مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

الفائدة الأولى :

أصالة الصحة في عمل النفس

«المبحث : لو شك المشتري في أن البائع ، أدّى الزكاة أم لا؟

وإذا كان ذلك بعد وقت التعلق فالزكاة على البائع فإن علم بأدائه او شك في ذلك ليس عليه شيء ...

وقد تعرض سماحة الأستاذ ـ دام ظلّه ـ للبحث في أصالة الصحة في عمل النفس وفي عمل الغير بالتفصيل» (١)

قد يشكل ذلك في صورة الشك ، لأصالة عدم أداء الزكاة وبقائها في المال. ولذا قال المصنّف في المسألة الخامسة من ختام الزكاة فيما إذا علم الوارث انّ مورثه كان مكلّفا بإخراج الزكاة وشك في أدائها : «نعم ، لو كان المال الذي تعلّق به الزكاة موجودا أمكن أن يقال : الأصل بقاء الزكاة فيه» (٢). وكذلك الكلام في باب الخمس.

وقد يجاب عن الأصل المذكور بوجهين : الأوّل قاعدة الصحة الجارية في المعاملة ونحوها. الثاني قاعدة اليد ، حيث إنّها أمارة على الملكيّة.

ولكن في المستمسك استشكل على الأوّل :

«بأن قاعدة الصحة تختصّ بالشك الحادث بعد المعاملة ، بل قد قيل باختصاصها بخصوص صورة احتمال التفاته حين المعاملة وعلمه بوجوب الأداء ، فلا تجري في غير تلك الصورة فضلا عمّا إذا كان الانتقال بالموت ونحوه من الأسباب التي لا تتّصف بالصحة والفساد.» (٣)

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ٢ ، ص ١٠٨.

(٢) العروة الوثقى ، ج ٢ ، ص ٣٣٨.

(٣) المستمسك ، ج ٩ ، ص ١٧١.

٤٠١

أقول : لعلّ في كلامه ـ قدس‌سره ـ نحو خلط بين أصالة الصحة الجارية في عمل النفس ، وأصالة الصحة الجارية في عمل الغير. إذ الأولى لا تجري إلّا بعد الفراغ من العمل ، بل بعد الدخول في الغير أيضا على الأحوط ، كما هو المستفاد من بعض أخبار المسألة كقوله في موثقة ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء ...» (١) كما انّ الأحوط لو لم يكن أقوى اختصاصها بصورة احتمال التفاته حين العمل وعلمه بوجوب الأداء ، كما يستفاد من قوله عليه‌السلام في موثقة بكير : «... هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (٢) ، وفي صحيحة محمد ابن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «... وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك». (٣)

الفائدة الثانية :

أصالة الصحة في عمل الغير

وأما أصالة الصحّة الجارية في عمل الغير فلا تختصّ بما بعد العمل ، بل تجري في حينه أيضا. فانّ بناء الناس على إختلاف مذاهبهم على حمل أعمال الناس في عقودهم وإيقاعاتهم ونكاحهم وطلاقهم على وقوعها بنحو تصحّ عندهم. ويحمل أعمال المسلم على الصحيح عند المسلمين ولا تختص بما بعد العمل.

ألا ترى انّه يحمل عمل المتصدي لتجهيز الميّت المشتغل به على الصحة ، فيكتفى به ، وعقد الوكيل وإيقاعه على الصحّة فيعتنى بهما ، وإيجاب الموجب على الصحّة فيعقب بالقبول ، وصلاة الإمام على الصحة فيقتدى به. إلى غير ذلك من الأمثلة.

نعم ، لهم في أصالة الصحّة الجارية في معاملات الناس كلام. ومحصّله أنّ الشكّ إما أن يكون في أركان العقد وما هو من مقوّماته عند العرف ، كما إذا احتمل وقوع البيع بلا ثمن أو

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، ص ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) نفس المصدر ، ص ٣٣٢ ، الحديث ٧.

(٣) الوسائل ، ج ٥ ، ص ٣٤٣ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

٤٠٢

بثمن لا ماليّة له ، وإمّا أن يكون في شرائطه الشرعيّة بعد العلم بحصول أركانه ومقوّماته العرفيّة. وعلى الثاني فاما أن يكون الشكّ في شرائط نفس العقد كالماضويّة مثلا ، أو في شرائط المتعاقدين كالبلوغ ، أو في شرائط العوضين كاعتباره بالكيل أو الوزن أو العدد.

ففي الفرائد ، عن جامع المقاصد :

«أنّ الأصل في العقود الصحّة بعد استكمال أركانها ليتحقّق وجود العقد ، أما قبله فلا وجود له» (١).

والسيد الأستاذ ـ مد ظلّه ـ أيضا نفى الإشكال في عدم جريان الأصل في هذه الصورة ، بتقريب أنّ الصحّة واللّاصحة في الرتبة المتأخّرة عن وجود العمل ، ومع الشك في تحقّقه لا معنى لإجراء أصالة الصحة. (٢)

وقد يظهر من بعض التفصيل بين ما كان الشك في شرائط أصل العقد وبين ما يرجع إلى شرائط العوضين أو المتعاملين ، فيجري الأصل في الأوّل دون الثاني ، بتقريب أنّ الدليل على أصالة الصحّة هو الإجماع ، والمتيقّن من مورده ذلك.

دليل أصالة الصحّة في عمل الغير

أقول : أصالة الصحة أصل عقلائي ، ودليلها بناء العقلاء وسيرتهم. وموردها عمل الغير بما انّه عمل له ، سواء كان عقدا أو إيقاعا أو عملا آخر. ومحصّلها انّهم يحملون العمل الصادر عن العاقل المختار على صدوره على طبق الموازين العقلائية للأهداف العقلائية ، والعمل الصادر عن المقيّد بشرع خاصّ على صدوره على طبق الموازين العقلائية والشرعية للأهداف العقلائيّة المشروعة. فلا يختلف في ذلك بين أنحاء الشكّ في الشيء حتى الشكّ في أركانه. إذ لو كان المجرى صحّة العقد بما انّه عقد صحّ ما قالوه من أن الشكّ في الصحة والفساد يرجع إلى الشكّ في وصف الشيء والهليّة المركبة ، فلا يشمل الشكّ في الأركان ، لرجوعه إلى الشكّ في أصل الوجود والهليّة البسيطة.

__________________

(١) فرائد الأصول ، ص ٤١٧.

(٢) الرسائل ، ج ١ ، ص ٣٢٤.

٤٠٣

ولكن المجرى ليس صحّة العقد بما هو عقد ، بل صحّة العمل الصادر عن العاقل المقيّد بشرع خاص ، فيحمل عمله على صدوره على طبق الموازين العقلائية المشروعة للأهداف المشروعة لهذا العمل. فحيث إنّه كان في عمله هذا بصدد إيجاد العقد فلا محالة صدر عنه على طبق الموازين ، فوجد جامعا للأركان والشرائط معا.

ويدلّ على ما ذكرنا وجود السيرة على إجراء أصل الصحّة في معاملات المسلمين وإن أحتمل فقدانها لبعض الأركان ، فضلا عمّا إذا رجع الشكّ إلى شرط المتعاقدين أو العوضين.

والحاصل إنّ مجرى أصالة الصحّة أعمال الناس بما هي اعمال صادرة عن العاقل المختار. فيحمل كلّ عمل على صدوره على طبق الموازين للأهداف المتوقعة منه. ومن مصاديق الأعمال الصادرة عنهم عقودهم وإيقاعاتهم. فعليك بالتفكيك بين العناوين والحيثيّات.

وهذا نظير ما قلنا في باب المفاهيم من أن دلالة القيد على الدخالة والمفهوم ليس من قبيل دلالة اللفظ بما هو لفظ حتى يسأل عن كونها من أيّ قسم من الدلالات الثلاث ، بل هي من قبيل دلالة الفعل الصادر عن العاقل المختار على صدوره عنه عن التفات للهدف العقلائي والغاية الطبيعية له. والغاية الطبيعية للقيد هو الدخالة في الموضوع. ولازمه الانتفاء عند الانتفاء ، فتدبّر.

وكيف كان فأصل الصحّة يجري في عقد الغير ولو كان الشكّ راجعا إلى شرط العوضين ، كما في المقام ، حيث يشكّ في وجود الزكاة أو الخمس فيما ينقله.

فان قلت : الشكّ في المقام ليس في صحّة عقد الغير ، بل في صحّة العقد الجاري بينه وبين نفس الشاكّ.

قلت : قد عرفت انّ المجرى ليس صحة العقد ، بل صحّة عمل الغير. والعمل الصادر عنه هنا هو الإيجاب. والعاقل المختار المتشرع لا يوجد الإيجاب بحسب الغلبة إلّا بنحو يترتّب عليه الأثر بعد لحوق القبول وانضمامه اليه. وهذا هو معنى الصحة فيه. فلا محالة وجد في المحل القابل للنقل ، فافهم. هذا ما أردنا ذكره في قاعدة الصحة في المقام. (١)

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ٢ ، ص ١٠٨ إلى ١١١.

٤٠٤

الفائدة الثالثة :

الاستدلال على حجية دعوى الفقر ونحوه بوجوه

«المبحث : هل يقبل في باب الزكاة ونحوها دعوى من ادعى الفقر أم لا؟» (١)

استدلوا لقبول الدعوى بوجوه كثيرة :

الوجه الأوّل : أصالة عدم المال ، كما في المبسوط والمنتهى.

وفيه أولا : عدم الاطّراد لعدم جريانه فيمن كان له مال فادّعى تلفه.

وثانيا : أن عدم المال وإن كان له حالة سابقة في الأزل ولكنه انتقض غالبا ، إذ يبعد جدّا عدم تموّل الشخص بمال إلى حين ادعائه. ولعل اول مال تموّله كان بحد الغنى.

وثالثا : أن الموضوع للحكم ليس هو المال وعدمه بل الفقر والغنى. واللازم كون مصبّ الأصل ما هو موضوع الحكم. فالأولى تبديله بأصالة عدم الغنى.

ورابعا : أنه مثبت ، فإن الفقر ليس صرف عدم المال أو عدم الغنى بالسلب المحصل بل بنحو المعدولة ، إذ التقابل بين الغنى والفقر بالملكة وعدمها عمن من شأنه أن يكون كذلك. فالغني من له مال فعلا أو قوة ، والفقير من عدم ذلك مع شأنيته. ومن المحتمل أيضا ان يكون الأمر بالعكس ، فالفقير من في معيشته خلّة ، والغني بخلافه. وكيف كان فإثبات الفقر بأصالة العدم مشكل. نعم ، لا يرد هذا الإشكال على من يجعل الاستصحاب أمارة ، كالقدماء من اصحابنا.

الوجه الثاني : أصالة العدالة في المسلم ، كما في المعتبر والمنتهى.

وفيه أن العدالة عبارة عن ملكة وجودية محتاجة إلى الإثبات ، واستصحاب عدم العصيان لا يثبتها. اللهمّ إلّا أن يمنع ذلك ، وتجعل عبارة عن حسن الظاهر ، أو يجعل حسن الظاهر أمارة لها. ولكن هذا أيضا أخص من المدّعى ، إذ المدّعى قبول قول المدّعي وإن لم يتصف بحسن الظاهر ، فتدبّر.

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ٢ ، ص ٣٥٩.

٤٠٥

الوجه الثالث : أصالة الصحة في دعوى المسلم وإخباره. ومرجعه إلى أصالة الصحة في عمل المسلم ، فإن القول من الأعمال أيضا. واستدل بها في التذكرة في رد الشيخ القائل بالاحتياج إلى البينة فيمن كان له مال فادعى تلفه.

وفيه أن عمل المسلم لو كان موضوعا لحكم شرعي لنا فبأصالة الصحة في عمله نرتب الإثر الشرعي. كما لو شككنا في صحة عقده وفساده حملناه على الصحة. ولو شككنا في صحة صلاته جاز الاقتداء به.

بل لا تختص الصحة بعمل المسلم ، إذ العقلاء يرتّبون على العقود والمعاملات الواقعة بين الناس من أيّ ملّة كانوا آثار الصحة ، كما يشهد به سيرتهم في تجاراتهم ومعاشراتهم.

ولكن الموضوع للحكم في المقام ليس هو قول المدعي وعمله ، بل الفقير ، فيجب إحرازه.

ثم ليس صدق المدعي وكذبه صحة وفسادا لدعواه ، كما لا يخفى. (١)

«ثم أشار الأستاذ ـ مد ظلّه ـ إلى أدلة اخرى لقبول دعوى الفقر وغيره ونقدها وقال :»

العاشر : ما جعله في الحدائق أمتن الأدلة وأظهرها. ومحصله :

«أن مورد البينة واليمين الدعاوي الجارية بين اثنين ، وفي الأخبار الكثيرة : البينة على المدعي واليمين على من أنكر. ولا دلالة في الأخبار على تكليف من ادعى شيئا وليس له من يقابله وينكر دعواه بالبيّنة او اليمين. قال في المسالك بعد نقل خبر منصور بن حازم الوارد في الكيس : ولأنّه مع عدم المنازع لا وجه لمنع المدعى منه ، ولا لطلب البيّنة منه ، ولا لإحلافه ، اذ لا خصم له حتى يترتب عليه ذلك.» (٢)

أقول : يرد عليه اولا أن حجية البيّنة في باب الترافع والمخاصمات لا تنافي حجيتها في غيرها أيضا.

وبناء الفقهاء في الأبواب المختلفة ، كإحراز العدالة والطهارة والنجاسة وغيرها ، على الاعتماد عليها. وتدل على حجيتها مطلقا موثقة مسعدة بن صدقة الحاكمة بحلّية ما شك في

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ٢ ، ص ٣٥٩ الى ٣٦١.

(٢) الحدائق ، ج ١٢ ، ص ١٦٥.

٤٠٦

حرمته ، وفيها : «الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك او تقوم به البيّنة» (١)

وثانيا أن البحث في حجية دعوى الفقر والدين والكتابة وغيرها ، لا في حجية البيّنة واليمين. فلو فرض عدم حجيتهما فهذا لا يدل على حجية نفس الدعوى ، اذ لأحد نفي حجية الجميع. وحيث ان موضوع الحكم هو الفقير ونحوه بوجوده الواقعي فلا محالة يجب إحرازه بالعلم او الوثوق المتاخم له. (٢)

ما هو المختار في المسألة؟

«ثم عدّ الأستاذ ـ مد ظلّه ـ أدلة المسألة إلى أربعة عشر دليلا وقال :» (٣)

فهذه اربعة عشر دليلا ذكروها لقبول دعوى الفقر ونحوه بلا احتياج الى يمين او بيّنة.

وأكثرها وإن كان قابلا للمناقشة كما مرّ ولكن الفقيه الذي خلا ذهنه من الوسوسة ربما يطمئن بالتأمل في مجموعها بصحة المدعى ، ولا سيما مع فرض حصول الظن من مشاهدة حال المدعي ، لكثرة الابتلاء بهذا الموضوع وتعذر إقامة البيّنة او تعسّرها غالبا ، فيجري دليل الانسداد الصغير بمقدماته ، بل لا نحتاج الى الظن أيضا اذ الزكاة شرّعت لسدّ الخلّات بحيث لو أعطى الناس زكواتهم لم يبق فقير ولا غارم ، كما نطقت به الأخبار ، ولا تترتب هذه المصلحة العامة اذا فرض التضييق في مقام الإعطاء والتقسيم ، اذ يبقى الأعفّاء محتاجين ومحرومين كما لا يخفى.

نعم ، يشكل الأمر مع الظن بالخلاف ولا سيما مع سبق غنى المدّعي وقوّته.

الدليل الأصلي للمسألة

وقال في مصباح الفقيه :

«وعمدة ما يصحّ الاعتماد عليه في إثبات المدعى هي أن إخبار الشخص بفقره او غناه كإخباره بسائر حالاته من الصحة والمرض معتبر عرفا وشرعا ، وإلّا فلا

__________________

(١) الكافي ، ج ٥ ، باب النوادر من كتاب المعيشة ، الحديث ٤٠.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ٢ ، ص ٣٦٣.

(٣) كتاب الزكاة ، ج ٢ ، ص ٣٦٧.

٤٠٧

طريق لتعرف حاجة المحتاجين في الغالب سوى إخبارهم ، فلو لم يقبل دعوى الفقر من اهله لتعذر عليه غالبا اقامة البيّنة عليه او إثباته بطريق آخر غيرها إذ الاطلاع على فقر الغير وعدم كونه مالكا لما يفي بمؤونته من غير استكشافه من ظاهر حال مدّعيه او مقاله في الغالب من قبيل علم الغيب الذي لا يعلمه الّا الله ، فلو بنى الاقتصار في صرف الزكاة وساير الحقوق التي جعلها الله للفقراء على من ثبت فقره بطريق علمي او ما قام مقامه من بيّنة وشبهها لبقي جلّ الفقراء والمساكين الذين شرّع لهم الزكاة محرومين عن حقوقهم ، وهو مناف لما هو المقصود من شرعها بل لا ينسبق عرفا من الأمر بصرف المال الى الفقراء في باب الاوقاف والنذور ونظائرها الّا ارادة صرفه فيمن يظهر من حاله او مقاله دعوى الفقر ، كأرباب السؤال ونظائرهم ... ولذا استقرت السيرة خلفا عن سلف على صرف الصدقات فيمن يدعي الاستحقاق من غير مطالبة بالبيّنة ...» (١)

وقد ادّى (قده) في عبارته هذه حق المسألة فتدبر ... (٢)

__________________

(١) مصباح الفقيه ، ص ٩١.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ٢ ، ص ٣٦٧ و٣٦٨.

٤٠٨

الفصل الرابع :

قاعدة الجبّ

وهو يشتمل على فائدتين :

٤٠٩
٤١٠

الفائدة الأولى : حديث الجبّ وسنده ودلالته

«لو أسلم الكافر بعد ما وجبت عليه الزكاة هل تسقط عنه؟

واستدلّ للسقوط بأمور : منها حديث الجبّ الذي عبّر عنه كقاعدة فقهية.

وتعرض سماحة الأستاذ ـ دام ظلّه ـ للبحث عن سنده ثم عن دلالته بالتفصيل.» (١)

اللازم أولا البحث عن سند الحديث ثم عن دلالته ومفاده.

فنقول : في النهاية في لغة جبب : «ومنه الحديث : ان الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها أي يقطعان ويمحوان ما كان قبلهما من الكفر والمعاصي والذنوب».

ومثله في لسان العرب في لغة جبب وقوله : «من الكفر والمعاصي» بنحو اللف والنشر المرتب كما لا يخفى.

وفي مجمع البحرين في لغة جبب : «في الحديث : الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب».

والظاهر أنّ قوله : «من الكفر ...» ليس من الحديث بل هو تفسير منه مأخوذ من تفسير النهاية كما لا يخفى على أهل الفنّ إذ لا تجد هذا الذيل في نقل سوى ما في تفسير النهاية واللسان.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في ذيل قوله ـ تعالي ـ في سورة بني اسرائيل : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) ما حاصله :

«أنها نزلت في عبد الله بن أبي امية أخي أم سلمة وذلك انه قال هذا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما فتح مكة استقبل ابن أبي امية فسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ١٣٧.

٤١١

فأعرض عنه فدخل إلى أم سلمة وقال إن رسول الله قبل إسلام الناس وردّ إسلامي فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله فقال : إن أخاك كذّبني تكذيبا لم يكذبني أحد من الناس هو الذي قال لي : لن نؤمن لك الآيات ، فقالت يا رسول الله ألم تقل : إنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله قال : نعم فقبل رسول الله إسلامه» (١).

وفي أواخر شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة عن أبي الفرج الأصفهاني ذكر قصة إسلام المغيرة بن شعبة وانه وفد مع جماعة من بني مالك على المقوقس ملك مصر فلما رجعوا جعلهم المغيرة سكارى ثم قتلهم وأخذ أموالهم وفرّ إلى المدينة مسلما وعرض خمس أموالهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يقبله وقال عليه‌السلام «هذا غدر والغدر لا خير فيه» فخاف المغيرة على نفسه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإسلام يجبّ ما قبله». (٢)

وفي صلاة القضاء من المستمسك :

«في السيرة الحلبية : أنّ عثمان شفع في أخيه ابن أبي سرح قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما بايعته وآمنته؟ قال : بلى ولكن يذكر ما جرى منه معك من القبيح ويستحي ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«الإسلام يجبّ ما قبله» وفي تاريخ الخميس والسيرة الحلبية والاصابة لابن حجر في إسلام هبار قال يا هبار : «الإسلام يجبّ ما قبله» ونحوه في الجامع الصغير للسيوطي في حرف الألف ، وفي كنوز الحقائق للمناوي عن الطبراني في حرف الألف : «الإسلام يجبّ ما قبله والهجرة تجبّ ما قبلها».

وفي حاشية المستمسك :

«في السيرة الحلبية في آخر غزوة وادي القرى : أن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة جاؤوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلمين وطلبوا منه أن يغفر الله لهم فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الإسلام يجبّ ما كان قبله». (٣)

__________________

(١) تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ٢٦.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد ، ج ٢٠ ، ص ٨.

(٣) المستمسك ، ج ٧ ، ص ٥١ ، طبع النجف الأشرف.

٤١٢

أقول : ونحو ذلك في الجزء الرابع من طبقات ابن سعد في شرح حال خالد بن الوليد. وروي هذه الجملة أيضا في أسد الغابة في إسلام هبار وفي كنز العمال «الإسلام يجبّ ما كان قبله» (ابن سعد عن الزبير وعن جبير بن مطعم) وفيه أيضا عن الطبراني عن ابن عمر : «أن الإسلام يجبّ ما كان قبله والهجرة تجبّ ما كان قبلها» (١).

هذا ولكن في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال :

«فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : أبسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه قال : فقبضت يدي قال : مالك يا عمرو قال : قلت : أردت أن أشترط قال : تشترط بما ذا؟ قلت أن يغفر لي قال : «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله» (٢).

وفي الدر المنثور : «أخرج ابن احمد ومسلم عن عمرو بن العاص» وذكر نحو ذلك (٣).

وفي كنز العمّال عن مسلم عن عمرو بن العاص : «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله» (٤).

وفي المستمسك عن مناقب ابن شهر آشوب ، في من طلّق زوجته في الشرك تطليقة وفي الإسلام تطليقتين : «قال علي عليه‌السلام : «هدم الإسلام ما كان قبله ، هي عندك على واحدة».

العلم الإجمالي بتواتر حديث الجبّ

فهذا ما عثرت عليه عاجلا من مواضع ذكر الحديث والظاهر أنه متواتر إجمالا بمعنى أنه يحصل العلم إجمالا بصدور هذا المضمون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو في ضمن قصة من تلك القصص الكثيرة. وانه ليس جميع هذه القصص كاذبة بأن تواطئ الأشخاص على جعل هذا المضمون في ضمن القصص المختلفة.

__________________

(١) كنز العمّال ، ج ١ ، ص ٦٦ و٧٥ ، الحديث ٢٤٣ و٢٩٧.

(٢) صحيح مسلم ، ج ١ ، ص ٧٨ ، باب أن الإسلام يهدم ما قبله.

(٣) الدر المنثور ، ج ٣ ، ص ٣٠٨ ، في ذيل قوله تعالى «قل للذين كفروا ...»

(٤) كنز العمّال ، ج ١ ، ص ٦٧ ، الحديث ٢٤٧.

٤١٣

ويظهر من بعض رواياتنا أيضا وضوح هذا المضمون في عصر الأئمة عليهم‌السلام وإمضائهم له فروى الشيخ بسند صحيح عن جعفر بن رزق الله قال : قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة وأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم فقال يحيى بن اكثم : قد هدم ايمانه شركه وفعله وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود وقال بعضهم : يفعل به كذا وكذا فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام وسؤاله عن ذلك فلما قدم الكتاب كتب أبو الحسن عليه‌السلام : «يضرب حتى يموت» فأنكر يحيى بن اكثم وانكر فقهاء العسكر ذلك وقالوا يا أمير المؤمنين سله عن هذا فانه شيء لم ينطق به كتاب ولم تجيء به السنة فكتب أن فقهاء المسلمين قد انكروا هذا وقالوا : لم تجيء به سنة ولم ينطق به كتاب فبيّن لنا بما اوجبت عليه الضرب حتى يموت فكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم ، (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ.») قال : فأمر به المتوكل فضرب حتى مات. (١)

وجعفر بن رزق الله لم يذكر بمدح ولا بقدح إلّا أن يورث نقل محمد بن أحمد بن يحيى عنه نحو اعتماد عليه.

فيظهر من الحديث أن هدم الإسلام لما قبله كان بحدّ من الوضوح يعرفه النصراني أيضا ولذا أسلم بقصد الفرار من الحد والإمام عليه‌السلام أيضا لم ينف هذا المعنى بل كأنه أمضى أصله كما أثبته الفقهاء وإنّما أشار إلى نكتة دقيقة مستنبطة من كلام الله العزيز وهو أن الإيمان المفيد الهادم لما قبله هو الإيمان الصحيح لا ما حصل بقصد الفرار عن البأس فانه غير نافع.

وروى الكليني بسند صحيح عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه‌السلام في نصراني قتل مسلما فلما أخذ أسلم ، قال : «أقتله به» الحديث (٢) ويظهر الاستدلال به مما سبق.

وفي الدعائم في صلاة الجمعة : روينا عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه عن علي عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٤٠٨ ، الباب ٣٦ من أبواب حد الزنا ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ، ج ١٩ ، ص ٨١ ، الباب ٤٩ من أبواب القصاص ، الحديث ١.

٤١٤

«أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أربعة يستأنفون العمل : المريض إذا برئ والمشرك إذا أسلم والمنصرف من الجمعة ايمانا واحتسابا والحاج إذا قضى حجه.» (١)

نقد ما في المدارك من التشكيك في سند الحديث

وبالجملة فالتشكيك في اصل صدور مضمون الحديث بل في اصل الحكم كما في المدارك بلا وجه.

قال فيها :

«وقد نص المصنف في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه على ان الزكاة تسقط عن الكافر بالإسلام وان كان النصاب موجودا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإسلام يجبّ ما قبله.» ويجب التوقف في هذا الحكم لضعف الرواية المتضمنة للسقوط سندا ومتنا ولما روي في عدة أخبار صحيحة من أن المخالف إذا استبصر لا يجب عليه إعادة شيء من العبادات التي أوقعها في حال ضلالته سوى الزكاة فانه لا بدّ أن يؤدّيها ومع ثبوت هذا الفرق في المخالف فيمكن إجرائه في الكافر ، وبالجملة فالوجوب على الكافر متحقق فيجب بقاؤه تحت العهدة إلى أن يحصل الامتثال او يقوم على السقوط بالإسلام دليل يعتدّ به ، على أنه ربما لزم من هذا الحكم عدم وجوب الزكاة على الكافر كما في قضاء العبادات لامتناع أدائها في حال الكفر وسقوطها بالإسلام إلّا أن يقال أن متعلق الوجوب ايصالها إلى الساعي وما في معناه في حال الكفر وينبغي تأمل في ذلك». (٢)

أقول : فيه مضافا إلى ما مرّ من العلم بصدور الحديث إجمالا أن الحديث هو مضمون قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) فالواجب هو البحث عن الدلالة وعن مقدارها.

__________________

(١) الدعائم ، ج ١ ، ص ١٧٩ ، صلاة الجمعة.

(٢) مدارك الاحكام ، ج ٥ ، ص ٤٢.

٤١٥

الفائدة الثانية :

نقد ما في المستمسك من التشكيك في دلالة الحديث

وما في المستمسك من التشكيك في الدلالة على فرض كون المتن ما في مجمع البحرين إذ مفاده حينئذ رفع نفس الكفر والمعاصي والذنوب.

فيرد عليه أولا ما أشرنا إليه من أن الظاهر عدم كون الذيل جزءا من الحديث بل هو تفسير منه مأخوذ من تفسير النهاية واللسان مذكور بنحو اللف والنشر فقوله «من الكفر» متعلق بالجملة الأولى وقوله «من المعاصي والذنوب» متعلق بالجملة الثانية.

وثانيا أن جبّ الإسلام لنفس الكفر ورفعه له أمر واضح لا يتصدى المعصوم لبيانه فلا محالة يراد رفع ما ثبت حال الكفر باعتبار آثاره فلا يضر الذيل بالاستدلال.

المحتملات في معنى حديث الجبّ

وملخص الكلام أن المحتملات في الحديث ثلاثة :

الأوّل : أن يراد به أن الإسلام يرفع الكفر.

الثاني : أن يراد أن الإسلام يرفع آثار الكفر وأحكامه ، أي الأحكام الشرعية التي موضوعها عنوان الكفر كنجاسة البدن ومهدورية الدم والمال مثلا.

الثالث : أن يراد به رفع ما تحقق في حال الكفر من ترك الواجبات وفعل المحرمات باعتبار الآثار والتبعات المتفرعة عليهما كترك الصلاة المستتبع للقضاء وشرب الخمر المستتبع للحد مثلا ، فيراد بالحديث أن الخطيئة الكبيرة أعني الكفر لما كانت منشأ لسائر الخطايا من ترك الواجبات وفعل المحرمات خارجا إذا ارتفعت هذه الخطيئة بسبب الإسلام صار الإسلام كفارة لسائر الخطايا المتحققة بسببها ، فترتفع تبعاتها أيضا كقضاء الصلاة وحدّ شرب الخمر مثلا فهو بوجه نظير قول الإمام الصادق عليه‌السلام لسليمان بن خالد حينما قال سليمان : إني منذ عرفت هذا الأمر أصلّي في كل يوم صلاتين أقضي ما فاتني قبل معرفتي ، قال عليه‌السلام :

٤١٦

«لا تفعل فان الحال التي كنت عليها أعظم من ترك ما تركت من الصلاة». قال الشهيد : يعني ما تركت من شرائطها وأفعالها (١).

نقد المحتملات الثلاث

هذا ولا يخفى بطلان الاحتمال الأوّل لأنّه يساوق توضيح الواضحات بل وكذا الثاني لوضوح ارتفاع الأحكام بارتفاع موضوعاتها ، مضافا إلى عدم تناسب ذلك لموارد صدور الحديث من قصص المغيرة وخالد وابن العاص وابن أبي سرح وغيرهم ، فيتعين الثالث ومقتضاه أن إسلام الكافر يصير كفارة لما صدر عنه في حال كفره وبسبب كفره من ترك الواجبات وفعل المحرمات ويصير هو كأنه لم يصدر عنه ذلك فلا تترتب آثار ذلك وتبعاته فهذا إجمالا مما لا ريب فيه.

ولكن استشكل عليه كما في المستمسك بوجوه :

الأوّل : أنه وارد مورد الامتنان المنافي لشموله للمقام ، لأنّه خلاف الامتنان بالنسبة إلى الفقراء.

الثاني : أن ظاهر الحديث جبّ حال الكفر عن حال الإسلام فيختص بما لو كان ثابتا حال الإسلام ، لاستند إلى ما ثبت حال الكفر كالتكليف بقضاء العبادات حال الإسلام فانه لو ثبت كان مستندا إلى الفوت حال الكفر فلا يجري في مثل الزكاة لأنّ حولان الحول مثلا على العين الزكوية يوجب حدوث حق للفقراء وإذا حدث يبقى باستعداد ذاته فاذا أسلم يجب عليه الزكاة للحق الباقي فعلا لا للحادث قبلا نظير ما إذا أجنب أو تنجس بدنه فان الجنابة والنجاسة أمران باقيان باستعداد ذاتهما وبعد الإسلام يؤمر بالغسل والغسل للجنابة والنجاسة الفعليّتين لا لما قبل الإسلام وكذا إذا أسلم بعد الزوال مع بقاء الوقت فانه يؤمر بالصلاة للوقت الباقي لا للزوال السابق. ودعوى أن حق الفقراء ناشئ من الأمر التكليفي بأداء الزكاة المستند إلى حولان الحول حال الكفر ، فبالحديث ينفي الأمر المذكور فينتفي الحق أيضا بانتفاء منشأه ،

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، ص ٩٨ ، الباب ٣١ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٤.

٤١٧

ممنوعة جدّا إذ الأمر بالعكس وان الأمر بالإيتاء متفرع على ثبوت الحق في الرتبة السابقة فالأمر بإيتاء الزكاة نظير ادفع مال زيد إليه لا من قبيل ادفع مالك إلى زيد كيف والأمر بايتاء الإنسان ماله إلى غيره لا يقتضي بوجه ثبوت حق للغير في ماله والتعبير بأموالهم في قوله ـ تعالى ـ : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) من جهة ان أصلها من أموالهم او لأنها قبل الدفع لم تتعين زكاة.

الثالث : أن البناء على عموم الحديث يوجب تخصيص الأكثر إذ لا ريب في بقاء عقوده وإيقاعاته وما عليه من الديون ونحوها.

هذا وأجاب في المستمسك عن الأوّل : «بأن الامتنان بالنسبة إلى المسلم نفسه فلا مانع من كونه خلاف الامتنان بالإضافة إلى غيره».

والأولى أن يجاب بأن الامتنان في الحديث على فرض اعتباره أخذ حكمة لا علة ، فالحكم عامّ مضافا إلى أن الزكاة ليست ملكا للفقراء وانما هي مالية مجعولة في الإسلام والفقراء من مصارفها.

وأجاب عن الثاني بأن الملكية لما كانت من الأمور الاعتبارية المحضة كان بقائها أيضا مستندا إلى ملاحظة منشأ الاعتبار ، كحدوثها فما لم يلحظ منشأ الاعتبار في كل آن لا يصح اعتبارها ولذا كان الفسخ واردا على العقد وموجبا لارتفاع الأثر لا أنه وارد على نفس الأثر ، فوزان الملكية وحولان الحول وزان وجوب القضاء والفوت ومقتضى ذلك عدم تأثير حولان الحول الحاصل قبل الإسلام في ملكية الفقراء بعده.

نعم يتم الإشكال في مثل النجاسة والحدث فانهما وإن كانتا اعتباريتين ولكن منشأ اعتبارهما نفس الأثر الخارجي الباقي باستعداد ذاته إلى ما بعد الإسلام.

وعن الثالث بانصراف الحديث إلى ما كان وقوعه قبل الإسلام مستندا إلى عدم الإسلام ، كترك الواجب والحرام فيصير الإسلام كفارة له فلا يشمل مثل العقود والإيقاعات التي يشترك فيها المسلم وغيره. هذا.

٤١٨

الأحكام الشرعية على خمسة أقسام

والتحقيق أن يقال إن الأحكام الشرعية على خمسة أقسام :

الأوّل : الأحكام العقلائية الثابتة عند الناس بما هم عقلاء وإن لم يلتزموا بشريعة ، غاية الأمر إمضاء الشارع لها وتحديدها وردعه عن بعض مصاديقها كالعقود والإيقاعات والضمانات.

الثاني : الأحكام التكليفية التي أتى بها الإسلام وتكون أحكاما تكليفية محضة غير مستعقبة لأثر شرعي كوجوب ردّ السّلام وحرمة الكذب مثلا.

الثالث : الأحكام التكليفية المستعقبة لآثار شرعية كوجوب الصلاة المستعقب للقضاء وحرمة الخمر المستعقب للحد الشرعي.

الرابع : الأحكام الوضعية الاعتبارية المحضة المستعقبة للآثار الشرعية ، كملكية الفقراء للزكاة المستعقبة لوجوب الأداء والضمان مع الإتلاف او التلف في بعض الموارد.

الخامس : الأحكام الوضعية الكاشفة عن نحو ثبوت خاصية خارجية كالنجاسة والجنابة الكاشفتين عن ثبوت نحو قذارة خارجية جسمية أو روحية مثلا مع كونها مستعقبة لآثار شرعية كوجوب الغسل أو الغسل او حرمة دخول المسجد او عدم صحة الصلاة ونحو ذلك.

ما هو المقصود من حديث الجبّ؟

أما القسم الأوّل فربما ينسبق إلى الذهن عدم جبّ الإسلام لها إذ الظاهر من الحديث جبّ الإسلام للتخلّفات المستندة إلى الكفر وعدم الاعتقاد بالإسلام والأحكام العقلائية الدراجة بين الناس لا ربط لها بالكفر والإسلام.

ولكن ربما يخطر بالبال الإشكال في ذلك بالنقض بموارد ذكر الحديث فإنّ المغيرة قتل ثلاث عشرة نسمة وأخذ أموالهم وخالد بن الوليد قتل عدّة من المسلمين في الحروب كغزوة أحد مثلا والقصاص أو الدية وكذا تضمين الأموال من الأحكام العقلائية ومورد نقل المناقب من طلق زوجته تطليقة في الشرك وتطليقتين في الإسلام وفيه قال علي عليه‌السلام

٤١٩

«هدم الإسلام ما كان قبله هي عندك على واحدة» مع أن النكاح والطلاق من الأمور الدارجة بين العقلاء بما هو عقلاء.

اللهم إلّا أن يقال إن من قتلهم المغيرة كانوا مهدوري الدم والمال بكفرهم فلذا لم يضمّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقتل خالد للمسلمين كان في القتال والدفاع عن عقيدته وكيانه بحسب وضعه ولم يكن مثل هذا باطلا موجبا للضمان عند الناس بل بحسب موازين الإسلام فيشمله حديث الجبّ قهرا وكذا الطلاق وان كان دارجا عند الناس ولكن إيجابه للحرمة الأبدية في المرتبة الثالثة لعله كان مما شرّعه الإسلام فتأمّل.

والذي يسهّل الخطب عدم ثبوت كل مورد من موارد الحديث بنحو يكون حجة شرعية وانما الذي ادّعيناه هو التواتر الإجمالي بمعنى العلم بعدم كذب الجميع وأنه ثبت واحد منها إجمالا.

والقسم الثاني من الأحكام مشمول للحديث جزما وكذا القسم الثالث بلحاظ الآثار المترتبة عليه ، فلا يثبت بعد الإسلام القضاء ولا الحدّ لترك الصلاة وشرب الخمر في حال الكفر كما لا يشمل القسم الخامس قطعا بعد فرض خارجية النجاسة والجنابة وبقائهما الى حال الإسلام ولكن الفرض قابل للمنع.

وأما القسم الرابع كملكية الفقراء للزكاة فمع إتلافها او تلفها في حال الكفر يرفع الحديث ضمانها بلا إشكال وأما مع بقاء النصاب والعين ففيه شائبة إشكال : من أن الملكية بعد ثبوتها باقية باستعدادها الذاتي فوجوب الأداء بعد الإسلام أثر للملكية الباقية الفعلية ؛ ومن أن الملكية من آثار حولان الحول في حال الكفر والإسلام يقطع حال الإسلام عن حال الكفر فكأنّ حولان الحول لم يقع من أصله وكأنّه صار بعد الإسلام مالكا لهذا المال ولذا قال في المعتبر : «ويستأنف لماله الحول عند إسلامه». (١) وفي القواعد : «ويستأنف الحول حين الإسلام» (٢) ومثله في التذكرة. (٣)

نعم في الجواهر عن نهاية الأحكام : «لو أسلم قبل الحول بلحظة وجبت الزكاة ولو كان

__________________

(١) المعتبر ، ج ٢ ، ص ٤٩٠.

(٢) قواعد الاحكام ، ج ١ ، ص ٣٣٢.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٢٠٥.

٤٢٠