مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

«وبعد الغضّ عن هذا نقول : إنّ القصد قصدان : قصد بمعنى الداعي الباعث نحو الفعل فيكون حصول الحرام غاية لفعل المعين ، وهذا هو الذي أراده المصنّف من القصد ، وقصد بمعنى الإرادة والاختيار فيكون الحرام ممّا اختاره المعين باختيار ما يعلم ترتّبه عليه.

والقصد بكلا معنييه غير معتبر في تحقق عنوان الإعانة ، فإنّ الحقّ أنّ الإعانة عنوان واقعي غير دائر مدار القصد. فنفس الإتيان بمقدمات فعل الغير إعانة للغير على الفعل.

نعم مع عدم العلم بترتب الحرام لا يعلم كون الفعل إعانة على الحرام ، فمن أجل ذلك لا يحرم ، إذ كانت الشبهة تحريمية موضوعية ، وهذا غير خروجه عن عنوان الإعانة واقعا.

أمّا إذا علم بالترتب زالت الشبهة وتنجز حكم الإعانة ....

فإذا لا إشكال في حرمة إعطاء السيف والعصا بيد من يعلم أنّه يقتل به أو يضرب بها ، وكذا حرمة بيع العنب لمن بعلم أنّه يعمله خمرا.

وأمّا تجارة التاجر وسير الحاجّ مع العلم بأخذ العشّار والظالم ، وكذا عدم تحفظ المال مع العلم بحصول السرقة ، فالكلّ خارج عن عنوان الإعانة. وذلك لا من جهة عدم حصول القصد الغائي لما عرفت من عدم اعتبار هذا القصد ولا ما دون هذا القصد ، بل من جهة أنّ الإعانة ليست هي مطلق إيجاد مقدمة فعل الغير ، وإلّا حرم توليد الفاسق ، والإنسان عادة يعلم أنّ في نسله يحصل مرتكب ذنب فيلزمه أن يجتنب النكاح ، وأيضا حرم بذل الطعام والشراب لمن يعلم أنّه يرتكب الذنب.

بل الإعانة عبارة عن مساعدة الغير بالإتيان بالمقدّمات الفاعلية لفعله دون مطلق المقدمات الشاملة للمادية فضلا عن إيجاد نفس الفاعل أو حفظ حياته.

فتهيئة موضوع فعل الغير والإتيان بالمفعول به لفعله ليس إعانة له على الحرام.

٣٦١

ومن ذلك سير الحاجّ وتجارة التاجر وفعل ما يغتاب الشخص على فعله. نعم ربّما يحرم لا بعنوان الإعانة ومن ذلك القيادة. (١)»

أقول : لا يخفى أنّ العناوين القصدية عبارة عن العناوين الاعتبارية التي لا واقعية لها وراء الاعتبار ، وإنّما تنتزع عن الأفعال والأمور الواقعية بالقصد والاعتبار ، فيكون تقوّمها بقصدها ، نظير عنوان التعظيم المنتزع عن الانحناء الخاصّ بقصده ، ومن هذا القبيل الملكية والزوجية والحريّة والعبودية ونحوها من العناوين التي تحصل بالعقود والإيقاعات ، وكذلك عناوين العبادات المخترعة من الصلاة والزكاة ونحوهما.

والظاهر أنّ الإعانة ـ كما ذكروه ـ ليست من العناوين الاعتبارية بل من العناوين الواقعية غير المتقومة بالقصد وإن كان تنجز التكليف المتعلق بها متوقفا على العلم والقصد كما في سائر موارد التكليف.

اللهم إلا أن يقال : إنّ عدم كون الإعانة من العناوين القصدية ، بمعني عدم توقف صدقها على قصد عنوانها ، لا ينافي توقف صدقها على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على قصد هذه الغاية الخاصّة ، إذ العرف يفرّق بين قصد الغاية الخاصّة وعدم قصدها ، كما يفرّق بين العلم بترتبها وعدم العلم به ، فتدبّر.

وأمّا ما ذكره من عدم صدق الإعانة على إيجاد ذات الفاعل وتوليده فالظاهر صحته أيضا وإلّا لكان خلق الله ـ تعالى ـ لأفراد الإنسان وإبقاؤه لهم ورزقهم إعانة منه على الكفر والفسوق والعصيان.

والسرّ في ذلك أنّ الإعانة ـ كما مرّ ـ عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدمات فعل الغير أعني المعان ، فهي من العناوين الإضافية المتقوّمة بوجود المعين والمعان ، فما لم يوجد ذات المعان لا مجال لتحقق الإعانة وصدقها.

وأما ما ذكره (ره) من اختصاص الإعانة بالإتيان بالمقدمات الفاعلية دون الماديّة فلم يظهر لي مراده ولا وجهه ، إذ تهيئة موضوع فعل الغير إذا لم يكن إعانة فكيف حكم بحرمة بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا لأجل ذلك؟ وهل هذا إلّا تهيئة موضوع فعل الغير من دون أن

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٥ ، ذيل قول المصنّف : فقد يستدلّ على حرمة البيع ....

٣٦٢

يسلب الاختيار من الغير؟ بل يكون وقوع التخمير باختياره وإرادته ، فوزانه من هذه الجهة وزان تجارة التاجر التي تكون موضوعا لأخذ العشر.

استدلال المحقق الخوئي لعدم اعتبار القصد والعلم بترتب المعان عليه في الإعانة

وفي مصباح الفقاهة أيضا حكم بعدم اعتبار القصد في مفهوم الإعانة ولا العلم بترتب المعان عليه ، بل يراد بها إيجاد مقدمة الفعل مع وقوع المعان عليه في الخارج.

قال ما ملخّصه :

«فإنّ صحة استعمال كلمة الإعانة وما اقتطع منها في فعل غير القاصد بل وغير الشاعر بلا عناية وعلاقة تقتضي عدم اعتبار القصد والإرادة في صدقها لغة. كقوله عليه‌السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي : «وأعانني عليها شقوتي.» وقوله ـ تعالى ـ : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.) وفي بعض الروايات أنّ المراد بالصبر الصوم. وفي أحاديث الفريقين : «من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه.» وفي رواية أبي بصير : «فأعينونا على ذلك بورع واجتهاد.» وقوله : «من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة ...» وقوله عليه‌السلام : «من تبسّم على وجه مبدع فقد أعان على هدم الإسلام.» وفي رواية أبي هاشم الجعفري : «ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة.» وفي الصحيفة السّجادية في دعائه لطلب الحوائج : «واجعل ذلك عونا لي.» وأيضا يقال : «الصوم عون الفقير ، والثوب عون للإنسان ، وسرت في الماء وأعانني الماء والريح على السير ، وأعانتني العصا على المشي ، وكتبت باستعانة القلم.»

إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة الصحيحة. ودعوى كونها مجازات ، جزافية لعدم القرينة عليها ...

وأمّا مسير الحاجّ ومتاجرة التاجر مع العلم بأخذ المكوس والكمارك ، وهكذا عدم التحفظ على المال مع العلم بحصول السرقة فكلّها داخل في عنوان الإعانة ، فإنّه لا وجه لجعل أمثالها من قبيل الموضوع للإعانة وخروجها عن

٣٦٣

عنوانها كما زعمه شيخنا الأستاذ والمحقق الإيرواني ، كما لا وجه لما ذهب إليه المصنّف من إخراجها عن عنوان الإعانة من حيث إنّ التاجر والحاج غير قاصدين لتحقق المعان عليه ، لما عرفت من عدم اعتبار القصد في صدقها.» (١)

أقول : فأخصّ الأقوال في بيان مفهوم الإعانة قول الفاضل النراقي ، حيث اعتبر في صدقها قصد الحرام وترتّبه معا ، والمحقق الثاني ومن تبعه اعتبر القصد فقط ، وفي مصباح الفقاهة اعتبر الترتب فقط ، والمحقق الإيرواني أيضا اعتبر الترتب فقط ولكنه فصّل بين المقدمات الفاعلية وبين المقدمات المادية الراجعة إلى تهيئة موضوع فعل الغير.

هذا كلّه في بيان اعتبار القصد وعدمه ، وسنعود إليه ثانيا عند شرح ما يأتي من المصنّف في المتن.

هل يعتبر في صدق الإعانة ترتّب المعان عليه أم لا؟

هذا هو الأمر الثاني من الأمور الخمسة التي وقع البحث في اعتبارها في صدق الإعانة ، وقد مرّ عن الفاضل النراقي اعتباره مضافا إلى القصد ، وناقشه المصنّف كما مرّ بقوله : «إنّ حقيقة الإعانة على الشيء هو الفعل بقصد حصول الشيء سواء حصل أم لا.»

والظاهر اعتباره ، إذ الإعانة ـ كما مرّ ـ عنوان إضافي متقوّم بالمعين والمعان والمعان عليه ، فما لم يتحقّق المعان عليه خارجا في ظرفه لا تتحقق الإعانة.

فإن قلت : قوام الإعانة في ناحية المعان عليه بصورته الذهنية لا بوجوده الخارجي كسائر العلل الغائية.

قلت : نعم ولكن الصورة ملحوظة بما هي طريق إلى الخارج لا بنحو الموضوعية ، فإذا لم يتحقق المعان عليه في ظرفه ظهر عدم تحقق الإعانة وإن صدق التجري إن كان المعان عليه أمرا محرما. وبالجملة فإذا لم يتحقق إثم خارجا ظهر عدم تحقق الإعانة على الإثم.

وقد مرّ أنّ في مصباح الفقاهة أيضا حكم باعتبار ترتب المعان عليه في صدقها :

قال :

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ١٧٦ ، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

٣٦٤

«الذي يوافقه الاعتبار ويساعد عليه الاستعمال هو تقييد مفهوم الإعانة بحسب الوضع بوقوع المعان عليه في الخارج ومنع صدقها بدونه ، ومن هنا لو أراد شخص قتل غيره بزعم أنّه مصون الدّم وهيّأ له ثالث جميع مقدّمات الفعل ثم أعرض عنه مريد القتل أو قتله ثم بان أنّه مهدور الدم فإنّه لا يقال : إنّ الثالث أعان على الإثم بتهيئة مقدمات الفعل. كما لا تصدق الإعانة على التقوى إذا لم يتحقق المعان عليه في الخارج ، كما إذا رأى شبحا يغرق فتوهم أنّه شخص مؤمن فأنقذه إعانة منه له على التقوى فبان أنّه خشبة ...» (١)

بيان الأستاذ الإمام في أنه هل يشترط في صدق الإعانة ترتب المعان عليه أم لا؟

وللأستاذ الإمام (ره) في هذا المجال كلام طويل لا يخلو من فائدة ، فلنتعرض له بتلخيص :

قال : «أمّا الأوّل (وقوع الإثم في الخارج) فقد يقال باعتباره ، لأنّ الظاهر من قوله : (لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) أي على تحققه ، وهو لا يصدق إلّا معه ، فإذا لم يتحقق خارجا وأوجد شخص بعض مقدمات عمله لا يقال : إنّه أعانه على إثمه ، لعدم صدوره منه.

وبالجملة الإعانة على الإثم موقوفة على تحققه وإلّا يكون من توهّم الإعانة عليه لأنفسها ويكون تجرّيا لا إثما ، ولهذا لو علم بعدم تحققه منه لا يكون إيجاد المقدمة إعانة على الإثم بلا شبهة.

ولكن يمكن أن يقال : المفهوم العرفي من الإعانه على الإثم هو إيجاد مقدمة إيجاد الإثم وإن لم يوجد ، فمن أعطى سلّما لسارق بقصد توصّله إلى السرقة فقد أعانه على إيجادها ، فلو حيل بينه وبين سرقته ولم تقع منه يصدق أنّ المعطي للسلم إعانة على إيجاد سرقته.

فلو كان تحقق السرقة دخيلا في الصدق فلا بدّ أن يقال : إنّ المعتبر في صدقها إيجاد المقدمة الموصلة ، أو الالتزام بأنّ وجود السرقة من قبيل الشرط

__________________

(١) نفس المصدر ، ج ١ ، ص ١٧٨.

٣٦٥

المتأخّر لصدقها ، وكلاهما خلاف المتفاهم العرفي ، أو يقال : لا يصدق الإعانة على الإثم حتى وجدت السرقة ، فالفعل المأتي به لتوصّل الغير إلى الحرام مراعى حتى يوجد ذو المقدمة وبعده يقال : إنّه أعانه عليه ، وهو أيضا خلاف الواقع ، أو يقال : إنّ صدقها فعلا باعتبار قيام الطريق العقلائي على وجود الإثم ، وبعد التخلّف يكشف عن كونها تجريا لا إعانة ، وهو أيضا غير صحيح لأنّ الطريق العقلائي عليه لا يتّفق إلّا أحيانا ، ومع عدم القيام أيضا يقال : إنّه أعانه على إيجاده.

وإن شئت قلت : فرق بين كون الإثم بمعنى اسم المصدر وكونه بمعنى المصدر في صدق الإعانة ، فعلى الأوّل يعتبر في صدقها الوجود بخلاف الثاني ، والمقام من قبيل الثاني. لكن مع ذلك كلّه لا يخلو الصدق من خفاء والمسألة من غموض وإن كان الصدق أظهر عرفا.» (١)

أقول : اسم المصدر ينتزع من المصدر ، فهما متساويان صدقا مختلفان بالاعتبار فقط ، فالحدث كالإثم مثلا بلحاظ صدوره عن الفاعل وإضافته إليه يكون مصدرا وبلحاظه في نفسه يسمّى اسم المصدر ، وعلى نظر الأستاذ يكون المصدر أعمّ من اسم المصدر ، وقد عرفت أنّ الإعانة أمر إضافي متقوم بأطراف الإضافة ومنها المعان عليه فلا تتحقق بدونه.

وعلى فرض القول بحرمة إتيان مقدمة الحرام بقصده حرمة شرعية فالمراد إتيان فاعل الحرام لمقدمة فعل نفسه لا إتيان الغير لمقدمة من مقدمات فعل الآخر.

نعم على فرض كونها إعانة على الإثم وحرمتها شرعا تكون حرمتها من هذه الجهة ، ولكن المفروض عدم تحققها لعدم تحقق أحد مقوماتها فلا يصدق عصيان حكم الإعانة وإن صدق التجري بالنسبة إليه وهذا أمر آخر غير العصيان.

اللهم إلّا أن يقال ـ كما يظهر من عبارة المتن الآتية أيضا ـ : إنّ تخمير العنب غاية تملك المشتري وواجديته للعنب لا بيع البائع له ، وإنما الغاية لبيع البائع تملك المشتري له وهو أمر مقصود للبائع قهرا ومتحقق جزما. فإذا فرض كون تملكه له حراما ـ كما إذا وقع منه بقصد التخمير وقلنا بحرمة الإتيان بمقدمة الحرام بقصد الحرام مطلقا أو في خصوص التخمير إذ لا

__________________

(١) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى (ره) ، ج ١ ، ص ١٤١ (ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢١١) ، في النوع الثاني من القسم الثاني.

٣٦٦

يقلّ هذا عن غرسه للكرم بقصده ـ فلا محالة يكون البيع إعانة للمشتري على هذا التملك الحرام لكونه مقصودا ومترتبا عليه سواء ترتب عليه التخمير أم لا.

قال الأستاذ الإمام (ره) :

«هذا كلّه في كلّي المسألة. وأمّا خصوص الخمر فالظاهر المتفاهم من المستفيضة الحاكية عن لعن الخمر وغارسها وحارسها وبائعها ومشتريها و ... أنّ اشتراء العنب للتخمير حرام ، بل كل عمل يوصله إليه حرام ، لا لحرمة المقدمة ، فإنّ التحقيق عدم حرمتها ، ولا لمبغوضية تلك الأمور بعناوينها ، بل الظاهر أنّ التحريم نفسي سياسي لغاية قلع مادّة الفساد. فإذا كان الاشتراء للتخمير حراما سواء وصل المشتري إلى مقصوده أم لا ، تكون الإعانة عليه حراما لكونها إعانة على الإثم بلا إشكال ، لأنّ قصد البائع وصول المشتري إلى اشترائه الحرام ، والفرض تحقق الاشتراء أيضا. فبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام وإعانة على الإثم ...» (١)

هل يعتبر علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام أم لا؟

الأمر الثالث : هل يعتبر في صدق مفهوم الإعانة علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام أم يكفي في ذلك إتيانه بمقدمة الحرام برجاء ترتبه عليه؟ وقد مرّ عن العوائد عدم اعتباره وأنّه يكفي في صدقها القصد والترتب خارجا وهو الأقوى. قال : «فإنّه لو غرس كرما بقصد أنّه لو أراد أحد شرب الخمر كان حاضرا فأثمر وأخذ منه الخمر وشرب يكون عمله معاونة على الإثم ...» إلى آخر ما ذكره ، فراجع ما مرّ من كلامه.

هل يعتبر العلم بمدخلية عمله في تحقق المعان عليه؟

هذا هو الأمر الرابع مما أحتمل اعتباره في صدق الإعانة ، وقد مرّ عن العوائد أيضا عدم اعتباره ، وهو الأقوى أيضا. قال :

__________________

(١) نفس المصدر ، ج ١ ، ص ١٤٤ (ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢١٥).

٣٦٧

«وذلك كما إذا علم أنّ زيدا الظالم يقتل اليوم عمروا ظلما فأرسل إليه سيفا لذلك مع عدم علمه بأنّه هل يحتاج إلى هذا السيف في قتله وله مدخلية في تحقق القتل أم لا؟ فإنّه يكون آثما في الإرسال قطعا ، فإن اتفق احتياجه إليه وترتب القتل عليه يكون معاونا على الإثم أيضا.»

أقول : حكمه بكونه آثما قطعا من جهة اختياره لحرمة مقدمة الحرام إذا أتى بها بقصده وقد مرّ منا الإشكال في ذلك.

هل يعتبر قصد المعان للإثم أو يكفي في ذلك تخيّل المعين لذلك؟

هذا هو الأمر الخامس مما أحتمل اعتباره في صدق الإعانة ، والظاهر اعتباره ، إذ على فرض عدم قصده له لا إثم حتى يصدق الإعانة عليه. ومجرّد تخيّل الإنسان لذلك لا يوجب تحقق الإثم وصدق الإعانة عليه. نعم يكون البيع منه مع هذا التخيّل تجرّيا ولكنه غير الحرمة والعصيان. هذا. ولكن لا يلزم وقوع القصد من المعان حين الشراء ، بل لو كان حينه قاصدا للخير ولكن نعلم أنّه سيقصد الإثم بعد ذلك ويوجده خارجا كفى ذلك في صدق الإعانة عليه ولا سيّما إذا وقع البيع منه بقصد ذلك ، فتدبّر. (١)

الفائدة الثانية :

القواعد العامّة في المقام ثلاث : (٢)

قد مرّ أنّ في مسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا قد يبحث بلحاظ الأخبار الخاصّة الواردة فيها ، وقد يبحث بلحاظ القواعد العامّة أمّا الأخبار الخاصّة فقد كانت على طائفتين ، وذكرنا وجوه الجمع بينهما ، فراجع.

وأمّا القواعد العامّة فهي في المقام ثلاث :

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣١٣ إلى ٣٢١.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٣٩.

٣٦٨

الأولى : حرمة الإعانة على الإثم شرعا بلحاظ آية التعاون.

الثانية : حكم العقل بحرمة الإعانة على الحرام.

الثالثة : وجوب دفع المنكر كرفعه.

١ ـ حرمة الإعانة على الإثم شرعا بلحاظ آية التعاون

أما الأولى فالبحث فيها تارة في بيان مفهوم الإعانة وما يعتبر فيها ، واخرى في بيان حرمتها الشرعية بلحاظ الآية الشريفة.

وقد طال البحث في مفهوم الإعانة وكلمات المصنّف والأصحاب فيها.

والآن وصلت النوبة إلى البحث عن حرمتها الشرعية بلحاظ الآية ، وقد شاع بينهم الاستدلال بها لذلك.

ولكن ناقش فيه المحقق الإيرواني (ره) في حاشيته بوجهين : قال ما هذا لفظه :

«يمكن أن يقال : إنّ آية لا تعاونوا مؤدّاها الحكم التنزيهي دون التحريمي ، وذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ والتقوى الذي ليس للإلزام قطعا ، كما يمكن أن يقال : إنّ قضية باب التفاعل هو الاجتماع على إتيان الإثم والعدوان كأن يجتمعوا على قتل النفوس ونهب الأموال لا إعانة الغير على إتيان المنكر على أن يكون الغير مستقلا في إتيان المنكر وهذا معينا له بالإتيان ببعض مقدماته.» (١)

وقد تبعه في إيراد المناقشة الثانية في مصباح الفقاهة ، فراجع (٢). هذا.

ولكنّ الأستاذ الإمام قدس‌سره أورد على الوجهين بما ملخّصه :

«يرد على الأوّل : أنّ قرينية بعض الفقرات لا تسلّم في المقام ، لأنّ تناسب الحكم والموضوع وحكم العقل شاهدان على أنّ النهي هنا للتحريم ، مضافا إلى أنّ مقارنة الإثم للعدوان لا تبقى مجالا لحمل النهي على التنزيه ، ضرورة حرمة العدوان والظلم كما دلّت عليها الأخبار المستفيضة.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٥ ، ذيل قول المصنّف : فقد يستدلّ على حرمة البيع ...

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ١٨٠ ، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

٣٦٩

وعلى الثاني : أنّ ظاهر مادّة العون عرفا وبنصّ اللغويين : المساعدة على أمر ، والمعين هو الظهير ، وإنّما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلا في أمر وأعانه عليه غيره ، فيكون معنى الآية : لا يكن بعضكم لبعض ظهيرا ومعاونا.

ومعنى تعاون المسلمين : أنّ كلا منهم يكون معينا لغيره لا أنّهم مجتمعون على أمر. ففي القاموس : «تعاونوا واعتونوا : أعان بعضهم بعضا.» ونحوه في المنجد. وكون التعاون فعل الاثنين لا يوجب خروج مادّته عن معناها.

فمعنى تعاون زيد وعمرو : أنّ كلّا منهما معين للآخر وظهير له. فإذا هيّأ كلّ منهما مقدمات عمل الآخر يصدق أنّهما تعاونا. وبالجملة كون التفاعل بين الاثنين لا يلازم كونهما شريكا في إيجاد فعل شخصي. فالتعاون كالتكاذب والتراحم والتضامن مما هي فعل الاثنين من غير اشتراكهما في فعل شخصي.

فالظاهر من الآية عدم جواز إعانة بعضهم بعضا في إثمه وعدوانه. وهو ظاهر المادّة والهيئة. ولو قلنا بصدق التعاون والتعاضد على الاشتراك في عمل فلا شبهة في عدم اختصاصه به.» (١)

نقد كلام الأستاذ الإمام في المقام

أقول : قد مرّ من المصنّف في المسألة الأولى من مسائل بيع العنب ـ أعني بيعه على أن يعمل خمرا ـ الاستدلال بكونه إعانة على الإثم ، ومرّ منّا نقل مناقشتي المحقق الإيرواني وإيراد الأستاذ الإمام (ره) عليهما وقلنا هناك : إنّ ظاهر العبارة الأخيرة من الأستاذ (ره) يشعر بنحو ترديد له في صدق مفهوم التعاون على الاشتراك في عمل واحد كرفع ثلاثة رجال لحجر واحد ، مع أنّه القدر المتيقّن منه بلحاظ الهيئة ، إذ الظاهر من اللفظ دخلهم في العمل في عرض واحد ، وهو المتبادر من عبارة القاموس أيضا. وأمّا إعانة أحد لآخر في عمل وإعانة الآخر له في عمل آخر فإطلاق التعاون عليه لا يخلو من مسامحة. وإن شئت قلت : إنّ المتبادر من تعاون

__________________

(١) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني ، ج ١ ، ص ١٣١ (ـ ط. اخرى ، ج ١ ، ص ١٩٧) ، في النوع الثاني من القسم الثاني.

٣٧٠

الشخصين دخلهما في عمل واحد شخصي في عرض واحد.

هذا ما ذكرناه هناك ، ونضيف هنا : أنّه إذا فرض كون الحرام إعانة أحد الشخصين لآخر في عمل وإعانة الآخر له في عمل آخر فهنا محرّمان مستقلان ولا دخل لأحدهما في حرمة الأخر ولا ارتباط بينهما ، فلا يرى على هذا وجه لاستعمال باب التفاعل الظاهر في ارتباط الفعلين وكونهما محكومين بحرمة واحدة ، بل كان المناسب أن يقال : لا يعين أحد منكم غيره في الإثم والعدوان.

فاستعمال باب التفاعل وتعلق نهي واحد به ظاهران في كون المنهي عنه اشتراكهما في عمل واحد قائم بشخصين أو بأشخاص ، بحيث لا يتحقق غالبا إلّا بالاشتراك والتعاون ، مثل أن يجتمع جماعة على قتل نفس محترمة أو هدم مسجد بحيث يكون كلّ واحد منهم معينا للآخرين في إيجاد فعل محرّم ، إذ الأفعال التي يترتب عليها المصالح أو المفاسد على نوعين : بعضها مما يقوم بشخص واحد وبعضها مما لا يتحقق غالبا إلّا بالشركة فيه.

فالمتبادر من الآية النهي عن التعاون في الأعمال الاشتراكية المشتملة على المفاسد والأمر بالتعاون في الأعمال الاشتراكية المشتملة على المصالح. وكون مادّة العون ظاهرة في كون أحد الشخصين أصيلا ومستقلا والآخر فرعا له ممنوع ، بل الظاهر من هيئة التفاعل كون الشخصين متلبسين بالمادّة في عرض واحد ، فتدبّر.

وكيف كان فلا دلالة في الآية الشريفة على حرمة الإعانة على الإثم شرعا بمعنى كون أحد أصيلا في عمل والآخر فرعا له موجدا لبعض مقدمات فعله ، بل لم نجد بذلك دليلا من السنة أيضا.

نعم لا إشكال في حرمة الإعانة على الظلم لما ورد في ذلك من أخبار أهل البيت عليهم‌السلام :

ففي صحيحة أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه‌السلام : «إيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين.» (١)

وفي رواية السّكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواتا ، أو ربط كيسا ، أو مدّ لهم مدّة قلم؟

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٢٨ ، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٣٧١

فاحشروهم معهم» (١) إلى غير ذلك من الأخبار ، فراجع.

هذا كلّه بلحاظ الكتاب والسنة ، وسيأتي الاستدلال بحكم العقل في هذا المجال.

٢ ـ حكم العقل بحرمة الإعانة على الإثم

الثانية من القواعد العامّة التي أستدل بها للمقام وأمثاله حكم العقل بحرمة إعانة الغير على معصية المولى وإتيان مبغوضه.

وقد أوضح ذلك الأستاذ الامام (ره) وملخّصه :

«أنّه كما أنّ إتيان المنكر قبيح عقلا وكذا الأمر به والإغراء نحوه فكذلك تهيئة أسبابه وإعانة فاعله قبيح عقلا موجب لاستحقاق العقوبة. ولهذا كانت القوانين العرفية متكفّلة لجعل الجزاء على معين الجرم. فلو أعان أحد السّارق على سرقته وساعده في مقدماتها يكون مجرما في نظر العقل والعقلاء وفي القوانين الجزائية. وقد ورد نظيره في الشرع فيما لو أمسك أحد شخصا وقتله الآخر ونظر لهما ثالث : أنّ على القاتل القود ، وعلى الممسك الحبس حتى يموت ، وعلى الناظر تسميل عينيه.

ولا ينافي ذلك ما حرّرناه في الأصول من عدم حرمة مقدّمات الحرام ، لأنّ ما ذكرناه هناك هو إنكار الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدماته ، وما أثبتناه هنا هو إدراك العقل قبح العون على المعصية والإثم ، لا لحرمة المقدّمة بل لاستقلال العقل بقبح الإعانة على الحرام الصادر عن الغير ، وهذا عنوان لا يصدق على إتيان الفاعل لمقدمات فعله.

وبالجملة العقل يرى فرقا بين الآتي بالجرم وبمقدماته وبين المساعد له في الجرم ولو بتهيئة أسبابه ومقدماته ، فلا يكون الأوّل مجرما في إتيان المقدمات زائدا على إتيان الجرم ، وأمّا الثاني فيكون مجرما في تهيئة المقدمات ، فيكون في نظر العقل المساعد له كالشريك له في الجرم وإن تفاوتا في القبح.

__________________

(١) نفس المصدر ، ج ١٢ ، ص ١٣٠ ، والباب ، الحديث ١١.

٣٧٢

والظاهر عدم الفرق في القبح بين ما إذا كان بداعي توصّل الغير إلى الجرم وغيره ، فإذا علم أنّ السّارق يريد السرقة ويريد ابتياع السّلّم لذلك يكون تسليم السّلّم إليه قبيحا وإن لم يكن التسليم لذلك ، وإن كان الأوّل أقبح. كما لا فرق في نظر العقل بين الإرادة الفعلية والعلم بتجدّدها لا سيّما إذا كان التسليم موجبا لتجدّدها. كما لا فرق بين وجود بائع آخر وعدمه وإن تفاوتت الموارد في القبح.

ثمّ إنّ حكم العقل ثابت في تلك الموارد وإن لم يصدق على بعضها عنوان الإعانة على الإثم والتعاون ونحو ذلك. ولعلّ ما ورد من النهي عن التعاون على الإثم والعدوان أو معونة الظالمين أو لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخمر غارسها وحارسها و ... ، وكذا ما وردت من حرمة بيع المغنّيات وإجارة المساكن لبيع بعض المحرمات كلّها لذلك أو لنكتته.

ثمّ إنّه بعد إدراك العقل قبح ذلك لا يمكن تخصيص حكمه في مورد كما لا يمكن تجويز المعصية.» (١)

تأييد كلام الأستاذ الإمام في المقام :

أقول : الإنصاف أنّ ما ذكره من الاستدلال بحكم العقل والعقلاء قوي جدّا ، والأحكام العقلية ـ كما ذكر ـ لا تقبل الاستثناء وتجري على الله ـ تعالى ـ أيضا ، وعلى هذا فيشكل القول بالحرمة في كلّي المسألة واستثناء خصوص بيع العنب أو التمر للتخمير والخشب لصنع البرابط بمقتضى النصوص الواردة.

وقال الأستاذ (ره) في مورد آخر ما ملخّصه :

«ولا يصحّ القول بتقييد الآية والسنّة ، لإباء العقول عن ذلك ، فإنّ الالتزام بحرمة التعاون على كل إثم إلّا بيع التمر والعنب للتخمير بأن يقال : إنّ الإعانة على غرسها وحرسها وحملها وغير ذلك محرّمة سوى خصوص الاشتراء ، أو

__________________

(١) المكاسب المحرمة للإمام الخميني (ره) ج ١ ، ص ١٢٩ (ـ ط. اخرى ، ج ١ ، ص ١٩٤) ، في النوع الثاني من القسم الثاني.

٣٧٣

الالتزام بأنّ الإعانة على كلّ إثم حرام إلّا على شرب الخمر الذي هو من أعظم المحرمات ، كما ترى.

وتوهّم أنّ الإعانة على الاشتراء المحرّم وهو ليس من المحرمات المهتم بها مدفوع بأنّ المفهوم من الآية ولو بمعونة حكم العقل أنّ مطلق تهيئة أسباب الإثم منهي عنه ...» (١)

نقد صاحب إرشاد الطالب لاستدلال الأستاذ الإمام (ره)

أقول : قد تعرّض في إرشاد الطالب لاستدلال الأستاذ (ره) في المقام بحكم العقل ثمّ أجاب عنه بما ملخّصه :

«الظاهر أنّه اشتبه على هذا القائل الجليل مسألة منع الغير عن المنكر الذي يريد فعله ، ومسألة إعانة الغير على الحرام ، حيث إنّ منع الغير عن المنكر مع التمكن منه واجب ، ويمكن الاستدلال على وجوبه بحكم العقل باستحقاق الذمّ فيما إذا ترك المنع مع التمكن ولزوم منعه هو المراعى في القوانين الدارجة عند العقلاء ، كما إذا باع سلّما مع علمه بأنّ السّارق يستعمله في سرقة الأموال ، فلا يؤخذ على بيعه فيما إذا ثبت أنّه لم يكن يترتب على ترك بيعه ترك السرقة ، كما إذا كان السّارق في بلد يباع في جميع أطرافه السّلّم ، بحيث لو لم يبع هذا أخذ من غيره ، وفي مثل ذلك لا يؤخذ البائع ببيعه بل يقبل اعتذاره عن البيع بما ذكر ـ مع ثبوته ـ

وما ذكر من الرواية ناظر إلى هذه الجهة ، وإلّا لم يكن وجه لتسميل عيني الناظر ، فإنّه لم يرتكب الحرام ولم يساعد عليه ، بل إنّما لم يمنع عن القتل ، وعلى الجملة حكم العقل ، والمراعى في بناء العقلاء هو التمكن من منع الغير عما يريده من الجرم ونلتزم بذلك ونقول بعدم جواز بيع الخشب أو العنب فيما لو لم يبعهما من المشتري المزبور لما يكون في الخارج خمر أو آلة قمار.

وأمّا إذا أحرز أنّه لو لم يبعه لا شترى من غيره فمثل ذلك يدخل في مسألة

__________________

(١) نفس المصدر ، ج ١ ، ص ١٤٦ (ـ ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢١٨).

٣٧٤

الإعانة على الحرام ولا دليل على قبح هذه الإعانة ولا على حرمتها إلّا في موارد الإعانة على الظلم.

ويظهر أيضا جوازها في غير ذلك المورد من بعض الروايات ، كموثقة ابن فضّال ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أسأله عن قوم عندنا يصلّون ولا يصومون شهر رمضان ، وربما احتجت إليهم يحصدون لي ، فإذا دعوتهم إلى الحصاد لم يجيبوني حتى أطعمهم وهم يجدون من يطعمهم فيذهبون إليهم ويدعوني ، وأنا أضيق من إطعامهم في شهر رمضان. فكتب بخطّه أعرفه : «أطعمهم.» وحملها على صورة الاضطرار إلى الإطعام لا تساعده قرينة ، فإنّ المذكور في الرواية احتياج المعطي إلى عملهم ، والحاجة غير الاضطرار الرافع للتكليف ، كما أنّ حملها على صورة كونهم معذورين في الإفطار يدفعه إطلاق الجواب وعدم الاستفصال فيه عن ذلك.» (١)

الدفاع عن بيان الأستاذ الإمام (ره)

أقول : كون حبس الممسك لغيره حتى يقتل وتسميل عيني الناظر من جهة عدم منعهما عن القتل فقط ممنوع ، بل الظاهر كونهما بلحاظ تصدي كلّ منهما لعمل وجودي دخيل في تحقق القتل الواقع. وليس المقصود من الناظر في المسألة كلّ من اتفق صدفة نظره إلى القتل الواقع ، بل من كان عينا للقاتل وربيئة له كما في الجواهر (٢) ، حيث إنّ من يريد قتل غيره يرصد له غالبا جوّا خاليا من الأغيار ، وربما يستخدم لذلك من يراقبه ويحفظه من إشراف الغير.

والقول بأنّ المعين للجرم والموجد لبعض مقدماته عالما مع عدم الانحصار والتمكن من

__________________

(١) إرشاد الطالب ، ج ١ ، ص ٨٨ وما بعدها ، عند قول المصنّف : وكيف كان فقد يستدلّ على حرمة البيع ... والموثقة رواها في الوسائل ، ج ٧ ، ص ٢٦٦ ، الباب ٣٦ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١.

(٢) الجواهر ، ج ٤٢ ، ص ٤٧ (ـ ط. اخرى ، ج ٤٢ ، ص ٤٣) ، كتاب القصاص ، الفصل الأوّل ، المرتبة الرابعة من مراتب التسبيب.

٣٧٥

غيره لا يستحق الذمّ عند العقلاء أيضا قابل للمنع. نعم الإعانة مع الانحصار أقبح كما صرّح به الأستاذ (ره) في كلامه.

وموثقة ابن فضّال التي ذكرها تحمل على صورة الاحتياج والاضطرار العرفي كما هو الظاهر منها ، ومصلحة التسهيل على المكلّفين ربما توجب رفع القبح والمنع من بعض المحرمات ، ونظيره في الشرع وكذا في الأحكام العرفية كثير ، فتدبّر. (١)

٣ ـ أنّ دفع المنكر كرفعه واجب

«نعم يمكن الاستدلال على حرمة بيع الشيء ممّن يعلم أنّه يصرف المبيع في الحرام بأنّ دفع المنكر كرفعه واجب ولا يتمّ إلّا بترك البيع فيجب. وإليه أشار المحقق الأردبيلي (ره) حيث استدل على حرمة بيع العنب في المسألة بعد عموم النهي عن الإعانة بأدلّة النهي عن المنكر.» (٢)

قال في مجمع الفائدة :

«ومما يستبعد الجواز وعدم البأس ـ وهو الباعث على تأويل كلامهم ـ : أن يجوز للمسلم أن يحمل خمرا لأنّ يشرب والخنزير لأنّ يأكله من لا يجوز له اكله ، ويبيع الخشب وغيره ليصنع صنما والدفوف والمزمار مع وجوب النهي عن المنكر ، وإيجاب كسر الهياكل وعدم جواز الحفظ ، وكسر آلات اللهو ، ومنع الشرب ، والحديث الدالّ على لعن حامل الخمر وعاصرها المذكور في الكافي وقد تقدّم ، وكذا ما تقدّم في منع بيع السلاح لأعداء الدين ، فإنّه يحرم للإعانة على الإثم وهو ظاهر.» (٣)

والظاهر أنّ اللام في قوله : «لأن يشرب» وأمثاله لام العاقبة لا للغاية لئلا يخرج عن مفروض البحث.

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٣٩ الى ٣٤٦.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٤٧.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ٥١ ، كتاب المتاجر ، المقصد الأوّل ، المطلب الأوّل ، وراجع الكافي ، ج ٦ ، ص ٣٩٨.

٣٧٦

قال الأستاذ (ره) بعد نقل هذا الكلام :

«وهو في كمال الإتقان ، وحاصله دعوى منافاة أدلّة النهي عن المنكر المستفاد منها أنّ سبب تشريعه ـ لو كان شرعيا ـ قلع مادّة الفساد والعصيان لا سيما مع تلك التأكيدات فيه والاهتمام به من وجوبه بالقلب واليد واللسان ، ودلالة بعض الأحاديث على إيعاد العذاب لطائفة من الأخيار لمداهنتهم أهل المعاصي وعدم الغضب لغضب الله ـ تعالى ـ والنهي عن الرضا بفعل المعاصي ، والأمر بملاقاة أهلها بالوجوه المكفهرة وغيرها وكذا سائر ما ذكره ، مع تجويز بيع التمر ممن يعلم أنّه يجعله خمرا ، والخشب ممن يجعله صنما وصليبا أو آلة لهو وطرب. مع أنّ فيه إشاعة الفحشاء والمعاصي وترويج الإثم والعصيان وملازم للرضى بفعل العاصي.» (١)

ثم شرع الأستاذ (ره) في بيان أصل الاستدلال بالتعبير الذي ذكره المصنّف ـ وقد أدّى حقّه ـ فقال ما ملخصه :

«أنّ دفع المنكر كرفعه واجب ، بناء على أنّ وجوب النهي عن المنكر عقليّ كما صرّح به شيخنا الأعظم وحكى عن شيخ الطائفة وبعض كتب العلّامة وعن الشهيدين والفاضل المقداد. وعن جمهور المتكلمين منهم المحقق الطوسي عدم وجوبه عقلا بل يجب شرعا ، والحقّ هو الأوّل لاستقلال العقل بوجوب منع تحقق معصية المولى ومبغوضه وقبح التواني عنه سواء في ذلك التوصل إلى النهي أو الأمور الأخر الممكنة. فكما تسالموا ظاهرا على وجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض الوجود في الخارج سواء صدر من مكلّف أم لا ، فكذلك يجب المنع من تحقق ما هو مبغوض صدوره من مكلّف فإنّ المناط في كليهما واحد ، وهو تحقق المبغوض ، فإذا همّ حيوان بإراقة شيء يكون إراقته مبغوضة للمولى ورأى العبد ذلك وتقاعد عن منعه يكون ذلك قبيحا منه ، كذلك لو رأى مكلفا يأتي بما هو مبغوض لمولاه لاشتراكهما في المناط ، والحاكم به العقل.

__________________

(١) المكاسب المحرمة للإمام الخميني (ره) ، ج ١ ، ص ١٣٥ (ـ ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢٠٣) ، في النوع الثاني من القسم الثاني.

٣٧٧

فإن قلت : على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر.

قلت : هو كذلك لو كان المبغوض فعليا ولم يكن في النهي مفسدة غالبة ، فلو ورد منه تجويز الترك كشف عن مفسدة في النهي أو مصلحة في تركه. فدعوى السيّد الطباطبائي في تعليقته على المكاسب عدم قبح ترك النهي عن المنكر في غير محلّها.

ثم إنّ العقل لا يفرّق بين الرفع والدفع بل لا معنى لوجوب الرفع في نظر العقل ، فإنّ ما وقع لا ينقلب عما وقع عليه ، فالواجب عقلا هو المنع عن وقوع المبغوض سواء اشتغل به الفاعل أو همّ بالاشتغال به وكان في معرض التحقق ، وما يدرك العقل قبحه هو هذا المقدار لا التعجيز بنحو مطلق حتى يشمل مثل ترك التجارة والزراعة والنكاح إلى غير ذلك.

نعم الظاهر عدم الفرق بين إرادته الفعلية وما علم بتجدّدها بعد البيع لا سيّما إذا كان البيع سببا له كما مرّ.

ولو بنينا على أنّ وجوب النهي عن المنكر شرعي فلا ينبغي الإشكال في شمول الأدلّة للدفع أيضا لو لم نقل بأنّ الواجب هو الدّفع ، بل يرجع الرفع إليه حقيقة ، فإنّ النهي عبارة عن الزجر عن إتيان المنكر وهو لا يتعلق بالموجود إلّا باعتبار ما لم يوجد ، فإطلاق أدلّة النهي عن المنكر شامل للزجر عن أصل التحقق واستمراره ، بل لو فرض عدم إطلاق فيها من هذه الجهة وكان مصبّها النهي عن المنكر بعد اشتغال العامل به فلا شبهة في إلغاء العرف بمناسبة الحكم والموضوع خصوصيّة التحقق.

فهل ترى من نفسك أنّه لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها بمرأى ومنظر من المسلم يجوز التماسك عن النهي حتى يشرب جرعة منها ثم وجب عليه النهي؟ وهل ترى عدم وجوب النهي عن المنكر في الدفعيات؟! ولعمري أنّ التشكيك فيه كالتشكيك في الواضحات.» (١)

__________________

(١) نفس المصدر ، ج ١ ، ص ١٣٦ (ـ ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢٠٣)

٣٧٨

أقول : محصّل كلامه (ره) : أنّ العقل ـ الذي هو المحكّم في باب روابط الموالي والعبيد ـ كما يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض للمولى بنحو الإطلاق وإن صدر عن غير المكلّف ، كما إذا أراد سبع افتراس ولد المولى مثلا ، كذلك يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض الصدور عن المكلّفين ، لاشتراكهما في الملاك أعني المبغوضية للمولى ، من غير فرق في ذلك بين الرفع والدفع. هذا على فرض كون وجوب النهي عن المنكر عقليا ، وكذلك لو فرض كونه بحكم الشرع ، إذ المستفاد من أدلّته وجوب قلع مادّة الفساد والعصيان بسبب النهي وغيره مثل كسر آلات اللهو وهياكل العبادة. وهذا ينافي تجويز الشرع لبيع العنب مثلا ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا. هذا.

وقد أشار (ره) في أثناء كلامه إلى النزاع المعروف في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أن وجوبهما عقلي أو شرعي ، واختار هو كونه عقليا ، وبه صرّح المصنّف أيضا كما يأتي.

الفائدة الثالثة :

هل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقلي أو شرعي؟

قال الشيخ في كتاب النهاية : «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام.» (١)

أقول : كلامه هذا ساكت عن هذه الجهة وإن كان المتبادر منه كون وجوبهما بحكم الشرع.

وقال في الاقتصاد :

«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الأمة وإن اختلفوا في أنّه هل يجبان عقلا أو سمعا : فقال الجمهور من المتكلّمين والفقهاء وغيرهم ، إنّهما يجبان سمعا ، وإنّه ليس في العقل ما يدلّ على وجوبهما ، وإنّما علمناه بدليل الإجماع من الأمة وبآي من القرآن وكثير من الأخبار المتواترة ، وهو الصحيح. وقيل : طريق وجوبهما هو العقل.

__________________

(١) النهاية ، ص ٢٩٩ ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...

٣٧٩

والذي يدلّ على الأوّل : أنّه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل على وجوبهما ، وقد سبرنا أدلّة العقل فلم نجد فيها ما يدلّ على وجوبهما ...

ويقوي في نفسي أنّهما يجبان عقلا : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لما فيه من اللطف ...» (١)

أقول : أنت ترى أنّ كلامه لا يخلو من تهافت. والظاهر أنّ مقصوده من اللطف فعل ما يقرّب العبيد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية ، فلطف الله ـ تعالى ـ بعباده يقتضي وجوبهما من قبله.

وعلى هذا فمرجع كلامه إلى كون وجوبهما من قبل الشارع غاية الأمر كشف ذلك بحكم العقل ، ولم يرد كون وجوبهما بحكم العقل نفسه ، نظير وجوب الإطاعة التي لا مجال فيها لحكم الشرع وإلّا لتسلسل كما قرّر في محلّه.

وفي الجواهر بعد قول المصنّف بوجوبهما إجماعا قال :

«من المسلمين بقسميه عليه ، مضافا إلى ما تقدم من الكتاب والسنّة وغيره ، بل عن الشيخ والفاضل والشهيدين والمقداد أنّ العقل مما يستقلّ بذلك من غير حاجة إلى ورود الشرع ، نعم هو مؤكّد.» (٢)

ولكن المحقّق الطوسي (ره) منع من وجوبهما عقلا وحكم بكونه بحكم السّمع ، قال في آخر التجريد :

«والأمر بالمعروف الواجب واجب وكذا النهي عن المنكر ، والمندوب مندوب سمعا ، وإلّا لزم خلاف الواقع أو الإخلال بحكمته ـ تعالى ـ»

وقال العلّامة في شرحه :

«... وهل يجبان سمعا أو عقلا؟ اختلف الناس في ذلك ، فذهب قوم إلى أنّهما يجبان سمعا للقرآن والسنة والإجماع ، وآخرون ذهبوا إلى وجوبهما عقلا. واستدلّ

__________________

(١) الاقتصاد ، ص ١٤٦ ، فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٢) الجواهر ، ج ٢١ ، ص ٣٥٨ ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٣٨٠