مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

على الترتب ، اجتماع الإرادة والكراهة في نفس هذا الفعل ، وليس هناك فعلان يكون احدهما محكوما بحكم والآخر بخلافه ، وهذا بخلاف مسألة الضدين حيث عرفت أن متعلق كل من الطلبين أمر غير متعلق الآخر ...»

أقول : قد عرفت ان موضوع الحكم الظاهري يخالف موضوع الحكم الواقعي بحسب العنوان ، وهذا يكفي في المقام ، وجريان الترتب في المقام اولى من جريانه في مسئلة الضدين ، إذ الأمر بالأهم قد تنجّز هناك ومع ذلك كان عدم تأثيره في نفس العبد مصححا للأمر بالمهمّ في رتبة عدم تاثيره ، وفيما نحن فيه ، الحكم الواقعي لم يبلغ مرتبة التنجّز وقد خاب وخسر عن تاثيره في نفس العبد فلم لا يصح إنشاء الأمر متعلقا بعنوان مجهول الحكم إذا كان مشتملا على المصلحة ، مع ان ظرف الجهل ظرف عدم تأثير الحكم الواقعي فلم ينقدح في نفس المولى إرادة الانبعاث من قبله.

فان قلت : إن كانت صلاة الجمعة ـ مثلا ـ بحسب الواقع واجبة وأدّت الأمارة إلى حرمتها ، يكون لازم ترتب الخطاب الظاهري على الواقعي الأمر بترك الجمعة إن لم يؤثر الأمر الواقعي ، في نفس العبد حتى يأتي بها ، ومحصل ذلك ، لزوم ترك الجمعة على فرض تركها وهذا طلب للحاصل.

قلت : الخطاب الظاهري لا يتعلق بعنوان ترك الجمعة ، بل يتعلق بعنوان الجهل بالواقع ، فلا محذور في البين ، وهذا كما في الأحكام المتعلقة بذوات الأفعال ، مع أن المكلف لا يخلو ، اما أن يكون آتيا للفعل بحسب الواقع ، او تاركا له ، والأوّل طلب الحاصل ، والثاني طلب المحال ، والجواب أن الطلب يتعلق بنفس عنوان الفعل لا بشرط الإتيان او الترك. فافهم.

ولو سلم ذلك ، فنفرض الترتب فيما إذا كان هناك أمران تعلق الوجوب مثلا بحسب الواقع بأحدهما وبحسب الظاهر بالآخر كما في مثال الظهر والجمعة فلا يرد محذور.

هذا كله بناء على كون القدرة شرطا في الفعلية ، وأما إذا قيل بكونها شرطا للتنجز فقط ، فالترتب في المسألة وفي مسئلة الضدين ، ترتب في التنجّز فقط ، بمعنى أن تنجز المهمّ مثلا مشروط بعدم تنجز الأهم ، وإلّا فكلاهما فعلي في عرض واحد من دون ترتب.

ولنا لإثبات هذا المعنى مشيا بديعا ليس المقام مقام ذكره. فافهم. (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٤٥٢.

٤١

الفائدة التاسعة :

تصوير المقدمة الداخلية

«محل البحث : المقدمة الداخلية والإشكال في تصوير مقدمية الأجزاء للكلّ بأنّ المقدمية عبارة عن كون أحد الشيئين محتاجا إليه في وجود الآخر ولا يمكن ان يعتبر الاحتياج بين الشيء ونفسه وأجزاء الشيء ليست إلّا نفسه ودفع هذا الإشكال بما حاصله أن الجزء الذي يطلق عليه المقدمة هو الذي تألف منه ومن غيره الكلّ ، فالكلّ محتاج والجزء محتاج إليه فتميز المحتاج من المحتاج إليه.»

أقول : يمكن أن يقال : إن الغائلة بعد باقية ، فان التكبير مثلا ـ على هذا ـ مقدمة ومحتاج اليه ، وكذا القراءة والركوع وساير الأجزاء إلى التسليم وحينئذ فاين المحتاج؟ وبعبارة اخرى المصلّي من أول صلاته إلى آخرها مشغول بإيجاد المقدمات فمتى اشتغل بإيجاد ذيها؟ (١)

الفائدة العاشرة :

إمكان الشرط المتقدم او المتأخّر

«محل البحث : تصوير إمكان الشرط المتأخر وأن من أحكام العلة التامة وأجزائها تقدمها على المعلول رتبة وتقارنها معه زمانا وعدم إمكان تقدمها او تأخرها عن المعلول زمانا وأما الشرط مثلا فايّ دليل على عدم جواز تقدمه او تأخره زمانا؟ ...»

لقائل أن يقول : إن الشرط لما كان مؤثرا في القابلية كان هو بالنسبة إلى وجود القابلية كالعلة التامة ، فيجب تقارنهما زمانا ، وعلى هذا فلا يمكن كون الشرط الذي هو جزء من اجزاء العلة التامة متأخرا في الوجود عن معلولها ؛ إذ القابلية ما لم يتحقق لم تؤثّر العلة في وجود المعلول ، بداهة تقدم القابلية على الفعلية. (٢)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ١٥٧.

(٢) نفس المصدر ، ص ١٦٣.

٤٢

إمكان الشرط المتقدم أو المتأخر وقياسه مع العلة الغائية التي كانت متأخرة عن معلولها

«... فان قلت : ليست العلة الغائية بوجودها الخارجي علة ، بل بوجودها العلمي ، ولذا لو تخيّل أحد ترتب غاية على فعله لأثّر هذا الخيال في صدور الفعل عنه وإن انكشف بعد حصوله أن الغاية المتخيلة لا تترتب عليه.

قلت : ليس العلم بالغاية بما هو علم بها مؤثرا في وجود الفعل ، بل بما هو طريق اليها ومرآة لها ...»

يمكن أن يقال : إن العلم قد يكون تمام الموضوع لشيء او لحكم ، ولكن لا بما أنه صفة لذات العالم في قبال سائر الصفات النفسانية ، بل بما أنه طريق إلى الواقع. مثال ذلك أن العلم بوجود السبع تمام الموضوع للخوف والوحشة ، فإنه يؤثر في الخوف وإن كان الواقع عدم وجود السبع ، ولكن تأثير هذا العلم في نفس الخائف ليس بما أنه علم وصفة كمال من صفات النفس ، بل بما أنه مرآة للواقع وهو وجود السبع.

وعلى هذا فيمكن القول بأن العلم في العلة الغائية أيضا من هذا القبيل لكفايته في وجود المعلول ، وإن ظهر بعد ذلك عدم ترتبها على الفعل. (١)

تصوير الشرط المتقدم للتكليف

«محل البحث : تصوير إمكان الشرط المتقدم للتكليف على فرض تسليم لزوم تقارن الشرط مع المشروط ... فالحق في كلّ ما توهم شرطيّتها للتكليف أنها ليست بشرائط وجوده ، بل إنها من قيود الموضوع في قضية من احكام العقل ، يكون موضوعها التكليف ، ومحمولها الإمكان ، بمعنى أن العقل يحكم بأن التكليف الصادر عن المولى متعلقا بالمكلف المميز القادر ممكن ، وغير هذا القسم من التكليف غير ممكن ، فالقدرة والتميز ليسا من شرائط وجود التكليف ، بل من شرائط إمكانه الذي هو من الاعتبارات العقلية»

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ١٦٤.

٤٣

لقائل أن يقول : إنا لا نتعقل دخالة مثل القدرة وأمثالها في إمكان التكليف فإن التكليف بذاته موضوع لحكم العقل عليه بالإمكان الذاتي ، لا أنه يكون ممتنعا ذاتا إلّا في حال تحقق الشرائط المذكورة. نعم ، يمكن أن يقال : بعدم تمشّي إرادة البعث من الآمر العاقل ، فيما إذا لم توجد شرائط التكليف ، ولكن أين هذا من الامتناع الذاتي؟ فإن المجنون مثلا يمكن أن يأمر جدا مع عدم قدرة المكلف.

اللهم الّا أن يقال : إن المجنون أيضا يتخيل قدرة المكلف ويأمره ؛ لا أنه يلتفت إلى عدم القدرة ومع ذلك يأمر. والأولى أن يبدل كلمة الإمكان بالحسن ، بأن يقال : إن العقل لا يحكم بحسن التكليف إلا إذا كان المكلف قادرا مثلا ، فمثل القدرة قيد للموضوع في قضية من محكومات العقل ؛ يكون موضوعها التكليف ومحمولها الحسن.

ثم أعلم : أنّ ما ذكره سيدنا الأستاذ الأكبر ـ مد ظلّه ـ إنما هو في الشرائط العقلية للتكليف ، لعدم جريانه في الشرائط الشرعية الثابتة له ، كالاستطاعة في الحج مثلا ؛ فإنها ليست دخيلة في إمكان التكليف بالحج. (١)

الفائدة الحادية عشرة :

الواجب النفسي والغيري

«تصوير الواجب النفسي والغيري وأنهما فيما إذا كان هناك فعلين مستقلين اختياريين توقف أحدهما على الآخر وقد تعلق بأحدهما وجوب نفسي وبالآخر وجوب غيري ... والمسببات في الأفعال التوليدية ، وإن كانت وجوداتها مغايرة لوجود الأسباب ؛ ولكن لما كان صدورها عن المكلف بعين إرادة الأسباب وإصدارها ، فلا محالة لا يتصور فيها وجوبان ، مثلا حركة المفتاح وان كانت مغايرة لحركة اليد في الوجود ، ولكن لما كان صدورهما عن الفاعل بإيجاد واحد لم يكن مورد لتعلق أمرين ، حتى يكون أحدهما نفسيا والآخر ترشحيا ...»

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ١٦٥.

٤٤

أقول : هذا مخالف لما ذكره سيدنا الأستاذ العلّامة ـ مد ظلّه ـ سابقا من أن تعدد وجود حركة اليد والمفتاح يستلزم تعدد الإيجاد أيضا ، إذا الوجود عين الإيجاد ، غاية الأمر أنه إن نسب إلى الفاعل سمي إيجادا ، وإن نسب الى القابل سمي وجودا. ثم إنه لو سلم إمكان وجود فعلين بإصدار واحد فيمكن أن يقال : إنه لا بأس بأن يكون كل من السبب والمسبب متعلقا لوجوب يخصّه ، غاية الأمر أن المكلف لا يقدر على تفكيكهما ، بل إما أن يختار امتثالهما أو يختار مخالفتهما ؛ ولا يشترط في اختيارية العمل أن تتعلق به إرادة مستقلة ، بل الملاك في اختياريته أن يكون المكلف قادرا على كل من الفعل والترك وهاهنا كذلك. فتأمل. (١)

«الإشكال في عبادية الطهارات الثلاث قبل دخول اوقات غاياتها ، بتقريب أنا إذا قلنا بعدم الاحتياج في عباديتها إلى الأمر الغيري وأنه يكفي في ذلك إتيانها بداعي الأمر النفسي ؛ من جهة أن الأمر كما يدعوا إلى اتيان المتعلق فكذلك يدعو إلى اتيان مقدماته ، فحيث إن المفروض فيما نحن فيه عدم تحقق الأمر النفسي بعد فكيف يصير الأمر المعدوم داعيا؟ وليس للأمر المعدوم امتثال حتى يقال : إن المقدمة واقعة في طريقه.»

أقول : ليس الأمر بوجوده الخارجي داعيا بل بوجوده العلمي فيمكن داعوية العلم بالأمر المستقبل قبل تحققه من غير فرق في ذلك بين الأمر النفسي والغيري. (٢)

وجوب المقدمة وعدمه

«يستدل لوجوب المقدمة بأن وزان الإرادة التشريعية وزان الإرادة التكوينية ، فكما أن الإرادة التكوينية إذا تعلقت بفعل تتولد منها إرادات اخر متعلقة بمقدماته ... فكذلك الإرادة التشريعية المتعلقة بصدور الفعل عن الغير تتولد منها إرادات اخر تشريعية ... وردّ هذا الدليل بأن إرادة المولى صدور الفعل من العبد ليس صدوره بلا توسط ارادته ـ وإلّا كانت تكوينية ـ بل صدوره بإرادته ومن هذه الإرادة تنقدح إرادة بعث العبد نحو الفعل و

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ١٨٢.

(٢) نفس المصدر ، ص ١٨٩.

٤٥

هذه الإرادة كافية في بعث العبد نحو المقدمات ولا يحتاج إلى إرادة بعث آخر نحوها ...»

أقول : لا يخفى أن تسمية اشتياق المولى صدور الفعل عن عبده بتوسيط إرادته بالإرادة لا تخلو عن مسامحة ؛ لما هو المحقق في محله من الفرق البيّن بين الشوق «وأن كان مؤكدا» وبين الإرادة ؛ فإن الإرادة حالة إجماعية للنفس لا تنفك من الفعل أبدا ، بخلاف الشوق المؤكد فإنه مع كمال تأكده قد ينفك منه الفعل لوجود بعض الموانع. وما ينقدح في نفس المولى بالنسبة إلى فعل العبد هو الشوق المؤكد ثم إرادة البعث دون إرادة الفعل ، وإنما تنقدح إرادة الفعل في نفس الفاعل ، وهي العلة لصدور الفعل عنه دون الشوق المؤكد المنقدح في نفسه أو نفس المولى ، فإنه قد ينفك منه الفعل ؛ وانفكاك المعلول من العلة محال. وما قد يتعلق بأمر استقبالي فيظن كونه إرادة فإنما هو مصداق للشوق المؤكد والمحبة لا الإرادة ، إذ الإرادة إنما هي الحالة المستعقبة للفعل بلا فصل بينهما ، وعليك بالتأمل التام ، حتى لا يختلط عليك الأمر ، وتميز بين المحبة والشوق وبين الإرادة. وليعلم أيضا أنه من الاشتباهات الجارية على الألسنة جعل الكراهة في قبال الإرادة ، مع أنها في قبال الشوق والمحبة. (١)

المقدمة الموصلة

«نقد ما استدلّ به على وجوب المقدمة الموصلة التي تتصور على وجهين :

الأوّل : أن يكون المتعلق للوجوب ذات ما يوجد من المقدمات في الخارج مصداقا للموصل لا بوصف الموصلية ، بمعنى أن الشارع مثلا رأى أن المقدمات التي تحصل في الخارج على قسمين : بعض منها مما توصل إلى ذيها ويترتب هو عليها واقعا ، وبعض منها مما لا توصل ، فخصّ الوجوب بالقسم الأوّل ، أعني ما يكون بالحمل الشائع مصداقا للموصل ، فعلى هذا

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٠٢.

٤٦

لا يكون عنوان الموصلية قيدا مأخوذا في الواجب ، بنحو يجب تحصيله ، بل تكون عنوانا مشيرا إلى ما هو واجب في الواقع.

الثاني : أن يكون المتعلق للوجوب عبارة عن المقدمة الموصلة مع وصف الإيصال ، بحيث يكون قيد الإيصال أيضا مأخوذا في الواجب ، بنحو يجب تحصيله ، فإن كان مراد القائلين بوجوب المقدمة الموصلة فقط المعنى الأوّل (بأن يكون متعلق الوجوب ذات ما يوجد في الخارج مصداقا للموصل لا بوصف الإيصال) ، فيرد عليه : أنّ هذا ليس تفصيلا جديدا في مسألة وجوب المقدمة ، بل هو نفس التفصيل الذي ذكره بعضهم ، أعني اختصاص الوجوب بالمقدمة السببية ، فان المقدمة التي تكون موصلة في متن الواقع ، ويترتب عليها ذو المقدمة لا تنطبق إلّا على المقدمة السببية.»

يمكن أن يقال : إنّ المقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة لا تنحصر في السبب ، إذ الترتب لا يستلزم أن يكون المترتب عليه علة تامة للمترتب ، بل الترتب عبارة عن وقوع شيء عقيب شيء آخر ، فالمقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة ، كما يمكن أن تكون سببا يمكن أيضا أن تكون شرطا أو معدّا وجد بعده ذو المقدمة ولو بمعونة سائر المقدمات ، فإن الشروط مثلا بحسب الواقع على قسمين : بعضها مما يوجد بعده المشروط ؛ وبعضها مما لا يوجد المشروط بعده ، ومن عبّر بالمقدمة الموصلة فقد أراد مطلق الترتب لا خصوص العلة التامة. (١)

«وإن كان مرادهم المعنى الثاني ، بأن يكون الواجب عبارة عن المقدمة المقيدة بوصف الإيصال ؛ ففيه أنه يلزم على هذا أن يترشح من هذا الوجوب المقدمي وجوب مقدمي متعلق بذي المقدمة. فإن تحصيل قيد الإيصال لا يمكن إلّا بإتيان ذي المقدمة ؛ والالتزام بهذا المعنى مشكل جدا ، فتدبر.»

أقول : بل يلزم ترشح وجوبين غيرييّن تعلق أحدهما بذي المقدمة والآخر بذات المقدمة ، فإن المطلق أعني الذات جزء للواجب الذي هو الذات المقيدة بالإيصال حسب الفرض. (٢)

__________________

(١) نهاية الأصول ، ص ١٩٤.

(٢) نفس المصدر ، ص ١٩٥.

٤٧

هل الواجب مطلق المقدمة أو ما قصد به التوصل أو خصوص الموصلة؟

أقول : ولبعض أعاظم المحققين في هذا المقام بيان في إثبات اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، ولا بأس بالإشارة إليه مع ما فيه فنقول : قد أسس المحقق المزبور بنيان كلامه على مقدمتين :

الأولى أنّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية كلها راجعة إلى الحيثيات التقييدية ؛ فالواجب في باب المقدمات بحسب الحقيقة هو التوصل إلى ذي المقدمة لأنّه الملاك لوجوب المقدمة ، وقد قلنا : إن الوجوب في الوجوبات العقلية للجهات بحسب الحقيقة. الثانية أن كل حكم من الأحكام إنما يتعلق في الحقيقة بما يقع من الطبيعة معلولا للإرادة ، لا بمطلق الطبيعة ، إذ هو جامع لما يقع منها بالإرادة ولما ليس كذلك ؛ والتكليف بالنسبة إلى ما لا يقع منها بالإرادة تكليف بأمر غير اختياري. ففيما نحن فيه بعد ما ثبت في المقدمة الأولى أنّ الوجوب بحسب الحقيقة يتعلق بالتوصل ، نضيف إليه هنا أنه يتعلق بالتوصل المعلول للإرادة والقصد ، فثبت المطلوب. هذا ملخص كلامه.

أقول : وفي المقدمة الثانية نظر ، إذ الميزان في اختيارية الفعل ومقدوريته كون الفاعل بحيث إن أراده فعله وإن لم يرده لم يفعله ؛ وصدق الشرطية لا يستلزم صدق الطرفين وإلّا لما كان عدم الممكنات مقدورا للحق تعالى ،

هذا مضافا إلى أن التكليف إنما يتعلق بالطبيعة المهملة الجامعة لما يوجد منها بالإرادة ولما ليس كذلك ، والجامع بين الاختياري وغير الاختياري اختياري بالضرورة ، كما هو واضح. ثم إن ما ذكره «من أن الملاك لوجوب المقدمة هو التوصل بها إلى ذي المقدمة» أمر قد اختاره في قبال المحقق الخراساني فإنه قال في كفايته : «إن الملاك لوجوب كل مقدمة والغرض منه هو التمكن من ذي المقدمة بالنسبة إلى هذه المقدمة» وقد ردّ عليه هذا المحقق بأن التمكن من ذي المقدمة ليس معلولا لوجود المقدمة ، بل معلول للتمكن منها ، ولنا في هذا الأمر أيضا إشكال لا مجال لذكره فتدبّر. (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ١٩٣.

٤٨

الواجب المعلق

«تصوير الواجب المعلق وأقسامه ، وأن الوجوب في الواجب المعلق مطلق والواجب مشروط ...

ومن هذا القبيل أيضا الواجب الذي توقف حصوله على أمر مقدور للمكلف ، ولكن لم يمكن تعلق التكليف بهذا الأمر المقدور من جهة كونه محرما شرعيا ...»

أقول : تخصيص هذا القسم بالمقدمات المحرمة بلا وجه ؛ لإمكان أن يكون الوجوب الحالي متعلقا بأمر توقف حصوله على أمر مقدور للمكلف ، ولكن أخذ على نحو لا يتعلق التكليف بهذه المقدمة. فالوجوب في هذا القسم أيضا مشروط بأمر انتزاعي حالي ، وهو كون المكلف بحيث تتحقق له هذه المقدمة حال كونه واجدا لشرائط التكليف حين تحققها له ، وهذا مثل أن يقول المولى للعبد : إن كنت ممن يحصل له الاستطاعة في المستقبل فالآن يجب عليك الحج وحينئذ يجب تحصيل المقدمات الوجودية غير المعلق عليه ، إن كان يعلم بحصوله في ظرفه. (١)

الفائدة الثانية عشرة :

الواجب الكفائي والعيني

«يبحث عن تصوير الواجب الكفائي وأنه هل الفرق بينه وبين الواجب العيني يرجع إلى المكلف او إلى المكلف به؟» (٢)

وقد ناسب هنا أن نتعرّض إجمالا لماهيّة الوجوب الكفائي ، والفرق بينه وبين العيني وما يقتضيه الإطلاق منهما ليتّضح حكم المقام أيضا ، فنقول : قال في الكفاية :

«والتحقيق أنّه سنخ من الوجوب وله تعلّق بكلّ واحد بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعا ، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم.» (٣)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ١٧٨.

(٢) راجع ولاية الفقيه ، ج ٢ ، ص ٢٢٢.

(٣) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

٤٩

أقول : لا يخفى أنّ ما ذكره ـ قده ـ تعريف له بلحاظ الخاصّة والأثر لا بلحاظ الماهيّة.

وقال في موضع آخر :

«قضيّة إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ، لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب وتضيّق دائرته ، فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقا ، وجب هناك شيء آخر أو لا ، أتي بشيء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا.» (١)

وظاهر هذا الكلام أنّ العيني والكفائي بعد اشتراكهما في توجّه الخطاب إلى الجميع يفترقان بأنّ الوجوب في العيني مطلق وفي الكفائي مشروط بعدم إتيان الغير ، فإن أتى به البعض لم يجب على الآخرين ، وإن لم يأت به أحد وجب على الجميع لوجود شرطه في الجميع.

وقال السيّد الأستاذ آية الله العظمى البروجردي ـ طاب ثراه ـ ما محصّله بتوضيح منّا :

«إنّ الفرق بينهما عند القوم يكون في ناحية المكلّف ، بتقريب أنّ المكلّف في العيني هو جميع الأفراد بنحو العموم الاستغراقي ، فيكون كلّ فرد مكلّفا بالاستقلال. وأمّا في الكفائي فعند البعض هو المجموع من حيث المجموع ، وعند آخرين أحد الأفراد.

ويرد على الأوّل أنّ المجموع من حيث المجموع ، أمر اعتباري لا حقيقة له ، فلا يتصوّر تكليفه ، وعلى الثاني أنّ أحد الأفراد إن أريد مفهومه ففيه أنّه غير قابل للتكليف ، وإن أريد به مصداقه أعني الفرد المردد خارجا ففيه أنّه لا خارجية له حتى يتوجّه إليه البعث.

فالتحقيق أن الوجوب له ثلاث إضافات : إضافة إلى الطالب ، وإضافة إلى المطلوب ، وإضافة إلى المطلوب منه. والفرق بين العيني والكفائي ليس في المكلف والمطلوب منه كما يظهر من القوم ، ولا في إطلاق الوجوب واشتراطه كما في الكفاية. بل الفرق بينهما بعد اشتراكهما في كون كلّ فرد مكلّفا مستقلا إنّما يكون في

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١١٦.

٥٠

المطلوب والمكلّف به. فالمطلوب في الوجوب الكفائي هو نفس طبيعة الفعل بإطلاقها الذاتي ، وفي العيني طبيعة الفعل بقيد صدورها من هذا الفاعل الخاصّ.

والسرّ في ذلك أنّ الأوامر تابعة للمصالح والأغراض ، فإن كانت المصلحة في صدور الفعل عن كلّ واحد من المكلّفين بحيث تترتّب المصلحة على الفعل بقيد صدوره عن الفاعل الخاصّ كما في الأمر الصلاتي حيث إنّ تكامل الشخص وارتداعه عن الفحشاء والمنكر يترتبان على صلاة نفسه فحينئذ يكون الوجوب عينيا.

وإن كانت المصلحة في مجرد تحقق طبيعة الفعل في الخارج من غير دخالة لصدورها عن فاعل خاصّ كما في دفن الميت وتجهيزه فحينئذ يتعلّق التكليف بنفس الطبيعة بإطلاقها الذاتي ويكون الواجب كفائيا ، إذ تقييدها بقيد صدورها من الشخص يكون جزافا.

وحيث إنّ كلّ واحد من المكلفين قادر على تحصيل هذه الطبيعة المطلقة أمر المولى كلّ واحد منهم بذلك. فإذا حصلت في الخارج سقط جميع الأوامر قهرا بحصول متعلّقها ، وإن عصى الجميع عوقبوا جميعا.

والحاصل أنّ الفرق بين العيني والكفائي لا يرجع إلى المكلّف ، بل إلى المكلّف به. والمكلّف به في الكفائي مطلق الطبيعة ، وفي العيني الطبيعة بقيد صدورها من الفاعل الخاصّ.

وعلى هذا فإطلاق المتعلّق يقتضي الكفائية. نعم ، لا ننكر أنّ توجه الخطاب والتكليف يوجب الانصراف إلى العينية ، فتدبر.»

انتهى ما أردنا نقله من كلام السيد الأستاذ ـ قدس‌سره ـ وإن شئت التفصيل فراجع ما قرّرناه من أبحاثه في كتاب نهاية الأصول المطبوع سابقا. (١)

والظاهر أنّ ما ذكره حقّ لا مرية فيه.

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٢٨ الى ٢٣٠.

٥١

نعم ، ما ذكره من عدم إمكان توجّه التكليف إلى المجموع من حيث المجموع قابل للخدشة ، إذ الظاهر أنّ الواجبات الاجتماعيّة والحدود الإلهية كلّها وضعت على عاتق المجتمع بنحو العام المجموعي ، غاية الأمر أنّ المتصدي لامتثالها هو قيّم المجتمع وممثله ، أعني الإمام والحاكم كما فصّلنا في بعض المباحث السابقة.

ولكن الظاهر أنّ الواجبات الكفائيّة ليست من هذا القبيل ، فتأمل. إذ من الممكن إرجاع الواجبات الاجتماعيّة أيضا إلى الكفائيّة ، وإن كان الواجب مباشرة الإمام وعمّاله لتنفيذها.

فالواجب على الأمّة كفاية هو تحصيل الحكومة وتأييدها ومساعدتها ، والواجب على الحاكم تنفيذ الواجبات الاجتماعيّة كإجراء الحدود ونحوها ، فتدبّر. (١)

الفائدة الثالثة عشرة :

الأمر بالشيء والنهي عن ضده

«يبحث عن أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده؟

وأن نفس التضاد لا يوجب مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر ، أو مقدمية وجود أحدهما لعدم الآخر ، بل يوجب استحالة اجتماعهما في موضوع واحد فقط من دون تمانع بينهما من جهة الضدية.

... نعم يمكن أن يكون وجود العلة التامة لأحد الضدين مانعا عن وجود الآخر ، كما إذا كان هنا شيء واحد فأراد رجل سكونه والآخر تحريكه ، فتأمل.»

ولا يتوهم أن عدم أحدهما عند وجود العلة التامة للآخر يكون مستندا إلى وجود الآخر ، لا إلى وجود علته ؛ ضرورة بطلان ذلك من جهة أنه يكفي في هذا العدم وجود العلة للضد الآخر ، سواء وجد نفس الضد أم لم يوجد ، بأن صارت علته مزاحمة بعلة الآخر وكانتا متكافئتين.» (٢)

__________________

(١) ولاية الفقيه ، ج ٢ ، ص ٢٢٢ إلى ٢٢٤.

(٢) نهاية الاصول ، ص ٢١١.

٥٢

الفائدة الرابعة عشرة :

الأمر بالضدين بنحو الترتب

«يبحث عن تصوير الأمر بالضدين بنحو الترتب ؛ وأن وجود البعثين المتعلق كل واحد منهما بواحد من الضدين في عرض واحد محال ، وأما وجودهما لا في عرض واحد ، بل في رتبة عصيان الأمر المتعلق بأحدهما فلا استحالة فيه لعدم المزاحمة في مقام التأثير ؛ وهذا مثل الأمر بالأهم مطلقا والأمر بالمهم في رتبة عصيان الأهم وعدم تأثيره في نفس المكلف ... فالأمر بالأهم رتبته قبل العصيان والأمر بالمهم رتبته متأخرة عنه لكونه موضوعا له ورتبة الحكم متأخرة عن رتبة الموضوع بالضرورة وحينئذ فلا توجد بينهما مزاحمة اصلا ، كما هو واضح لا سترة عليه.» (١)

ليس المصحح للأمر بالمهم في ظرف عصيان الأهم ما ذكروه من إختلاف الرتبة ؛ فإن الأمر بالأهم وإن لم يكن له إطلاق لحاظي بالنسبة إلى حال عصيانه (كما لا إطلاق له بالنسبة إلى حال إطاعته) لكن الإطلاق الذاتي موجود بمعنى أن الأمر بالأهم موجود للمكلف ، سواء كان مطيعا أو عاصيا في متن الواقع ، بداهة عدم تعقل الإهمال الثبوتي ، كيف! ولو كان ما ذكروه من إختلاف الرتبة كافيا في تصحيح الأمر بالمهم «مشروطا بعصيان الأهم» لكان اللازم جواز الأمر بالمهم مشروطا باطاعة الأهم أيضا ؛ ضرورة اشتراك العصيان والإطاعة في أن الأمر ليس له إطلاق لحاظي بالنسبة إليهما ، وله إطلاق ذاتي بالنسبة إلى كليهما.

فإن قلت : الأمر ثابت للمكلف بما هو إنسان اجتمعت فيه شرائط التكليف لا بما هو مطيع أو عاص أو بما هو مطيع وعاص ، وبعبارة اخرى : الأمر وإن كان ثابتا للمكلف ، سواء كان مطيعا أو عاصيا ، لكنه ليس بما هو مطيع أو عاص ، وحينئذ فليس للأمر بالنسبة إلى عنواني الإطاعة والعصيان إطلاق ولا تقييد.

قلت : ليس معنى إطلاق الحكم بالنسبة إلى عنوان ، سراية الحكم إلى هذا العنوان ، بحيث

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٢١.

٥٣

يصير هذا العنوان جزءا لموضوع الحكم ، وإلّا فلا نجد نحن مثالا للمطلق ، ضرورة أن قوله : «أعتق رقبة» مثلا من أمثلة المطلقات من جهة إطلاق الرقبة بالنسبة إلى المؤمنة والكافرة ، مع أنه ليس معنى الإطلاق فيها أن عنوان الكفر أو الإيمان له دخالة في الحكم ، بحيث تصير المؤمنة بما هي مؤمنة ، أو الكافرة بما هي كافرة موضوعا للحكم ، بل معنى الإطلاق فيها هو أن الرقبة بما هي رقبة تمام الموضوع ، ولازم ذلك سريان الحكم بسريانه الذاتي ، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث المطلق والمقيد.

وبالجملة : ليس الملاك في تصحيح الأمر بالمهم ما ذكروه من إختلاف الرتبة ، بل الملاك فيه هو وجود الأمرين بنحو لا يتزاحمان في مقام التأثير ، وبيان ذلك هو ما ذكره سيدنا العلامة الأستاذ الأكبر ـ مد ظلّه العالي ـ وقد صرح بما ذكرنا هو ـ مد ظلّه ـ في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

بيان آخر للترتب

ثم إن الأنسب أن نعيد ما ذكره ـ مد ظلّه ـ في تصحيح الترتب ببيان آخر لعلك تطّلع على ما هو الحق ، فنقول :

لا إشكال في أن التكليف بالمحال بنفسه محال ، فإن التكليف الحقيقي إنما يصدر عن المولى بداعي انبعاث المكلف وتحركه نحو متعلقه ، فإذا كان المتعلق أمرا محالا لا يتمكن المكلف من إيجاده فكيف ينقدح في نفس المولى الملتفت إرادة البعث والتحريك نحوه ، والمراد من التكليف بالمحال هو أن يكون المتعلق للتكليف أمرا يستحيل صدوره عن المكلف ، وذلك مثل أن يأمر المولى عبده بالطيران إلى السماء ، بلا وسيلة ، أو بالجمع بين الضدين مثلا ، هذا إذا كان نفس ما تعلق به التكليف من المحالات.

وأما إذا كان لنا أمران مستقلان تعلق أحدهما بأحد الضدين والاخر بالضد الآخر مع عدم سعة الزمان المقدر لهما إلّا لأحدهما ، فصدور هذين التكليفين عن المولى أيضا من المحالات ، ولكن لا من جهة لزوم التكليف بالمحال ، إذ المتعلق لكل واحد من التكليفين أمر ممكن ، والجمع بين المتعلقين وإن كان محالا ، لكن التكليف لم يتعلق به ، ومجموع التكليفين ليس

٥٤

مصداقا للتكليف ، حتى يقال بتعلقه بالجمع بين الضدين ، إذ كل فرد مصداق للطبيعة مستقلا وليس الفردان بما هما فردان مصداقا واحدا. وبالجملة استحالة هذين التكليفين ليست من هذه الجهة ، بل من جهة تزاحمهما في مقام التأثير ، ومقام إيجاد الداعي في نفس المكلف ، فإن كل واحد من الضدين وإن كان بحياله أمرا ممكنا يمكن أن ينبعث المكلف نحوه ، ولكن انبعاثه نحو هذا الضد مستقلا ونحو ذلك الضد أيضا مستقلا في زمان لا يسع إلّا واحدا منهما لمّا كان من المحالات ، كان صدور الطلب من قبل المولى متعلقا بهذا الضد بداعي الانبعاث ومتعلقا بذاك الضد أيضا بداعي الانبعاث من المحالات ؛ وذلك من جهة امتناع أن تنقدح في نفسه الإرادة بالنسبة إلى كلا البعثين ، مع التفاته إلى أن العبد لا يتمكن إلّا من الانبعاث من واحد منهما.

والحاصل : أن استحالة صدور هذين البعثين ، إنما هي من جهة أنهما يصدران بداعي الانبعاث ، ولما كان الانبعاث من كليهما محالا كان وجودهما أيضا من قبل المولى محالا ، هذا إذا فرض البعثان متزاحمين في مقام التأثير والداعوية ، وأما إذا لم يكونا متزاحمين في مقام التأثير ، بأن لم يكونا في عرض واحد ، بل كان أحدهما ثابتا في رتبة عدم تأثير الآخر ورتبة خلو الظرف عن المزاحم ، فلا وجه حينئذ لاستحالتهما ، فإن المكلف في رتبة عصيانه للأمر المتعلق بالأهم ورتبة عدم تأثيره في نفسه يكون متمكنا من إيجاد المهم ، فلا محالة تنقدح في نفس المولى في هذه الرتبة إرادة البعث نحوه ، إذ الفعل مقدور للمكلف ، والزمان أيضا في هذه الرتبة خال من الفعل ، بحيث لو لم يشغله المهم لكان خاليا من الأهم والمهم كليهما. وحينئذ فأي مانع من انقداح الإرادة في نفس المولى في هذه الرتبة؟ لا والله لا مانع في البين ، والمقتضي أيضا موجود من جهة تمامية الملاك في المهم ، فتدبر. ولعمري صحة الترتب (بالبيان الذي ذكره سيدنا الأستاذ ـ مد ظلّه العالي ـ وقررناه ثانيا بهذا البيان) في غاية الوضوح والبداهة ، فاغتنم ولا تكن من الجاهلين.

هذا كله بناء على كون القدرة شرطا للفعلية ، وأما بناء على كونها شرطا للتّنجز فقط فكلا التكليفين فعليان في عرض واحد ، بلا ترتب في البين ، غاية الأمر أن تنجّز المهم عقلا مترتب على عصيان الأهم ، وهذا هو الأقوى ؛ وعليه فيكون الترتب بين التكليفين في مرحلة التنجّز ، وبيانه يحتاج إلى تفصيل لا يسعه المقام. (١)

__________________

(١) نهاية الأصول ، ص ٢٢١ و٢٢٢.

٥٥

كلام الشيخ في الترتب

«محل البحث : بيان كلام الشيخ حيث قال : لو قيل بالسببية في باب حجية الخبر لكان الخبران المتعارضان من قبيل المتزاحمين ولازم ذلك عدم سقوطهما رأسا بل يتقيد إطلاق كل منهما بعدم الآخر. ونقده بعض الأعاظم بأن هذا التزام بترتبين مع أن الشيخ ممن ينكر الترتب. وليس مراد الشيخ تقييد كل من الخطابين بعصيان الآخر بما هو عصيان ، حتى يلزم الترتب ...»

أقول : ولا يخفى أن ترتب كل منهما على عصيان الآخر بما هو عصيان مستلزم للدور المضمر من الطرفين ، فإن عنوان العصيان يتوقف على ثبوت الأمر ، فثبوت الأمر ب «أ» مثلا يتوقف ـ على هذا الفرض ـ على عصيان «ب» المتوقف على الأمر به المتوقف على عصيان الأمر ب «أ» المتوقف على ثبوته ، وكذا العكس ، وهذا بخلاف العدم بما أنه عدم ، لعدم توقفه على الأمر حتى يدور ، فافهم. (١)

الفائدة الخامسة عشرة :

اجتماع الأمر والنهي

«ويبحث عن أنه هل يجري النزاع على القول بتعلق الأحكام بالأفراد لا الطبائع أم لا؟ قد يتوهم أنه على هذا القول لا مجال للنزاع ولا بد من القول بالامتناع ، ولكنه فاسد لأنّ تعدد الوجه إن كان مجديا في دفع الغائلة فيجدي ولو على القول بتعلق الأحكام بالأفراد وإن لم يكن مجديا فلا يجدي ولو قيل بتعلقها بالطبائع ...»

لا يخفى أن القائل بتعلق الحكم بالفرد لا يريد تعلقه بعنوان الفردية وبمفهومها ، بل بما هو فرد بالحمل الشائع الصناعي ، وعلى هذا فكونه فردا لهذا وفردا لذاك لا يوجب تعنونه بعنوانين ، تعلق بأحدهما الأمر ، وبالآخر النهي. (٢)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٢٤.

(٢) نفس المصدر ، ص ٢٥٤.

٥٦

مقوّمات الحكم

«يبحث عن بيان مقوّمات الحكم وأن البعث والزجر لهما اضافة إلى فعل المكلف في الخارج ولكنهما ليسا من عوارضه كيف؟ ولو كانا من عوارضه لم يعقل العصيان أبدا إذ وجود فعل المكلف يعني المأمور به في الخارج امتثال لا عصيان ...»

يمكن أن يقال : إن الحكم وإن كان لا بدّ في تحققه من إضافة ما إلى المكلف به ، ولكن المراد بذلك هو المكلف به بوجوده الذهني لا الخارجي ، فإن خارجيته موجبة لسقوط الحكم ، كما سيصرّح به ، فبيان نحو تعلقه بالموجود الخارجي أجنبي عما نحن فيه من بيان مقوّمات الحكم. (١)

اجتماع الأمر والنهي بتعدد الحيثية

«محل البحث : إثبات إمكان اجتماع الأمر والنهي بتعدد الحيثية والعنوان ، فكما يمكن أن يجتمع عنوان المعلومية والمجهولية في ما إذا تعلق العلم بمجيء عالم غدا والجهل بمجيء عادل فاتفق مجيء عالم عادل فوجود هذا المجيء من حيث أنه مجيء العالم معلوم ومن حيث أنه مجيء العادل مجهول ، فكذلك فيما نحن فيه ...»

والحاصل أن وزان ما هو المتعلق بحسب الحقيقة للإرادة والبعث أو الكراهة والزجر وزان المعلوم بالذات ، ووزان مصداق المتعلق ووجوده الخارجي وزان المعلوم بالعرض ، وفي الأوّل لا يتوجه إشكال أصلا ؛ إذ المتعلق بالذات هو نفس الحيثية الملحوظة ، والفرض أن الحيثية المتعلقة للبعث غير الحيثية المتعلقة للزجر ، وفي الثاني أيضا لا إشكال ، فإن إضافة البعث والزجر أو العلم والجهل إلى الخارج ليست بنحو العروض بل هي نحو اضافة تعتبر بتبع تعلق هذه الأمور بالمتعلق بالذات.

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٥٧.

٥٧

فإن قلت : فرق بين باب العلم والجهل وبين ما نحن فيه ، فإن البعث والزجر إنما يصدران عن المولى ، بداعي انبعاث العبد وانزجاره ، فإذا اطّلع المولى على كون الحيثيتين متصادقتين فكيف يعقل أن تنقدح في نفسه الإرادة والكراهة بالنسبة إليهما بإطلاقهما ؛ فعلى هذا يجب عليه تقييد متعلق الأمر ليجمع بين الغرضين.

قلت : بعد كون المشتمل على المصلحة عبارة عن نفس الحيثية الصلاتية مثلا يصير تقييدها جزافا إذ الفرض عدم دخالة القيد في المصلحة. وبالجملة ليس للبعث أو الزجر التخطي عن دائرة ما اشتمل على المصلحة أو المفسدة ، نعم ، إن لم يكن إيجاد المحبوب مقدورا للعبد لم يكن للمولى الأمر به ، ولكن الفرض كونه مقدورا لوجود المندوحة. (١)

تصوير آخر لاجتماع الأمر والنهي

«المحرّم المضطر إليه بسوء الاختيار إذا كان مقدمة لواجب أهم كالخروج من الأرض المغصوبة هل هو واجب لكونه مقدمة للتخلص من تلك الأرض كما قال به الشيخ أم لا؟.»

أقول : يظهر من مجموع كلام سيدنا الأستاذ ـ مد ظلّه العالي ـ أنه في أصل الكبرى موافق للشيخ قدس‌سره ومخالفته معه في الصغرى فقط. بيان ذلك : أن المسألة المبحوث عنها هي حكم المحرم المضطر إليه بسوء الاختيار إذا كان مقدمة لواجب أهم ، فاختار الشيخ كونه مأمورا به فقط ، واختار المحقق الخراساني عدم كونه مأمورا به ، ولا منهيا عنه مع جريان حكم المعصية عليه ، ويظهر من كلام سيدنا الأستاذ ـ مد ظلّه ـ أنه يوافق الشيخ في ذلك ، وإنما يخالفه في مثال الخروج من جهة عدم كونه من صغريات المسألة ، كما يظهر ذلك من قوله ـ مد ظلّه ـ في جواب كلام الشيخ : «إن قياس الخروج على شرب الخمر قياس مع الفارق ، فإن شرب الخمر مقدمة لواجب أهم (أعني حفظ النفس) ، والخروج ليس مقدمة لواجب من جهة أن الموجود في باب التصرف في ملك الغير حكم واحد وهو الحرمة».

ثم اعلم أنه على فرض مقدمية الخروج للواجب ربما يقرب إلى الذهن قول صاحب

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٥٩.

٥٨

الفصول ، فإن المكلف قبل دخوله في أرض الغير كان متمكنا من ترك التصرف بأنحائه ، كما كان متمكنا في أول الأمر من فعله كذلك بأن يدخل فيها ، فإنه بدخوله فيها يتحقق منه جميع أنحائه ، غاية الأمر كونه بالنسبة إلى نفس الدخول بلا واسطة ، وبالنسبة إلى ما يستتبعه من مقدار الخروج أو البقاء توليديا مختارا بنفس اختيار سببه ، فلمّا كان قبل الدخول متمكنا من أنحاء التصرف فعلا وتركا توجه إليه النهي عن الجميع ، ولكن لا بعنوان الدخول أو البقاء أو الخروج ، بل بعنوان التصرف في مال الغير ، وقد وقع العصيان بالنسبة إلى الجميع بصرف الدخول ، وأما بعده فلمّا كان يمكنه البقاء كما يمكنه الخروج صار الخروج بعنوانه في مقابل عنوان البقاء ذا مصلحة ، فيأمر المولى بصرف المقدار المضطر إليه في الخروج ، لا في البقاء ويخرج النهي حينئذ من الفعلية من جهة الاضطرار ، فتدبر. (١)

المعاملة على الأعمال المحرّمة ليس من قبيل اجتماع الأمر والنهي

«محل البحث : هو أنّ حرمة المعاملة على الأعمال المحرّمة وضعيّة كانت او تكليفية فقط ، وان كان موضوعا فقهيا ولكنه لا يخلو من الإشارة إلى قواعد اصولية منها : ملاحظة النسبة بين أدلة وجوب الوفاء بالعقود وأدلة حرمة الأعمال المحرّمة.» (٢)

قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصة :

«أنّ محلّ الكلام في المسائل الآتية إنّما هو في الأعيان المحرّمة كالخمر والخنزير ونحوهما. وأمّا الأعمال المحرمة كالزنا والنميمة والكذب والغيبة ونحوها فيكفي في فساد المعاملة عليها الأدلّة الدالّة على تحريمها إذ مقتضى وجوب الوفاء بالعقود وجوب الوفاء بالعقد الواقع عليها ، ومقتضى أدلّة تحريمها وجوب صرف النفس عنها وإيقاف الحركة نحوها ، فاجتماعهما في مرحلة الامتثال من المستحيلات العقليّة. وعلى أقل التقادير فإنّ أدلّة صحّة العقود ووجوب الوفاء بها مختصّة بحكم العرف بما إذا كان العمل سائغا في نفسه.

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٧٧.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ١ ، ص ١٧٤.

٥٩

وربّما يظهر من كلام شيخنا الأستاذ في حكم الأجرة على الواجبات أنّ الوجه في ذلك هو عدم كون الأعمال المحرّمة من الأموال أو عدم إمكان تسليمها شرعا. وبملاحظة ما تقدّم يظهر لك ما فيه ، فإنّك قد عرفت أنّ صحة المعاملة عليها ووجوب الوفاء بها لا يجتمعان مع الحرمة النفسية سواء اعتبرنا الماليّة أو القدرة على التسليم في صحة العقد أم لم نعتبر شيئا من ذلك.» (١)

أقول : إن أراد أنّ مورد بحث فقهائنا (ره) الأعيان المحرّمة لا الأعمال فهذا ممنوع ، إذ النوع الرابع من المكاسب المحرّمة التي تعرّضوا لها هي الأعمال المحرّمة كالغناء والنوح بالباطل ونحوهما ، فراجع. وإن أراد عدم احتياج حرمة الاكتساب بها إلى البحث والاستدلال لوضوح حرمة المعاملة بها فله وجه. ولكن مع ذلك لا غنى فيها عن البحث ، إذ يمكن أن يتوهّم أحد أن مفاد أدلّة تحريمها هو التكليف ، ومفاد دليل وجوب الوفاء هو الوضع أعني صحّة المعاملة. ولكون العقد عنوانا طارئا فلعلّ اللازم تقديم حكمه على الأحكام الأوّليّة كما في سائر موارد تحكيم العناوين الثانويّة على العناوين الأوّليّة.

ومناقشته على ما استدلّ به أستاذه أيضا مدفوعة ، إذ مضافا إلى حسن تكثير الدليل على الحكم أنّ ما استدلّ به أستاذه مقدّم بحسب الرتبة على ما استدلّ به ، إذ البيع مبادلة مال بمال ومع فرض عدم الماليّة لشيء ولو شرعا لا يبقى موضوع للمبادلة حتى يبحث عن صحّتها أو فسادها. (٢)

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٢٤.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ١ ، ص ١٧٤.

٦٠