مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

هل يكون كل شرط موضوعا وكل موضوع شرطا؟

وفي قبال ما ذكر قد يقال : إنّ الظاهر كون القيد المأخوذ في القضيّة راجعا إلى الموضوع ويكون الموضوع مركبا والشرط جزء منه. وقد اشتهر أنّ كلّ شرط موضوع وكلّ موضوع شرط. فقوله : «العنب إذا غلى يحرم» مرجعه إلى قوله : «العنب المغلي يحرم» ، وفعلية الحكم المترتّب على الموضوع المركّب تتوقّف على وجود موضوعه بتمام أجزائه ، إذ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علّته ، فالحكم ليس للعنب فقط حتى يستصحب بعد صيرورته زبيبا. ومن أجرى الاستصحاب هنا توهّم رجوع القيد إلى الحكم لا إلى الموضوع وهو عندنا باطل.

وربّما يجاب عن ذلك بأنّ الشرط وإن رجع بالدقة العقليّة إلى الموضوع ويكون الموضوع مركبا لكن العرف يفرّقون بين قوله : «العنب المغليّ يحرم» وبين قوله : «العنب إذا غلى يحرم» ، فيرون الموضوع في الثاني نفس العنب ويحكمون بكونه محكوما بحكمين : أحدهما تنجيزي والآخر تعليقي كما مرّ بيانه. والمرجع في تشخيص الموضوعات وإجراء الاستصحاب فيها العرف لا الدقّة العقليّة.

أقول : البحث في صحّة الاستصحاب التعليقي وعدمها موكول إلى محلّه والذي نريد هنا ذكره بيان أنّ المقام يفترق عن مثال العنب ونحوه الذي علّق فيه الحكم على أمر خارجي كالغليان بحيث لا يتحقّق فيه الحكم إلّا بعد تحقّق هذا الأمر ، إذ البيع في المقام ليس أمرا خارجيّا علّق عليه الحكم بل هو فعل من أفعال المكلّف وممّا يوجده باختياره ليترتّب عليه الآثار ويكون من قبل الشارع محكوما بحكمين : الحليّة التكليفيّة والصحّة وضعا ، فكلاهما حكم شرعي متعلّقان بفعل المكلّف والمكلّف المتشرع لا يوجده إلّا بترقّب صحّته وترتّب آثاره عليه ، فليس حكمه بصحّته متوقّفا على وجوده خارجا بل يكون وزانها وزان الحكم التكليفي بالنسبة إلى متعلّقه.

٣٤١

بل قد مرّ منا (١) أنّ قوله ـ تعالى ـ : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) يراد به الحليّة الوضعيّة ويكون قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إرشاد إلى صحّتها.

وبالجملة فالبيع من أفعال المكلّف ولا يوجد من قبل المتشرعة إلّا بترقّب ترتّب الآثار عليه ، فما لم يحكم الشرع بصحّته لا يقدم المكلّف على إيجاده. وليس حكم الشرع بصحّته مشروطا بوجوده خارجا ، وليس موضوع الصحّة مركبا من البيع وموضوعه على ما قالوا في العنب من كون موضوع الحرمة مركبا منه ومن الغليان ، بل الصحّة حكم لنفس البيع ، والبيع متعلق لها لا موضوع.

وإن شئت قلت : إنّ البيع وسائر العقود التي يوجدها المكلّف بترقّب ترتّب الآثار ليس وزانها وزان القيود الخارجيّة التي لا ينطبق عليها الأحكام إلّا بعد تحقّقها في الخارج ، وليس وزانها وزان متعلّقات التكاليف أيضا ، ولكنّها بالثانية أشبه لكونه من أفعال المكلّفين.

وكيف كان فليس الاستصحاب في المقام تعليقيّا ، فتأمّل. (٢)

الفائدة السادسة :

جريان الاستصحاب في موضوع الاستحالة وعدمه

«محل البحث : حكم دخان الشيء النجس من جهة الطهارة والنجاسة ، وانّه هل يجوز الاستصباح بالدخان النجس تحت الظّلال؟ وقد تعرض سماحته ـ دام ظلّه ـ في خلاله أقسام الاستحالة وجريان الاستصحاب في موضوع الاستحالة وعدمه.» (٣)

يظهر منهم تسليم عدم الجواز على فرض نجاسة الدخان ، مع أنّه غير واضح لعدم الدليل على حرمة تنجيس سقوف البيوت. نعم ، لا يجوز ذلك في سقوف المساجد.

ودليلهم على الطهارة استحالة الشيء النجس وتبدّله إلى ذات اخرى فلم يبق موضوع النجاسة.

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ١ ، ص ٦٠ إلى ٦٨.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٨٨ إلى ٩٩.

(٣) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٤٢.

٣٤٢

توضيح ذلك : أنّ التبدّل قد يقع في أوصاف الشيء والعوارض الشخصيّة أو الصنفيّة له مع بقاء الحقيقة النوعيّة بحالها ، كتبدّل القطن خيطا أو ثوبا أو الحنطة دقيقا أو خبزا مثلا ، وقد يقع في الصورة النوعيّة المقوّمة للشيء عرفا ، كتبدّل النبات أو لحم الحيوان إلى جزء من حيوان آخر بأكله له ، أو تبدّل الكلب إلى التراب أو الملح بوقوعه في المملحة.

فالقسم الأوّل لا يوجب الطهارة لبقاء النجس بحاله وإن تبدّلت عوارضه. وأمّا القسم الثاني فيطلق عليه الاستحالة وعدّوها من المطهرات.

والسرّ في ذلك أنّ الحكم ـ كالنجاسة مثلا ـ تابع لموضوعه من العذرة والبول والدم وأمثال ذلك ، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم قهرا ، والمفروض أنّ بالاستحالة الذاتيّة ينعدم عند العرف والعقلاء موضوع النجاسة ويتحقّق موضوع جديد ، فإن كان لنا على طهارة الموضوع الجديد بعنوانه العامّ دليل اجتهادي حكمنا بطهارة هذا الشيء بما أنّه مصداق له ، وإلّا فأصل الطهارة يكفي في الحكم بطهارته لجريانه في الشبهات الحكميّة أيضا.

بل ومع الشك في تحقّق الاستحالة الذاتيّة أيضا ربّما يقال بالطهارة ، إذ لا نحتاج إلى إحراز عنوان الاستحالة لعدم ذكرها في الأدلّة. فإذا شككنا في بقاء موضوع النجاسة لم يحرز شمول دليلها له ، ولا يجري استصحابها ولا استصحاب موضوعها ، إذ هو إبقاء ما كان فيعتبر فيه بقاء الموضوع عرفا بحيث يتّحد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة ، والمفروض في المقام هو الشكّ في بقاء الموضوع هذا.

ولكن الظاهر جريان استصحاب الموضوع مع الشكّ فيه ، إذ القضيّة في قولنا : «هذا كان كلبا» وإن كانت هليّة مركبّة لا بسيطة لكن الموضوع فيها هي الصورة الجنسيّة لا النوعيّة وهي المشار إليها بقولنا : «هذا» ، ومع الشكّ في الاستحالة هي باقية قطعا فنقول : هذا الجسم الخارجي كان كلبا والآن نشكّ في بقائه كلبا فنستصحب بقاء الصورة النوعيّة له فيجري عليها حكمها ، فتدبّر.

ولو استحال النجس إلى نجس آخر كلحم الميتة أكله الكلب فصار جزء لبدنه أو الماء النجس شربه فصار بولا له كان محكوما بالنجاسة أيضا ولكن بنجاسة جديدة يترتّب عليها آثارها لا آثار النجاسة الأوّليّة. هذا.

٣٤٣

وبما ذكرنا يظهر لك أنّ عدّ الاستحالة من المطهرات لا يخلو من مسامحة واضحة ، إذ التطهير إنّما يصدق مع بقاء الموضوع الذي كان نجسا ، وفي الاستحالة لا يبقى الموضوع الأوّل حتى يعرضه الطهارة ، بل ينعدم ويحدث موضوع جديد.

ففي المقام ما كان نجسا هو الدهن ، والمفروض عدم بقائه ، وإنّما يصدق على الباقي عنوان الدخان والبخار ولا دليل على نجاستهما كما هو واضح.

الفائدة السابعة :

هل فرق بين استحالة النجس والمتنجّس؟

نعم هنا إشكال تعرّض له الشيخ (ره) في خاتمة الاستصحاب من الرسائل. ومحصّله بتوضيح منا :

«الفرق بين استحالة النجس الذاتي والمتنجّس فيحكم بالطهارة في الأوّل دون الثاني ، إذ الموضوع للنجاسة الذاتيّة الصورة النوعيّة ، من العذرة والبول والدم وأمثالها ، فإذا ارتفعت بالاستحالة ارتفع حكمها قهرا ، وأمّا في المتنجّسات فالنجاسة تعرض للصورة الجنسيّة أعني الجسم لا النوعيّة من الخشب ونحوه فالخشب مثلا بملاقاته للنجاسة ينجس بما أنّه جسم لاقى نجسا لا بما أنّه خشب إذ لا خصوصيّة لعنوان الخشبيّة في قبوله النجاسة ، فإذا استحال الخشب رمادا فالصورة النوعيّة وإن ارتفعت لكنّ النجاسة لم تعرض له بما أنّه خشب بل بما أنّه جسم لاقى نجسا ، وهو بعد باق بحاله فلا مجال للقول بطهارته.» (١)

وأجاب الشيخ عن هذا الإشكال بما هذه لفظه :

«إنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ، إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس إلّا أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لبيان عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة للنجس لا لبيان إناطة الحكم بالجسميّة.

__________________

(١) فرائد الأصول ، ص ٤٠٠ (ط. اخرى ، ج ٢ ، ص ٦٩٤) ، خاتمة ، شروط جريان الاستصحاب.

٣٤٤

وبتقرير آخر : الحكم ثابت لأشخاص الجسم فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوم به عند الملاقاة ، فقولهم : «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس» لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به ، كما إذا قال القائل : «إنّ كلّ جسم له خاصيّة وتأثير» مع كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع ...» (١)

أقول : ما ذكره (ره) بطوله لا تقنع به النفس ، بداهة أنّ الجسم الخاصّ ـ كالحنطة مثلا ـ إذا تنجّس بالملاقاة لا يرى الوجدان لحيثيّة كونه حنطة دخلا في تأثّره بالنجاسة العارضة بحيث لو كان شعيرا مثلا لم يتأثّر بذلك ، بل المتأثّر بها بحسب الوجدان هي الحيثيّة المشتركة بين الحنطة والشعير أعني كونه جسما ملاقيا لنجس ، وهذا بخلاف الخواصّ والآثار الثابتة للأجسام فإنّ خاصية الحنطة ثابتة لها بما أنّها حنطة ، كما أنّ خاصيّة الشعير تثبت له بما أنّه شعير. وبالجملة فاختلاف الأجسام في الخواصّ والآثار تابع لاختلافها في الصورة النوعيّة المقوّمة لكلّ منها ، وهذا بخلاف التأثّر من النجاسة العارضة بالملاقاة فإنّ الأجسام مشتركة في ذلك وهذا يكشف عن كون معروضها الحيثيّة المشتركة أعني الجسميّة ، فتدبّر. هذا. ولكن لا يخفى أنّ بناء نظام الطبيعة على أساس تبدّل الأجسام وتغيّرها ووقوع الذوات النجسة والمتنجّسة في طريق تكوّن النبات والحيوان والإنسان ، فكما تقع العذرات والأبوال والميتات وغيرها في طريق تكوّن النباتات والحيوانات وتصير من أجزائها بالاستحالة فكذلك الأمر في المتنجّسات : فينجذب التراب أو الماء المتنجّس إلى الأشجار وتنمو بها ثمارها ، وتشرب أو تأكل البهائم والطيور والدّجاجات من المياه أو الأغذية المتنجّسة كثيرا بمرأى ومنظر المسلمين في جميع الأعصار حتى في أعصار الأئمة عليهم‌السلام ومع ذلك جرت سيرتهم على معاملة الطهارة مع ثمار الأشجار ولحوم الحيوانات وألبانها وأبوالها وأرواثها وبيض الدجاجات فيكشف هذا عن كون الاستحالة في المتنجّسات أيضا رافعة لحكمها ، ولا يمكن القول بكون القذارة والخباثة في المتنجّس أشدّ من النجس.

__________________

(١) نفس المصدر والصفحة.

٣٤٥

فإذا ارتفعت الغذارة الذاتيّة بالاستحالة فارتفاع العرضية بها يثبت بالأولويّة الجليّة.

ولعلّ السرّ في ذلك أنّ في المتنجّس ما يكون في الحقيقة نجسا هو ذرّات النجس المنتقلة إليه بالملاقاة عرفا وشرعا لا ذات الخشب مثلا إلا بالعرض والمجاز ، وباستحالة الخشب يستحيل هذه الذرات أيضا وتنعدم عرفا فلا يبقى موضوع للنجاسة.

وكيف كان فدخان الدهن المتنجّس طاهر مع استحالته إليه.

نعم لو فرض تصاعد كثير من الأجزاء الدهنيّة معه بحيث يدرك العرف أيضا ذلك وربّما يستشهدون لذلك بدسومة الدخان وجب الاجتناب حينئذ. وأمّا الأجزاء الصغار التي لا يدركها العرف ويحتاج في إدراكها إلى المكبّرات والآلات الحديثة فلا حكم لها شرعا ، وإلّا لتنجّس الهواء والأشياء ببخار النجاسات والمتنجّسات وأرياحها لاستحالة انتقال العرض فتكشف الأرياح عن وجود الذرّات. (١)

الفائدة الثامنة :

هل يجري الاستصحاب في الشك في القصر وعدمه؟

«محل البحث : الإشكال في جريان الأصل فيمن شك كون سفره بمقدار المسافة بأنه مبني على كون موضوع القصر من حالات المكلف فيجري استصحاب عدم كونه مسافرا ؛ وأما اذا كان من حالات المسافة بأن يكون القصر مشروطا بكون المسافة ثمانية فاثباته باستصحاب عدم كونه مسافرا من الأصل المثبت ، نظير ما قالوا في اللباس المشكوك كونه من أجزاء غير المأكول فلا يثبت بالاستصحاب الجاري في المصلي بأنه لم يكن قبل أن يلبس هذا اللباس لابسا لغير المأكول ، عدم كون الجزء المشكوك من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ...»

ربما يقال : إن قيد الشيء يجب أن يكون من حالاته وأطواره ومن صفاته ومقسماته ، فلو فرض في مقام أخذ الأجنبي قيدا يجب الالتزام بكون القيد عبارة عن أمر انتزاعي يكون من مقسمات المقيد ومن حالاته كوصف المعية والمقارنة ونحوهما غاية الأمر كون الأجنبي منشئا

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٤٢ إلى ٤٥.

٣٤٦

لانتزاعه او طرفا لإضافته ولا فرق في ذلك بين القيود الوجودية والعدمية ، ففي باب اللباس المشكوك فيه لا يصح أن يعتبر نفس عدم كون اللباس من أجزاء ما لا يؤكل لحمه قيدا للصلاة لعدم كونه من حالاتها بل المعتبر فيها عدم مقارنتها له كما يدل على ذلك التعبير ب «في» في قوله : «لا تجوز الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه» وبالجملة المانع معية الصلاة لما لا يؤكل ومقارنتها له لا نفس ما لا يؤكل وعلى هذا يمكن إجراء استصحاب العدم في صورة الشك إذ عدم كون هذا اللباس مما لا يؤكل وإن لم يكن له حالة سابقة ولكن عدم مقارنة الصلاة لما لا يؤكل بنحو العدم المحمولي مما له حالة سابقة فكما يستصحب وجود الشرط كالوضوء او الطهارة من الخبث بنحو الكون التام ويترتب عليه صحة الصلاة كما هو مورد صحيحتي زرارة ، كذلك يستصحب عدم المانع أعني عدم تحقق المقارنة المشار اليها بنحو الليسية التامة ويترتب عليه صحة الصلاة وبالجملة وزان عدم المانع وزان وجود الشرط والفرق بين القيود الوجودية والعدمية تحكّم.

اللهم الا أن يقال إن المقارنة المشار إليها وإن كانت معدومة سابقا ولكن كان هذا عدمها بعدم نفس الصلاة فاستصحابه ولو بنحو العدم المحمولي من قبيل استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع وليس هذا معتبرا بنظر العرف فتدبر.

ثم لا يخفى أن مقتضى ما ذكر أن لا يكون نفس الوضوء او كون الشخص متوضيا أيضا قيدا للصلاة بل يكون القيد مقارنتها له مع أن الاستصحاب يجري في نفس الوضوء كما لا يخفى (١)

الفائدة التاسعة :

استصحاب العدم الربطي

«محل البحث : أحد تقريري استصحاب العدم الأزلي وهو عبارة عن العدم الربطي يعني مفاد «ليس الناقصة» والمراد به هو الرابط في القضايا السّالبة إذ التحقيق أن الرابط فيها نفس العدم ، فكما يعتبر في الموجبات وجود رابط يعبّر عنه بكون الشيء شيئا ، فكذلك يعتبر في السوالب عدم رابط أي عدم الشيء شيئا.»

__________________

(١) البدر الزاهر ، ص ١٠٨.

٣٤٧

أقول : هذا ما اختاره بعض المتاخرين ، وذهب القدماء من القوم إلى أن القضية السالبة لا تشتمل على النسبة ، بل يكون مفادها سلب النسبة وقطعها لا بأن تعتبر أولا بين الطرفين نسبة ثبوتية ثم ترفع وتسلب ، بل السلب عندهم يتوجه أولا إلى نفس المحمول ، ولكن سلب المحمول عن الموضوع عبارة اخرى عن سلب الانتساب بينهما ، كما أن الموجبة لا يعتبر فيها أولا نسبة ثبوتية ثم تثبت للموضوع ، بل يثبت فيها أولا نفس المحمول للموضوع ، ومع ذلك يقال إن فيها إيجاب النسبة وإيجادها ؛ والسر في ذلك أن النسبة معنى حرفي آليّ ، فلا يتعلق بها لحاظ استقلالي إلا بنظر ثانوي مساوق لخروجها من كونها نسبة بالحمل الشائع ، فالذي يتوجه إليه الذهن أولا ويراه مفادا للقضية إنما هو إثبات شيء لشيء أو سلبه عنه ، ثم بالنظر الثانوي يرى أن الموجبة تشتمل على نسبة وارتباط بين الموضوع والمحمول ، والسالبة لا تشتمل إلا على سلب النسبة والارتباط ، لا على ارتباط يكون بنفسه أمرا عدميا. هذا بعض ما قيل في المقام ، وتحقيق المطلب خارج من عهدة فن الأصول.

وربما يستشكل على مبنى سيدنا الأستاذ ـ مد ظلّه العالي ـ بأن المراد بالعدم الرابط إن كان صورته الذهنية المتحققة في القضية الذهنية ، ففيه : أنها ليست عدما بالحمل الشائع ، بل هي أمر موجود في الذهن ، وإن كان المراد به ما به يرتبط الموضوع والمحمول في الخارج ، نظير الكون الرابط في الموجبات المركبة. ففيه : أن مقتضى ذلك هو أن يتحقق في الخارج أمر يكون حقيقة ذاته العدم والبطلان ويكون مع ذلك رابطا بين الموضوع والمحمول ، وهذا واضح الفساد ، مع أنه من الممكن أن لا يكون شيء من الطرفين موجودا في الخارج ، كما في السالبة بانتفاء الموضوع ، فيلزم على هذا أن يتحقق في الخارج عدم رابط بين عدمين ، وفساد هذا أوضح من السابق.

لا يقال : مقتضى ما ذكرت أن لا تكون السالبة مشتملة على النسبة مع أن تقوّم القضية بالنسبة.

فإنا نقول : لا نسلم توقفها مطلقا على النسبة ، بل هي أمر يتقوّم ويتحقق إما بالنسبة أو بسلبها ، فمفاد الموجبة تحقق الارتباط بين الطرفين ، ومفاد السالبة عدم تحققه بينهما. (١)

__________________

(١) نهاية الأصول ، ص ٣٣٦.

٣٤٨

الجزء الثانى :

في بعض القواعد الفقهية

وهو يشتمل على سبعة فصول :

الفصل الأوّل :

امور هامّة وقواعد عامّة

مرتبطة بمفهوم الاعانة على الاثم

وهو أيضا يشتمل على فوائد :

٣٤٩
٣٥٠

الفائدة الاولى :

البحث في مفهوم الاعانة وما يعتبر في صدقها

«محل البحث في مكاسب الشيخ الأعظم وإن كان موضوعا فقهيا وهو بيع العنب ممن يعمله خمرا ، ولكن إطار البحث كان وسيعا بحيث دعى الأستاذ ـ مد ظلّه ـ إلى بيان امور هامّة وقواعد عامّة ، أما الأمور فهي :

١ ـ هل قصد الإعانة او ترتب المعان عليه شرط في تحقق مفهوم الإعانة أم لا؟

٢ ـ هل الإعانة من العناوين القصدية او الواقعية؟

٣ ـ هل يعتبر في صدق الإعانة علم المعين او ظنّه بترتب الحرام على فعله ، أو العلم بمدخلية عمله في تحقق المعان عليه؟

٤ ـ هل يعتبر في صدقها قصد المعان للإثم ، او يكفي تخيل المعين لذلك؟ (١)

البحث في المسألة بلحاظ القواعد العامّة

وأمّا البحث بلحاظ القواعد العامّة فالعمدة منها ثلاثة أمور :

الأوّل : حكم الشارع بحرمة التعاون على الإثم والعدوان.

الثاني : حكم العقل بقبح إعانة الغير في الأمر القبيح والمحرم.

الثالث : أن دفع المنكر واجب كرفعه.

أمّا الأمر الأوّل فالبحث فيه تارة في مفهوم التعاون والإعانة وما يعتبر في صدقهما ، واخرى في بيان حكمهما شرعا.

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٢٩٨.

٣٥١

أمّا الأوّل ففيه وجوه بل أقوال :

الأوّل : ما استظهره المصنّف من الأكثر ، وهو أنّ الإعانة عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدّمات فعل الغير وإن لم يقصد حصوله منه.

الثاني : إيجادها بقصد حصوله منه ، كما في كلام المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد. وإطلاق القولين يقتضي التعميم لصورة وقوع المعان عليه في الخارج وعدم وقوعه.

الثالث : أنّه يعتبر فيه مع قصد ذلك وقوع الفعل المعان عليه في الخارج أيضا ، وقد نسبه المصنّف إلى بعض معاصريه وأراد به صاحب العوائد كما يأتي.

الرابع : ما نسبه المصنّف إلى المحقّق الأردبيلي من اعتبار القصد أو وقوع المقدّمة على وجه يصدق عليها الإعانة عرفا ، مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاه ولو لم يقصد ذلك.

الخامس : إيجاد بعض المقدمات القريبة دون البعيدة.

السادس : إيجاد بعض المقدّمات مطلقا بشرط وقوع المعان عليه في الخارج سواء تحقق القصد أم لا. اختار هذا في مصباح الفقاهة (١) ، كما يأتي بيانه.

«وقد يستشكل في صدق الإعانة بل يمنع ، حيث لم يقع القصد إلى وقوع الفعل من المعان ، بناء على أنّ الإعانة هي فعل بعض مقدمات فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقا. وأوّل من أشار إلى هذا ، المحقق الثاني في حاشية الإرشاد في هذه المسألة ، حيث إنّه بعد حكاية القول بالمنع مستندا إلى الأخبار المانعة قال : «ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) ويشكل بلزوم عدم جواز بيع شيء مما يعلم عادة التوصّل به إلى محرّم لو تمّ هذا الاستدلال ، فيمنع معاملة أكثر الناس. والجواب عن الآية المنع من كون محلّ النزاع معاونة ، مع أنّ الأصل الإباحة ، وإنّما يظهر المعاونة مع بيعه لذلك.» انتهى (عبارة الشيخ الانصارى (ره)).

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ١٧٦ ، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

٣٥٢

إذا العلم أعمّ من التفصيلي ، والعلم الإجمالي بالصرف في الحرام متحقق في كثير من الموارد بل التفصيلي أيضا يتحقق كثيرا.

قال في مفتاح الكرامة بعد نقل كلام المحقّق الثاني :

«وهذا متين جدّا ، لأنّ السيرة قد استمرّت على المعاملة على بيع المطاعم والمشارب للكفّار في شهر رمضان مع علمهم بأكلهم ، وعلى بيعهم بساتين العنب والنخيل مع العلم العادي بجعل بعضه خمرا ، وعلى معاملة الملوك فيما يعلمون صرفه في تقوية الجند والعساكر المساعدين لهم على الظلم والباطل ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.» (١)

وذكر نحو ذلك في الجواهر وأضاف إلى ما ذكر : إجارة الدور والمساكن والمراكب لهم وبيع القرطاس منهم مع العلم بأنّ منه ما يتخذ كتب ظلال. ثم قال :

«ومن ذلك يظهر أنّ قصد العليّة من طرف المشتري غير قادح ، ضرورة حصوله فيما عرفت ، فلو كان قادحا لاقتضى فساد البيع لأنّ فساده من جانب ، فساد من الجانبين ...» (٢)

«ووافقه في اعتبار القصد في مفهوم الإعانة جماعة من متأخري المتاخرين كصاحب الكفاية وغيره. هذا.»

راجع كفاية السبزواري في هذه المسألة (٣) ولم يعلم المراد بقوله : «وغيره» ، فإن أراد المقدس الأردبيلي (قده) فهو ـ كما يأتي ـ لا يشترط القصد تعيينا بل القصد أو الصدق العرفي.

«وربما زاد بعض المعاصرين على اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه في تحقق مفهوم الإعانة في الخارج ، وتخيّل أنّه لو فعل فعلا بقصد تحقق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقق منه لم يحرم من جهة صدق الإعانة بل من جهة قصدها ، بناء على ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدّمات الحرام

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ٣٨ ، كتاب المتاجر ، المقصد الأوّل ، الفصل الأوّل.

(٢) الجواهر ٢٢ / ٣٢ ـ ٣٣ ، كتاب التجارة ، الفصل الأوّل ، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(٣) كفاية الأحكام ، ص ٨٥ ، كتاب التجارة ، المقصد الثاني ، المبحث الأوّل.

٣٥٣

بقصد تحققه ، وأنّه لو تحقق الفعل كان حراما من جهة القصد إلى المحرّم ومن جهة الإعانة ...»

نقل كلام الفاضل النراقي في العوائد :

اورد عليه الفاضل النراقي (قده) في العوائد ، والأولى نقل كلامه ملخصا لما فيه من فوائد : قال في أوائل العوائد ما ملخّصه :

«عائدة : قال الله ـ سبحانه ـ في سورة المائدة : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وهذه الآية تدلّ على حرمة المعاونة على كلّ ما كان إثما وعدوانا ، واستفاضت على تحريمها الروايات وانعقد عليه إجماع العلماء كافة ، ولا كلام في ثبوت تحريمها والنهي عنها ، وإنّما الكلام في تعيين ما يكون مساعدة ومعاونة على الإثم والعدوان.

وتحقيقه أنّه لا شكّ ولا خفاء في أنّه يشترط في تحقق الإعانة صدور عمل وفعل من المعاون له مدخلية في تحقق المعاون عليه وحصوله أو في كماله وتماميّته.

وإنّما الخلفاء في اشتراط القصد إلى تحقق المعاون عليه من ذلك العمل ، وفي اشتراط تحقق المعاون عليه وعدمه أي ترتّبه على فعله ، وفي اشتراط العلم بتحقق المعاون عليه أو الظنّ أم لا ، وفي اشتراط العلم بمدخلية فعله في تحققه.

أما الأوّل : فالظاهر اشتراطه. ومعناه أن يكون مقصود المعاون من فعله ترتّب المعاون عليه وحصوله في الخارج ، سواء كان على سبيل الانفراد أم على الاشتراك ، لأنّ المتبادر من المعاونة والمساعدة ذلك عرفا ، فإنّا نعلم أنّه لو لم يعط زيد ثوبه إلى الخيّاط ليخيطه لا يخيطه الخياط ولا يتحقّق منه خياطة ، مع أنّه لو أعطاه إيّاه وخاطه لا يقال : إنّه أعانه على صدور الخياطة ، لأنّ غرضه كان صيرورة الشيء مخيطا لا صدور الخياطة منه ، إلّا إذا كان مقصوده صدور هذه الخياطة منه ، كما إذا كان ثوب لشخص وأراد ثلاثة من الخيّاطين خياطته فسعى شخص في إعطائه إلى واحد معين ليصدر منه الخياطة فيقال : إنّه أعانه على ذلك.

٣٥٤

ولذا ترى أنّه لا يقال للدافعين أثوابهم إلى الخياط إنّهم أعانوه على صنعة الخياطة وتعلّمها ، مع أنّه لو لا دفع أحد ثوبه إليه لم يتعلّم صنعة الخياطة.

ولو دفع أحد ثيابا متعددة إلى شخص ليخيطها وكان غرضه ترغيبه إلى تعلمها وتحسينها حتى صار ذلك سببا لتعلّمها يقال عرفا إنّه أعانه عليها. وكذا التاجر لا يتجر لو علم أنّ أحدا لا يشتري منه شيئا أو لا يبيعه ، فللبيع والشراء منه مدخلية في تحقق التجارة منه ولا يقال للبائعين والمشترين إنّهم معاونوه على التجارة ، بخلاف ما لو باع أحد منه واشترى منه لترغيبه في التجارة وتعلّمه لها فيقال : إنّه أعانه عليها.

وأما الثاني : فالظاهر أيضا اشتراطه ، فلو فعل أحد عملا قد يترتب عليه أمر ويكون له مدخلية في تحقق ذلك الأمر ولم يترتّب عليه ذلك فلا يقال : إنّه أعانه على ذلك الأمر وإن كان مقصوده منه إعانة شخص آخر في تحقّق ذلك وحصوله.

ولكن لو كان ذلك الأمر الذي يريد المعاونة عليه إثما ومحرما يكون ذلك الفعل الذي صدر من المعاون أيضا إثما وحراما ، لما علم في العائدة السابقة ، كما لو قلنا بكونه معاونة على الإثم ، غاية الأمر إختلاف جهة الحرمة ولو قلنا بكون ذلك أيضا معاونة على المحرم يحرم بالاعتبارين. وعلى هذا فلو غرس أحد كرما بقصد عصر الخمر منه للخمّارين فهو عاص في هذا الغرس آثم مطلقا ، فلو أثمر وحصل منه الخمر وشرب يكون معاونة على الإثم أيضا ويكون حراما من هذه الجهة أيضا. ولو لم يتفق فيه ذلك حتى قلع لا يكون معاونة على إثم ولكن يكون حراما لأجل قصده.

وأما الثالث : وهو العلم بتحقق المعاون عليه وبترتبه على عمله فهو لا يشترط ، فإنّه لو غرس كرما بقصد أنّه لو أراد أحد شرب الخمر كان حاضرا فأثمر وأخذ منه الخمر وشرب يكون عمله معاونة على الإثم ، وإن لم يؤخذ منه الخمر لا يكون معاونة وإن أثم في غرسه بهذا القصد. فالمناط في الإثم والحرمة مطلقا هو العمل مع القصد سواء ترتب عليه ما قصد ترتبه عليه أم لا. وسواء علم

٣٥٥

أنّه يتحقق أو فعله بقصد أنّه لعلّه يتحقق. والمناط في المعاونة على الإثم هو القصد وتحقق المعاون عليه معا ، فلو تحقق يأثم بالاعتبارين.

ومن هذا يظهر حال الرابع أيضا ، أي اشتراط العلم بمدخلية عمله في تحقق المعاون عليه أم لا ، وذلك كما إذا علم أنّ علم أن زيدا الظالم يقتل اليوم عمروا ظلما فأرسل إليه سيفا لذلك مع عدم علمه بأنّه هل يحتاج إلى هذا السيف في قتله وله مدخلية في تحقق القتل أم لا؟ فإنّه يكون آثما في الإرسال قطعا ، فإن اتفق احتياجه إليه وترتب القتل عليه يكون معاونا على الإثم أيضا وإلّا فلا.

ثم إذا أحطت بما ذكرنا تعلم ما ذهب إليه الأكثر من جواز بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا ما لم يتفق عليه وحرمته مع الاتفاق عليه.

أمّا الأوّل فلأنّ المقصود من البيع ليس جعل ذلك خمرا فلا يكون إعانة على الإثم. وذلك مثل حمل التاجر المتاع إلى بلد للتجارة مع علمه بأنّ العاشر يأخذ منه العشور.

وأمّا الثاني فلأنّ مع الاتفاق عليه أو شرطه يكون البائع بائعا بقصد الحرام فيكون آثما وإن لم يكن لأجل المعاونة على الإثم لو لم يتحقق جعله خمرا.

ومن هذا يظهر عدم الحاجة إلى التأويلات البعيدة في الروايات المصرّحة بجواز بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا والخشب لمن يجعله برابط وإجارة السفينة لمن يحمل الخمر والخنزير ، بل تبقي على ظاهرها.

ومن ذلك أيضا يظهر سرّ ما ورد في روايات كثيرة من جواز بيع المتنجّس من الذمي والميتة لمستحلّ الميتة مع كون الكفّار مكلّفين بالفروع ، فإنّه لا ضير في ذلك لأنّ البائع لم يفعل حراما.» (١)

أقول : أما ما أشار إليه في أثناء كلامه وفصّله في العائدة السابقة من أنّ الإتيان بمقدمة الحرام بقصد التوصل بها إليه يكون محرما شرعا وإن لم يترتب عليها ، فهو ممنوع وإلّا لزم

__________________

(١) عوائد الأيّام ، ص ٢٦ ، العائدة السابعة.

٣٥٦

كون الآتي بالحرام مع مقدماتها الكثيرة بقصده مرتكبا لمعاص كثيرة ومستحقا لعقوبات كثيرة ، وهو كما ترى.

وبالجملة فكما لا نسلّم وجوب مقدمة الواجب وجوبا شرعيا لا نسلّم حرمة مقدمة الحرام أيضا حرمة شرعية وإن وقعت بقصد التوصّل بها إليه.

نعم لا ننكر كونه متجريا ولكنه غير مفهوم العصيان المنتزع عن مخالفة الأمر والنهي المولويين في قبال مفهوم الإطاعة. والقول بكون الإعانة على الإثم والعدوان بنفسها محرما شرعيا بمقتضى العقل والآية وإن أوجب كون عمل المعين بنفسه محرما شرعيا غير عمل المعان لكن هذا العنوان لا ينطبق ولا يصدق على إتيان نفس المعان بمقدمات عمله كما لا يخفى. هذا. ولكن في خصوص باب الخمر يمكن القول بحرمة مقدمات تحصيلها وشربها أيضا ، لما ورد من لعن غارسها وحاملها والمحمولة إليه ، فتدبّر.

وأمّا ما ذكره الفاضل النراقي أخيرا من جعل الحكم بجواز بيع المتنجّس من الذمي والميتة من مستحلّها من باب عدم صدق الإعانة بدون القصد.

ففيه أنّ مقتضى ذلك جواز بيعهما من فسّاق المسلمين أيضا مع عدم القصد ولا يقولون بذلك إذ يحكمون بحرمة بيعهما منهم وبطلانه لعدم ماليتهما شرعا ، وإنّما حكموا بجواز بيعهما من مستحليهما بالروايات الخاصة الواردة فيهما ، فراجع. ولعله من جهة أنّ المستحلّ لهما وإن كان في متن الواقع مكلّفا بالفروع لكنه في حال أكلهما لا يرى نفسه متهتكا وعاصيا بخلاف المؤمن الفاسق. وكيف كان فليس جواز بيعهما من مستحلّهما ناشئا عن عدم قصد البائع للانتفاع المحرم.

التعرّض لخمسة أمور يمكن القول بدخالتها في صدق مفهوم الإعانة

ثمّ إنّك رأيت أنّه (قده) تعرّض لأربعة أمور يمكن القول بدخالتها في صدق مفهوم الإعانة :

الأوّل : قصد موجد المقدمة لتحقق المعان عليه.

الثاني : تحققه وترتبه عليها خارجا.

٣٥٧

الثالث : العلم أو الظن بتحققه.

الرابع : العلم بمدخلية فعل المعين في تحققه.

وقد صرّح (قده) باعتبار الأولين في صدقها وعدم اعتبار الأخيرين.

وأضاف الأستاذ الإمام (قده) إلى الأمور الأربعة أمرا خامسا ، وهو قصد المعان خصوص المنفعة المحرمة فعلا وأنّه هل يعتبر ذلك في صدق الإعانة أو يكفي في ذلك تخيّل المعين لقصده ذلك. (١)

فلنتعرّض للأمور الخمسة إجمالا :

هل القصد معتبر في مفهوم الإعانة أم لا؟

أمّا الأوّل فقد مرّ من المصنّف عن المحقّق الثاني والمحقّق السبزواري اعتبار قصد البائع في صدقها. واختار الأستاذ الإمام (قده) أيضا ذلك. قال :

«فإنّ الظاهر أنّ إعانة شخص على شيء عبارة عن مساعدته عليه وكونه ظهيرا للفاعل ، وهو إنّما يصدق إذا ساعده في توصّله إلى ذلك الشيء ، وهو يتوقّف على قصده لذلك.

فمن أراد بناء مسجد فكلّ من أوجد مقدمة لأجل توصّله إلى ذلك المقصد يقال : ساعده عليه وأعانه على بناء المسجد.

وأمّا البائع للجصّ والآجر وسائر ما يتوقف عليه البناء إذا كان بيعهم لمقاصدهم وبدواعي أنفسهم ، فليس واحد منهم معينا ومساعدا على البناء ولو علموا أنّ الشراء لبنائه. نعم لو اختار أحدهم من بين سائر المبتاعين الباني للمسجد لتوصّله إليه كان مساعدا بوجه دون ما إذا لم يفرّق بينه وبين غيره لعدم قصده إلّا الوصول بمقصده.

فالبزّاز البائع لمقاصده ما يجعل سترا للكعبة ليس معينا على البرّ والتقوى ولا

__________________

(١) المكاسب المحرمة للإمام الخميني (ره) ، ج ١ ، ص ١٤١ (ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢١٠) ، في النوع الثاني من القسم الثاني.

٣٥٨

البائع للعنب بمقصد نفسه ممن يجعله خمرا معين على الإثم ومساعد له فيه. بل لو أوجد ما يتوقف عليه مجّانا لغرض آخر غير توصّله إلى الموقوف لا يصدق أنّه أعانه وساعده عليه.

والتشبّث ببعض الروايات والآيات لنفي اعتباره مع أنّ الاستعمال فيها من قبيل الاستعارة ونحوها في غير محلّه.

وأمّا الصدق على إعطاء العصا والسكّين لمريد الظلم والقتل حينهما فلعلّه لعدم التفكيك في نظر العرف بين إعطائه في هذا الحال وقصد توصّله إلى مقصده.

ولهذا لو جهل بالواقعة لا يعدّ من المعاون على الظلم ، فلو أعطاه العصا لقتل حيّة واستعمله في قتل إنسان لا يكون معينا على قتل الإنسان. وبالجملة إنّ الصدق العرفي في المثال المتقدم لعدم التفكيك عرفا ، ولهذا لو اعتذر المعطي بعدم إعطائه للتوصّل إلى الظلم مع علمه بأنّه أراده لا يقبل منه.» (١)

أقول : قوله (قده) : «والتشبث ببعض الروايات» إشارة إلى ما يأتي الإشارة إليها ممّا استعمل فيها لفظ الإعانة ومشتقاتها فيها لا قصد فيه.

وقوله : «وأمّا الصدق على إعطاء العصا والسكّين» إشارة إلى ما يأتي عن المقدس الأردبيلي في آيات أحكامه.

وأمّا ما ذكره (قده) من المثال ببناء المسجد وغيره فيمكن أن يناقش بأنّ المتبادر من الإعانة على البرّ والأمور الدينية في الاصطلاح الدارج بين المتشرّعة هو الإقدام فيها تبرعا وقربة إلى الله ـ تعالى ـ وهذا اصطلاح خاصّ دارج بيننا ، فلا يجوز أن يجعل ملاكا ومقياسا لمفهوم الإعانة بحسب اللغة والعرف العامّ ، فلعلّها بحسب اللغة موضوعة لكلّ ما له دخل في تحقق الفعل من الغير ، والآية تحمل على المفهوم اللغوي والعرف العامّ وحمل الاستعمالات الكثيرة الواردة في الروايات على الاستعارة والمجازيّة يحتاج إلى دليل متقن.

ثمّ إنّه (ره) بعد اختيار اعتبار القصد في مفهوم الإعانة استدرك على كلامه هذا فقال :

«ثمّ إنّه على القول باعتبار القصد وتحقق الإثم في مفهومها لقائل أن يقول بإلقاء

__________________

(١) نفس المصدر ، ج ١ ، ص ١٤٢ (ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢١٢).

٣٥٩

القيدين حسب نظر العرف والعقلاء بالمناسبات المغروسة في الأذهان ، بأن يقال : إنّ الشارع الأقدس أراد بالنهي عن الإعانة على الإثم والعدوان قلع مادّة الفساد والمنع عن إشاعة الإثم والعدوان. وعليه لا فرق بين قصده إلى توصّل الظالم بعمله وعدمه مع علمه بصرفه في الإثم والعدوان. فالنهي عن الإعانة إنّما هو لحفظ غرضه الأقصى وهو القلع المذكور فيلقي العرف خصوصية قصد التوصّل.» (١)

أقول : فيرجع كلامه الأخير إلى أن القصد وإن أخذ في مفهوم الإعانة لغة لكن المنهي عنه شرعا في الحقيقة أعمّ من ذلك. (٢)

نقل كلام القائلين بعدم اعتبار القصد في صدق الإعانة ونقده

«ومن جملة القائلين بعدم اعتبار القصد في صدق الإعانة المحققان : الأردبيلي في زبدة البيان والإيرواني في الحاشية ...» (٣)

راجع زبدة البيان ، كتاب الحج. (٤)

وما ذكره (ره) في هذا الكتاب يخالف ما مرّ منه في مجمع الفائدة من التأمّل في المسألة لكونها معاونة وهي محرمة بالعقل والنقل.

وكيف كان فهو (ره) أيضا ممن لا يعتبر القصد بخصوصه في صدق مفهوم المعاونة.

وبالجملة ففي قبال من مضى ممن يعتبر القصد في صدقها ترى كثيرا من الأصحاب لا يعتبرونه فيها ، وهو الظاهر من بعض الأخبار.

ومن هذا القبيل المحقّق الإيرواني في حاشيته ، قال ـ بعد المناقشة في دلالة الآية على حرمة الإعانة كما يأتي بيانه ـ :

__________________

(١) نفس المصدر ، ج ١ ، ص ١٤٣ (ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢١٤).

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٢٩٨ إلى ٣٠٨.

(٣) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣١٣.

(٤) زبدة البيان ، ص ٢٩٧ ، كتاب الحج ، في تفسير الآية الثانية ـ آية التعاون ـ من النوع الثالث في أشياء من أحكام الحج.

٣٦٠