مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

اجتهد واستنبط.

وعلى هذا فعلى النوّاب في مجلس الشورى أيضا الرجوع في تخطيطهم وبرامجهم السياسية إلى فتاوى المجتهد الواجد للشرائط. والأحوط بل الأقوى في المسائل الخلافية رعاية الأعلميّة أيضا على ما يقتضيه ارتكاز العقلاء وسيرتهم ، كما أنّه المتعيّن لأمر الولاية أيضا إذا وجد سائر الشرائط كما مرّ.

وقد استقرّت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والأمصار من جميع الأمم والمذاهب على رجوع الجاهل في كلّ فنّ إلى العالم الخبير المتخصّص فيه إذا كان ثقة ، وقد يعبّر عنه بأهل الخبرة.

فالمريض يرجع إلى الطبيب الحاذق الثقة ويعمل برأيه. والمتعاملان يرجعان في معاملاتهما إلى المتخصص في معرفة الأمتعة وقيمها. وهكذا في سائر الأمور التخصصية.

بل لا يمكن أن يستقيم نظام بدون التقليد إجمالا ، إذ لا يوجد مجتمع يستطيع جميع أفراده تحصيل المعرفة التفصيلية بجميع ما يتّصل بحياتهم من الهندسة والطبّ وأصول الصناعات والحرف الضروريّة.

واستمرّت سيرة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام أيضا على استفتاء بعضهم من بعض والعمل بقوله وفتياه من دون ردع منهم عليهم‌السلام.

والتقليد المذموم في الكتاب العزيز هو تقليد الأبناء للآباء أو الأتباع للرؤساء تعصّبا ، أي تقليد الجاهل لجاهل مثله أو لفاسق غير مؤتمن ، لا رجوع الجاهل في كل فنّ إلى العالم الخبير فيه إذا كان ثقة ؛ فإنّه أمر فطري ضروري لا محيص عنه للمجتمعات وإن كانت في أعلى مراتب الرقى. وفي الحقيقة ليس هذا تقليدا بل كسب علم بنحو الإجمال.

فالمجتهد يعرف حكم الواقعة بنحو التفصيل ، والمقلّد برجوعه إلى العالم الثقة يكسب العلم أو الوثوق به إجمالا ، ويعمل بما حصل له من العلم.

والإشكال في السيرة بأنّها إنّما تفيد إذا اتصلت بعصر الأئمة عليهم‌السلام ولم يردعوا عنها ، والاجتهاد بنحو يوجد في أعصارنا من إعمال الدقّة واستنباط الفروع من الأصول الكليّة لم يعهد وجوده في تلك الأعصار ، مدفوع. إذ التفريع على الأصول ، وكذا مقايسة الأخبار

٢٦١

المتعارضة وإعمال الترجيح فيها كان متعارفا بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام أيضا ، كما يشهد بذلك قوله عليه‌السلام : «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا» (١) هذا.

ما استدلّوا به على حجّيّة فتوى الفقيه

واستدلّوا على حجّيّة فتوى الفقيه مضافا إلى السيرة المذكورة ببعض الآيات والروايات أيضا :

١ ـ فمن الآيات قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (٢)

بتقريب أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول وترتيب الأثر عليه وإلّا وقع لغوا ، وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه ، إذ لا خصوصيّة لسبق السؤال.

٢ ـ ومنها قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.)(٣)

بتقريب أنّ الظاهر من الآية بمقتضى كلمة «لو لا» وجوب النفر ، فتجب الغاية وغاية الغاية أيضا ، أعني التفقّه والإنذار وحذر القوم ، ولأنّ طبع الحذر يناسب اللزوم. والمراد بالإنذار بقرينة لفظ التفقّه في الدين هو بيان الأحكام الشرعية ، فذكر اللازم وأريد الملزوم. فتدل الآية على وجوب ترتيب الأثر على قول الفقيه المبيّن للأحكام. وإن شئت قلت إذا وجب بيان الأحكام وجب ترتيب الأثر وإلّا وقع لغوا.

٣ ـ ومنها قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.)(٤)

فإنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول بعد الإظهار وإلّا لزم اللغو.

٤ ـ ومنها قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم الخليل : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٤١ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥١.

(٢) سورة النحل (١٦) ، الآية ٤٣.

(٣) سورة التوبة (٩) ، الآية ١٢٢.

(٤) سورة البقرة (٢) ، الآية ١٥٩.

٢٦٢

لَمْ يَأْتِكَ ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا). (١)

دلّت الآية على وجوب إطاعة العالم في علمه والمتابعة له. إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا الروايات فهي في غاية الكثرة وتنقسم إلى طوائف سبع.

الطائفة الأولى :

ما ورد في مدح الرواة والترغيب في نشر الأحاديث وبيان الأحكام الشرعية ، وهي كثيرة :

٥ ـ فمنها ما رواه الرضا عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم ارحم خلفائي» ـ ثلاث مرات ـ فقيل له : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : «الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنّتي ، فيعلّمونها الناس من بعدي.» (٢)

وقد مرّت أسانيد الحديث وشرحه في الفصل الثالث من الباب الخامس في الاستدلال به لإثبات ولاية الفقيه ، وقلنا هناك أنّه ليس المراد به الحفّاظ لألفاظ الحديث نظير المسجّلات ، بل المتفقّهون في أقواله وسنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فراجع ما حرّرناه هناك.

٦ ـ ومنها خبر عبد السّلام بن صالح الهروى ، قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : «رحم الله عبدا أحيا أمرنا.» قلت : وكيف يحيي أمركم؟ قال : «يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس.» (٣)

وتقريب الاستدلال بالحديثين يظهر ممّا مرّ وإن كان في الجميع إشكال يأتي بيانه.

الطائفة الثانية من الروايات :

ما ورد من الأئمة عليهم‌السلام من إرجاع شيعتهم إلى الفقهاء منهم بنحو العموم :

٧ ـ منها ما في توقيع صاحب الزمان عليه‌السلام الذي رواه الصدوق في كتاب كمال الدين ، عن محمد بن محمد بن عصام الكلينى ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني ، عن إسحاق بن يعقوب ، قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل

__________________

(١) سورة مريم (١٩) ، الآية ٤٣.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٦٦ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٣.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٢ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١١

٢٦٣

أشكلت عليّ ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام ، وفيه : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم.» ورواه الشيخ أيضا في الغيبة بسنده عن الكليني. ورواه الطبرسي في آخر الاحتجاج أيضا عنه. (١)

وقد مرّ البحث في سند الحديث ومتنه في الفصل الثالث من الباب الخامس في إثبات ولاية الفقيه ، وقلنا هناك أنّ إسحاق بن يعقوب مجهول ، وأنّ الرواية وإن دلّت على جلالته ولكن الراوي لها نفسه. ونقل الكليني عنه وإن أشعر باعتماده عليه ولكن الرواية لم تذكر في الكافي ولا ندري ما هو الوجه في ذلك؟!

وكيف كان فالظاهر أنّ المراد بالرواة في الحديث هم الفقهاء المستند علمهم وفقههم إلى روايات أهل البيت ، في قبال أهل القياس والاجتهادات الظنّيّة.

واحتمال العهد وعدم العموم في الحوادث لا يضرّ بالاستدلال بعد عموم التعليل ، أعني قوله عليه‌السلام : «فإنّهم حجّتي عليكم.» فهم بجعله عليه‌السلام صاروا حجّة علينا ، كما هو حجّة الله المطلق. واطلاقه يقتضي جواز الرجوع إلى فقهاء الشيعة والأخذ بقولهم ، سواء حصل العلم أو الوثوق من قولهم أم لا ، فيكون حجة مطلقا.

٨ ـ ومنها ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.» (٢)

ورواه الطبرسي أيضا في أواخر الاحتجاج عنه عليه‌السلام (٣).

والراوي لهذا التفسير هو الصدوق ـ عليه الرحمة ـ عن أبي الحسن محمد بن القاسم المفسّر الأسترآبادي الخطيب ، قال : حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن على بن محمد بن سيّار والثلاثة كلّهم مجاهيل وإن تكلّف في تنقيح المقال لتوثيقهم (٤).

__________________

(١) كمال الدين ، ص ٤٨٣ ، باب ذكر التوقيعات ... ، الحديث ٤ والوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٩٥ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

(٣) الإحتجاج للطبرسي ، ص ٢٥٥ (ـ طبعة اخرى ، ج ٢ ، ص ٢٦٣).

(٤) تنقيح المقال ، ج ٣ ، ص ١٧٥ و٣٣٦ ، وج ٢ ، ص ٣٠٥).

٢٦٤

ومجرّد رواية الصدوق عنهم لا يدلّ على توثيقهم ، فإنّه في غير الفقيه روى عن غير الموثقين كثيرا ، بل فيه أيضا.

وقد قطع جمع من الأعلام منهم ابن الغضائري بكون التفسير موضوعا ، وقالوا : إنّ فيه مطالب لا يناسب صدورها عن الإمام عليه‌السلام وأمّا دلالة الرواية فواضحة. وإطلاقها يدلّ على حجّية قول الفقيه الواجد للشرائط مطلقا ؛ حصل الوثوق من قوله أم لا. ولعلّ عدم إيجاب التقليد من جهة التخيير بينه وبين الاحتياط.

٩ ـ ومنها ما رواه الكشّي بسنده ، عن أحمد بن حاتم بن ماهويه ، قال : كتبت إليه ، يعني أبا الحسن الثالث عليه‌السلام أسأله عمّن آخذ معالم ديني ، وكتب أخوه أيضا بذلك ، فكتب عليه‌السلام إليهما : «فهمت ما ذكرتما ، فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله ـ تعالى ـ» (١)

والمراد بأخيه على ما قيل فارس أو طاهر بن حاتم. وأحمد بن حاتم مجهول.

وهل المراد بأخذ معالم الدين تعلّمها ، أو أخذها تعبّدا وإن لم يحصل العلم والوثوق؟ فعلى الثاني يكون وزان الخبر وزان الروايتين السابقتين. ولو أريد بمعالم الدين الأعم من الأصول والفروع كما هو الظاهر يرد عليه أنّ التقليد التعبّدي لا يجزي في الأصول إلّا أنّ تخصّص الرواية بالنسبة إلى أصول الدين بدليل آخر ، فتدبّر.

فهذه ثلاث روايات ضعيفة من حيث السند ، ولكن لها دلالة على حجّية قول الفقيه مطلقا وإن لم يحصل علم أو وثوق.

الطائفة الثالثة :

ما ورد من الأئمة عليهم‌السلام من إرجاع بعض الشيعة إلى بعض ، وبيان وثاقتهم وأمانتهم. وهي أيضا كثيرة :

١٠ ـ فمنها ما رواه الكليني ، عن محمد بن عبد الله الحميري ومحمد بن يحيى جميعا ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال سألته وقلت :

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١١٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

٢٦٥

من أعامل أو عمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له : العمري ثقتي ، فما أدى إليك عني فعني يؤدّي ، وما قال لك عني فعني يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون. وأخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال له : العمري وابنه ثقتان. فما أدّيا إليك عني فعني يؤدّيان ، وما قالا لك فعني يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان ...» ورواه الشيخ أيضا في كتاب الغيبة (١).

والرواية صحيحة وأحمد بن إسحاق شيخ القميّين من خواصّ أبي محمد عليه‌السلام.

والمراد بالعمري وابنه : عثمان بن سعيد العمري وابنه محمد بن عثمان ، وكلاهما من نوّاب الناحية المقدسة.

وهل الرواية في مقام جعل الحجيّة التعبّديّة لروايتهما أو لفتواهما ، أو تكون إمضاء لما استقرّت عليه السيرة من العمل بقول الثقة المأمون رواية أو فتوى ، وإنّما تعرضت لكون الرجلين من مصاديق ما استقرت عليه السيرة؟ وجهان.

ظاهر تعليل الإمام عليه‌السلام هو الثاني. إذ التعليل يقع عادة بذكر كبرى كليّة ارتكازيّة معلومة للمخاطب. وسبق العهد بكبرى كليّة شرعيّة بهذا المضمون بعيد جدا.

ثمّ هل تكون الرواية دليلا لحجيّة رواية الثقة أو فتواه ، أو كلتيهما؟ لعلّ الظاهر هو الأخير. إذ الفتوى في تلك الأعصار كانت قليلة المؤونة ؛ فإن ذكر الرواية بقصد الحكاية عن الإمام كان رواية ، وإن ذكرها بقصد الحكاية عمّا فهمه وأدركه من الحكم الشرعي كان فتوى.

١١ ـ ومنها ما رواه الكشي بسنده ، عن شعيب العقرقوفي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، ربّما احتجنا أن نسأل عن الشيء ، فمن نسأل؟ قال : «عليك بالأسدي ، يعني أبا بصير.» (٢)

١٢ ـ ومنها ما رواه الكشي أيضا ، عن عبد الله بن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه؟ فقال : «ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي ، فإنّه سمع من أبي وكان عنده

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٣٢٩ ، كتاب الحجة ، باب في تسمية من رآه ، الحديث ١ ؛ والوسائل ، ج ١٨ ، ص ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

٢٦٦

وجيها.» (١)

والرواية بنفسها شاهدة على أنّ رجوع بعض الأصحاب إلى بعض والاستفتاء منه كان أمرا متعارفا.

١٣ ـ ومنها ما رواه أيضا عن يونس بن يعقوب ، قال : كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : «أما لكم من مفزع؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟» (٢)

١٤ ـ ومنها ما رواه عن عليّ بن المسيّب الهمداني ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : «شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : «من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا.» قال عليّ بن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه (٣).

١٥ ـ ومنها ما رواه عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا عليه‌السلام ، قال : قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : «نعم.» (٤)

١٦ ـ ومنها ما رواه أيضا عن عبد العزيز بن المهتدي ـ وكان خير قمي رأيته ، وكان وكيل الرضا عليه‌السلام وخاصّته ـ قال : سألت الرضا عليه‌السلام فقلت : إني لا ألقاك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال : «خذ عن يونس بن عبد الرحمن.» (٥)

١٧ ـ ومنها ما رواه أيضا عن عبد العزيز بن المهتدي ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : إنّ شقّتي بعيدة فلست أصل إليك في كلّ وقت ، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال : «نعم.» (٦) أقول : الشقّة بالضم والتشديد : المسافة التي يشقّها المسافر.

١٨ ـ ويشبه هذه الطائفة ما رواه الكشي بسنده عن جميل بن دراج ، قال : سمعت

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٥ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٥ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٤.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

(٥) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٤.

(٦) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥.

٢٦٧

أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «بشّر المخبتين بالجنة : بريد بن معاوية العجلي ، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة. أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه. لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست.» (١)

١٩ ـ وما رواه بسنده عن سليمان بن خالد ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «ما أجد أحدا أحيا ذكرنا وأحاديث أبي إلّا زرارة ، وأبو بصير ليث المرادي ، ومحمد بن مسلم ، وبريد بن معاوية العجلي. ولو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفّاظ الدين وأمناء أبي على حلال الله وحرامه ...» (٢) هذا.

والظاهر أنّ هذه الأحاديث بكثرتها ليست في مقام جعل الحجّية التعبّديّة لخبر الثقة أو فتواه ، بل مفادها إمضاء السيرة المستمرة وبيان المصداق لموضوعها ، فتدبّر.

الطائفة الرابعة :

ما اشتمل على الأمر بالإفتاء والترغيب فيه :

٢٠ ـ فمنها ما رواه الشيخ الطوسي ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنّه قال لأبان بن تغلب : «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإني أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك.» (٣)

٢١ ـ ومنها ما رواه الكشي بسنده ، عن معاذ بن مسلم النحوي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟» قلت : نعم وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء ، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. ويجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم ، فأخبره بما جاء عنكم. ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو ، فأقول : جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا ، فأدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي : «اصنع كذا ، فإني كذا أصنع.» ورواه الصدوق في العلل أيضا. (٤)

٢٢ ـ ومنها ما في نهج البلاغة في كتابه إلى قثم بن عباس ، وهو عامله على مكّة : «أمّا بعد ،

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٤ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١.

(٣) الفهرست للطوسي ، ص ١٧ (طبعة اخرى ، ص ٤١).

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٦.

٢٦٨

فأقم للناس الحجّ ، وذكّرهم بأيّام الله واجلس لهم العصرين فأفت المستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم.» (١)

ويشبه هذه الطائفة ما في قصّة بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصعب بن عمير وعمرو بن حزم :

٢٣ ـ ففي سيرة ابن هشام في قصّة بيعة العقبة : «قال ابن إسحاق : فلمّا انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم مصعب بن عمير ... وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم في الدين.» (٢)

٢٤ ـ وفي السيرة ، والطبري : «وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرو بن حزم واليا على بني الحارث ليفقّههم في الدين ويعلّمهم السنّة ومعالم الإسلام.» (٣)

إذ تفهيم فروع الدين والأحكام لم يكن إلّا بالإفتاء فيها ، كما لا يخفى.

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّ فائدة الإفتاء هي ترتيب الأثر عليه والعمل على طبق الفتوى ، وإلّا وقع لغوا. فبدلالة الاقتضاء يفهم جواز العمل به.

الطائفة الخامسة من الروايات :

ما دلّ على حرمة الإفتاء بغير علم ، حيث يستفاد منها جواز أصل الإفتاء وصحّته :

٢٥ ـ فمنها ما رواه الصدوق في معاني الأخبار بسنده ، عن حمزة بن حمران ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «من استأكل بعلمه افتقر.» قلت : إنّ في شيعتك قوما يتحمّلون علومكم ويبثّونها في شيعتكم ، فلا يعدمون منهم البرّ والصلة والإكرام؟ فقال : «ليس أولئك بمستأكلين ، إنّما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا.» (٤)

٢٦ ـ ومنها ما رواه الكليني بسند صحيح ، عن أبي عبيدة ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه.» (٥)

إلى غير ذلك من الروايات ، فراجع.

__________________

(١) نهج البلاغة ، فيض ، ص ١٠٦٢ ؛ عبده ، ج ٣ ، ص ١٤٠ ؛ صالح ، ص ٤٥٧ ، الكتاب ٦٧.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٧٦.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ٢٤١ ؛ ونحوه في تاريخ الطبري ، ج ٤ ، ص ١٧٢٧.

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٢ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢.

(٥) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٩ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٢٦٩

الطائفة السادسة :

ما دلّ على أنّ الإفتاء والأخذ به كان متعارفا ولم يردع عنه الأئمة عليهم‌السلام بل قرّروه :

٢٧ ـ فمنها خبر علي بن أسباط ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، قال : فقال : «ايت فقيه البلد فاستفته من أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه.» (١)

ولعلّ الراوي كان بلغه حديثان متعارضان في المسألة ، وفي مثله يحمل الموافق لأهل الخلاف على صدوره تقيّة ، أو أنّه في عصر الرضا عليه‌السلام كان بناء فقهاء السلاطين على الإفتاء بخلاف أهل البيت.

٢٨ ـ ومنها ما رواه الكليني ، عن علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، رفعه ، قال : سألت امرأة أبا عبد الله عليه‌السلام فقالت : إني كنت أقعد في نفاسي عشرين يوما حتى أفتوني بثمانية عشر يوما؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ولم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل للحديث الذي روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...» (٢)

إلى غير ذلك من الروايات التي يظهر منها إمضاء الإمام وتقريره لأصل الإفتاء والأخذ به.

الطائفة السابعة :

ما دلّ على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء من الشيعة وإيجاب القبول لحكمهم :

٢٩ ـ فمنها ما مرّ من مقبولة عمر بن حنظلة في حكم المتنازعين ، وفيها : «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ؛ فليرضوا به حكما ، فإني قد جعلته عليكم حاكما. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله.» (٣)

٣٠ ـ ومنها خبر أبي خديجة ، وفيه : «اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإني

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٨٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣.

(٢) الوسائل ، ج ٢ ، ص ٦١٣ ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ٧.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٢٧٠

قد جعلته قاضيا.» (١)

وتقريب الاستدلال بها أنّ القضاء يلازم الإفتاء ؛ فإذا كان القضاء نافذا ولم يجز ردّه لزم منه كون الإفتاء أيضا نافذا. فهذه سبع طوائف من الروايات التي ربّما استدل بها على حجيّة فتوى المجتهد لمن رجع إليه وقلّده.

المناقشة في أدلّة التقليد

أقول : التقليد المصطلح عليه في أعصارنا عبارة عن الأخذ بقول الفقيه العادل تعبّدا ، وإن فرض أنّه لم يحصل للمقلّد الوثوق والاطمئنان بمطابقته للواقع. فيكون قول الفقيه العادل وفتياه حجّة تأسيسية تعبّدية ، نظير حجّيّة البيّنة الثابتة بخبر مسعدة بن صدقة.

ولا يخفى أنّ إثبات ذلك بالآيات المذكورة وأكثر الروايات التي مرّت مشكل ، لعدم كونها في مقام جعل التكليف الظاهري للجاهل وأنّه متعبّد بالأخذ بأقوال العلماء وفتاواهم وإن لم يحصل له وثوق بكونها مطابقة للواقع.

بل الظاهر من آية السؤال أنّ الجاهل يجب عليه السؤال حتى يحصل له العلم ولو بنحو الإجمال. ويشهد لذلك أنّ الظاهر منها بقرينة المورد كون المقصود هو السؤال عن مواصفات الأنبياء التي لا يجزي فيها الظن والتقليد قطعا.

والمراد بأهل الذكر على هذا أهل الكتاب من اليهود ، كما عن ابن عباس ومجاهد. وفي بعض الأخبار أنّ المراد بأهل الذكر هم الأئمة الاثنا عشر ـ عليهم‌السلام ـ (٢).

وكيف كان فلا ترتبط بباب التقليد التعبّدي.

هذا مضافا إلى أنّ الآية في مقام بيان وجوب السؤال ، لا وجوب العمل بما أجيب حتى يتمسك بإطلاقه لصورة عدم حصول الوثوق والعلم أيضا. ويكفي في عدم لغوية السؤال ترتب فائدة ما عليه ، وهو العمل بالجواب مع الوثوق.

وبذلك يظهر الجواب عن آية الكتمان أيضا.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦. ولفظة «عليكم» بعد قوله «جعلته» ليست في التهذيب بطبعيه ، وإن وجدت في الوسائل.

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢١٠ ، كتاب الحجّة ، باب أن أهل الذكر ... هم الأئمة.

٢٧١

وأمّا آية النفر ، فمحطّ النظر فيها هو بيان وجوب تعلّم العلوم الدينيّة والتفقّه فيها بالنفر إلى مظانّها ، ثمّ نشرها في البلاد ليعمّ العلم جميع العباد فيتعلّم غير النافرين من النافرين لعلّهم يحذرون.

وليست في مقام جعل الحجّيّة التعبّديّة لقول الفقيه وبيان وجوب الحذر من قوله مطلقا حتى يتمسّك بإطلاقه لصورة عدم حصول العلم والوثوق أيضا.

نعم ، يحصل غالبا للجهال العلم العادي وسكون النفس بصحّة ما أنذروا به إجمالا إذا كان المنذر ثقة من أهل الخبرة. ويكفي هذا قطعا ، إذ العلم حجّة ذاتا ويكون عند العقلاء أعمّ ممّا لا يحتمل فيه الخلاف أصلا ، أو يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا جدّا بحيث لا يعتني به ويكون وجوده كالعدم ، ونعبّر عنه بالوثوق والاطمئنان وسكون النفس ونحو ذلك.

ويشهد لعدم كون الآية في مقام بيان الحكم الظاهري التعبّدي رواية عبد المؤمن الأنصاري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام الواردة في تفسيرها ، قال عليه‌السلام : «فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم.» (١) فالغرض هو التعلّم ثمّ التعليم ، لا التعبّد المحض.

ويشهد له أيضا الاستدلال بها في أخبارنا لوجوب نفر البعض لمعرفة الإمام ثم تعريفه للباقين. (٢)

مع وضوح أنّ الإمامة من المسائل الاعتقاديّة التي لا يجري ولا يجزي فيها التعبّد والتقليد.

وبذلك يظهر الأمر في قول الخليل عليه‌السلام لأبيه أيضا ، إذ ليس مراده المتابعة التعبّدية ، فإنّ التوحيد ونفي الشرك من أصول الدين ولا مجال للتعبّد فيه.

وكذلك الكلام في الطائفة الأولى من الروايات ، فإن المقصود فيها بثّ العلم ونشره ، ولذا قال : «فيعلّمونها الناس من بعدي.» فلا ربط لها بالتقليد التعبّدي.

وأمّا الطائفة الثالثة الواردة في إرجاع بعض الشيعة إلى بعض ، فالظاهر أنّها ليست بصدد التأسيس وجعل الحجية لقول الفقيه أو الراوي تعبّدا ، بل تكون إمضاء لما استقرّت

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٣٧٨ ، كتاب الحجة ، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام.

٢٧٢

عليه السيرة من الأخذ بقول الخبير الثقة وبيانا لكون الأفراد المذكورة من مصاديق موضوعها.

هذا مضافا إلى إمكان منع كونها مرتبطة بباب الاجتهاد والإفتاء ، بل لعلّها مرتبطة بباب الرواية. وبين البابين بون بعيد. فإنّ الراوي يحكي عن الإمام ، والمفتي يحكي عن فهم نفسه ورأيه. اللهم إلّا أن يقال بعمومها لكلا البابين.

وأمّا ما دلّ على الترغيب في الإفتاء أو جوازه أو تقريره ، فلا يدلّ على وجوب القبول والتعبّد به مطلقا ، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة ، بل لعلّ الواجب هو العمل بالفتوى بعد حصول الوثوق بمطابقته للواقع ، كما عليه السيرة. وليست فائدة الإفتاء منحصرة في التعبّد به بنحو الإطلاق حتى يحكم بذلك بدلالة الاقتضاء.

وأما ما دلّ على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء فالتعدي منه إلى غير باب القضاء متوقّف على إلغاء الخصوصيّة والقطع بعدم دخالتها ، وهو ممنوع. لارتباط القضاء بالمتنازعين ، فلا يمكن فيه الاحتياط ، وفصل الخصومة ممّا لا محيص عنه. ففي مثله يكون حكم الفقيه نافذا حتى مع العلم بالخلاف أيضا فضلا عن صورة الشكّ.

وبالجملة ، إثبات التقليد التعبّدي بهذه الآيات والروايات مشكل.

نعم ، الطائفة الثانية من الروايات ، أعني التوقيع الشريف وما في تفسير الإمام وخبر أحمد بن حاتم بن ماهويه ظاهرة في جعل الحجّية لقول الفقيه الثقة وجواز العمل بقوله مطلقا وإن لم يحصل العلم والوثوق ، فيكون حجّة تأسيسيّة شرعية.

ولكن الإشكال في سندها ، كما مرّ. فإثبات هذا الحكم الأساسي بمثل هذه الروايات الضعيفة غير المذكورة في الكتب الأربعة التي عليها المدار مشكل.

الدليل الأصلي للتقليد

فالعمدة في الباب هي بناء العقلاء وسيرتهم على رجوع الجاهل في كلّ فن إلى العالم فيه. ولا مجال للإشكال فيها ، لحصولها في جميع الأعصار والأمصار وجميع الأمم والمذاهب.

وقد استقرّت سيرة الأصحاب أيضا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام على رجوع الجاهل

٢٧٣

إلى العالم والاستفتاء منه والعمل بما سمعه من الخبير الثقة.

ولكن ليس بناء العقلاء مبنيّا على التعبّد من ناحية الآباء أو الرؤساء ، ولا على إجراء دليل الانسداد وأنّهم مع الالتفات إلى انسداد باب العلم اضطرّوا إلى العمل بالتقليد والظنّ ، ولا على اعتماد كلّ فرد في عمله على عمل سائر العقلاء وبنائهم.

بل من جهة اعتماد كلّ فرد في عمله هذا على علم نفسه والإدراك الحاصل في ضميره. فالمراد بناء العقلاء بما هم عقلاء ، حيث إنّ الجاهل برجوعه إلى الخبير الثقة يحصل له الوثوق والاطمئنان ، وهو علم عادي تسكن به النفس ، والعلم حجّة عند العقل.

فيرجع بناء العقلاء هنا إلى حكم العقل ، حيث إنّهم لا يتقيّدون في نظامهم بالعلم التفصيلي المستند إلى الدليل في جميع المسائل ، بل يكتفون بالعلم الإجمالي أيضا. كما لا يتقيّدون بما لا يحتمل فيه الخلاف أصلا ، بل يكتفون بالوثوق والعلم العادي أيضا ، أي ما يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا جدا. وليس في هذا تعبّد أصلا ، لعدم التعبّد في عمل العقلاء بما هم عقلاء.

فإذا فرض أنّه في مورد خاص لم يحصل لهم الوثوق الشخصي بقول أهل الخبرة لجهة من الجهات ـ كما ربما يتّفق ذلك في المسائل التفريعيّة الدقيقة الخلافيّة ـ فإن لم يكن الموضوع مهمّا وجاز فيه التسامح أمكن أيضا العمل رجاء. وأمّا إذا كان الموضوع من الأمور المهمّة التي لا يتسامح فيها كالمريض الدائر أمره بين الحياة والموت مثلا فلا محالة يحتاطون حينئذ إن أمكن ، أو يرجعون فيه إلى خبير آخر أو شورى طبيّة مثلا.

ولا يخفى أن مسائل الدين والشريعة كلّها مهمّة لا يجوز فيها التسامح والتساهل.

وبالجملة ، فالملاك في بناء العقلاء وعملهم حصول الوثوق الشخصيّ. وليس هذا تقليدا تعبديّا ، بل هو علم عادي بنحو الإجمال يكتفي به العقلاء.

وبعبارة اخرى ، إن كان التقليد عبارة عن العمل بقول الغير من دون مطالبة الدليل فهذا يكون تقليدا ، وأمّا إذا كان عبارة عن الأخذ بقول الغير تعبّدا فعمل العقلاء ليس تقليدا ، إذ ليس بينهم تعبّد.

ويجري ما ذكرناه في جميع الأمارات العقلائيّة التي لا تأسيس فيها للشارع ، فإنّ العقلاء لا يعتمدون عليها إلّا مع حصول الوثوق والعلم العادي.

٢٧٤

فإن قلت : المعتبر في إحراز الواقعيّات وإن كان هو الوثوق الشخصي والعلم العادي ، ولكنّ بناء العقلاء في مقام الاحتجاج الدائر بين الموالي والعبيد هو الاحتجاج بقول الخبير الثقة مطلقا ، فلا يسمع اعتذار العبد في مخالفته لقول الخبير الثقة بأنّه لم يحصل له الوثوق شخصا.

قلت : لا نسلّم الفرق بين المقامين ؛ فلو فرض أنّ المولى فوّض أمر ابنه إلى عبده ، فمرض الابن وذهب به العبد إلى طبيب ، فصادف أنّ العبد تردّد في صحّة طبابته لجهة من الجهات ، وكان يتمكّن من الاحتياط أو الرجوع إلى طبيب آخر أو شورى طبيّة ، فترك ذلك وعمل بقول الطبيب الأوّل واتفق أنّ الابن مات لذلك ، فإذا اطّلع المولى على تفصيل الواقعة فهل ليس له أن يعاتب العبد؟ وهل يسمع اعتذار العبد بأنّه عمل بتكليفه من الرجوع إلى الطبيب؟

والحاصل أنّ الرجوع إلى فقهاء أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا أصحاب الأئمة عليهم‌السلام أمثال زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وبريد العجلي ، وليث بن البختري المرادي ، ويونس وغيرهم من بطانة الأئمة عليهم‌السلام كان أمرا متعارفا ، كما تعارف إرجاع الأئمة عليهم‌السلام أيضا إليهم ، ولكن لم يكن الاجتهاد في تلك الأعصار بحسب الغالب مبتنيا على المباني الصعبة الدقيقة ، بل كان خفيف المؤونة جدّا ، فكان يحصل الوثوق غالبا للمستفتي وكان يعمل بوثوقه واطمينانه الحاصل من فتوى الفقيه.

فكذلك في أعصارنا لو حصل الوثوق بصحّة فتوى المفتي وكونه مطابقا للواقع ، كما لعلّه الغالب أيضا للأغلب ، صحّ الأخذ به.

وفي الحقيقة العمل إنّما يكون بالوثوق الذي هو علم عادي تسكن به النفس ، لا بالتقليد والتعبّد.

وأمّا إذا لم يحصل الوثوق في مورد خاصّ لجهة من الجهات ، فالعمل به تعبّدا مشكل. نعم ، لو ثبت جعل الشارع قول الفقيه حجّة تأسيسيّة تعبّدية ، نظير جعل البينة حجّة في الدعاوي ، صحّ العمل به وإن لم يحصل الوثوق ، بل وإن حصل ظنّ ما بالخلاف ، ولكن إثبات ذلك مشكل. إذ ما استدلّ به من الآيات والروايات لإثبات ذلك إمّا أن تكون مرتبطة بباب التعليم والتعلّم ، أو تكون إرشادا إلى ما عليه بناء العقلاء وسيرتهم ، أو تكون في مقام بيان المصاديق لذلك ، أو يكون سندها مخدوشا ، فتدبّر. هذا.

٢٧٥

ما هو التكليف عند عدم الوثوق الشخصي من قول الثقة

او فتواه للمقلد ونحوه؟

ولكن لقائل أن يقول : إنّ مقتضى ما ذكرت وجوب الاحتياط فيما إذا لم يحصل الوثوق الشخصي من قول الثقة أو فتواه أو غيرهما من الأمارات مطلقا ، سواء كان الشك في ثبوت التكليف أو في سقوطه بعد ثبوته ، وسواء كان الموضوع من الأمور المهمّة كالدماء والفروج أو من غيرها ، ولا نظنّ أحدا يلتزم بذلك.

فالحقّ في المسألة هو التفصيل ؛ فإن كان الشك في سقوط التكليف بعد ثبوته ولو بالعلم الإجمالي وجب الاحتياط أو العمل بأمارة شرعيّة أو عقلائيّة توجب العلم أو الوثوق بالامتثال. وكذلك الكلام إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف ولكن الموضوع كان من الأمور المهمة. وأمّا في غيرها فتجري البراءة العقلية والشرعية. نعم ، مع وجود الأمارة الشرعية أو العقلائية على التكليف يجب الأخذ بها وإن لم يحصل الوثوق الشخصي ، إذ مع وجودها يحكم العقلاء بجواز احتجاج المولى على العبد. ولا يسمع اعتذاره بعدم حصول الوثوق له شخصا ، فتدبّر. هذا.

كلام ابن زهرة في التّقليد

وقد ناسب في المقام نقل كلام ابن زهرة في أوائل الغنية ، قال :

«فصل : لا يجوز للمستفتي تقليد المفتي ، لأنّ التقليد قبيح. ولأنّ الطائفة مجمعة على أنّه لا يجوز العمل إلّا بعلم.

وليس لأحد أن يقول : قيام الدليل وهو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي والعمل بقوله مع جواز الخطأ عليه يؤمنه من الإقدام على قبيح ويقتضي إسناد عمله إلى علم.

لأنّا لا نسلّم إجماعها على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه ، وهو موضع الخلاف. بل إنما أمروا برجوع العامي المفتي فقط ، فأمّا ليعمل بقوله تقليدا فلا.

٢٧٦

فإن قيل : فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم يجز له العمل بقوله؟

قلنا : الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه وفتيا غيره من علماء الإمامية سبيل إلى العلم بإجماعهم فيعمل بالحكم على يقين.» (١)

انتهى كلام الغنية.

ثمّ على فرض دلالة الآيات والروايات والسيرة على الحجّيّة التعبّدية لقول الفقيه فالاطلاع عليها وتحقيق دلالتها خارج من وسع العامي لتوقّف ذلك على الاجتهاد في هذه المسألة. إذ التقليد فيها يوجب التسلسل ، كما لا يخفى. كما أن جواز العمل بالاحتياط وتشخيص موارده وكيفيته أيضا يتوقف على الاجتهاد في هذه المسألة أو التقليد فيها.

فلا يبقى للعامي في بادي الأمر إلّا الرجوع إلى أهل الخبرة والعمل بقوله بعد حصول الوثوق والاطمئنان الذي هو علم عاديّ ، وحجّيته تكون ذاتية ، فتدبّر.

وأمّا ما قد يرى من بعض العوام من التعبّد المحض بفتوى المجتهد مطلقا من دون التفات إلى أنّه يطابق الواقع أم لا ، بل وإن التفتوا إلى ذلك وشكّوا في مطابقته له ، فلعلّه من جهة ما لقّنوا كثيرا بأنّ تكليف العامي ليس إلّا العمل بفتوى المجتهد ، وأنّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّه مطلقا. والظاهر أنّ هذه الجملة تكون من بقايا إلقاءات المصوّبة ، وإن تردّدت على ألسنتنا أيضا. هذا.

طريق آخر إلى مسألة التقليد

ولكن هنا طريق آخر إلى مسألة التقليد ربّما ينقدح في بعض الأذهان ، وإن كان لا يخلو من إشكال. وهو أنّ المناصب الثلاثة أعني بيان الشريعة ، وأمر القضاء ، والولاية الكبرى كلّها اجتمعت في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي عصر الأئمة الاثنى عشر عليهم‌السلام أيضا كانت الثلاثة لهم عندنا. وفي الحقيقة كان بيان الأحكام والقضاء أيضا من شئون من له الولاية والإمامة الحقّة.

فكذلك في عصر الغيبة أيضا يكون المرجع للقضاء وللإفتاء من له الولاية الكبرى ، أعني

__________________

(١) الجوامع الفقهية ، ص ٤٨٥.

٢٧٧

الفقيه الجامع للشرائط التي مرّت بالتفصيل. حيث إنّ الدين والسياسة في الشريعة الإسلامية متلازمان. فالمتصدي لإدارة شئونهما يجب أن يكون شخصا واحدا جامعا لصفات الإفتاء والقضاء والولاية ، وإن توقفت إدارة كلّ منها على الاستعانة بالآخرين.

ويشهد لذلك مجموع الآيات والروايات التي مرّت منّا في الفصل الأوّل (١) من هذا الباب ، حيث ذكر فيها جهات الدين والسياسة توأما.

ويدلّ عليه أيضا ما مرّ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم ارحم خلفائي.» ثلاث مرّات فقيل له : «يا رسول الله ، ومن خلفاؤك؟» قال : «الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنّتي ، فيعلّمونها الناس من بعدي.» (٢)

حيث إنّ المتبادر من خلفائه خلفاؤه في جميع شئونه العامّة ، فتشمل الثلاثة.

وكذا قوله عليه‌السلام في التوقيع الذي مرّ : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجة الله عليهم.» (٣)

إذ المراد بالحوادث ، الأمور الحادثة للمسلمين في كلّ عصر وزمان إذا أشكل عليهم تشخيص هويّتها أو الأحكام المنطبقة عليها.

فيعلم بذلك أنّ المرجع للعلم بالكليات المأثورة وللعلم بالحوادث الواقعة شخص واحد.

فصاحب العصر ـ عجل الله فرجه ـ جعل الفقيه المبتني فقهه على روايات أهل البيت مرجعا لكلا الأمرين من الإفتاء والولاية.

وكذلك ما مرّ في كلام سيد الشهداء عليه‌السلام من قوله : «ذلك بأنّ مجاري الأمر والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.» (٤) فجعل منصب الولاية لمن له حقّ الإفتاء.

وهكذا مقبولة عمر بن حنظلة (٥). إذ منصب القضاء أو الولاية المجعولة فيها يلازم دائما الإفتاء أيضا.

__________________

(١) ولاية الفقيه ، ج ٢ ، ص ٣.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٦٦ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٣.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩. واعتمد في النقل على كمال الدين ، ص ٤٨٤.

(٤) تحف العقول ، ص ٢٣٨.

(٥) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٢٧٨

وبالجملة ، المناصب الثلاثة متلازمة ، وكلّها مجعولة لشخص واحد ، فيكون منصب الإفتاء أيضا مجعولا تعبّديا. ولا محالة يشترط في المفتي شروط خاصّة أيضا ذكروها في محلّها.

وبالجملة مرجعيّة الفتوى ليست إلّا تداوم مقام الولاية والإمامة ، ولأجل ذلك أجمع فقهاؤنا على عدم جواز تقليد الميت. هذا.

الإشكال في ثبوت الولاية للفقيه بالنصب في عصر الغيبة

ولكن قد مرّ منّا الإشكال في انحصار طريق الإمامة في النصب ، وفي دلالة الأدلّة عليه ثبوتا وإثباتا. ولعلّ الشارع المقدس أحال تعيين الوالي في عصر الغيبة إلى انتخاب الأمة مع رعاية الشرائط المعتبرة ، وأمر الإفتاء إلى ما استقرّت عليه السيرة كما مرّ بيانها ، فتدبّر.

وحيث إنّ الوالي المنتخب يراعى فيه الشروط الثمانية التي مرّت ومنها الفقاهة بل الأعلميّة مع الإمكان فلا محالة مع كون الأعلم واجدا لسائر الشرائط يتعيّن انتخابه للولاية ، فتجتمع المناصب الثلاثة لواحد قهرا. وهو الأنسب لمصالح الإسلام والمسلمين ، حيث إنّ المقصود جمع أمر المسلمين وتوحيد كلمتهم ، ولا يحصل ذلك إلّا بوحدة الإمام والقائد.

ولكن اللازم هو أن يستعين الإمام في كلّ شأن من الشؤون الثلاثة بأهل الخبرة فيه.

ففي الإفتاء أيضا يلزم أن يدعوا جماعة من أهل الفتوى والنظر ويعقد شورى فتوى يرجع إليها في المسائل المعضلة ، فلا يفتي فيها إلّا بعد تلاقح الأفكار واستماع الأنظار المختلفة ، إذ ربّما هلك من استبدّ برأيه. (١)

__________________

(١) إن اجتماع المناصب الثلاثة اى السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية لفقيه واحد لزمان غير محدود وإن امكن على ضوء نظرية الانتخاب ، ولكن حيث إنّ مشروعية الولاية في عصر الغيبة على هذا النظر مشروطة برضا الناس وانتخابهم عن وعى واختيار ، فللناس حقّ وخيار أيضا أن ينتخبوا الفقيه لزمان معيّن وبشكل معيّن ومع شرائط خاصّة ذكرت في الدستور او في عقد البيعة ، او يجعلوا بالبيعة بعض تلك السلطان لبعض الاشخاص الواجدين للشرائط مقيّدة بزمان وعمل معيّنين ، والبعض الآخر لبعض آخر كذلك ، وهذا هو الذى قد يسمّى في محاورات اليوم بتفكيك القوى كما أن الاول يسمّى بتمركز القوى.

وقد مال الاستاذ ـ دام ظلّه ـ في آرائه الجديدة الى الطريق الثانى اعني تفكيك القوى ، وصرّح في

٢٧٩

بل ربّما يتوقّف الإفتاء في بعض المسائل السياسية أو الاقتصاديّة أو العسكريّة المستحدثة على معرفة خصوصيّات الموضوعات المستحدثة والإحاطة بأطرافها ونواحيها أيضا ، فيجب الاستمداد من المتخصصين فيها ؛ فلربّما يؤثّر ذلك في معرفة الحكم الشرعي المنطبق عليها ، فتدبّر.

وقد طال البحث في هذه المسألة فاعتذر من القرّاء الكرام. (١)

__________________

ـ منشوراته بأن الطريق الاوّل وهو تمركز القوى في شخص واحد مدى حياته كان يصلح في عصر كان ادارة المدن وتدبيرها امرا ساذجا ، ولكن اليوم حيث تحتاج ادارة وتدبير البلاد الى خبراء عديدة والى علوم متشتة التى لا تجتمع عادة في شخص واحد ، فقيها كان او غيره فلو قلنا بلزوم اجتماع المناصب الثلاثة في فقيه واحد الذى يكون خبيرا في الفقه فقط ، بل وفي غير الفقيه أيضا فذلك يوجب تفويت مصالح كثيرة مهمة من الشعب الّتي نقطع بعدم رضا الشارع بفواتها. وعلى هذا الأساس يصحّ للناس شرعا وعقلا ، بل يجب في بعض الصور ـ على ضوء مصالحهم العقلائية ـ أن يفكّكوا السلطات الثلاث ويوزعوها بنحو ينفكّ ويستقل بعضها عن بعض ، كما يصحّ ويحقّ لهم أيضا أن يحدّدوا كلّ واحدة منها من حيث الزمان والصلاحيات ، كما أنّ لهم أيضا أن يشترطوا على المنتخب لأىّ منها في عقد بيعتهم شروطا ـ لا تخالف الشرع ـ يرونها اصلح لهم ولبلادهم دينا ودنيا مثل أن يكون لهم حق الرقابة على اعمال السلطات الثلاث وان يعملوا هذا الحق في اشكال تناسب زمانهم ومكانهم كتشكيل الأحزاب والجرائد المستقلة وتأسيس اذاعات غير حكومية وما شابهها. ولا يخفى أنّ نظرية تفكيك القوى وارجاع كلّ امر الى الخبير فيه هى التى ربما تستفاد من كلام المحقق الاصبهانى ـ اعلى الله مقامه ـ في حاشيته على المكاسب (ص ٢١٤) حيث قال : «الفقيه بما هو فقيه اهل النظر في مرحلة الاستنباط ، دون الامور المتعلقة بتنظيم البلاد وحفظ الثغور وتدبير شئون الدفاع والجهاد وامثال ذلك فلا معنى لإيكال هذه الامور الى الفقيه بما هو فقيه وانما فوّض امرها الى الامام عليه‌السلام لأنه عندنا أعلم الناس بجميع السياسات والاحكام فلا يقاس بغيره ممن ليس كذلك.» نعم اذا قام الشعب لتأسيس حكومة دينيّة كان للفقيه مضافا الى استنباط الاحكام وبيانها ، نظارته في تطبيق القوانين المدوّنة مع الشرع المبين. (تفصيل كلام الاستاذ ـ دام ظلّه ـ مذكور في الكتاب المسمّى ب «ديدگاهها»). (اللجنة)

(١) ولاية الفقيه ، ج ٢ ، ص ٧١ إلى ١٠٩.

٢٨٠