد في تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبد الله بن نفيل وهو كان واحدا.

وأيضا ظاهر أنّ من أخبر إسماعيل بشرب الخمر ليس إلّا اثنين أو ثلاثة.» (٢) أقول : لم يظهر لي من أين ظهر له أنّ المخبر لإسماعيل لم يكن إلّا اثنين أو ثلاثة؟!. هذا.

وفي الحديث مناقشة اخرى أيضا ، وهي أنّ تزويج شخص وائتمانه على أمانة يتوقّفان عادة على إحراز الإيمان والأمانة فمجهول الحال أيضا لا يزوّج ولا يؤتمن عند العقلاء فلا يتوقّف عدم التزويج وعدم الايتمان على إحراز كونه فاسقا شارب الخمر فتأمّل.

__________________

(١) الجواهر ، ج ٤٠ ، ص ٥٦.

(٢) العوائد ، ص ٢٧٤.

٤٦٣

ومناقشة ثالثة ، وهي أنّ الآية التي ذكرها الإمام عليه‌السلام نزلت في شأن بعض المنافقين المتظاهرين بالإيمان وهو عبد الله بن نفيل أو نبتل بن الحارث أو عتّاب بن قشير :

ففي تفسير علي بن إبراهيم ما محصّله :

«أنّه كان سبب نزولها أنّ عبد الله بن نفيل المنافق كان يقعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين وينمّ عليه فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيل بذلك فدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فحلف أنّه لم يفعل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد قبلت منك فرجع إلى أصحابه فقال : إنّ محمدا أذن فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدّق الله فيما يقول ويصدّقك فيما تعتذر إليه في الظاهر ولا يصدّقك في الباطن ، وقوله : ويؤمن للمؤمنين يعني المقرّين بالإيمان من غير اعتقاد.» (١)

أقول : ويشهد لما ذكره تغيير حرف الصلة وذكر اللام الظاهرة في النفع أو يكون بتضمين التصديق فإنّه يتعدي باللام كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)

وإذا كان التصديق للمؤمنين بحسب الظاهر فقط فلا حجيّة في قوله ويكون وزانه وزان قوله عليه‌السلام : «كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدّقه وكذّبهم.» (٢)

وعلى هذا فيشكل الاستدلال بالصحيحة لحجيّة البيّنة أو الشياع. ولعلّ الآية الشريفة والصحيحة كلتاهما في مقام الإرشاد إلى آداب المعاشرة ولزوم التصديق الصوري للمجتمع والخلطاء والاحتياط عملا في موارد الشبهة ونحو ذلك فتدبّر. هذا.

وهنا رواية اخرى عن الكافي يظهر منها أن القصّة وقعت لنفس الإمام الصادق مع أبيه عليهما‌السلام وهي ما رواه في الوسائل عن الكافي عن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة عن غير واحد عن أبان بن عثمان عن حمّاد بن بشير عن ابي عبد الله وفيه : وقال

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، ج ١ ، ص ٣٠٠ (ـ طبعة اخرى ، ص ٢٧٥) ؛ والآية ٦١ من سورة التوبة.

(٢) الكافي ، ج ٨ ، ص ١٤٧ ، تكذيب المغتاب ... ، الحديث ١٢٥.

٤٦٤

أبو عبد الله عليه‌السلام : «إني أردت أن أستبضع بضاعة إلى اليمن فأتيت أبا جعفر عليه‌السلام فقلت له : إني أريد أن أستبضع فلانا ، فقال : أما علمت أنّه يشرب الخمر فقلت : بلغني من المؤمنين أنهم يقولون ذلك فقال : صدّقهم فإنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ثمّ قال : إنّك إن استبضعته فهلكت أو ضاعت فليس لك على الله أن يأجرك ولا يخلف عليك ، فاستبضعته فضيّعها فدعوت الله ـ عزوجل ـ أن يأجرني فقال : أي بني مه ليس لك على الله أن يأجرك ولا يخلف عليك ، قال : قلت : ولم؟ قال : لأنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) فهل تعرف سفيها أسفه من شارب الخمر. الحديث» (١) وروى القصة مختصرة العياشي أيضا عن حمّاد بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام. (٢)

أقول : احتمال وقوع القصّة تارة للإمام الصادق عليه‌السلام وتارة لابنه إسماعيل غير بعيد ولكن عصيان الإمام الصادق لأبيه بعيد جدا. هذا.

دليل آخر لحجيّة الشياع ونقده

وربّما يتوهّم جواز الاستدلال لحجيّة الشياع أيضا بأخبار ذكر فيها لفظ المعروف.

كقوله عليه‌السلام : «واعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلّا مجلود في حدّ لم يتب منه أو معروف بشهادة زور. الحديث.» (٣)

وقوله عليه‌السلام : «نعم يشهدون على شيء مفهوم معروف.» (٤)

وقوله عليه‌السلام : في شهادة من يلعب بالحمام : «لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق.» (٥)

وقوله عليه‌السلام : «تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر والعفاف.» (٦) إلى غير ذلك ممّا حذا حذو هذه الأخبار.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٢٤٨ ، الباب ١١ من أبواب الأشربة المحرمة ، الحديث ٥.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٥٥ ، الباب ١ من أبواب آداب القاضي ، الحديث ١.

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٣٠١ ، الباب ٤٨ من أبواب الشهادات ، الحديث ١.

(٥) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٣٠٥ ، الباب ٥٤ من أبواب الشهادات ، الحديث ١.

(٦) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٢٩٤ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الحديث ٢٠.

٤٦٥

أقول : تفسير المعروف بالشائع عند الناس مصطلح بيننا أهل اللغة الفارسية ولكن الظاهر أنّ المراد به في هذه الأخبار المعروف للشخص لا المعروف عند المجتمع ولا أقل من احتمال ذلك.

هذه هي الوجوه التي أقاموها لاعتبار الشياع والاستفاضة وقد عرفت المناقشة فيها.

حدود حجيّة الشياع

الأمر الثالث : في أنّ الاستفاضة هل تكون حجّة شرعية مطلقا او بشرط أن تكون مفيدة للعلم الجازم او يكتفي فيها بالظن المتاخم للعلم او يكفي مطلق الظنّ ، او يشترط فيها أن لا يقوم ظنّ بخلافه؟ في المسألة وجوه.

ربّما يستظهر من المحقّق في شهادات الشرائع والنافع حيث اعتبر العلم في الشهادة ، عدم اعتبار الاستفاضة ما لم تفد العلم.

وفي المسالك في تعريف الاستفاضة :

«هي إخبار جماعة لا يجمعهم داعية التواطي عادة يحصل بقولهم العلم بمضمون خبرهم على ما يقتضيه كلام المصنّف هنا ، أو الظن الغالب المقارب له على قول.» (١) وظاهره اعتبار حصول العلم على نظر المصنّف هنا والظنّ الغالب على القول الآخر. ولكن لم يظهر لي من كلام المصنّف في باب القضاء اعتبار العلم. وقوله بعد أسطر :

«ولا يجب على أهل الولاية قبول دعواه مع عدم البيّنة وإن شهدت الأمارات ما لم يحصل اليقين.» (٢)

مورده صورة عدم الاستفاضة كما يظهر لمن تأمّل في عبارته.

وكيف كان فالالتزام باشتراط العلم مساوق لعدم اعتبار الاستفاضة بذاتها إذا العلم حجّة بذاته في أيّ مقام حصل.

وظاهر أكثر الكلمات أنّ الاستفاضة بنفسها حجّة شرعيّة ولذا اختلفوا في مواردها وتمسّكوا لحجيّتها فيها بأنّ هذه الأشياء ممّا يعتذر إقامة البيّنة عليها فهذا السنخ من الاستدلال

__________________

(١) المسالك ، ج ٢ ، ص ٣٥٤.

(٢) المصدر.

٤٦٦

ظاهر في كون المقصود حجيّتها بنفسها كالبيّنة.

ويظهر من الجواهر أيضا القول باعتبارها بذاتها بنحو الإطلاق ولكن لم يجوّز الشهادة بمضمونها إلّا إذا حصل العلم ، ففصّل بين باب الشهادة وبين غيرها من الآثار.

ففي باب القضاء بعد الاستدلال للشياع بالسيرة وبالمرسلة والصحيحة السابقتين. قال :

«ومنه يعلم أنّه لا مدخلية لمفاده الذي يكون تارة علما واخرى متآخما له وثالثة ظنّا غالبا في حجيّته وإنما المدار على تحققه.» (١)

وفي باب الشهادات منه :

«نعم قد يقال : إنّ الشياع المسمى بالتسامع مرّة وبالاستفاضة اخرى معنى وحداني وإن تعددت أفراده بالنسبة إلى حصول العلم بمقتضاه ، والظنّ المتاخم له ومطلق الظنّ إلّا أنّ الكلّ شياع وتسامع واستفاضة.

فمع فرض قيام الدليل على حجيّته من سيرة او إجماع او ظاهر المرسل او خبر إسماعيل او غير ذلك لم يختلف الحال في أفراده المزبورة التي من المقطوع عدم مدخليتها فيه ، بل هي في الحقيقة ليست من أفراده وإنّما هي أحوال تقارن بعض أفراده كما نجده بالوجدان بملاحظة أفراده.

ولكن على كلّ حال فإثبات حجيّته والقضاء به وإجراء الأحكام عليه لا يقتضي جواز الشهادة بمضمونه وإن لم يقارنه العلم ، لما عرفته من اعتبار العلم في الشهادة وكونه كالشمس والكفّ ....

وبذلك كلّه يظهر لك سقوط البحث في أنّه هل يعتبر فيه الظنّ المتاخم أو العلم وأنّ في ذلك قولين ، بل في الرياض جعل الأقوال ثلاثة بزيادة مطلق الظنّ ونسبة كلّ قول إلى قائل وذكر الأدلّة لذلك ، إذ قد عرفت أنّ هذه الأحوال لا مدخليّة لها في حجيّة الشياع.

كما أنّه ظهر لك منه أنّ الشياع والتسامع والاستفاضة على أحوال ثلاثة :

أحدها : استعمال الشائع المستفيض وإجراء الأحكام عليه. والثاني :

__________________

(١) الجواهر ، ج ٤٠ ، ص ٥٧.

٤٦٧

القضاء به ، والثالث : الشهادة بمقتضاه.

أمّا الأوّل : فالسيرة والطريقة المعلومة على أزيد ممّا ذكره الأصحاب فيه فإنّ الناس لا زالت تأخذ الفتوى بشياع الاجتهاد وتصلّي بشياع العدالة وتجتنب بشياع الفسق وغير ذلك مما هو في أيدي الناس.

وأما القضاء به ، وإن لم يفد العلم فالأولى الاقتصار فيه على السبعة ، بل الخمسة ، بل الثلاثة بل النسب خاصّة ، لأنّه هو المتفق عليه بين الأصحاب.

وأما الشهادة به ، فلا تجوز بحال إلّا في صورة مقارنته للعلم بناء على الاكتفاء به في الشهادة مطلقا.» (١)

المختار في حجية الشياع

أقول : وملخّص الكلام في المقام أنّه إن حصل بالشياع العلم الجازم فلا إشكال فيجوز العمل به ، بل والشهادة بمضمونه إلّا أن يناقش فيها باعتبار كونها عن حسّ ، وكيف كان فالاعتبار حينئذ للعلم لا للشياع.

وإن حصل الظنّ المتاخم الذي نعبّر عنه تارة بالوثوق واخرى بسكون النفس ، كان حجة أيضا لكونه بحكم العلم عند العقلاء يعتمدون عليه في أمورهم وإن أشكل الشهادة بمضمونه على ما أشار إليه في الجواهر من روايات الشمس والكفّ (٢).

وأما إذا لم يحصل العلم ولا الوثوق فالقول بحجيّته حينئذ يتوقّف على تماميّة بعض الوجوه التي مرّت ، وعمدتها كما عرفت الصحيحة. ونحن وإن ناقشنا في دلالتها وقرّبنا حملها على البيّنة وفاقا لما في العوائد ، ولكن المتبادر من قوله : «هكذا يقول الناس» وقوله : «قد بلغك» هو الشياع بين الناس ، وقد مرّ أن إسماعيل لم يحصل له بذلك الشياع العلم ولا الوثوق وإلّا لما أعطى الرجل ماله الذي كان يهتم به ، ومع ذلك وبّخه الإمام عليه‌السلام على مخالفة ذلك الشياع.

ولعلّ الرواية الثانية الحاكية لقصّة الإمام عليه‌السلام مع أبيه عليه‌السلام دلالتها أظهر.

__________________

(١) الجواهر ، ج ٤١ ، ص ١٣٤.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٢٥٠ ، الباب ٢٠ من أبواب الشهادات.

٤٦٨

نعم يوهن ذلك ما في الصحيحة من قوله عليه‌السلام : «إذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» الظاهر في شهادة البيّنة.

وكيف كان فلا يبعد القول بكفاية الشياع والشهرة في البلد في مثل الأنساب والأوقاف ونحوهما من الأمور الممتدّة في عمود الزمان إذا حصل الظنّ بالمضمون ، ولو لا ذلك أشكل إثبات هذه الأمور مع الابتلاء بها وكثرة أحكامها ، وانجرّ الأمر إلى تضييع كثير من الحقوق إذ تحصيل العلم الجازم او الوثوق او إقامة البيّنة في مثل الأنساب الممتدّة والأوقاف القديمة مع كثرة الوسائط والبعد الزماني ممّا يعسر جدّا والملتزم بذلك يعدّ وسواسا خارجا من المتعارف. هذا ، ولكن الأحوط السّعي في تحصيل العلم أو الوثوق ما لم يبلغ حدّ الوسوسة.

نقد ما أستدل به لحجيّة الشياع مطلقا

وربّما يقال بجواز التمسك لحجيّة الشياع مطلقا بالأخبار المتمسّك بها لحجيّته في باب الهلال بإلغاء خصوصيّة المورد :

١ ـ كخبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام وفيه : «لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلّا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا فصمه.» (١)

٢ ـ وفي خبر عبد الرحمن قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان فقال : «لا تصم إلّا أن تراه ، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه.» (٢)

٣ ـ وبالإسناد عنه أنّه سأله عن ذلك فقال : «لا تصم ذلك اليوم إلّا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا ذلك فصمه.» (٣)

٤ ـ وخبر عبد الحميد الأزدي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أكون في الجبل في القرية فيها خمس مأئة من الناس. فقال : «إذا كان كذلك فصم لصيامهم وأفطر لفطرهم.» (٤)

__________________

(١) الوسائل ، ج ٧ ، ص ٢١١ ، الباب ١٢ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١.

(٢) الوسائل ، ج ٧ ، ص ٢١٢ ، الباب ١٢ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٢.

(٣) الوسائل ، ج ٧ ، ص ٢١٢ ، الباب ١٢ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٣.

(٤) الوسائل ، ج ٧ ، ص ٢١٢ ، الباب ١٢ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٤.

٤٦٩

٥ ـ وموثقة سماعة أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن اليوم في شهر رمضان يختلف فيه؟ قال : «إذا اجتمع أهل مصر على صيامه للرؤية فاقضه إذا كان أهل مصر خمس مأئة إنسان.» (١)

أقول : قد حمل في الجواهر هذه الأخبار على صورة حصول العلم وحيث إنّ الغالب في مواردها حصول العلم يشكل الأخذ بإطلاقها فضلا عن التعدي منها إلى سائر الأبواب. (٢)

__________________

(١) الوسائل ، ج ٧ ، ص ٢١٣ ، الباب ١٢ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٧.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ٣ ، ص ٣٨٥ إلى ٤١٣.

٤٧٠

الفصل السابع :

موجبات الكفر والارتداد

وهو يشتمل على فوائد :

٤٧١
٤٧٢

الفائدة الاولى :

ما هو الملاك في الارتداد؟

«المبحث : الاستدلال على كفر منكر الزكاة ، وأنّ إنكار الضروري مع العلم به هل هو موجب للكفر مطلقا او إذا يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة؟

والبحث عن هذه المسألة والتي تليها في خلال مسائل الأصول استطرادي.» (١)

أقول : ذكروا في كتاب الطهارة ان الكافر من ينكر الألوهية او التوحيد او الرسالة او ضروريّا من ضروريات الدين فنقول :

هل لإنكار الضروري موضوعية فهو موجب للكفر مطلقا او لرجوعه إلى إنكار الرسالة ولو ببعضها وكون شيء ضروريا أمارة على التفات الشخص إلى كونه جزء من الدين فلو ثبت كون إنكاره لشبهة فلا يوجب الكفر او لا أثر للضرورية أصلا ولو بعنوان الأمارة فلو احتمل في حقه الشبهة أيضا لا يحكم بكفره؟

ظاهر بعض العبارات الأوّل ، ففي كتاب الطهارة من الشرائع :

«الكافر وضابطه كل من خرج عن الإسلام أو من انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة كالخوارج والغلاة». (٢)

وفي الإرشاد :

«والكافر وإن أظهر الإسلام إذا جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة كالخوارج والغلاة» (٣)

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ١١.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ١ ، ص ٤٢.

(٣) إرشاد الأذهان ، ج ١ ، ص ٢٣٩.

٤٧٣

ونحوهما غيرهما.

ولكن في مفتاح الكرامة :

«وهنا كلام في أن جحود الضروري كفر في نفسه أو يكشف عن إنكار النبوة مثلا؟ ظاهرهم الأوّل واحتمل الأستاذ الثاني قال : فعليه لو احتمل وقوع الشبهة عليه لم يحكم بتكفيره إلّا ان الخروج عن مذاق الأصحاب مما لا ينبغي».

وفيه أيضا :

«وفي مجمع البرهان : المراد بالضروري الذي يكفر منكره الذي ثبت عنده يقينا كونه من الدين ولو بالبرهان ولو لم يكن مجمعا عليه إذ الظاهر أن دليل كفره هو إنكار الشريعة وإنكار صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا في ذلك الأمر مع ثبوته يقينا عنده وليس كل من أنكر مجمعا عليه يكفر ، بل المدار على حصول العلم والإنكار وعدمه إلّا انه لما كان حصوله في الضروري غالبا جعل ذلك مدارا وحكموا به فالمجمع عليه ما لم يكن ضروريا لم يؤثر». (١)

وظاهر ما حكاه في عبارته الأولى عن استاذه كاشف الغطاء من النسبة إلى مذاق الأصحاب توهم كون المسألة إجماعية ولكن ليعلم أن المسألة ليست من المسائل الأصلية المتلقاة عن المعصومين عليهم‌السلام ولم تذكر في الكتب المعدّة لنقلها كالمقنعة والنهاية ولم أجدها بهذه العبارة في الكتب قبل الشرائع.

نعم في الغنية كلام يقرب منها قال :

«فصل في الردّة : متى أظهر المرء الكفر بالله أو برسوله أو الجحد بما يعم فرضه والعلم به من دينه كوجوب الصلاة او الزكاة او ما يجري مجرى ذلك بعد إظهار التصديق به كان مرتدّا». (٢)

فقوله : «الجحد بما يعم فرضه والعلم به» يقرب من إنكار الضروري.

وبالجملة فليس كون إنكار الضروري موجبا للكفر بنفسه مذكورا في كتب القدماء من

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٢ ، ص ٣٨.

(٢) الغنية ، ص ٣٨٠.

٤٧٤

أصحابنا فلا وجه لادعاء الشهرة في المسألة فضلا عن الإجماع ، وإجماع المتاخرين على فرض ثبوته لا يفيد.

وليس الإجماع بما هو إجماع حجة عندنا وان جعله المخالفون حجة واستدلوا عليها بأمور : منها ما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تجتمع أمتي على خطأ» والحديث لم يثبت عندنا وإنما نؤمن بحجيّة الإجماع إذا كان كاشفا عن قول المعصومين عليهم‌السلام فمحله المسائل الأصلية المتلقاة يدا بيد لا المسائل التفريعية الاستنب اطية.

وعلى هذا فليس لإنكار الضروري موضوعية وليس بنفسه موجبا للكفر بل إن رجع إنكاره الى إنكار الرسالة بأن كان ملتفتا إلى كونه من الدين ومع ذلك أنكره.

فان قلت : فعلى هذا لا يبقى فرق بين الضروري وغيره أصلا.

قلت : نعم ولذا مرّ عن مجمع البرهان كفر من أنكر ما ثبت عنده كونه من الدين بالبرهان ولو لم يكن مجمعا عليه فضلا عن كونه ضروريا.

نعم لعل بينهما فرقا في مقام الإثبات فلو كان أحد في مناطق الإسلام وبلاده ونشأ بين المسلمين بحيث يبعد جدّا عدم علمه بواضحات الإسلام وضرورياته فتصير ضرورية المسألة أمارة عقلائية على علمه بكونها من الإسلام ويرجع إنكارها إلى إنكار أصل الرسالة ولو بجزئها وإلّا فلو ثبت كون إنكار الشخص لشبهة او كان الشخص جديد الإسلام او بعيدا عن مناطق الإسلام فلا أمارة ولا طريق إلى إحراز كون إنكاره راجعا إلى إنكار الرسالة والإسلام ولأجل ذلك قال في المتن : «ومنكره مع العلم به كافر».

الفائدة الثانية :

الاستدلال لكون إنكار الضروري موجبا للكفر مطلقا ونقده

هذا ، والقائلون بكون إنكار الضروري مطلقا موجبا للكفر يتمسكون بوجوه :

الأوّل : أن الإسلام عبارة عن مجموع العقائد والأحكام المخصوصة المقررة من جانب الله ويجب على المسلمين الالتزام بها فمن أنكر واحدا منها فقد أنكر الإسلام ببعضه.

إن قلت : لنا أخبار كثيرة تدل على أن الإسلام الذي به تحقن الدماء وتحل المناكح ويثبت

٤٧٥

التوارث شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله.

قلت : أولا ان ذلك لجديد الإسلام ، وثانيا أن الشهادة بالرسالة في الحقيقة إقرار بجميع ما جاء به الرسول فإنكار بعضها يرجع إلى إنكار الرسالة.

الثاني : إجماعهم على موضوعية إنكار الضروري ، لعطفه في كلماتهم على من خرج عن الإسلام ، وظاهر العطف المغايرة ولعدم تقييده بالعلم ، ولتقييدهم إياه بالضروري ، إذ لو كان الملاك الرجوع إلى إنكار الرسالة لجرى في كل ما علم أنه من الدين وان لم يكن ضروريا ، ولتمثيلهم له بالخوارج والغلاة والنواصب مع ان كثيرا منهم لا يعلمون بمخالفتهم في ذلك للدين بل ربما يتقربون بذلك إلى الله سبحانه.

الثالث : أخبار مستفيضة متفرقة في الأبواب المختلفة ، وسيأتي ذكرها.

أقول : يرد على الأوّل أن مقتضاه كفر من أنكر واحدا من أحكام الإسلام سواء كان ضروريا او غيره وسواء كان عالما بكونه من الإسلام او جاهلا مقصرا او قاصرا حتى انه يجوز تكفير كل مجتهد لغيره إذا أفتى بخلاف ما افتى به هذا المجتهد لأنّه بفتواه بخلاف هذا المجتهد أنكر ما أفتى به هذا ، ولا يمكن أن يلتزم بهذا أحد.

ويرد على الثاني منع الإجماع في المسألة لما عرفت من أن عنوان مسألة الضروري وإيجاب إنكاره للكفر كان من المحقق ومن بعده فيما أعلم ولم يكن في كلمات القدماء ذكر منه والتمثيل بالغلاة والخوارج أيضا في كلمات المتاخرين.

نعم مرّ من ابن زهرة في الغنية : «الجحد بما يعم فرضه والعلم به من دينه.» ، ولكن لا يخفى ان كلمة «الجحد» لا تطلق إلّا في الإنكار مع العلم ، ففي الصحاح : «الجحود الإنكار مع العلم» ، وفي المفردات «الجحود نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه ... قال ـ عزوجل ـ : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)» (١). وذكر المتاخرين للضروري لعلّه كان من جهة أن ضرورية المسألة وكونها بديهية سبب للعلم بها فأرادوا بذلك كون الإنكار عن علم او لكونها أمارة على كون المنكر عالما بكونها من الدين إذا كان الشخص ممن نشأ في محيط المسلمين فلو أنكر أحد مثلا كون الزوايا الثلاث في المثلث مساوية لقائمتين امكن كون إنكاره

__________________

(١) سورة النمل (٢٧) ، الآية ١٤.

٤٧٦

عن جهل بالمسألة وأما إذا أنكر أحد كون مضروب الاثنين في نفسه أربعة فلا يحمل إنكاره طبعا على كونه عن جهل بعد كون المسألة بديهية يعرفها كل أحد وهذا لا ينافي كونه عن جهل إذا صدر ممن يحتمل في حقه ذلك.

وكيف كان فليس لإنكار الضروري موضوعية في إيجاب الكفر بل إنكار كل حكم إذا رجع الى إنكار الرسالة صار سببا للكفر وإلّا فلا.

ولا يخفى أن إنكار الألوهية والتوحيد والرسالة موجب للكفر ولو كان عن جهل وقصور فان العذر والقصور وعدم العذاب أمر ، والإسلام والاعتقاد به أمر آخر ، فالمنكر لهذه الأصول أو لواحد منها ليس مسلما وإن كان قاصرا معذورا ولا محالة لا عقاب عليه عقلا فتدبر. (١)

الاستدلال للمسألة بالأخبار ونقده

بقي الكلام في الأخبار التي ربما يتوهم دلالتها على المسألة فلنتعرض لها إجمالا :

فالأول : ما رواه في أصول الكافي صحيحا إلى عبد الرحيم القصير قال : كتبت مع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن الإيمان ما هو؟ فكتب إليّ مع عبد الملك بن أعين : «سألت ـ رحمك الله ـ عن الإيمان ، والإيمان هو الإقرار باللسان وعقد في القلب وعمل

__________________

(١) ومال الاستاذ ـ دام ظلّه ـ اخيرا الى أن انكار اصل او فرع ضرورى من الدين اذا كان عن جهل وقصور بأن لم يكن ذلك الأصل او الفرع ضروريا عند المنكر لا يوجب الكفر والارتداد. وقال في توضيحه : الكفر هو ستر أمر واضح وبيّن ، فلذا يقال للزارع الكافر لستره البذر تحت التراب. فمن تيقّن بحقيّة الدين وأصوله وفروعه وأنكره جحدا كان كافرا لكونه ساترا لأمر بيّن عنده ، فهو مصداق لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ). (محمّد / ٢٥)

واما من لم يتيقّن بعد بحقيّة الدين اصولا وفروعا وكان في حال التحقيق والتفكر فلا يكون كافرا لعدم كونه ساترا لشيء بيّن ، نعم مثل هذا لا يكون مؤمنا أيضا.

وقال أيضا الكفر والايمان ليسا أمرين قلبيّين فإن الأمور القلبيّة كاليقين ونحوه ليست اختيارية فلا يصح العقاب والثواب عليهما مع أن الإيمان والكفر (بحسب الآيات والروايات) موجبان للثواب والعقاب ، بل الكفر والايمان من مقولة الالتزام والتعهد العمليّين ، فالايمان هو الالتزام العملى بلوازم العقائد الدينية والكفر هو الإنكار وعدم الالتزام العملى بها. (الاستفتاءات ، المجلد الثاني ، المسألة ٢٥٠٦) (اللجنة)

٤٧٧

بالأركان ، والإيمان بعضه من بعض وهو دار وكذلك الإسلام دار والكفر دار فقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون مؤمنا حتى يكون مسلما ، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان ، فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله ـ عزوجل ـ عنها كان خارجا من الإيمان ساقطا عنه اسم الإيمان وثابتا عليه اسم الإسلام فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان ، ولا يخرجه إلى الكفر إلّا الجحود. والاستحلال أن يقول للحلال : هذا حرام وللحرام : هذا حلال ودان بذلك فعندها يكون خارجا من الإسلام والايمان ، داخلا في الكفر وكان بمنزلة من دخل الحرم ثم دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا فاخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار.» (١)

وعبد الرحيم القصير وإن لم يوثق في الرجال ولكن نقل الكليني والصدوق لرواياته يوجب نحو اعتبار له ولعله يستفاد من ترحم الصادق عليه‌السلام عليه ، كونه إماميا حسن الحال ، ونقل الصدوق للحديث يتفاوت مع نقل الكليني ولعل نقل الكليني أصحّ.

المحتملات الأربعة للحديث الأوّل

وكيف كان فنقول ليس في الحديث اسم من الضروري ، ولفظ الجحود كما مرّ يطلق على الإنكار مع العلم لا مطلق الإنكار ، ولو سلم أنه أعمّ فالمحتملات في الحديث أربعة :

الأوّل : أن الألفاظ وضعت للمعاني الواقعية فيكون المراد أن من قال للحلال الواقعي : أنه حرام ، وللحرام الواقعي : هذا حلال ، ومقتضاه كون إنكار الحكم الواقعي موجبا للكفر مطلقا سواء كان ضروريا او غيره وعن علم او جهل تقصيرا او قصورا.

الثاني : أن يراد بالحلال والحرام ما ثبت عند جميع فرق المسلمين ومذاهبهم حليته أو حرمته.

الثالث : أن يراد بهما ما كان ضروريا وبديهيا منهما.

الرابع : أن يراد بهما ما كان كذلك في علم الشخص المنكر.

وأظهر الاحتمالات الاحتمال الأوّل ولكن لا يمكن أن يلتزم به أحد كما مرّ فيتردد الأمر بين

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب أن الإسلام قبل الإيمان ، ص ٢٧.

٤٧٨

الثلاثة الأخر وأظهرها الأخير فيختص الكفر بالمنكر مع العلم ولا أقل من بقاء الترديد وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال فلا دلالة في الحديث على كون عنوان الضروري موجبا للكفر فتدبر.

هذا ، وتشبيهه عليه‌السلام الإسلام والإيمان بالحرم والكعبة أولا من جهة كون النسبة بينهما بالعموم والخصوص وثانيا من جهة ان الكعبة مما يعرفها كل أحد ، بخلاف الحرم والمسجد فالإهانة لها لا محالة تقع عن علم وعمد ولكن لو فرض لأحد شبهة في ذلك فأحدث فيها عن شبهة فهل يضرب عنقه؟ لا يمكن الالتزام بذلك ويشهد لهذا موثقة سماعة حيث ورد فيها : «لو أن رجلا دخل الكعبة فافلت منه بوله أخرج من الكعبة ولم يخرج من الحرم فغسّل ثوبه وتطهر ، ثم لم يمنع أن يدخل الكعبة ، ولو أن رجلا دخل الكعبة فبال فيها معاندا أخرج من الكعبة ومن الحرم وضربت عنقه» (١). فحكم القتل مرتب على البول عنادا لا مطلقا.

الفائدة الثالثة :

للكفر مراتب ومعاني

الحديث الثاني : خبر أبي الصباح الكناني ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام من شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مؤمنا؟ قال : فأين فرائض الله ، قال : وسمعته يقول : كان علي عليه‌السلام يقول : لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام. قال : وقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ان عندنا قوما يقولون : إذا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مؤمن؟ قال : فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟! وما خلق الله ـ عزوجل ـ خلقا أكرم على الله ـ عزوجل ـ من المؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وأن جوار الله للمؤمنين وأن الجنة للمؤمنين وأن الحور العين للمؤمنين ، ثمّ قال : فما بال من جحد الفرائض كان كافرا؟» (٢).

أقول : أولا أن الجحد كما عرفت هو الإنكار عن علم لا مطلقا وثانيا ليس في الحديث اسم من الضروري والمحتملات فيه أربعة كما عرفت في الحديث الأوّل والكلام الكلام وثالثا

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب أن الإسلام قبل الإيمان.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٣ ، كتاب الإيمان والكفر.

٤٧٩

الكفر لغة الستر ، يقال : «كفره» أي ستره وغطّاه ويقال للّيل «كافر» لستره الأشخاص والأشياء وللزارع «كافر» لستره البذور في الأرض ، قال الله ـ تعالى ـ : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ)(١) ، أي الزّراع كما عن بعض المفسرين ؛ وللكفر في الإنسان مراتب بلحاظ مراتب ستر الإيمان والفطرة فمرتبته الكاملة مقابل للإسلام ولكن قد يطلق في مقابل الإيمان أيضا كما في هذا الحديث بل قد يطلق على كل مرتكب للمعصية انه كافر ، وفي الحديث : «لا يزني الزاني وهو مؤمن» (٢).

والكفر المبحوث عنه في كتاب الطهارة والمترتب عليه الأحكام الخاصة هو الكفر المقابل للإسلام وليس في الحديث اسم منه.

الحديث الثالث : ما في الكافي أيضا عن سليم بن قيس الهلالي قال : سمعت عليا عليه‌السلام يقول وأتاه رجل فقال له : ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا وأدنى ما يكون به العبد كافرا وأدنى ما يكون به العبد ضالا؟ فقال له :

«قد سألت فافهم الجواب أما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرّفه الله ـ تعالى ـ نفسه ... وأدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أن شيئا نهى الله عنه أن الله أمر به ونصبه دينا يتولى عليه ويزعم أنه يعبد الذي أمره به وإنما يعبد الشيطان» الحديث (٣).

والجواب عنه أولا جريان الاحتمالات الأربعة المذكورة في الحديث الأوّل فيه أيضا فلا يتعين حمله على إنكار الضروري فقط وثانيا ان الكفر فيه مقابل الإيمان لا الإسلام ولا أثر فقهي له.

الحديث الرابع : ما رواه الحسن بن محبوب ، عن داود بن كثير الرقي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفرائض الله ـ عزوجل ـ؟ فقال : «ان الله ـ عزوجل ـ فرض فرائض موجبات على العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافرا» الحديث (٤). وداود بن كثير وإن اختلفوا في وثاقته ولكن الحسن بن محبوب من أصحاب الاجماع.

__________________

(١) سورة الحديد ، (٥٧) الآية ٢٠.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٨٥ ، كتاب الإيمان والكفر باب الكبائر.

(٣) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤١٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا.

(٤) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكفر.

٤٨٠