مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

لا يصدق في حقّها انها امرأة مختلطة وإذا لم يصدق عليها هذا العنوان شملها عمومات الزكاة ، نعم لو كان يعتورها الجنون كثيرا في طول السنة يصدق عليها المختلطة عرفا فتدبر. (١)

الفائدة الثانية :

امور اختلف في حجّيتها الفريقان : (٢)

«محل البحث : بعد ما أشار الأستاذ ـ دام ظلّه ـ إجمالا إلى حجيّة الأدلة الأربعة الّتي اتفق الفريقان على حجيّتها تصدّى للبحث فيما اختلف الفريقان في حجيّتها.»

الأمر الأوّل ـ الإجماع بما هو إجماع واتّفاق

فعلماء السنّة يعتبرون إجماع الفقهاء بما هو إجماع حجّة مستقلة. ويستندون في ذلك إلى آيات وروايات :

أهمّها قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً.)(٣)

وما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «لا تجتمع أمّتي على ضلالة أو خطأ.»

فروى ابن ماجة في سننه ، عن أنس بن مالك ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة ، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم.» (٤)

وروى الترمذي بسنده ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله لا يجمع أمتي ـ أو قال : أمّة محمد ـ على ضلالة ، ويد الله على الجماعة ، ومن شذّ شذّ إلى النار.» (٥)

ولم أجد في كتب الحديث للسنّة ما يشتمل على لفظ الخطأ ، نعم هو مذكور في كتب الاستدلال.

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٣٨.

(٢) راجع ولاية الفقيه ، ج ٢ ، ص ٦٥.

(٣) سورة النساء (٤) ، الآية ١١٥.

(٤) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٣٠٣ ، كتاب الفتن ، باب السواد الأعظم ، الحديث ٣٩٥٠.

(٥) سنن الترمذي ، ج ٣ ، ص ٣١٥ ، أبواب الفتن ، الباب ٧ ، الحديث ٢٢٥٥.

٢٢١

وأمّا علماء الشيعة الإماميّة فيقولون : لا موضوعيّة للإجماع بما هو إجماع واتفاق عندنا. نعم ، لو إتفقت الأمة على قول بحيث لا يشذّ منها أحد فلا محالة يكون الإمام المعصوم من العترة الطاهرة داخلا فيها ، فيكون حجّة لذلك ، كما أنّه كذلك لو كانت كثرة القائل في المسألة بحيث يحدس منها تلقي المسألة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن الإمام المعصوم عليه‌السلام حدسا قطعيّا ، فيكون الإجماع كاشفا عن الحجّة ، أعني قول المعصوم ، وذلك إنّما يكون في المسائل الأصليّة المأثورة المتلقّاة يدا بيد عن المعصومين عليهم‌السلام المذكورة في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل هذه المسائل ، لا في المسائل التفريعيّة الاستنباطيّة التي أعمل فيها الرأي والنظر.

وبالجملة ، فالحجة في الحقيقة هو قول المعصوم المكشوف به ؛ إمّا بدخوله في المجمعين أو بالحدس عن قوله لا الإجماع بما هو إجماع.

فوزان الإجماع حينئذ وزان الخبر الواحد الصحيح الكاشف عن السنّة القويمة ، فليس في عرض السنّة بل في طولها ويكون حجّة عليها.

قال الفقيه الهمداني في مبحث صلاة الجمعة من مصباح الفقيه :

«المدار في حجّية الإجماع على ما قرّرناه في محلّه واستقرّ عليه رأي المتاخرين ليس على اتفاق الكلّ بل ولا اتّفاقهم في عصر واحد ، بل على استكشاف رأي المعصوم بطريق الحدس من فتوى علماء الشيعة الحافظين للشريعة. وهذا ممّا يختلف بإختلاف الموارد ؛ فربّ مسألة لا يحصل فيها الجزم بموافقة الإمام عليه‌السلام وإن اتفقت فيها آراء جميع الأعلام ، كبعض المسائل المبتنية على مبادي عقليّة أو النقليّة القابلة للمناقشة. وربّ مسألة يحصل فيها الجزم بالموافقة ولو من الشهرة.» (١) هذا

نقد ما أستدل به لحجية الإجماع بما هو إجماع

وأمّا آية المشاقّة فأجيب عنها بوجوه : منها : أنّا لا نسلّم أنّ سبيل المؤمنين هو إجماعهم ، بل لعلّ المراد به هو سبيلهم بما هو مؤمنون ، أي سبيل الإيمان بالرسول في قبال مشاقّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) مصباح الفقيه ، كتاب الصلاة ، ص ٤٣٦.

٢٢٢

وقد حقّق في محلّه أنّ ذكر الوصف يشعر بالعلّيّة والدخالة ، فمرجع ذلك إلى سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس أمرا وراءها.

وفي المستصفى للغزالي ، قال :

«والذي نراه أنّ الآية ليست نصّا في الغرض ، بل الظاهر أنّ المراد بها أنّ من يقاتل الرسول ويشاقّه ويتّبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نولّه ما تولّى. فكأنّه لم يكتف بترك المشاقّة حتى تنضمّ إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذبّ عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى. وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم ، فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل.» (١)

هذا وأمّا الرواية التي استندوا إليها فلم تثبت عندنا بسند يعتمد عليه.

وفي سنن ابن ماجة قد حكى في ذيل الحديث عن الزوائد :

«في إسناده أبو خلف الأعمى ، واسمه حازم بن عطاء ، وهو ضعيف ، وقد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر. قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي.» (٢) نعم ، في تحف العقول في رسالة الإمام الهادي عليه‌السلام إلى أهل الأهواز ، قال :

«وقد اجتمعت الأمة قاطبة لا إختلاف بينهم أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق ، وفي حال اجتماعهم مقرّون بتصديق الكتاب وتحقيقه ، مصيبون مهتدون ، وذلك بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمّتي على ضلالة» فأخبر أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأمة كلّها حقّ.» (٣)

أقول : على فرض صحّة الحديث فظاهره إطباق جميع الأمة ؛ فلا يختص بالفقهاء والمجتهدين ، كما لا يختصّ بعلماء السنّة فقط ، بل يعمّ جميع طوائف المسلمين ومنهم الشيعة الإمامية بأئمتهم الاثنى عشر ، وقد مرّ منّا أنّ اتفاق جمع يوجد فيه الإمام المعصوم حجّة عندنا بلا إشكال ، فتدبّر. (٤)

__________________

(١) المستصفى للغزالي ، ج ١ ، ص ١٧٥.

(٢) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٣٠٣ ، كتاب الفتن ، الباب ٨ ، الحديث ٣٩٥٠.

(٣) تحف العقول ، ص ٤٥٨.

(٤) ولاية الفقيه ، ج ٢ ، ص ٦٥ إلى ٦٨.

٢٢٣

وجه إسناد الحجية إلى الإجماع

«محل البحث : حول حجية الإجماع ، وحيث إنها عندنا من جهة كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام فما معنى إسناد الحجية إلى الإجماع بما هو إجماع؟

وتوجيه هذا الإسناد في المتن.» (١)

أقول : وقال المحقّق (ره) في مقدمة المعتبر :

«وامّا الإجماع فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم عليه‌السلام. فلو خلا المآة من فقهائنا عن قوله عليه‌السلام لما كان حجة. ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة ، لا باعتبار اتفاقهما ، بل باعتبار قوله عليه‌السلام : فلا تغترّ إذا بمن يتحكم فيدّعي الإجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين إلّا مع العلم القطعي بدخول الإمام في الجملة.» (٢)

هذا وفي أول مبحث الإجماع من عدّة الشيخ (ره) قال :

«والذي نذهب اليه : أن الامّة لا يجوز أن تجتمع على خطأ وأن ما يجمع عليه لا يكون إلّا صوابا وحجة ؛ لأن عندنا أنه لا يخلو الأعصار من إمام معصوم حافظ للشرع يكون قوله حجة يجب الرجوع إليه كما يجب الرجوع إلى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

فان قيل : إذا كان المدّعى في باب الحجة قول الإمام المعصوم عليه‌السلام فلا فائدة في أن تقولوا : إنّ الإجماع حجة او تعتبروا ذلك بل ينبغي أن تقولوا : إن الحجة قول الامام عليه‌السلام ولا تذكرون الإجماع.

قيل له : الأمر وإن كان على ما تضمّنه السؤال ، فإنّ لاعتبار الإجماع فائدة معلومة وهي أنه قد لا يتعين لنا قول الإمام في كثير من الاوقات فيحتاج حينئذ إلى اعتبار الإجماع ليعلم باجماعهم أن قول المعصوم داخل فيهم. ولو تعيّن لنا قول

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٥٢٩.

(٢) المعتبر ، ج ١ ، ص ٣١.

٢٢٤

المعصوم الذي هو الحجة لقطعنا على أن قوله هو الحجة ولم نعتبر سواء على حال من الاحوال.» (١)

أقول : قوله : «إن قول المعصوم داخل فيهم» إن أراد به دخول شخص المعصوم في المجمعين وإن لم يعرف بشخصه ، كان الإجماع دخوليا لا محالة. ولكن يحتمل أنه لم يرد بذلك دخول شخص المعصوم في المجمعين ، بل أراد بذلك انكشاف قوله من اتفاق جميع العلماء في عصر واحد ، فيكون حجيته من باب اللطف الذي هو مبناه كما يظهر من موارد اخر من كلامه.

ومحصّل الكلام في المقام : أن عدّ الإجماع من الأدلّة الشرعية أمر أبدعه العامّة ، واستدلّوا لحجيته في كتبهم الاستدلالية وكان غرضهم من ذلك في بادئ الأمر ، تحكيم خلافة الخلفاء ولا سيّما الأوّل منهم بذلك. مع وضوح عدم تحقق الإجماع بالنسبة إليها ، وانما بايع أبا بكر في السقيفة خمسة : عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجرّاح وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسالم مولى ابي حذيفة. ثم أوجدوا جوّ الدعايات والإرهاب ، فلحق بهم الناس تدريجا ولم يبايع أمير المؤمنين عليه‌السلام وسلمان وأبو ذر ومقداد وجمع آخرون. فالإجماع عند العامّة دليل مستقل في قبال الكتاب والسنة والعقل.

وكيف كان ، فلما واجههم على ذلك قدماء اصحابنا ومؤلفوهم ، قالوا لهم مماشاة : نحن أيضا نسلّم حجيّة الإجماع على فرض تحققه ولكن لا بعنوان دليل مستقلّ في قبال ساير الادلة ، بل لدخول المعصوم فيهم على ذلك ، ففي الحقيقة قوله الحجة والباقون من قبيل الحجر من جنب الإنسان.

والظاهر ان هذا صار سببا لادّعاء القدماء من اصحابنا الإجماع حتى في المسائل الخلافية بعد اعتقادهم بكون رأي خاص مطابقا لرأي الامام عليه‌السلام ، لا بأن سمعوا الرأي من جماعة فيهم الإمام بلا معرفة لشخصه فانه فرض نادر بل غير واقع ، بل بسبب إحرازهم رأي الإمام عليه‌السلام مما قام عندهم من الأدلّة المتعارفة من الكتاب والسنة والقواعد الدراجة المستنبطة منهما بضميمة اقوال جمع من الفقهاء.

ففي الحقيقة حكاية الإجماع من قبلهم ترجع إلى حكاية رأي الامام عليه‌السلام على حسب

__________________

(١) عدة الاصول ، ج ٣ ، ص ٦٤.

٢٢٥

اجتهاد المدّعي وفتواه المستنبطة من الادلّة وان كانت المسألة خلافية. وإنّما عبّروا بالإجماع مماشاة للعامّة أو أرادوا بذلك ثبوت الاتفاق بالنسبة إلى نفس الدليل او القاعدة الكلية التي اعتمدوا عليها في إفتائهم. ويعبّر عن ذلك بالإجماع على القاعدة فتدبر. هذا.

الأقوال الأربعة في الإجماع

والأقوال في الإجماع عند أصحابنا ترجع إلى أقوال أربعة :

الأوّل : دخول شخص الإمام المعصوم في المجمعين والسماع منه. وهذا فرض نادر جدّا بل غير واقع.

الثاني : حكم العقل او الشرع بوجوب موافقة المعصوم عليه‌السلام للمجمعين من باب قاعدة اللطف وأن رأيه عليه‌السلام لو كان على خلاف ما عليه جميع فقهاء العصر لوجب عليه إظهاره عقلا او شرعا تحفّظا لوضوح الحقّ في كل عصر.

الثالث : حدس رأيه عليه‌السلام عادة من اتفاق آراء الفقهاء المتعبّدين بالنصوص في جميع الأعصار وأنهم تلقّوه منه عليه‌السلام أو وصل إليهم من قبله دليل معتبر واضح.

الرابع : حدس رأيه تصادفا في مورد خاص بالقرائن الموجودة أو بالأدلة الخاصّة القائمة عند المدّعي والأخبار الواردة في المسألة. ويظهر ممّن اعتذر عن وجود المخالف في مسألة بأنه معلوم النسب اعتماده على الإجماع من باب دخول المعصوم في المجمعين وممّن اعتذر عنه بانقراض عصره اعتماده عليه من باب قاعدة اللطف. (١)

المسائل التي كان الإجماع حجة فيها

«فقد تعرض سماحة الاستاذ ـ مد ظلّه ـ في كتابه «ولاية الفقيه ...» (٢) نقلا عن أستاذه الأكبر المرحوم العلّامة البروجردي قدس‌سره بما يلى»

وكان السيد الأستاذ المرحوم آية الله العظمى البروجردي ـ طاب ثراه ـ يقول مرّة بعد مرّة : «إن المسائل المعنونة في فقه الشيعة الامامية على قسمين :

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٥٢٩ الى ٥٣١.

(٢) ولاية الفقيه ، ج ١ ، ص ٣٣٩.

٢٢٦

١ ـ المسائل الأصلية المتلقاة يدا بيد عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

٢ ـ المسائل التفريعية التي استنبطها الفقهاء من تلك المسائل بالاجتهاد.

والقدماء من فقهائنا كانوا لا يتعرضون في تاليفاتهم الفقهية إلّا القسم الأوّل من المسائل ، وكانوا يحافظون فيها غالبا على ألفاظ الروايات أيضا ، بحيث كان الناظر في كتبهم يتخيل أنهم لم يكونوا أهلا للاجتهاد وأن الأواخر منهم كانوا يقلّدون الأوائل ، فراجع كتب الصدوق كالفقيه والمقنع والهداية ، ومقنعة المفيد ، ورسائل علم الهدى ، ونهاية الشيخ ، ومراسم سلّار ، والكافي لأبي الصلاح ، والمهذب لابن البراج ونحو ذلك. وذكر الشيخ في أول المبسوط ما حاصله :

«أن استمرار هذه الطريقة بين اصحابنا صار سببا لطعن المخالفين ، فكانوا يستحقرون فقه أصحابنا الامامية ، مع أن جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ، وما كثّروا به كتبهم من مسائل الفروع أيضا له مدخل في أصولنا ومخرج على مذهبنا لا على وجه القياس. وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على هذه الفروع ، فيقطعني عن ذلك القواطع. وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية ، وذكرت فيها جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأصّلوها من المسائل ، وعملت بآخره مختصر جمل العقود ، ووعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع خاصة ، ثم رأيت أن ذلك يكون مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه ، لأنّ الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الأصل معه ، فعدلت إلى عمل كتاب يشتمل على عدد جميع كتب الفقه ، وأعقد فيه الأبواب وأقسّم فيه المسائل وأجمع بين النظائر وأستوفيه غاية الاستيفاء وأذكر أكثر الفروع التي ذكرها المخالفون.» (١)

فالشيخ ـ قده ـ صنّف النهاية على طريقة أصحابنا لنقل المسائل الأصلية فقط ، وصنّف المبسوط جامعا للأصول والفروع. وعلى هذا فإذا ذكرت المسألة في تلك الكتب المعدّة لنقل المسائل الأصلية المأثورة فاحدس بتلقّيها عن المعصومين عليهم‌السلام ويكون إطباقهم في تلك

__________________

(١) مقدمة المبسوط ، ج ١ ، ص ١ الى ٣.

٢٢٧

المسائل ، بل الاشتهار فيها أيضا حجة شرعية لاستكشاف قول المعصوم عليه‌السلام. وأما المسائل التفريعية المستنبطة فلا يفيد الإجماع فيها ، إذ الإجماع فيها نظير الإجماع في المسائل العقلية. ونحن الإمامية لا موضوعية عندنا للإجماع والاتفاق بما هو إجماع ، وإنما نعتبره طريقا لكشف قول المعصوم عليه‌السلام. انتهى كلام الاستاذ ـ طاب ثراه ـ (١)

حجية الإجماع المنقول

«الإجماعات المنقولة في كلمات القدماء كالشيخين والسيدين وغيرهما ليست بمعنى كشف قول الإمام عليه‌السلام من اتفاق جماعة هو داخل فيهم ، أو أن أقوالهم أو جبت علم الناقلين بقوله عليه‌السلام لطفا او حدسا ، بل قصدوا أنّ قوله عليه‌السلام واصل إليهم بالأدلّة المعتبرة ، والظاهر منهم أنّ وصول قوله عليه‌السلام إليهم من الطرق الحسّية فيشمله أدلة حجية الخبر ، ولو شك في أنه من طريق الحس أو الحدس فالظاهر عند العقلاء في مثله حمله على كونه من طريق الحسّ. ومن ذلك يعلم منشأ تعارض الإجماعات المنقولة إذ من الممكن أن وصل إلى كلّ من ناقلي الإجماع قوله عليه‌السلام بطريق معتبر عنده لكثرة الأخبار المتعارضة في الأبواب المختلفة.»

أقول : إذا كان مرجع نقل الإجماع إلى نقل وصول خبر معتبر عن الأئمة عليهم‌السلام عند الناقل ، والمفروض أن الأخبار المتعارضة كثيرة في الأبواب المختلفة من فقهنا فيرجع نقل الإجماع إلى ترجيح بعض الأخبار على بعض. ومرجع هذا إلى نقل اجتهاد الناقل فيخرج عن كونه إخبارا عن أمر حسي.

وإن شئت قلت : إن إخباره يرجع إلى الإخبار عن اعتبار الخبر الذي اعتمد عليه وهذا أمر يدخله النظر والاجتهاد فإنّ المباني والمشارب في شرائط اعتبار الخبر مختلفة جدّا فيشكل أن يعامل مع إخباره هذا معاملة خبر العادل الثقة ولو فرض الشك في كون إخباره عن حسّ او عن حدس فإنما يحكم العقلاء بالحجيّة فيما إذا لم يكن الغالب فيها هو الحدس كما في المقام. (٢)

__________________

(١) ولاية الفقيه ، ج ١ ، ص ٣٣٩.

(٢) نهاية الاصول ، ص ٥٣٧.

٢٢٨

ما هي حقيقة الإجماع المنقول؟

«نقل الإجماع هل هو بمعنى نقل الكاشف والمنكشف مطلقا أو يفصّل بين الناقلين له؟ ، او أنّ ذلك مختلف بحسب كيفية النقل والعبارات؟ وأنه لا يلزم متابعة الإجماع المنقول بحيث لا يجوز مخالفته مطلقا ، بل وزانه وزان الخبر الواحد فيلزم في كل مورد التفحص عن المعارضات والمرجحات وبعد الترجيح يؤخذ به كما في الخبر الواحد.»

لا يخفى إختلاف الإجماع المنقول بإختلاف أنظار الناقلين وألفاظ النقل ، فتارة ينقل رأي الإمام عليه‌السلام أيضا في ضمن نقل الإجماع امّا حدسا كما هو الغالب أو حسّا وإن كان فرضه نادرا. واخرى لا ينقل إلّا ما هو السبب عنده لاستكشاف رأيه عليه‌السلام عقلا أو شرعا أو عادة أو اتفاقا. فإن كان المنقول السبب والمسبب معا عن حسّ فالظاهر شمول أدلّة حجية الخبر له. ومثله ما إذا كان عن حدس ضروري قريب من الحسّ من ناحية الآثار المحسوسة. وكذا إن كان المنقول هو السبب فقط ولكن كانت سببيته واضحة عند المنقول إليه أيضا فيعامل مع المنقول معاملة المحصّل في الالتزام بمسببه وترتيب آثاره ولوازمه.

وامّا إذا كان النقل للمسبب لا عن حسّ أو حدس قريب منه بل بمقتضى التزام الناقل بوجوب اللطف عقلا او شرعا او بحدسه رأي المعصوم عليه‌السلام من باب الاتفاق او استنباطه رأيه من الأدلة المتعارفة والأخبار الواردة ، فالظاهر عدم شمول أدلّة حجية الخبر له ، إذا المتيقن من بناء العقلاء حجية الإخبار عن حسّ او قريب منه ، وهو المنصرف إليه للآيات والأخبار المستشهد بهذا لذلك. ولو شك في ذلك فقد يقال بالشمول أيضا لبناء العقلاء على ذلك إذ ليس بنائهم إذا أخبروا بشيء على التفتيش والسؤال عن كونه عن حسّ او عن حدس. ولكن يمكن منع ذلك فيما إذا كان الغالب فيه هو الحدس أو الالتزام بما لا يلتزم به المنقول إليه مثل قاعدة اللطف في المقام. نعم يثبت نفس السبب بمقدار دلّ عليه ألفاظ الناقل أو المتيقن منه فيرتّب عليه المنقول إليه ما هو الأثر عنده ، ولو علم بكون المدرك لناقل الإجماع النصوص

٢٢٩

الموجودة عندنا أو احتمل ذلك لم يكن الإجماع دليلا وإن كان مؤيدا مستقلا ونعبّر عنه بالإجماع المدركي. فتدبر» (١)

الأمر الثاني : الشهرة وحولها مسائل

«المبحث : هل يمكن انجبار إرسال رواية تحف العقول التي ذكرت فيها وجوه المعاملات المحلّلة والمحرّمة باعتماد المشهور من فقهائنا في بحث المكاسب عليها؟

ويبحث فيه عن امور :

١ ـ الفرق بين الشهرة بين القدماء وبين المتأخرين.

٢ ـ الفرق بين المسائل المتلقاة عن المعصومين عليهم‌السلام والمسائل المستنبطة.

٣ ـ ما هو الملاك في حجية الشهرة؟ وهل هي جابرة لضعف السند أم لا؟

٤ ـ أقسام الشهرة : الروائي ، العملي والفتوائي.

٥ ـ الشهرة المرجحة للرواية عند التعارض.

٦ ـ الفرق بين الحقائق المتأصلة والمفاهيم المنتزعة والأمور الاعتبارية ؛ وتطابق نظام التشريع مع نظام التكوين.» (٢)

أقول : قال في مصباح الفقاهة :

«وأمّا قوله : إنّ آثار الصدق منها ظاهرة فلا ندري ما ذا يريد هذا القائل من هذه الآثار ، أهي غموض الرواية واضطرابها أم تكرار جملها وألفاظها أم كثرة ضمائرها وتعقيدها أم اشتمالها على أحكام لم يفت بها أحد من الأصحاب ومن أهل السنة؟ ...» (٣) هذا.

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٥٣٩.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ١ ، ص ٩٠ الى ١٠٧.

(٣) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٧.

٢٣٠

تقرير مبنى المحقق الخوئي (ره) في الشهرة

وفي مصباح الفقاهة أيضا بعد ما منع حجيّة هذه الرواية لإرسالها واختصاص الحجّية بالخبر الموثوق بصدوره قال ما ملخّصه :

«وهم ودفع : ربّما يتوهّم انجبار ضعفها بعمل المشهور ، لكنّه فاسد كبرى وصغرى : أما الكبرى فلعدم كون الشهرة في نفسها حجّة فكيف تكون موجبة لحجّية الخبر وجابرة لضعفه لأنّه كوضع الحجر في جنب الإنسان.

لا يقال : عمل المشهور بالخبر كاشف عن احتفافه بقرائن قد اطلعوا عليها توجب الوثوق ، كما أنّ إعراضهم عن الخبر الصحيح يوجب وهنه وسقوطه ، ومن هنا اشتهر أنّ الخبر كلّما ازداد صحّة ازداد بإعراض المشهور وهنا.

فإنّه يقال ـ مضافا إلى أنّه دعوى بلا برهان ـ : إنّ المناط في حجيّة خبر الواحد هي وثاقة الراوي. ويدلّ على ذلك الموثقة التي أرجع السائل فيها إلى العمري وابنه ، حيث علّل هذا الحكم فيها بأنّهما ثقتان (١) ، والروايات المتواترة التي أرجع فيها إلى أشخاص موثّقين. وعلى هذا فإن كان عمل المشهور راجعا إلى توثيق رواة الخبر وشهادتهم بذلك فبها ، وإلّا فلا يوجب انجبار ضعفه.

ومن هنا يعلم أنّه بعد ثبوت صحّة الخبر لا يضرّه إعراض المشهور عنه إلّا أن يرجع إلى تضعيف رواته.

وأمّا الوجه في منع الصغرى فهو عدم ثبوت عمل المتقدّمين بها. وأمّا عمل المتاخرين فهو على تقدير ثبوته غير جابر لضعفها مضافا إلى أنّ استنادهم إليها في فتياهم ممنوع جدّا.» (٢)

أقول : ما ذكره ـ قدس سرّه ـ أخيرا من منع الصغرى صحيح ، إذ جبران الضعف أو كسر صحّة الخبر من جهة أن شهرة الفتوى بين من لا يفتي بالأقيسة والاستحسانات الظنيّة ، بل يكون

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٣٣٠ ، كتاب الحجّة ، باب في تسمية من راه عليه‌السلام ، الحديث ١.

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٦ و٧.

٢٣١

بناؤهم على التعبّد بالنصوص وأقوال العترة الطاهرة ، ربّما تكشف كشفا قطعيّا عن تلقّيهم الفتوى عنهم عليهم‌السلام يدا بيد أو اطلاعهم على قرائن حاليّة أو مقاليّة اختفت علينا. وهذا البيان لا يجري في شهرة المتاخرين ، لانقطاعهم عن الأئمة عليهم‌السلام ، فلا محالة استندوا في فتاواهم على اجتهادات عقليّة حول الأخبار الموجودة. ومن الواضح أنّ مضامين رواية تحف العقول لا توجد في كتب القدماء من أصحابنا لا بنحو الفتوى ولا بعنوان الحديث والرواية ، فليس في المقام شهرة يجبر بها ضعف الرواية.

وأما ما ذكره ـ قدس سرّه ـ في منع الكبرى فهو أمر كان يصرّ عليه في الأبواب المختلفة من الفقه كما يظهر لمن تتبع تقارير أبحاثه.

وقد اتفق لي سفري الأوّل إلى النجف الأشرف : أن قلت له في لقائي : إنّ إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء أمر تدلّ عليه روايات صحيحة دلالة واضحة وكانت هذه الروايات بمرأى الأعاظم من فقهائنا المتقدّمين ومع ذلك نراهم لا يفتون بمضامينها ويفتون بمضمون مرسلة ابن أبي عمير وخبره عن حمّاد أو غيره الدالّتين على عدم إجزاء غير غسل الجنابة عنه (١) ، فهل يبقى مع ذلك وثوق بصحّة تلك الروايات وعدم احتفافها بقرائن مانعة عن ظهورها؟

تقرير مبنى الأستاذ البروجردي (ره) في الشهرة

وبعكس ذلك كان الأستاذ آية الله البروجردي ـ أعلى الله مقامه ـ مصرّا على الاعتناء بشهرة القدماء من أصحابنا في المسائل الأصلية المتلقّاة عن الأئمة عليهم‌السلام يدا بيد ـ في قبال المسائل الفرعيّة المستنبطة عنها بالاجتهاد ـ وكان يقول : إنّ بناء الأصحاب كان على أخذ الفقه من الفحول والأساتذة يدا بيد وإنّ سلسلة فقهنا لم تنقطع في عصر من الأعصار ، بل كان أصحاب الأئمة عليهم‌السلام معتنّين بفتاوى الأئمة عليهم‌السلام مهتمّين بها ناقلين إيّاها لتلاميذهم ، وكان الخلف يأخذها عن السّلف إلى عصر الصدوقين والمفيد والمرتضى والشيخ وأقرانه ، وكانوا يذكرونها في كتبهم بألفاظها حتى اتّمهم العامّة بأنهم يقلّدون الأوائل وليسوا من أهل

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، ص ٥١٦ ، كتاب الطهارة ، الباب ٣٥ من أبواب الجنابة.

٢٣٢

الاجتهاد والاستنباط كما ذكر ذلك الشيخ في أوّل المبسوط ، وكانت الشيعة في عصر الأئمة عليهم‌السلام يعتنون عملا بفتاوي بطانة الأئمة عليهم‌السلام وبما اشتهر بينهم ويأخذون بها في مقام العمل ، حتى إنّهم ربّما تركوا ما سمعوه من شخص الإمام بعد إشارة البطانة إلى خلافه ، وهذا يكشف عن شدّة اعتمادهم على فتاوي البطانة ، فراجع خبر عبد الله بن محرز في باب الميراث. (١)

ومخالفة ابن الجنيد والعماني في أغلب المسائل ناشئة من عدم كونهما في المعاهد العلميّة ولم يتلقّيا الفقه من الأساتذة بل من الكتب التي كانت عندهما.

وكان يقول أيضا : إنّ من تتبع كتب الأخبار ووقف على إختلاف راويين مثلا في نقل مضمون واحد عن إمام واحد ، أو إختلاف مصنّفين في ألفاظ رواية واحدة بل مصنّف واحد في موضعين من كتابه وإختلاف النسخ الكثيرة ، يظهر له أنّ الاعتماد على رواية واحدة مثلا في مقام الإفتاء مشكل ، وإن فرض كون جميع رواته ثقات ، إلّا إذا أفتى بمضمونها الأعلام. بل لو فرض وجود روايات مستفيضة في مسألة يظهر لنا بذلك صدور المضمون المشترك بينها عن الأئمة عليهم‌السلام إجمالا ولكن الحكم بخصوصيّات كلّ واحدة منها مشكل.

وبالجملة فهو ـ قدس سرّه ـ كان يقسّم المسائل الفقهية إلى قسمين : مسائل أصليّة مأثورة متلقّاة عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ومسائل تفريعية استنبطها الفقهاء من المسائل الأصلية.

وكان يقول : إنّ كتب القدماء من أصحابنا كالمقنع والهداية للصدوق ، والمقنعة للمفيد ، والنهاية للشيخ ، والمراسم لسلّار ، والكافي لأبي الصلاح الحلبي ، والمهذّب لابن البرّاج وأمثالها كانت حاوية للمسائل الأصلية فقط. والشيخ ألّف المبسوط لذكر التفريعات.

وكان المرز الفاصل بين الصنفين من المسائل محفوظا إلى عصر المحقّق ، فهو في الشرائع يذكر في كلّ باب أوّلا المسائل الأصلية المأثورة ثمّ يعقّبها بالتفريعات بعنوان : «مسائل» أو «فروع» ، وإنّما وقع التخليط بين الصنفين في عصر الشهيدين ومن بعدهما.

ففي الصنف الأوّل من المسائل تكون الشهرة حجّة فضلا عن الإجماع ، وفي الصنف الثاني

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٤٤٥ ، كتاب الفرائض والمواريث ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديثان ٤ و٧.

٢٣٣

لا يفيد الإجماع أيضا فضلا عن الشهرة ، لأنّ وزانها وزان المسائل العقليّة التي لا مجال فيها للتمسّك بالإجماع والشهرة (١).

نقد مبنى العلمين : البروجردي والخوئي (ره) في الشهرة

أقول : إطلاق ما ذكره هذان العلمان في هذا المجال قابل للمناقشة :

أما ما ذكره الاستاذ ـ قدس سرّه ـ فلأنّ الشهرة بين القدماء إن أوجبت الوثوق والاطمئنان بتلقّيهم المسألة من الأئمة عليهم‌السلام يدا بيد ، أو اطلاعهم على ما لو وصل إلينا كان حجّة قطعا كما هو المدّعى ، صحّ الاعتماد عليها.

ولكن من المحتمل كونها في أكثر المسائل على أساس الروايات الموجودة بأيدينا ، بل هو المظنون غالبا. ومجرّد الاحتمال كاف في منع الاعتماد عليها ، نظير الإجماعات المبتنية ولو احتمالا على الأخبار والمدارك الموجودة عندنا ، فليسا دليلين مستقلّين.

ألا ترى أنّ اشتهار تنجّس البئر في كتب القدماء من أصحابنا شهرة قاطعة كيف انهدم أساسها بسبب صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع الحاكمة بأنّ ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغير ريحه أو طعمه. الحديث (٢).

والاستاذ أيضا أفتى بعدم تنجّسها بعذر أنّ القول بالتنجّس كان مستندا إلى الأخبار التي بأيدينا فنحملها على التنزيه.

نعم لو فرض اشتهار الفتوى بين القدماء من أصحابنا في مسألة ، من دون أن يكون له دليل ظاهر فيما بأيدينا من الأخبار ولم يساعده أيضا إطلاق دليل أو اعتبار عقلي ، كشفت الشهرة لا محالة عن تلقي المسألة عن الأئمة عليهم‌السلام يدا بيد ، أو وصول دليل معتبر إليهم غير واصل إلينا ، نظير الإفتاء بإتمام الصلاة وإفطار الصيام في سفر الصيد للتجارة وازدياد المال ، مع عدم وجود رواية بذلك فيما بأيدينا وأنّ مقتضى القواعد والإطلاقات هو التلازم بين الصلاة والصيام في

__________________

(١) البدر الزاهر ، ص ٨ الى ١٠.

(٢) الوسائل ، ج ١ ، ص ١٠٥ ، كتاب الطهارة ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٢ ، وأيضا الحديث ١٠.

٢٣٤

القصر والإتمام. ولكن أمثال هذه المسألة قليلة جدّا.

كما أنّ الإنصاف أنّ إعراض المشهور من القدماء عن الروايات الصحيحة مع ظهورها وعدم تطرّق التأويل إليها يوجب وهنها وعدم الوثوق بإرادة ظواهرها ، فيشكل الإفتاء بها فتطرح أو يحتاط في المسألة وهو طريق النجاة.

وأما ما ذكره آية الله الخوئي ـ طاب ثراه ـ فيرد عليه أنّ ما دلّ على الإرجاع إلى ثقات الروات لا يدلّ على نفي غير ذلك وعدم حجيّة غير خبر الثقة.

بل الظاهر منها أنّ الملاك تحصيل الوثوق بالحكم من أيّ طريق حصل ، إذ التعليق على الوصف يدل على العلّية ، وعلى ذلك بناء العقلاء أيضا حيث يرون الوثوق وسكون النفس علما عاديّا يعتمدون عليه في أمورهم.

وليس هذه الأخبار في مقام إعمال التعبّد وجعل خبر الثقة حجّة تعبّدا. بل في مقام ذكر المصداق لما عليه العقلاء.

فقوله عليه‌السلام في حقّ العمري : «فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون» وفي حقّه وحقّ ابنه : «فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان» (١) علّل الإرجاع بأمر ارتكازي يحكم به العقلاء ، كما هو الغالب في التعليلات الواردة في الكتاب والسنّة حيث تقع لاستيناس ذهن السّامع ودفع استيحاشه المحتمل.

ويشهد لذلك قول الراويين للرضا عليه‌السلام : «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟» قال : «نعم.» (٢)

إذ يظهر منه أنّ جواز الاعتماد على الثقة كان واضحا مفروغا عنه بلا تعبّد ، وإنّما السؤال وقع عن تعيين المصداق.

وعلى هذا فإن حصل بسبب عمل المشهور المتعبّدين بالنصّ وثوق بمضمون الرواية وجب الأخذ به ، وإذا حصل بإعراضهم عن الصحيح الترديد فيه وارتفع الوثوق بمضمونه لم

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٣٣٠ ، كتاب الحجّة ، باب في تسمية من راه عليه‌السلام ، الحديث ١.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٧ ، كتاب القضاء ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣ ، ونحوه الحديث ٣٤.

٢٣٥

يجز الأخذ به ، وهذا معنى كون عمل المشهور جابرا لضعف الرواية ، وإعراضهم كاسرا لصحّتها.

وبطانة الأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم وتلاميذ أصحابهم الملازمون لهم كانوا واقفين على فتاواهم. وقد مرّ في خبر عبد الله بن محرز أنّ الراوي ترك ما سمعه من شخص الإمام وأخذ بقول أصحابه اعتمادا عليه ، واستحسنه الإمام لذلك (١). ويظهر من أخبار كثيرة في أبواب مختلفة اعتماد الشيعة على أصحاب الأئمة وبطانتهم وأخذ الأحكام منهم وإمضاء الأئمة عليهم‌السلام ذلك ، فتأمل. هذا.

وفي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الوارد في علاج الخبرين المتعارضين قال عليه‌السلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله ... قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ ...» (٢)

ما هو المراد من المجمع عليه والشهرة في الحديث؟

والظاهر أن المقصود بالمجمع عليه في الحديث ما اشتهر العمل به والإفتاء بمضمونه استنادا إليه كما يظهر من مقابلته بالشاذّ. وإذا وصل العمل بالرواية والاعتماد عليها إلى حدّ عدّ خلافه شاذّا نادرا صارت عند العقلاء ممّا لا ريب فيها ، إذ يحصل بمضمونها الوثوق غالبا. وحمل الشهرة في الحديث على الشهرة الروائية فقط بعيد في الغاية.

توضيح ذلك : أنّ الشهرة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الشهرة في الرواية بمعنى كثرة الناقلين لها ، سواء عملوا بها أم لا.

الثاني : الشهرة العمليّة بمعنى عمل المشهور برواية واستنادهم إليها في مقام الإفتاء.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٤٤٥ ، كتاب الفرائض والمواريث ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديثان ٤ و٧.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٨ ، كتاب فضل العلم ، باب إختلاف الحديث ، الحديث ١٠.

٢٣٦

الثالث : الشهرة الفتوائيّة بمعنى إفتاء المشهور بحكم من الأحكام من دون أن يعلم مستند فتواهم كما مرّ من مسألة سفر الصيد للتجارة من التفصيل بين الصلاة والصيام.

ويظهر من الشيخ الأعظم في الرسائل وكثير من الأعاظم حمل الشهرة في الحديث وكذا في مرفوعة زرارة الآتية على القسم الأوّل أعني الشهرة الروائيّة (١) ، مع وضوح أنّ مجرّد نقل الرواية فقط من دون اعتماد عليها لا يجعلها ممّا لا ريب فيه ، بل يكون من قبيل الإعراض الذي يزيد في ريبه. فالمقصود اعتماد الأصحاب على أحد الخبرين المتعارضين في مقام العمل والإفتاء بمضمونه. وعلى ذلك كان يصرّ الأستاذ آية الله البروجردي ـ طاب ثراه ـ.

نعم كان بناء القدماء من أصحابنا على ذكر متن الخبر في مقام الإفتاء ، ولكن الذي يجعل الرواية ممّا لا ريب فيه ليس مجرد نقلها ، بل العمل بها والاعتماد عليها من ناحية المتعبدين بالنصوص أعني بطانة الأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم الواقفين على فتاواهم ، وقد عرفت أنّ التعليل في الكتاب والسنة بل في التعليلات العرفيّة أيضا يقع غالبا بما هو المركوز في أذهان السّامعين.

وبالجملة فما هو المرجّح للرواية عند التعارض ويجعلها ممّا لا ريب فيه هو الشهرة العملية.

ومورد المقبولة وإن كان هو الخبران المتعارضان في باب الحكم ، لكن عموم التعليل يقتضي الترجيح بها ولو في غير باب الحكم أيضا ، كما يقتضي جبرها للخبر الضعيف أيضا.

بل يمكن الاستدلال به لحجيّة الشهرة الفتوائية مطلقا ولا سيّما إذا لم يكن لها مدرك فيما بأيدينا من الأخبار ، وكذا كونها موهنة للخبر الصحيح الوارد على خلافها. كلّ ذلك بعموم التعليل المنصوص ، إذ ظاهره كون المجمع عليه عند الأصحاب بمعنى المشهور لديهم في مقام العمل ممّا لا ريب فيه بنحو الإطلاق. والسّر في ذلك أنّ الشهرة العمليّة عند أهل النصّ المتعبّدين به يوجب الوثوق بتلقّيهم المسألة من الأئمة عليهم‌السلام.

اللهم إلّا أن يقال : بعد اللتيّا والّتي : سلّمنا أنّ المقصود بالشهرة في الحديث الشهرة العمليّة ولكن ترجيح الرواية بها في مقام التعارض أخفّ مئونة من جبر الخبر الضعيف بها أو كونها حجة مستقلّة ، إذ بعد فرض كون كلّ واحد من المتعارضين حجّة في نفسه يكفي في ترجيح أحدهما على الآخر وجود مزيّة ما فلا يقاس به غيره.

__________________

(١) فرائد الأصول ، ص ٦٦ و٤٤٧.

٢٣٧

قال الشيخ الأعظم في الرسائل :

«ألا ترى أنّك لو سئلت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك؟ فقلت : ما كان الاجتماع فيه أكثر ، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ... وكذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرمّانين ، فقلت ما كان أكبر.» (١) هذا.

ولكن يرد عليه : أنّا لا نريد إثبات العموم بالأمر بأخذ المجمع عليه من المتعارضين ، بل بعموم التعليل. وظهور التعليل في العموم والإطلاق في المقام قويّ ، واحتمال الخصوصيّة فيه وحمل اللام على العهد مخالف للظاهر جدّا.

وأمّا ما في كلام المحقّق النائيني ـ قدس سرّه ـ من :

«أنّ المراد ممّا لا ريب فيه في المقام عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله من الشاذّ ، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية ، لأنّه لا يصحّ أن يقال : يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله وإلّا لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره ، وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق وغير ذلك.» (٢)

ففيه : أنّ حمل التعليل على عدم الريب الإضافي ممّا لا وجه له بعد ظهوره في عدم الريب بنحو الإطلاق. بل لا نتصوّر لعدم الريب الإضافي معنى صحيحا ، إذ الظاهر ممّا لا ريب فيه ما حصل اليقين أو الاطمئنان به ، وهذا مفهوم مطلق.

نقد ما استظهره المحقق الخوئي (ره) من المقبولة

وحمل المجمع عليه في المقبولة على الخبر الذي أجمع على صدوره من المعصوم فيكون المراد به الخبر المعلوم صدوره ـ كما في مصباح الأصول (٣) مخالف للظاهر أيضا ، لما مرّ من ظهور الرواية في الشهرة العمليّة أعني الظهور عند الأصحاب عملا وتلقّيهم بالقبول ، وهي كما مرّ

__________________

(١) فرائد الاصول ، ص ٦٦.

(٢) فوائد الأصول ، ج ٣ ، ص ٥٤ ، في أقسام الشهرة وحجّيتها.

(٣) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ١٤١ ، المبحث الرابع في حجّية الشهرة.

٢٣٨

موجبة للوثوق وسكون النفس غالبا فتكون ممّا لا ريب فيه عند العقلاء ومن البيّن رشده عندهم.

ولو فرض العلم بصدوره ولكن وقع الإعراض عنه من قبل بطانة الأئمة عليهم‌السلام الواقفين على فتاواهم لم يكن ممّا لا ريب فيه ، بل كلّه ريب فيترك ويؤخذ بقول البطانة كما ظهر ذلك من خبر عبد الله بن محرز الذي مرّت الإشارة إليه (١).

فإن قلت : قول السائل بعد ذلك : «فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم» (٢) ظاهر في الشهرة الروائيّة ، وإلّا فكيف يتصوّر الشهرة العمليّة في كلا المتعارضين؟

قلت : الشهرة بمعنى الظهور لا الأكثرية المطلقة ولذا يصحّ استعمال الأشهر. فيمكن ظهور كلتا الروايتين عند الأصحاب في مقام العمل في قبال ما فرض أوّلا من كون أحدهما مجمعا عليه والآخر شاذّا. ورواية الثقات لهما كناية عن عملهم بهما يفتي جمع منهم بهذا وجمع آخر بذاك. إذ الإفتاء في تلك الأعصار كان بنقل الرواية المعتبرة عندهم. ولو شك في أنّ المقصود بالشهرة في المقبولة الشهرة الروائيّة أو العمليّة أخذ بالقدر المتيقّن أعني كون إحدى الروايتين مشهورة رواية وعملا كما لا يخفى. هذا.

والمقبولة رواها المشايخ الثلاثة وتلقّاها الأصحاب بالقبول حتى اشتهرت بالمقبولة.

وصفوان بن يحيى في سندها من أصحاب الإجماع. وعن الشيخ في العدّة : أنّه لا يروي عن ثقة (٣). ومحمّد بن عيسى بن عبيد وإن ضعّفه الشيخ لكن قال النجاشي في حقّه : «إنّه جليل في أصحابنا ثقة عين.» (٤) وقال في حقّ داود بن حصين الأسدي أيضا : «إنّه كوفي ثقة.» (٥)

فيبقى الكلام في عمر بن حنظلة نفسه وقد رويت روايتان يستفاد منهما مدحه وصدقه ولكن في سند أحدهما يزيد بن خليفة وهو واقفي لم يثبت وثاقته وإن مال إليها بعض ، والخبر

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٤٤٥ ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديثان ٤ و٧.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٨ ، كتاب فضل العلم ، باب إختلاف الحديث ، الحديث ١٠.

(٣) عدّة الأصول ، ج ١ ، ص ٣٨٦ و٣٨٧ ؛ وتنقيح المقال ، ج ٢ ، ص ١٠٠ و١٠١.

(٤) رجال النجاشي ، ص ٣٣٣ (ـ ط. اخرى ، ص ٢٣٥) ؛ وتنقيح المقال ، ج ٣ ، ص ١٦٧.

(٥) رجال النجاشي ، ص ١٥٩ (ـ ط. اخرى ١١٥) ، وص تنقيح المقال ، ج ١ ، ص ٤٠٨.

٢٣٩

الآخر رواية نفس عمر بن حنظلة. ولكن كبار الأصحاب رووا عن عمر بن حنظلة واعتنوا برواياته ، وروايته هنا متلقّاة بالقبول ولعلّه يظهر آثار الصدق من متنها وفقراتها فيحصل الوثوق بصحّتها ، فتدبّر. وراجع ما حرّرناه في سند الرواية ومفادها في كتاب ولاية الفقيه (١).

وبالجملة يستفاد من المقبولة الاعتماد على الشهرة إجمالا. وعلى ذلك استقرّت الفتاوى في علاج الخبرين المتعارضين.

ويؤيّد ذلك مرفوعة زرارة المرويّة في عوالي اللآلي عن العلامة ، قال : سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال : «يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ...» ورواه عنه في قضاء المستدرك (٢).

ولكن المرفوعة ضعيفة جدّا حتى إنّه طعن فيها وفي أصل الكتاب من لم يكن من دأبه المناقشة في الأخبار كصاحب الحدائق (٣). ولم يوجد منها أثر في ما بأيدينا من كتب العلّامة ، وإن أمكن أن يقال : إنّه في العوالي بعد ذكر المرفوعة قال : «وقد ورد هذا الحديث بلفظ آخر وهو ما روى محمد بن عليّ بن محبوب ، عن محمد بن عيسى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر بن حنظلة.» وذكر المقبولة بطولها ، ولعلّ هذا يوجب الاطمئنان بأنّ ابن أبي جمهور رأى المرفوعة في كتاب من كتب العلّامة ولكنّه لم يصل إلينا هذا.

وقد طال الكلام في الجهة الرابعة حول حديث تحف العقول. فاعتذر من القرّاء الكرام.

الأمور على حسب وعاء وجودها على ثلاثة أقسام

الجهة الخامسة : لا يخفى أنّ الأمور على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الحقائق المتأصّلة والموجودات الخارجيّة التي شغلت وعاء الخارج بمراتبه ، مجرّدة كانت أو مادّية ، جوهرية أو عرضية محمولة بالضميمة كالأبيض المحمول على الجسم والعالم المحمول على النفس.

__________________

(١) ولاية الفقيه ، ج ١ ، ص ٤٢٨.

(٢) عوالي اللآلي ، ج ٤ ، ص ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩ ؛ ومستدرك الوسائل ، ج ٣ ، ص ١٨٥ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٣) الحدائق ، ج ١ ، ص ٩٩ ، المقدمة السادسة.

٢٤٠