مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

من عدم الدليل على وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية كما مرّ ومن أن البناء على ذلك يوجب الوقوع في المخالفة الكثيرة بحيث يعلم من مذاق الشارع عدم رضايته بها بنحو يستكشف منه إيجاب الفحص او الاحتياط وقد مرّ الإشكال في ذلك وإن كان الأحوط ذلك لما يستفاد من رواية زيد الصائغ كما يأتي بيانه ولأنّ في تركه إضاعة كثير من أموال الفقراء مما ينافي مع حساب الله ـ سبحانه ـ للفقراء وجعل ما يكفيهم في أموال الأغنياء ، وللسيرة المستمرة على الفحص في أمثال المقام من باب الزكاة والخمس والاستطاعة للحج ونحوها ، وإن أمكن الإشكال في الأخير بعدم احراز اتصالها بعصر المعصومين عليهم‌السلام فتدبر.

محل البحث يكون من الشبهات الموضوعية

والمبحوث عنه هنا مسألتان :

الأولى : ما إذا شك في بلوغ الخالص في البين نصابا.

الثانية : ما إذا علم بكونه بمقدار النصاب إجمالا وشك في كونه بمقدار النصاب الأوّل او الثاني مثلا ولا يخفى أن الأصل في الأولى البراءة وأن الثانية من موارد الأقل والأكثر الاستقلاليين وحكمه أيضا البراءة في الزائد على المتيقن ، فالمسألتان من باب واحد فكلاهما من باب الشك في التكليف وحكمه البراءة. والفحص إن لزم في الشبهات الموضوعية يلزم في كلتيهما وان لم يلزم لم يلزم في واحد منهما ، فلا وجه للتفكيك بينهما في الحكم ... (١)

نقد كلام الشيخ في الرسائل

وفي الرسائل في مسألة الفحص في الشبهات الموضوعية أشار إلى المسألتين وقال :

«الفرق بين المسألتين مفقود إلّا ما ربما يتوهم من أن العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب بخلاف ما لم يعلم به. وفيه أن العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقن ودوران الأمر بين الأقل والأكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه تكليفا مستقلا الا ترى انه لو علم بالدين وشك في قدره لم يوجب

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٣٢٠.

٣٢١

ذلك الاحتياط والفحص مع أنه لو كان هذا المقدار يمنع من إجراء البراءة قبل الفحص ، لمنع منها بعده إذ العلم الإجمالي لا يجوز معه الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص». (١)

والإشكال الأخير من الشيخ قوي كما لا يخفى.

نقد كلام صاحب الجواهر في المسألة

هذا ولكن في الجواهر بعد الاعتراف بكون المقام من قبيل الأقل والأكثر الاستقلاليين وجريان البراءة في الزائد المشكوك فيه قال ما حاصله :

«لكن قد يقال : إن أصل البراءة لا يجري في حق الغير المعلوم ثبوته في المال ولا أصل يشخص كونه مقتضى النصاب الأوّل أو الثاني. ودعوى أن المائتين وأربعين نصابان والثمانين ثلاثة وهكذا واضحة الضعف بل الظاهر ان المائتين وأربعين نصابان واحد كالمائتين فحينئذ مع العلم بحصول سبب شركة الفقير ولا أصل يشخّصه لا يجدي أصل براءة ذمة المالك من دفع الزائد بل ما نحن فيه كالمال الذي خلط أجنبي معه مال شخص آخر ويمكن العلم بالمقدار». (٢)

وكأن مراده ـ قدس‌سره ـ ان مراتب النصب بسيطة وان الترديد بين النصابين كالترديد بين المتباينين وان كانا أقل وأكثر بحسب الصورة نظير الترديد بين القصر والإتمام.

وفيه ان المال كان ماله والفريضة الواجبة المجعولة مرددة بين الأقل والأكثر وليس الأكثر بنحو الارتباط ولذا يفرغ ذمته بإعطاء الأقل بمقداره ولو كان الواجب بحسب الواقع هو الأكثر فإجراء البراءة بالنسبة إلى المقدار المشكوك فيه بلا إشكال.

وكيف كان فمدرك القائل بوجوب التصفية في المسألة الثانية إما العلم الإجمالي بوجوب الزكاة وهو يقتضي اليقين بالفراغ وقد عرفت الجواب عنه وأن العلم ينحل إلى المتيقن والمشكوك فيه وإما السيرة المستمرة على الفحص في أمثال المقام من باب الزكاة والخمس والحج كما عرفت وعرفت ما فيها ، وإما رواية زيد الصائغ وقد مرّت وفيها : قلت : «وإن كنت لا

__________________

(١) فرائد الاصول ، ج ٢ ، ص ٤٤٤ ، طبع جديد.

(٢) الجواهر ، ج ١٥ ، ص ١٩٨.

٣٢٢

أعلم ما فيها من الفضة الخالصة إلّا أني أعلم أن فيها ما يجب فيه الزكاة؟ قال : فاسبكها حتى تخلص الفضة ويحترق الخبيث ثم تزكي ما خلص من الفضة بسنة واحدة» (١) بناء على انجبار ضعفها بالشهرة وإن مرّ الإشكال في ذلك ؛ والظاهر منها كون مورد السؤال صورة العلم بتعلق الزكاة والشك في الزائد أعني المسألة الثانية وإن كان يحتمل كون المورد صورة الشك في أصل التعلق بان يراد بقوله : «الّا أني أعلم أن فيها ما يجب فيه الزكاة» العلم بأصل وجود الفضة لا العلم بوجود النصاب وعلى هذا فيفهم من الرواية وجوب التصفية في المسألة الأولى وكذا في الثانية بالأوليّة ؛ بل على فرض كون المورد المسألة الثانية أيضا يمكن ان يقال : إن المسألتين لمّا كانتا من واد واحد وكلتاهما من باب الشك في التكليف فاذا دلّت الرواية على وجوب التصفية والفحص في الثانية يفهم منها وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بنحو الإطلاق وأن البراءة لا تجري إلّا بعده.

وكيف كان فالأحوط الفحص في المسألتين ، والمصنف لم يتعرض إلّا للأولى كما هو ظاهر عبارته فتدبر. (٢)

__________________

(١) الوسائل ، ج ٦ ، ص ١٠٤ ، الباب ٧ من أبواب زكاة الذهب والفضة ، الحديث ١.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٣١٩ إلى ٣٢٢.

٣٢٣
٣٢٤

الفصل العاشر :

الاستصحاب

وهو يشتمل على فوائد :

٣٢٥
٣٢٦

الفائدة الاولى :

هل يثبت باستصحاب السلب التام السلب الناقص؟

«محل البحث : لو ادّعى الدافع أنها رشوة ، والقابض أنها هديّة فاسدة لدفع الغرم عن نفسه ، فهل يقبل ادّعاء الدافع او القابض؟

ويبحث فيه عن أنه هل يثبت باستصحاب السلب التام ، السلب الناقص أم لا؟» (١)

لا يخفى أنّ ثمرة النزاع تظهر بعد تلف المال ، إذ قبله يجوز للدافع استرجاع العين كما يجب على الآخذ ردّها لاتفاقهما على فساد المعاملة. وقد قوى المصنف في هذه الصورة الضمان ، لعموم خبر «على اليد» بضميمة أصالة عدم التسليط المجّاني فيتحقق موضوعه. ويكون هذا حاكما على أصالة عدم سبب الضمان ، بل واردا عليها ورود الدليل الاجتهادي على الأصل العملي. هذا.

ولكن في حاشية المحقّق الإيرواني :

«بل الأقوى الثاني حذو ما تقدّم في الفرعين ، لأنّ أصالة عدم التسليط مجّانا لا تثبت أنّ اليد الخارجيّة ليست يدا مجّانيّة ، كما أنّ اصالة عدم وجود الهاشمي في الدار والكرّ في الإناء لا تثبت كون المولود غير هاشمي والماء الموجود غير كرّ ، فإذا لم يثبت السلب الناقص بالأصل الجاري في السلب التامّ لم يسع التمسّك بعموم «على اليد» فيرجع إلى استصحاب براءة الذمّة من البدل بعد التلف.» (٢)

أقول : محصّل ما ذكره أنّ إثبات السلب الناقص باستصحاب السلب التامّ من الأصول المثبتة ونحن لا نقول بها. ونفس السلب الناقص أعني عدم كون هذا التسليط الخارجي بنحو

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٣ ، ص ٢٢٥.

(٢) حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني ، ص ٢٧.

٣٢٧

المجّان ليس له حالة سابقة ، إذ من بدو وجوده وجد إمّا مجّانا أو بنحو المعاوضة ، اللهم إلّا على القول بصحّة استصحاب العدم الأزلي في السلب الناقص ولكن نحن منعنا ذلك ، لعدم عرفيّته.

ولكن في مصباح الفقاهة سلك في المقام مسلكا آخر فقال في مقام الرّد على المصنّف ما ملخّصه :

«يرد عليه أنّ خبر «على اليد» ضعيف السند وغير منجبر بشيء فلا يجوز الاستناد إليه.

والتحقيق أنّه ثبت في الشريعة المقدّسة عدم جواز التصرّف في مال المسلم إلّا بطيب نفسه ، وثبت فيها أيضا أنّ وضع اليد على مال الغير بدون رضى مالكه موجب للضمان للسيرة القطعيّة ، ومن الواضح أنّ وضع اليد على مال الغير في المقام محرز بالوجدان ، فإذا ضممنا إليه أصالة عدم رضى المالك بالتصرّف المجّاني تألّف الموضوع من الوجدان والأصل وحكم بالضمان ، وليس المراد من الأصل المذكور استصحاب العدم الأزلي بل المراد به استصحاب العدم المحمولي وهو واضح ، وإن قلنا بحجيّة الأوّل أيضا.» (١)

أقول : المصطلح عليه في العدم المحمولي السلب التامّ أعني سلب الشيء في قبال السلب الناقص أعني سلب شيء عن شيء والظاهر أنّه (ره) لم يرد لها في المقام ذلك ، بل أراد به السلب الناقص بانتفاء المحمول في قبال السلب بانتفاء الموضوع المستعمل في استصحاب الأعدام الأزليّة. فأراد أنّ هذا الشيء كان للغير سابقا بنحو القطع وأنّه لم يكن في السابق موردا لرضاه في التصرّف فيه فيستصحب هذا السلب فتدبّر. هذا. (٢)

الفائدة الثانية :

موارد استصحاب مجهولي التاريخ

«إذا علم بتحقق البلوغ وتعلق الزكات بالمال وشك في تقدم أحدهما على الآخر فما هو الحكم؟

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٢٧٦.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٣ ، ص ٢٢٥ إلى ٢٢٧.

٣٢٨

ويبحث فيه عن استصحاب مجهولي التاريخ وما إذا علم تاريخ احد الحادثين.» (١)

وصور المسألة على ما ذكره المصنف عشرون صورة فانّ كلّا من البلوغ واشتداد الحبّ مثلا إمّا أن يجهل تاريخهما او يعلم تاريخ البلوغ ويجهل الآخر او بالعكس وفي الأخيرتين إما أن يكون زمان الشك نفس زمان معلوم التاريخ او بعده وان كان لا أثر لهذا كما عرفت فهذه خمس صور وفي كل من هذه الصور فالترديد إما بين السبق والتقارن او بين السبق واللحوق او بين التقارن واللحوق او بين السبق والتقارن واللحوق.

وعلى ما ذكره المصنف من اعتبار سبق البلوغ على وقت التعلق تكون جميع الصور موردا للشك في الحكم وأما على ما اخترناه من كفاية التقارن بينهما من جهة أن كليهما شرطان للتعلق في عرض واحد ولا دليل على لزوم تقدم أحد الشرطين على الآخر ، ففي خمس من الصور يعلم بالتعلق قطعا مثلا إذا علم بأن البلوغ إما سابق على اشتداد الحبّ أو مقارن له ، فهو يعلم بالتعلق في كلا الفرضين بلا إشكال.

وكيف كان فقبل بيان حكم صور المسألة لا بأس باشارة اجمالية إلى المسألة الأصولية في المقام.

فنقول : لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق رأسا وبين أن يشك في ارتفاعه في جزء من الزمان اللاحق مع القطع بارتفاعه بعد ذلك ، فلو علم بوجود حادث في زمان وشك في وجوده قبل هذا الزمان ، يستصحب عدمه إلى الزمان المتأخر ويلزمه عقلا تأخر حدوثه ويعبر عن ذلك في كلمات الأصحاب بأصالة تأخر الحادث.

ثم إن هذا الحادث المشكوك تقدمه وتأخره قد يلاحظ بحسب أجزاء الزمان وقد يلاحظ بحسب حادث آخر ، والحادثان إما ان يكونا مجهولي التاريخ او يعلم تاريخ أحدهما.

ففي مجهولي التاريخ لا يجري استصحاب العدم اصلا بناء على عدم إجرائه في أطراف العلم الإجمالي أو يجري في كليهما ويتعارضان.

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٨٤.

٣٢٩

وأما في ما علم تاريخ أحدهما فيستصحب عدم مجهول التاريخ إلى زمان معلوم التاريخ ، وتترتب آثار العدم واما آثار العناوين الوجودية الملازمة لهذا العدم كالحدوث واللحوق والتقارن فلا تترتب إلا بناء على حجية الأصل المثبت او خفاء الواسطة او إحراز التلازم بحسب الجعل بين جعل آثار هذا العدم وجعل آثار العنوان الوجودي الملازم له.

وربما يتوهم جريان الأصل في معلوم التاريخ أيضا بأن يستصحب عدمه إلى الزمان الواقعي للآخر.

وأجيب بأن نفس وجوده غير مشكوك فيه في زمان واما وجوده في زمان الآخر ، فليس مسبوقا بالعدم.

أقول : لو كان الأثر للوجود المقيد بكونه في زمان الآخر ، فعدمه بنحو السلب التام له حالة سابقة ولكنه ليس معارضا لاستصحاب العدم في مجهول التاريخ لعدم التقيد في هذا الطرف فتدبر فان للبحث عن المسألة مقاما آخر.

وفي الرسائل بعد اختيار استصحاب العدم في مجهول التاريخ وترتيب آثار العدم لا التأخر ونحوه من العناوين الوجودية الملازمة قال :

«يظهر من الأصحاب هنا قولان آخران : أحدهما جريان هذا الأصل في طرف مجهول التاريخ واثبات تأخره عن معلوم التاريخ بذلك ، وهو ظاهر المشهور وقد صرّح بالعمل به الشيخ وابن حمزة والمحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم في بعض الموارد ، منها مسألة اتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرة رمضان واختلافهما في موت المورث قبل الغرة أو بعدها فإنهم حكموا بأن القول قول مدّعي تأخّر الموت ... ، الثاني عدم العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما». (١)

والحق ما ذكره الشيخ من جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ وعدم اثبات وصف التأخر ونحوه ولعلّ التزام المشهور باثباتها كان من جهة أن الاستصحاب كان عندهم من قبيل الأمارات الظنية الثابتة حجيتها بسيرة العقلاء وعملهم. (٢)

__________________

(١) فرائد الاصول ، ج ٣ ، ص ٢٥٠ ، طبع جديد.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ٣ ، ص ٨٣ إلى ٨٥.

٣٣٠

الفائدة الثالثة :

الاستصحاب في الأحكام الكلية

«محل البحث : حكم بيع الأعيان المتنجّسة. ويبحث فيه عن جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة وعدمه». (١)

أقول : الاستصحاب في أمثال المقام يمكن أن يقرّر بوجهين :

الأوّل : أن يجعل مورده الموضوع الجزئي الخارجي كأن يشار إلى الطين أو الصبغ الخارجي المتنجّس مثلا فيقال : هذا الجسم الخارجي كان جائز البيع قبل تنجّسه فيستصحب فيه ذلك بعد تنجّسه.

الثاني : أن يجعل مورده الموضوع بالنحو العام فيقال : الصبغ المتنجّس كان جائز البيع قبل تنجّسه فيستصحب فيه ذلك بعد تنجّسه.

والمتصدي لإجرائه في الأوّل ، المكلّف الشخصي بعد إفتاء الفقيه به. وفي الثاني الفقيه المفتي.

ولا يخفى أنّ الشبهة في كلا التقريرين ترجع إلى الجهل بالحكم الكلي الشرعي ويكون رفع الشبهة بيد الشارع الأقدس. وكأنّ المورد الثاني تعبير عن قضايا جزئية متكثرة بقضية واحدة كليّة.

ونظير المقام استصحاب نجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيره بنفسه واستصحاب نجاسة الماء المتمّم كرّا ، واستصحاب حرمة وطي الحائض إذا انقطع دمها ولم تغتسل بعد.

واستشكلوا في الاستصحاب في أمثال المقام بعدم بقاء الموضوع وإختلاف القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فليس استصحابا ، بل هو من قبيل إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وأجيب عنه بأنّ الموضوع في الاستصحاب يؤخذ من العرف لا من العقل الدقي الفلسفي ، والعرف يرى اتّحاد القضيّتين ، ولا سيّما إذا كان مورد الاستصحاب الموضوع الجزئي الخارجي.

هذا كلّه على فرض جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٨٨.

٣٣١

وفي مصباح الفقاهة في المقام ما هذا لفظه :

«إذا سلّمنا جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة الإلهيّة وأغمضنا عن معارضته دائما باصالة عدم الجعل ـ كما نقّحناه في الأصول ـ فلا نسلّم جريانه في المقام لأنّ محلّ الكلام هو الجواز الوضعي بمعنى نفوذ البيع على تقدير وجوده. وعليه فاستصحاب الجواز بعد التنجّس يكون من الاستصحاب التعليقي الذي لا نقول به.» (١)

أقول : كلامه ـ طاب ثراه ـ يرجع إلى أمرين : الأوّل : الترديد في جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

الثاني : كون الاستصحاب في المقام تعليقيّا وهو لا يقول به.

ترديد المحقق الخوئي (ره) في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية :

أمّا الأمر الأوّل : فمحصّل كلامه ـ على ما في مصباح الأصول ـ :

«التفصيل في حجيّة الاستصحاب بين الأحكام الكليّة الإلهيّة وبين غيرها من الأحكام الجزئيّة والموضوعات الخارجيّة ، فلا يكون حجّة في القسم الأوّل لا لقصور الروايات الواردة ، بل لأنّ الاستصحاب في الأحكام الكليّة معارض بمثله دائما كما قال به الفاضل النراقي (ره).

بيان ذلك أنّ الشكّ في الحكم الشرعي تارة يكون في بقاء أصل الجعل الشرعي بعد العلم به فيجري استصحاب بقائه وعدم نسخه وإن كان إطلاق قوله : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» يغنينا عن هذا الاستصحاب.

واخرى يكون الشكّ في بقاء المجعول بعد فعليّته بتحقّق موضوعه. وهذا على قسمين : لأنّه إمّا أن يكون لأجل الشكّ في دائرة المجعول سعة وضيقا كما إذا شكّ في حرمة وطى الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال. ومرجع هذا إلى الشكّ

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ١٣٧.

٣٣٢

في سعة الموضوع وضيقه وأنّ الموضوع للحرمة واجدة الدم أو المحدثة بحدث الحيض بإطلاقها ، ويسمى ذلك بالشّبهة الحكميّة.

وإمّا أن يكون لأجل الشكّ في الأمور الخارجيّة كما إذا شكّ في انقطاع الدم وعدمه ، ويعبّر عن ذلك بالشبهة الموضوعيّة.

أمّا الثانية فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها.

وأمّا الشبهة الحكميّة فإن كان الزمان فيها مفردا والحكم انحلاليا كحرمة وطي الحائض مثلا ـ فإنّ للوطي أفرادا كثيرة بحسب امتداد الزمان من أوّل الحيض إلى آخره ـ فلا يمكن جريان الاستصحاب فيها ، لأنّ هذا الفرد من الوطي وهو الفرد المفروض وقوعه بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال لم تعلم حرمته من أوّل الأمر حتى نستصحب بقاءها ، والأفراد المتيقّن حرمتها قد مضى زمانها.

وأمّا إذا لم يكن الزمان مفردا عرفا كنجاسة الماء القليل المتمّم كرا ـ فإنّ الماء شيء واحد عرفا ونجاسته حكم واحد مستمر من أوّل الحدوث إلى الزوال ، ومن هذا القبيل الملكيّة والزوجيّة ـ فلا يجري الاستصحاب في هذا القسم أيضا لابتلائه بالمعارض ، إذ في الماء المتمّم مثلا لنا يقين متعلّق بالمجعول ويقين متعلّق بالجعل ، فبالنظر إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة ، وبالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدم النجاسة وذلك لليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الإسلام ، والمتيقّن إنّما هو جعلها للقليل غير المتمّم ، أمّا جعلها للقليل المتمّم فهو مشكوك فيه فيستصحب عدمه ، ويكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر فيؤخذ بالقدر المتيقّن أعني الأقل. وكذلك الملكيّة والزوجيّة ونحوهما ، فإذا شككنا في بقاء الملكيّة بعد رجوع أحد المتبايعين في المعاطاة فباعتبار المجعول وهي الملكيّة يجري استصحاب بقائها وباعتبار الجعل يجري استصحاب عدم الملكيّة لتماميّة أركان الاستصحاب في كليهما ...» (١)

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٣٦ الى ٣٨ ، التفصيل الثالث في حجيّة الاستصحاب.

٣٣٣

تقرير إشكال التعارض بين الاستصحابين

أقول : ما ذكره من منع جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة لمعارضته بمثله دائما أمر أصرّ عليه هو (ره) في مباحثه الفقهيّة. وقد يستفاد من ظاهر كثير ممن حكى عنه عدم جريانه فيها بنحو الإطلاق ، ولكن المذكور في مصباح الأصول اختصاص المنع بالأحكام الإلزاميّة ، فلا مانع من جريانه في الإباحة وكذا في الطهارة من الحدث والخبث ، إذ هما لا تحتاجان إلى الجعل ، فإنّ الأشياء كلّها على الإباحة والطهارة ما لم يجعل خلافهما.

ثمّ قال :

«فتحصّل أنّ المختار في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة هو التفصيل على ما ذكرنا لا الإنكار المطلق كما عليه الأخباريون والفاضل النراقي ولا الإثبات المطلق كما عليه جماعة من العلماء.» (١) هذا.

والشيخ الأعظم (ره) حكى في الرسائل في آخر التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب عن بعض معاصريه في تقريب ما ذكره من تعارض الاستصحابين بما لفظه :

«إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة وعلم أنّه واجب إلى الزوال ولم يعلم وجوبه فيما بعده فنقول : كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى الزوال وبعده معلوما قبل ورود أمر الشارع وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة وعلم ارتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال وصار بعده موضع الشكّ ، فهنا شكّ ويقينان وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.

فإن قلت : يحكم ببقاء اليقين المتّصل بالشكّ وهو اليقين بالجلوس.

قلنا : إنّ الشكّ في تكليف ما بعد الزوال حاصل قبل مجيء يوم الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع فشكّ يوم الخميس مثلا حال ورود الأمر في أنّ الجلوس

__________________

(١) مصباح الاصول ، ج ٣ ، ص ٤٨.

٣٣٤

غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا؟ واليقين المتّصل به هو عدم التكليف فيستصحب ويستمرّ ذلك إلى وقت الزوال.» انتهى. (١)

جواب الشيخ قدس سرّه عن إشكال التعارض بين الاستصحابين

وأجاب الشيخ (ره) عن إشكال المعارضة بما محصّله : «أنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلّقه فلا مجال لاستصحاب الوجود للقطع بارتفاع ما علم وجوده والشكّ في حدوث ما عداه. وإن لوحظ الزمان ظرفا له لا قيدا فلا مجال لاستصحاب العدم لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان وكونه أزيد ـ والمفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه ـ فلا وجه لاعتبار العدم السابق.

والحاصل : أنّ الموجود في الزمان الأوّل إن لوحظ مغايرا للموجود الثاني فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل فلا مجال لاستصحاب الموجود. وإن لوحظ متحدا مع الثاني إلّا من حيث ظرفه الزماني فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الوجود لأنّه انقلب الوجود. وكأن المتوهّم ينظر في استصحاب الوجود إلى كون الموجود أمرا قابلا للاستمرار ، وفي استصحاب العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود.» (٢)

وراجع في هذا المجال التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب من الكفاية. (٣)

ولكن أجاب في مصباح الأصول عمّا ذكره الشيخ (ره) بما محصّله :

«بقاء المعارضة مع ذلك ، إذ بعد البناء على المسامحة العرفيّة وبقاء الموضوع

__________________

(١) مناهج الأحكام والأصول للمحقّق النراقي ، ص ٢٣٩ وراجع أيضا فرائد الأصول ، ص ٣٧٦ (ط. اخرى ، ج ٢ ، ص ٦٤٧).

(٢) فرائد الأصول ، ص ٣٧٧ (اخرى ، ج ٢ ، ص ٦٤٨) ، التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب.

(٣) كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٣١٤ وما بعدها.

٣٣٥

عرفا يقال : إنّ هذا الموضوع الواحد كان حكمه كذا وشكّ في بقائه فيستصحب. ويقال أيضا : إنّ هذا الموضوع لم يكن في أوّل الأمر محكوما بحكم لا مطلقا ولا مقيّدا بحال ، والقدر المتيقّن جعل الحكم له حال كونه مقيّدا بالزمان الأوّل فيبقى جعل الحكم له بالنسبة إلى الحال الثاني مشكوكا فيه فيستصحب عدمه.» (١)

نقد جواب الشيخ رحمه‌الله عن إشكال المعارضة

أقول : ربّما ينسبق إلى الذهن عاجلا صحّة ما ذكره من المعارضة لأنّ الاستصحابين في عرض واحد لا تقدّم لأحدهما على الآخر حتى يرتفع به موضوع الآخر تعبّدا. وملاحظة بقاء الموضوع عرفا واستصحاب حكمه لا يمنع عن ملاحظته ثانيا بلحاظ آخر ، فيلحظ أنّه لم يكن الموضوع في الأزل محكوما بحكم أصلا لا مطلقا ولا مقيّدا ، والمتيقّن جعل الحكم له في الزمان الأوّل فيبقى في الزمان الثاني على أصل العدم.

وما ذكره الشيخ (ره) من أنّ المفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه فلا وجه لاعتبار العدم السابق مرجعه إلى إجراء استصحاب الوجود ومانعيّته عن جريان استصحاب العدم.

ويرد عليه : أنّه لو فرض تقدّم رتبة استصحاب الوجود صار الحكم الأوّل بضميمة هذا الاستصحاب وبركته مانعا عن اللحاظ الثاني واستصحاب العدم ولكن لا دليل على تقدّمه. والمفروض عدم شمول دليل الحكم أيضا للزمان الثاني وإلّا لم نحتج إلى الاستصحاب ، وعلى هذا فأيّ مانع عن جريان استصحاب العدم؟

نعم لو كان الشكّ في أحد الاستصحابين مسبّبا عن الشكّ في الآخر صار جريان الاستصحاب في السبب رافعا للشكّ عن المسبّب تعبّدا.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ نظر الشيخ الأعظم (ره) إلى أنّ المقام من هذا القبيل ، بتقريب أنّ الشكّ في المجعول في الزمان الثاني مسبّب عن الشكّ في طول عمر المجعول الأوّل وقصره وباستصحاب الوجود يثبت طول عمره وأنّ المتعلّق للحكم في الزمانين أمر واحد محكوم بحكم واحد فيرتفع الشكّ عن حكم الزمان الثاني تعبّدا. هذا.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٣٩ ، في الاستصحاب.

٣٣٦

حكاية الاستاذ الإمام (ره) جوابا عن إشكال المعارضة ونقده الجواب

وقد حكى الأستاذ الإمام قدس‌سره في الرسائل هذا الجواب عن مجلس بحث أستاذه العلّامة الحائري ـ طاب ثراه ـ ثمّ استشكل عليه بوجهين ومحصّلهما :

«أمّا أوّلا : فلأنّ الشكّ في وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ليس ناشئا عن الشكّ في بقاء وجوب الجلوس الثابت قبله. بل منشأه إمّا الشكّ في أنّ المجعول هل هو ثابت لمطلق الجلوس أو للجلوس قبل الزوال ، فليس شكّه ناشئا عن الشكّ في البقاء بل عن كيفيّة الجعل ، وإمّا الشكّ في جعل وجوب مستقلّ للموضوع المتقيّد بما بعد الزوال.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الشرط في حكومة الأصل السببي على المسبّبي أن يكون الأصل الحاكم رافعا للشكّ عن المسبّب تعبّدا بأن يكون المستصحب في الأصل المسبّبي من الآثار الشرعيّة للسبب كاستصحاب كرّيّة الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به فلا يكفي في الحكومة مجرّد كون أحد الشكين ناشئا عن الشكّ في الآخر. فاستصحاب وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال لا يثبت كون الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال واجبا إلّا على القول بالأصل المثبت بل حاله أسوأ من الأصل المثبت.» (١)

جواب الأستاذ الإمام (ره) عن إشكال المعارضة بين الاستصحابين

ثمّ تصدّى هو بنفسه للجواب عن الإشكال بوجه تحقيقي حاكيا إجماله عن كتاب الدرر لأستاذه ومحصّله :

«أنّ المعارضة بين الأصلين إنّما تتحقّق إذا كان موضوع حكمهما واحدا وكان مفاد أحد الأصلين حكما مناقضا للحكم الآخر وفي التناقض يشترط حفظ وحدات منها وحدة الموضوع ، فحينئذ نقول : «إنّ الاستصحابين في المقام إمّا أن يكون موضوعهما واحدا أو لا :

__________________

(١) الرسائل للإمام الخميني (ره) ، ج ١ ، ص ١٦٢ ، في جواب شيخنا العلّامة وما فيه.

٣٣٧

فعلى الأوّل تقع المعارضة بينهما لو فرض جريانهما ، ولكن فرض وحدة الموضوع موجب لسقوط أحدهما لأنّ الموضوع إمّا نفس الجلوس فلا يجري فيه الاستصحاب العدمي لأنّ عدم وجوب الجلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال ، وأمّا الجلوس المتقيّد ببعد الزوال أو بقبل الزوال فلا يجري الاستصحاب الوجودي.

وأمّا على الثاني ، أعني كون الموضوع للأصل الوجودي نفس الجلوس وللأصل العدمي الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ، فلا منافاة بينهما ، لإمكان حصول القطع بوجوب الجلوس بعد الزوال بما أنّه جلوس بحيث يكون تمام الموضوع للوجوب نفس الجلوس ، وعدم وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال بحيث يكون الجلوس جزء للموضوع. كما أنّ الإنسان ناطق بما أنّه إنسان لا بما أنّه ماش مستقيم القامة. وبالجملة فالجلوس بعد الزوال واجب بما أنّه جلوس ولا يكون واجبا بما أنّه متقيّد بما بعد الزوال.

لا يقال : المطلق إذا كان واجبا سرى بإطلاقه إلى جميع الحالات ومنها المقيّد بما بعد الزوال فيصير معارضا للمقيّد.

فإنّه يقال : ليس معنى الإطلاق ضمّ القيود إلى المطلق ودخلها في الحكم بل معناه رفض جميع القيود وكون نفس الطبيعة موضوعا للحكم.» (١) هذا.

وتفصيل المسألة يطلب من الكتب الأصولية.

الفائدة الرابعة :

نكات حول ما مرّ عن مصباح الاصول

ولنشر هنا إلى نكات جزئيّة حول ما مرّ عن مصباح الأصول :

الأولى : أنّ ما ذكره من الفرق بين مثال وطي الحائض ومثال نجاسة الماء المتمّم كرّا وجعل الزمان في الأوّل مفردا للموضوع لا يخلو من إشكال ، إذ في كلامه خلط بين موضوع

__________________

(١) الرسائل للإمام الخميني (ره) ، ج ١ ، ص ١٦٣ و١٦٤.

٣٣٨

الحكم ومتعلّقه. فالمرأة الحائض في المقام موضوع للحرمة وفعل المكلّف أعني الوطي متعلّق لها. وإسناد الحرمة إلى كليهما صحيح شائع في الاستعمالات. وعلى هذا فيمكن أن يشار إلى المرأة الخارجيّة ويقال : هذه المرأة كانت محرّمة الوطي قبل انقطاع دمها ثمّ شكّ في ذلك فيستصحب حكمها ، والموضوع وهي المرأة باقية في الحالين.

الثانية : أنّ ما ذكره من كون الأشياء بالذات على الإباحة والطهارة بقسميها وأنّهما لا تحتاجان إلى الجعل قابل للمنع ، إذ الأصل في التصرّف في مال الغير وسلطته ومنه أموال مالك الملوك بأقسامها هو الحظر وعدم جواز التصرّف ، يحكم بذلك العقل الصريح ما لم يرد من المالك الترخيص فالترخيص يكون بالجعل.

وكون الأصل على الطهارة من الحدث يستلزم عدم احتياج الإنسان المخلوق ساعة ـ لو فرض ـ إلى الوضوء لصلاته ، وهذا مخالف لظواهر الأدلّة وارتكاز المتشرّعة ، فيعلم بذلك أنّها أمر وجودي يتحصّل بالوضوء الذي جعله الله ـ تعالى ـ سببا لها.

نعم في الطهارة من الخبث يمكن أن يقال بأنّ الأصل في الأشياء هي النظافة والطهارة وأنّ القذارة أمر يعرض لها ، فتأمّل.

الثالثة : ما يرى في المقام من التعبير عن أصل العدم باصالة عدم الجعل ، ربما يناقش فيه بأنّ الجعل من أفعال الحاكم وليس حكما شرعيّا حتى يستصحب هو أو عدمه. وإثبات عدم الحكم باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت.

ولكن يمكن أن يجاب عن ذلك أوّلا بكون الجعل والمجعول تعبيرين عن حقيقة واحدة ولا يتفاوتان إلّا بالإضافة والاعتبار ، فهذه الحقيقة الواحدة بالإضافة إلى الحاكم يعبّر عنه بالجعل وبالإضافة إلى المتعلّق يعبر عنه بالحكم.

وثانيا : أن مصبّ الاستصحاب نفس المجعول أو عدمه ، والتعبير بالجعل وقع مسامحة فيراد بذلك المجعول الكلي الإنشائي قبل أن يتحقّق موضوعه خارجا ويصير فعليّا بذلك. والحكم الإنشائي له وجود اعتباري له أثر عملي عند تحقّق موضوعه فيمكن استصحاب وجوده وعدمه ، وما هو المعتبر في المستصحب أن يكون حكما شرعيّا أو موضوعا ذا حكم أو عدمهما ، ولا يعتبر وجود الأثر العملي في السابق بل يكفي تحقّقه حين الاستصحاب.

٣٣٩

وفي المقام يترتّب على استصحاب عدم المجعول في مرحلة الإنشاء عدم الإلزام والتكليف فعلا ، فتدبّر.

هذا كلّه ما يرتبط بالأمر الأوّل من الأمرين اللذين أشار إليهما في مصباح الفقاهة.

الفائدة الخامسة :

هل يكون الاستصحاب في المقام تعليقيا؟

الأمر الثاني : أنّ محلّ الكلام في المقام هو الجواز الوضعي بمعنى نفوذ البيع وصحّته فيكون الاستصحاب تعليقيّا ولا نقول به.

أقول : قد ذكروا في محلّه أنّ المستصحب إمّا أن يكون أمرا موجودا بالفعل ثمّ شكّ في بقائه كما في العصير الحلال إذا نشّ فشكّ في بقاء حلّيته ، ويسمّى الاستصحاب فيه تنجيزيّا ، ولا إشكال في جريانه بناء على جريانه في الأحكام الكليّة.

وإمّا أن يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر آخر ، مثل أنّ العنب محكوم بحرمة مائه على تقدير غليانه ثمّ صار زبيبا فشكّ في بقاء هذه الحرمة التقديرية له فهل يجري استصحابها أم لا؟ فيه خلاف بين الأعلام. ويسمّى هذا بالاستصحاب التعليقي.

فقد يقال : إنّه لا يعتبر في الاستصحاب أزيد من التحقّق سابقا والشكّ في البقاء ، ومن المعلوم أن تحقّق كلّ شيء بحسبه ، فالعنب مثلا محكوم بحكمين : أحدهما تنجيزي وهي حلّية مائه فعلا ، والثاني تقديري وهي حرمته على تقدير الغليان ، وهذا الوجود التقديري أيضا أمر متحقّق في نفسه في مقابل عدمه بحيث يعدّ من أحكام الشرع المبين للعنب.

وعلى هذا فكما يجوز أن يستصحب الحكم الأوّل عند الشكّ لا مانع من استصحاب الحكم الثاني أيضا أعني الحرمة على تقدير.

هذا مع قطع النظر عن الإشكال في المثال بما قيل من أنّ العنب والزبيب أمران متغايران فلا بقاء للموضوع حتى بنظر العرف أيضا ، وأنّ الزبيب لا ماء له حتى يغلي إلّا ما دخل فيه من الخارج فيفترق عن ماء العنب الكامن في ذاته.

٣٤٠