مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

التسهيل التي هي أيضا من أهمّ المصالح المنظورة. وبذلك تفترق الحجة الظاهرية عن العلم الوجداني بالتكليف الفعلي الحتمي. هذا.

وعلى هذا فاللازم ملاحظة أدلّة الأصول المرخصة وأنّها هل تشمل أطراف الحجة الإجمالية بحيث يرفع بسببها اليد عن إطلاقها أم لا؟

ولا نعني بذلك البحث عن أصل شمول أدلة الأصول لأطراف العلم أو الحجة الإجمالية ، إذ قد عرفت أنّ مرتبة الحكم الظاهري أعني الشك محفوظة في كل واحد من الأطراف. وإطلاقات أدلّة الأصول أيضا تشملها بالطبع ولكن قيّدنا ذلك بعدم لزوم المخالفة العمليّة للمعلوم في البين.

الفائدة العاشرة :

هل تجري الاصول المرخصة في أطراف الحجة الإجمالية؟

فالغرض في المقام هو البحث عن شمول أدلّة الأصول المرخّصة لأطراف الحجة الإجمالية بنحو يرفع بسببها اليد عن إطلاقها وإن لزمت المخالفة العملية لها.

فنقول : أمّا ما كان من قبيل حديث الرفع ونحوه فالظاهر عدم كفايته لرفع التكليف الثابت بالحجة الشرعية ولو إجمالا ، إذ إطلاقات الأدلّة الأوّليّة وعموماتها من قبيل الأمارات ، وهي تقوم مقام العلم شرعا في إثبات مفادها ، فمواردها تكون من قبيل ما يعلم تعبدا وليست مما حجب الله علمه عن العباد.

وبالجملة الأمارات تكون حاكمة بل واردة على الأصول العملية رافعة لموضوعها بناء على أن يراد بالعلم الحجة الشرعية بإطلاقها ، فتأمّل.

وكذا قوله عليه‌السلام في موثقة مسعدة عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

«كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك. وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.» (١)

__________________

(١) الكافي ، ج ٥ ، ص ٣١٣ ، كتاب المعيشة ، باب النوادر ، الحديث ٤٠.

٢٠١

إذ قوله : «بعينه» لا يراد به خصوص العلم التفصيلي بل كما بيّنه الشيخ (ره) في الرسائل :

«تأكيد للضمير جيء به للاهتمام في اعتبار العلم كما يقال : رأيت زيدا نفسه بعينه لدفع توهم الاشتباه في الرؤية وإلّا فكلّ شيء علم حرمته فقد علم حرمة نفسه.» (١) وعلى هذا فتشمل الغاية العلم الإجمالي بالشيء أيضا. هذا.

وفي تطبيق الكبرى المذكورة في الموثقة على الأمثلة المذكورة في ذيلها إشكال ، إذ الحلّيّة في الأمثلة مستندة غالبا إلى أمارات وقواعد متقدمة رتبة على أصالة الحلّ كاليد في الثوب المشتراة وأصالة الصحة في العقود واستصحاب عدم كون المرأة رضيعة ونحو ذلك ، فيجب أن يقال : إنّ الكبرى ليست في مقام بيان أصالة الحلّ المصطلحة بل بصدد بيان حكم الحلّ ولو بأمارة شرعية أو بأصل محرز.

الروايات الظاهرة في جريان الأصل المرخّص في مورد الحجة الإجمالية

نعم هنا ثلاث روايات ربما يظهر منها ورودها في مورد الحجة الإجمالية أو شمولها له أيضا ، ومقتضاها جريان أصالة الحلّ في موردها أيضا :

الأولى : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال :

«كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتى (إلى خ. ل) أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.» (٢)

إذ الظاهر منها كون : «بعينه» قيدا للمعرفة ، فظاهره كظاهر مادّة المعرفة ، المعرفة التفصيلية كما لا يخفى.

الثانية : ما في الكافي عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن عبد الله بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال لي : لقد

__________________

(١) الرسائل ، ص ٢٤١ (ـ ط. اخرى ، ص ٤٠٢) ، في الشك في المكلّف به ، في الشبهة المحصورة.

(٢) الكافي ، ج ٥ ، ص ٣١٣ كتاب المعيشة ، باب النوادر ، الحديث ٣٩ ؛ ورواه عن التهذيب ، ج ٩ ، ص ٧٩ في الوسائل ، ج ١٦ ، ص ٤٠٣ (ـ ط. اخرى ، ج ١٦ ، ص ٤٩٥) بتفاوت يسير.

٢٠٢

سألتني عن طعام يعجبني. ثم أعطى الغلام درهما فقال : يا غلام ، ابتع لنا جبنا ، ودعا بالغداء فتغدّينا معه وأتى بالجبن فأكل وأكلنا معه ، فلمّا فرغنا من الغداء قلت له : ما تقول في الجبن؟ فقال لي : أو لم ترني أكلته؟ قلت : بلى ولكني أحبّ أن أسمعه منك. فقال : «سأخبرك عن الجبن وغيره : كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.» (١)

ورواه عنه في الوسائل ، إلّا أنّ فيه بدل عن ابن محبوب : عن أبي أيّوب. (٢)

ودلالته كدلالة الصحيحة. والظاهر أن علّة ترديد الراوي في حلّيّة الجبن احتمال وجود الميتة في بعضها أو علمه به إجمالا ، كما يظهر من سائر الأخبار الواردة في الباب ، فراجع. وإطلاق الجواب يشمل الشبهة البدوية وأطراف العلم الإجمالي.

وعبد الله بن سليمان مجهول مردّد بين عدّة (٣) ، والراوي عنه عبد الله بن سنان ، فيحتمل كون الصحيحة قطعة من هذا الخبر وأنّه سقط من سندها عبد الله بن سليمان. ولا يدفع هذا الاحتمال إختلاف الإمام المروي عنه فيهما ، لاحتمال الاشتباه وكون المروي عنه في كليهما أبا عبد الله عليه‌السلام ، كما ربما يقرب ذلك خبر آخر لعبد الله بن سنان ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجبن ، فقال : إنّ أكله ليعجبني. ثم دعا به فأكله (٤). هذا ولكن المروي عنه في المرسلة الآتية أيضا أبو جعفر عليه‌السلام ، فتأمّل.

وكيف كان فلعلّ حلّيّة الجبن في أطراف العلم الإجمالي مستنده إلى كون الشبهة غير محصورة أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

وهنا إشكال ، وهو أنّ المفتى به لأصحابنا تبعا للأخبار المستفيضة طهارة أنفحة الميتة خلافا لأكثر فقهاء السنة كمالك والشافعي وأحمد ، حيث أفتوا بنجاستها ، فراجع الوسائل (٥) والمغني لابن قدامة (٦). ولكن لا يضرّ هذا لحجية الكبرى الكلية المذكورة في الذيل وإن كان

__________________

(١) الكافي ، ج ٦ ، ص ٣٣٩ ، كتاب الأطعمة ، باب الجبن ، الحديث ١.

(٢) الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٩٠ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١.

(٣) تنقيح المقال ، ج ٢ ، ص ١٨٥.

(٤) الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٣.

(٥) الوسائل ، ج ١٦ ، ص ٣٦٤ (ـ ط. اخرى ، ج ١٦ ، ص ٤٤٤) وما بعدها ، الباب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٦) المغني ، ج ١ ، ص ٦١ ، باب الآنية.

٢٠٣

في تطبيقها على المقام نوع تقية.

الثالثة : ما عن معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا ، قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنه لطعام يعجبني وسأخبرك عن الجبن وغيره : كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه.» (١)

والظاهر كون هذه المرسلة ناظرة إلى خبر عبد الله بن سليمان. وكلمة «بعينه» فيها متأخرة وظاهرها كونها قيدا لقوله : «فتدعه» لا للمعرفة.

الفائدة الحادية عشرة : هل يصح الاستدلال للمسألة بالروايات المذكورة آنفا؟

وكيف كان فالعمدة هي الصحيحة لو صرفنا النظر عما ناقشنا فيها. والظاهر منها كما مرّ شمولها لأطراف العلم الإجمالي أيضا وكون الغاية فيها خصوص المعرفة التفصيلية ، فلا يجب الاجتناب عن أطراف الحجة الإجمالية.

فهل يجوز رفع اليد بسبب رواية واحدة ـ قابلة للحمل على الشبهة غير المحصورة أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء أو غير ذلك ولا سيما على احتمال كونها قطعة من رواية عبد الله بن سليمان كما مرّ ـ عن جميع إطلاقات العناوين المحرمة الشاملة للمعلوم بالإجمال أيضا ، مع حكم العقل بوجوب الإطاعة في الحجة الإجمالية أيضا باجتناب جميع الأطراف من باب المقدمة العلمية كما مر بيانه؟

قال الشيخ الأنصاري (ره) في أوائل الاشتغال من الرسائل بعد استظهار كون قوله : «بعينه» قيدا للمعرفة قال :

«إلّا أنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله : «اجتنب عن الخمر» ، لأن الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردّد بينهما ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع ، وهو مما يشهد الاتفاق والنصّ على خلافه حتى نفس هذه الأخبار ،

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٩٢ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٧.

٢٠٤

حيث إنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه.» (١)

ثم أطال الإشكال والجواب في هذا المجال ، فراجع.

والعمدة ما ذكره من شهادة الاتفاق والنصّ على خلاف ظاهر الصحيحة. وإن كان الظاهر أنّ الاتفاق في المسائل الأصولية المبتنية غالبا على الاستنباطات ليس بنحو يكشف عن قول المعصومين. والظاهر أنّه أراد بالنصّ ما تعرّض له بعد ذلك بصفحات :

مثل ما ورد في الماءين المشتبهين من إهراقهما والتيمم. (٢)

وما ورد من تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين. (٣)

وما ورد في وجوب غسل كلّ الثوب إذا علم بنجاسة بعضه ووجوب غسل جميع الناحية التي علم بإصابة بعضها النجاسة معلّلا بقوله : «حتى تكون على يقين من طهارتك.» (٤) وما دلّ على بيع المختلط من المذكى والميتة ممن يستحلّ الميتة الظاهر في عدم جواز أكلهما ولا بيعهما من مسلم (٥).

وما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم التي علم إجمالا بكون بعضها موطوءة (٦).

حيث إن المستفاد من جميع ذلك منجّزية العلم الإجمالي ووجوب الاجتناب من جميع أطرافه ، فراجع. هذا.

ويؤيد ذلك كلّه ما ذكره الشيخ أيضا من النبويين أعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما اجتمع الحرام والحلال إلّا غلب الحرام الحلال.» (٧) وقوله : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عما به البأس.» (٨)

__________________

(١) الرسائل ، ص ٢٤١ (ـ ط. اخرى ، ص ٤٠٥) ، في الشك في المكلف به ، في الشبهة المحصورة.

(٢) الوسائل ، ج ١ ، ص ١١٣ و١١٦ ، من الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

(٣) الوسائل ، ج ٢ ، ص ١٠٨٢ ، الباب ٦٤ من أبواب النجاسات.

(٤) الوسائل ، ج ٢ ، ص ١٠٠٥ ـ ١٠٠٧ ، الباب ٧ من أبواب النجاسات.

(٥) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٦٧ وما بعدها ، الباب ٧ من أبواب ما يكتسب به.

(٦) الوسائل ، ج ١٦ ، ص ٣٥٩ (ـ ط. اخرى ، ج ١٦ ، ص ٤٣٦) ، الباب ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٧) عوالي اللئالي ، ج ٢ ، ص ١٣٢ ، الحديث ٣٥٨.

(٨) قال في الرسائل ، ص ٢٤٤ (ـ ط. اخرى ، ص ٤١٠) عند نقل الحديث : المرسل المروي في بعض كتب الفتاوى.

٢٠٥

قال الشيخ :

«وضعفهما منجبر بالشهرة المحققة والإجماع المدّعى في كلام من تقدم.» (١)

أقول : الجبران إنّما يتحقق على فرض استناد المشهور أو المجمعين على هاتين الروايتين ولم يتّضح هذا.

وبما ذكرنا كلّه في المقام يظهر أيضا بطلان ما احتملناه في الأمر الثاني من إجراء الأصول المرخصة في بعض أطراف العلم الإجمالي بنحو التخيير.

مضافا إلى أنّه إذا كان مفاد العلم الإجمالي حكما اقتضائيا إلزاميا ومفاد الأصل مجرّد اللااقتضاء فالظاهر عند العقلاء والعرف عدم مزاحمة اللااقتضاء المحض للاقتضاء الملزم. ولو سلّم كون الترخيص أيضا عن اقتضاء كما لعلّه الظاهر في الإباحة والحلّيّة الظاهرية فالظاهر عندهم أهمية الاقتضائي الملزم من غير الملزم. هذا.

وتفصيل هذه المسائل موكول إلى علم الأصول ، وإنما أشرنا إليها هنا استطرادا.

الفائدة الثانية عشرة :

هل أصالة الحلّ في أحد الطرفين يستلزم جواز بيعه بقصد المذكّى؟

الأمر الخامس : قد ظهر من عبارة المصنّف أنّه لو قلنا بجواز ارتكاب أحد الطرفين بإجراء أصالة الحلّ فيه بنحو التخيير جاز بيعه أيضا بقصد المذكى الواقع في البين.

وناقش في ذلك المحقّق الشيرازي في حاشيته في المقام بما لفظه :

«الظاهر أنّ اصالة الحلّ بالمعنى الذي ذكرناه لا يثبت به إلّا جواز الأكل. وأمّا جواز البيع فلا ، لأنّ المفروض عدم جواز بيع الميتة الواقعية. فمع الشك في تحقق الموضوع القابل للانتقال يحكم بأصالة عدم الانتقال وإن لم يكن هناك أصل يثبت به عدم كونه المذكّى ، وذلك نظير المال المردّد بين كونه مال الشخص أو مال غيره ، فإنّه وإن قلنا بجواز أكله إذا لم يكن مسبوقا بكونه ملكا لغيره ، لكن لا نقول بجواز بيعه ، لما قلنا من الشكّ في الملكية المترتّب عليها جواز البيع ونفوذه.

__________________

(١) الرسائل ، ص ٢٤٧ (ـ ط. اخرى ، ص ٤١٤) ، في الشكّ في المكلّف به ، في الشبهة المحصورة.

٢٠٦

نعم لو كان المانع من جواز البيع هو مجرّد عدم جواز الانتفاع دون عنوان الميتة النجسة أمكن أن يقال بارتفاع المانع بجواز التصرّف الثابت ولو بأصالة الحلّ ...» (١)

وقد تعرّض لنحو هذه المناقشة المحقّق المامقاني أيضا في حاشيته إلّا أنّه ذكر بدل أصالة الحلّ أصالة الطهارة وقال :

«إنّ أصالة الطهارة لا تفيد كونه ملكا ، ضرورة أنّه لا ملازمة بين الطهارة وبين كونه ملكا ...»

فراجع كلامه. (٢)

وأجاب الأستاذ الإمام في المقام عن مناقشة المحقق الشيرازي بما محصّله :

«أنّ مفاد أصالة الحلّ ليس حلّيّة الأكل فقط بل مقتضى إطلاق أدلّتها جواز ترتيب آثار الحلّيّة ، ومن آثارها جواز البيع وصحّته. فإنّ قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان : «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» لا قصور فيه لإثبات جميع آثار الحلّيّة الواقعية عليه ، لأنّ الحلّيّة فيه لمّا لم تكن واقعيّة تحمل على الظاهرية بلحاظ ترتيب الآثار بلسان جعل الموضوع. وإطلاقه يقتضي ترتيب جميع الآثار. بل الظاهر أنّ مفاد أصالة الحلّ أعمّ من التكليفية والوضعية ، فإذا شكّ في نفوذ بيع المشكوك فيه حكم بنفوذه بأصالة الحلّ الوضعي.

بل يمكن أن يقال : إنّ جواز الأكل وسائر الانتفاعات كاشف عن ملكيته لدى الشارع ولو ظاهرا ، كما أنّ النهي عن جميع التصرفات كاشف عن سقوطها لديه. أو يقال : إنّ ملكية الميتة وماليّتها عقلائية لا بدّ في نفيهما من ردع الشارع. ولا دليل على الردع في مورد المشتبه مع تجويز الشارع الانتفاع به فيصحّ بيعه بإطلاق أدلّة تنفيذه.

فتحصّل مما ذكرناه أنّ الحكم بصحة البيع لا يتوقف على إحراز كونه مذكى

__________________

(١) حاشية المكاسب للشيرازي ، ص ١٠.

(٢) حاشية المكاسب للمامقاني ، ص ٢٢.

٢٠٧

أو عدم كونه ميتة. هذا ، مضافا إلى إمكان استصحاب كون المشتبه قابلا للنقل والانتقال ومملوكا يجوز فيه أنحاء التصرّفات فتكون تلك الاستصحابات حاكمة على استصحاب عدم الانتقال. وتوهّم عدم بقاء الموضوع لعروض الموت على الحيوان قد فرغنا عن جوابه في محلّه.» (١)

نقد جواب الأستاذ الإمام عن مناقشة المحقق الشيرازي

أقول : جوابه (ره) عن المناقشة يرجع إلى خمسة أجوبة :

الأوّل : أنّ الحكم بحلّيّة المشكوك فيه تكليفا يقتضي ترتيب جميع آثار الحلّيّة ، ومن جملة آثارها جواز البيع وصحّته.

الثاني : أنّ المقصود بالحلّيّة في الصحيحة وغيرها ليس خصوص الحلّيّة التكليفية بل الأعم من التكليف والوضع أعني الصحّة.

الثالث : أنّ جواز أكل الشيء وسائر الانتفاعات منه كاشف عن حكم الشارع بملكية هذا الشيء.

الرابع : أنّ ملكية الميتة وماليتها مما يحكم به العقلاء ولا نحتاج في الأمور العقلائية إلى إمضاء الشارع ، نعم له الردع عنها ، ولا دليل على الردع في المشتبه بعد تجويز الانتفاع به.

الخامس : استصحاب كون المشتبه قابلا للنقل والانتقال ومملوكا ، وهذا الاستصحاب حاكم على أصالة عدم الانتقال.

أقول : الجواب الأوّل لا يخلو عن إشكال ، إذ لو كان الموضوع لمنع البيع حرمة الشيء كان الحكم بحليّته ولو ظاهرا رافعا لموضوع المنع ولو تعبّدا فيحكم بصحة بيعه. ولكن المفروض ـ كما ذكره المناقش ـ أنّ الموضوع لمنع البيع هو عنوان الميتة الواقعية ، فما لم يحرز كونه مذكى لم يحكم بصحة بيعه. وبأصالة الحلّ لا يثبت هذا العنوان. نعم لو ثبتت الملازمة بين حلّيّة الشيء تكليفا وبين صحة بيعه صحّ ما ذكره.

وأحسن الأجوبة الخمسة الجواب الثاني. وتوضيحه : أنه قد مرّ في بعض الأبحاث السابقة

__________________

(١) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى (ره) ، ج ١ ، ص ٥٩.

٢٠٨

أنّ الحلّ والحرمة لا تختصّان بالتكليفية ، واستعمالهما في خصوص التكليف وتبادره منهما إنّما حدث في ألسنة الفقهاء والمتشرّعة. وأمّا في الكتاب والسنة فكانا يستعملان في المفهوم الجامع للتكليف والوضع. فكان يراد بحلّيّة الشيء إطلاقه وعدم المنع بالنسبة إليه من ناحية الشرع ، وبحرمة الشيء المنع والمحدودية من ناحيته. وإطلاق كلّ شيء ومحدوديته يلاحظان بحسب ما يترقب من هذا الشيء.

واستعمال اللفظين وإرادة الوضع أيضا كان شائعا في لسان الشرع المبين ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا.)(١)

وفي صحيحة محمد بن عبد الجبّار : «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» (٢) إلى غير ذلك من الروايات.

وإذا استعمل اللفظان ولم تكن قرينة على إرادة خصوص التكليف أو الوضع فالظاهر منهما إرادة المطلق كما في الصحيحة والموثقة المتقدمتين. ولذا قوّينا جواز الاستدلال بهما على صحة الصلاة في اللباس المشكوك فيه.

وقد مرّ عن الأستاذ آية الله البروجردي حكاية ذلك عن المحقق القمي ـ طاب ثراهما ـ وعلى هذا ففي المقام إذا فرض إجراء أصالة الحلّ في أحد طرفي العلم الإجمالي تخييرا كان مقتضاه حليته تكليفا ووضعا بالصلاة فيه وصحة المعاملة عليه ونحو ذلك ، فتدبّر. (٣)

__________________

(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ٢٧٥.

(٢) الوسائل ، ج ٣ ، ص ٢٦٧ ، الباب ١١ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٢.

(٣) المكاسب المحرمة ، ج ١ ، ص ٣٧٨ إلى ٣٩٩.

٢٠٩
٢١٠

الفصل السابع :

منابع الحكم الشرعى ومصادره

وهو يشتمل على فوائد :

٢١١
٢١٢

الفائدة الاولى :

حجية الأدلّة الاربعة

«المبحث : حجية الأدلة الأربعة : العقل والكتاب والسنة ـ قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره ـ والإجماع. ويبحث فيه أيضا عن الشهرة وعن القياس والاستحسان والاجتهاد والتخطئة والتصويب وانفتاح باب الاجتهاد في كل زمان ، وأدلّة التقليد وحجية فتوى الفقيه. ويقسّم فيه الأمور على ثلاثة أقسام : ١ ـ الحقائق المتأصلة ٢ ـ المفاهيم الانتزاعية ٣ ـ الأمور الاعتبارية المحضة.» (١)

قد مرّ منّا أن أساس الحكومة الإسلاميّة هو قوانين الإسلام ومقرّراته في شتى مسائل الحياة ، وأنّ منابعها ومصادرها هي الكتاب العزيز ، والسنّة القويمة بأقسامها من قول المعصوم وفعله وتقريره الثابتة بطريق صحيح معتبر ، وحكم العقل القطعي الخالي من شوائب الأوهام والتعصّبات ، كالحسن والقبح العقليّين وكالملازمات العقليّة القطعيّة. وهذه الثلاثة ممّا اتفق عليها الشيعة والسنّة.

وما يرى في بعض الكلمات من التشكيك في حجّيّة العقل مطلقا فهو بظاهره كلام واه لا يعتنى به ، إذ لو حصل بحكم العقل القطعي القطع بحكم الشارع فلا مجال لإنكار حجيّته ، فإن القطع حجة ذاتا ، والعقل أمّ الحجج وأساسها. وهل يثبت التوحيد والنبوّة وحجّيّة كتاب الله وسنّة رسول الله إلّا من طريق العقل؟

وفي خبر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «العقل دليل المؤمن.» (٢)

__________________

(١) ولاية الفقيه ، ج ٢ ، ص ٦٤.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٢٥ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ٢٤.

٢١٣

وفي خبر آخر عنه عليه‌السلام قلت له : ما العقل؟ قال : «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان.» (١)

وفي خبر هشام بن الحكم ، عن موسى بن جعفر عليه‌السلام : «يا هشام ، إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول.» (٢)

وبالجملة ، فأصل حجية العقل القطعي إجمالا ممّا لا مجال للإشكال فيه وإن وقع الإشكال في بيان مصاديقه. وللبحث فيه محل آخر. وكذا لا إشكال في حجيّة الكتاب والسنّة إجمالا على من أذعن بالإسلام والنبوّة. (٣)

حكم العقل بالنسبة إلى ما قبل جعل الشرع وبعده

«محل البحث : الاستدلال على حرمة حفظ كتب الضلال بحكم العقل وأن حكمه على قسمين : ١ ـ ما يرتبط بما قبل الجعل والبعث. ٢ ـ ما يرتبط بما بعدهما.» (٤)

الثاني من الأدلّة : ما ذكره المصنّف (الشيخ الانصارى) من حكم العقل بوجوب قطع مادّة الفساد. وأجاب عن ذلك المحقق الايرواني بقوله :

«العقل لو حكم بذلك لحكم بوجوب قتل الكافر بل مطلق من يضلّ عن سبيل الله بعين ذلك الملاك ، ولحكم أيضا بوجوب حفظ مال الغير عن التلف ، لكن حكمه بذلك ممنوع.» (٥)

وفي مصباح الفقاهة ما ملخّصه :

«أنّ مدرك حكم العقل إن كان حسن العدل وقبح الظلم بدعوى أنّ قطع مادّة الفساد حسن وحفظها ظلم وهتك للشّارع ، فيرد عليه : أنّه لا دليل على وجوب دفع الظلم في جميع الموارد وإلّا لوجب على الله ـ تعالى ـ وعلى الأنبياء و

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ١١ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ١٦ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ١٢.

(٣) ولاية الفقيه ، ج ٢ ، ص ٦٤

(٤) المكاسب المحرمة ، ج ٣ ، ص ٩١

(٥) حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني ، ص ٢٥.

٢١٤

الأوصياء الممانعة عن الظلم تكوينا ، مع أنّه ـ تعالى ـ هو الذي أقدر الإنسان على فعل الخير والشرّ. وإن كان مدرك حكمه ، وجوب الإطاعة وحرمة المعصية لأمره ـ تعالى ـ بقطع مادّة الفساد فلا دليل على ذلك إلّا في موارد خاصّة كما في كسر الأصنام والصلبان وسائر هياكل العبادة. نعم إذا كان الفساد موجبا لوهن الحقّ وإحياء الباطل وجب دفعه لأهميّة حفظ الشريعة المقدّسة ، ولكنّه وجوب شرعي في مورد خاصّ ولا يرتبط بحكم العقل.» (١)

أقول : أحكام العقل على قسمين :

القسم الأوّل : ما يحكم به بلحاظ إدراك المصالح والمفاسد النفس الأمرية ملزمة كانت أو غير ملزمة كحكمه بحسن العدل والإحسان وأداء الحقوق وقبح الظلم والعدوان ونحو ذلك.

وهذا القسم يستتبع قهرا أحكام الشرع على طبقها ولو إمضاء حيث إنّه ما من موضوع إلّا وله حكم شرعي تابع للمصالح والمفاسد ، لعدم كون أحكامه جزافيّة. وقد عبّروا عن هذا الاستتباع بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

القسم الثاني : ما يحكم به العقل في المرتبة المتأخّرة عن الأحكام الشرعيّة كحكمه بوجوب إطاعة أوامر الشارع ونواهيه وقبح معصيتها.

وهذا القسم لا تجري فيها قاعدة الملازمة ولا يستتبع حكما شرعيّا ، لعدم تحقّق الملاك فيها وراء الملاكات الأوّليّة التي استتبعت الأحكام الأوّليّة ، ولاستلزام التسلسل بتحقّق إطاعات غير متناهية ووجوبات كذلك كما فصّل في محلّه.

وحيث إنّ المصنّف هنا في مقام الاستدلال على الحرمة الشرعيّة فلا محالة يكون حكم العقل به المستدلّ به من قبيل القسم الأوّل كما لا يخفى. (٢)

إطار حجية العقل

«حجية العقل هل تشمل الموضوعات أم لا وهل المتبع في تشخيص موضوعات الأحكام الدقة العقلية؟»

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٢٥٤.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٣ ، ص ٩١

٢١٥

لا يخفى أن المتبع في تشخيص موضوعات الأحكام ليس هو الدقة العقلية الفلسفية بل الفهم العادي العرفي ولكن الملاك دقة العرف لا مسامحاته ، فلون الدم الباقي في الثوب بعد غسله وإن كان بالدقة العقلية دما لاستحالة انتقال العرض ولكنه بنظر العرف والعادة لا يعدّ دما فلا يجب ازالته ، وكذا رائحة النجس. ولكن الصاع والمد والكر وغيرها من الأوزان الشرعية لو فرض نقص مثقال او مثقالين منها فالعرف يطلق عليها لفظ الصاع ونحوه ولكن بالمسامحة بحيث ان نفسه أيضا يتوجه إلى كونه مسامحة.

فالموضوع للحكم الشرعي هو الصاع مثلا بالدقة العرفية لا الإطلاق المسامحي. (١)

ما هو الملاك في المقادير الشرعية؟

«هل الملاك في المقادير الشرعية في الأبواب المختلفة الدقة العرفية او نظر العرف ولو بالمسامحة؟ وعلى الفرض الأوّل فاذا فرض إختلاف المقادير فما هو التكليف؟» (٢)

فلنعقد هنا مسألتين :

المسألة الأولى : موضوعات الأحكام وان كانت تؤخذ من العرف لا من العقل الدقي ولكنها تؤخذ من العرف بدقته العرفية لا بمسامحته. فالنجاسة كالدم وغيره لو أزيلت وبقيت رائحتها او لونها فالعقل وان كان يحكم ببقاء الموضوع لاستحالة انتقال العرض ولكن العرف بدقته العرفية يحكم بارتفاع العين وهو المحكّم ، ولكن المقدار كالنصاب والكر والصاع ونحوها لو نقص منه شيء يسير فالعرف وإن كان ربما يحكم ببقاء المقدار ولكنه بنحو المسامحة لا الدقة بحيث إن العرف بنفسه أيضا يتوجه إلى كونه تجوّزا ومسامحة ومثله لا يكون موضوعا للحكم بلا إشكال.

هذا ولكن قال في مصباح الفقيه ما حاصله :

«أن المسامحة العرفية قد تكون في الصدق كإطلاق المثقال او الرطل او المنّ او غير ذلك من أسماء المقادير على ما نقص عنه بمقدار غير معتد به مسامحة فهذا مما لا اعتداد به في التقديرات الشرعية ، وقد تكون في المصداق كإطلاق الذهب على

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٢٣٣.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٢٩٧.

٢١٦

الذهب الردي غير الخالص ، وإطلاق الحنطة على الحنطة غير النقية عن الاجزاء الأرضيّة وشبهها المستهلكة فيها ، وكذا إطلاق التراب في التيمم على المشتمل على مثل الشعرة وبعض أجزاء الحشيش الذي قلما ينفك أكثر الأراضي عنه. وهذا النحو من المسامحة موجب لاندراج الموضوعات تحت مسمياتها عرفا فيكون إطلاق العرف أساميها عليها إطلاقا حقيقيا فيترتب عليها أحكامها. وتوهم الفرق بين التراب والحنطة ونحوها بدعوى غلبة إختلاف الحنطة ونحوها بغير الجنس فلا يتبادر من الإطلاقات الّا الأفراد المتعارفة بخلاف التراب مدفوع أولا بأن إختلاف التراب بغير جنسه أغلب ، وثانيا ان المدار على إطلاق الاسم وعدم انصرافه عنه لا كونه فردا غالبيا». (١)

أقول : الحق أن الخليط إن كان مستهلكا بحيث يراه العرف معدوما كالمواد المعدنية المستهلكة في الماء او التراب فلا حكم له لما عرفت من أخذ الموضوع من العرف لا من العقل.

وأما في غير هذه الصورة فإن غلب الخلط بحيث تنصرف الإطلاقات الشرعية إلى ما له خلط لكونه الفرد الموجود المتعارف بين الناس كمثال الذهب مثلا فان قوله : «في عشرين دينارا نصف دينار» ينصرف إلى الدنانير الرائجة بين الناس وهي لا تخلو من خليط حيث إن الذهب الخالص لا ينطبع ما لم يدخله شيء من النحاس ، ففي هذه الصورة أيضا يكون موضوع الحكم هذه الأفراد المتعارفة ، وقد أشار إليه في المصباح بلفظ التوهم مع انه أمر متين إذ الانصراف كالقرينة المتصلة المبينة لموضوع الحكم ، ولعل من هذا القبيل أيضا مثال الحنطة في الزكاة فان الحنطة التي توجد في أيدي الناس وتقع موردا لمعاملاتهم هي الحنطة التي يوجد فيها خليط يسير من المدر والتين ونحوهما وليس الخليط مستهلكا بحيث لا يراه العرف ولذا يغربلون الحنطة ويخلّصونها إذا أرادوا طحنها لأنفسهم ولكن الموضوع لمعاملاتهم ومعاشراتهم ما له خليط ، فالمأمور دفعها في الزكاة هو ما في أيديهم وعليها معاملاتهم. لا أقول بكفاية صرف الغلبة بل يجب أن تكون غلبة الخلط بنحو يكون ذو الخلط فردا متعارفا وإليه ينصرف إطلاق كلام الشارع.

__________________

(١) مصباح الفقيه ، ج ١ ، ص ٤٧٤ وج ٣ ، ص ٥١.

٢١٧

وأما اختلاط التراب بمثل التين ونحوه فالظاهر عدم كونه من هذا القبيل.

وبالجملة اللازم أن يكون الخليط مستهلكا بحيث لا يراه العرف ويراه معدوما أو يكون إطلاق كلام الشارع منصرفا إلى ماله خلط وإلّا فيضر الخلط.

وأما قوله : «هذا النحو من المسامحة موجب لاندراج الموضوعات تحت مسمياتها عرفا فيكون إطلاق العرف أساميها عليها اطلاقا حقيقيا».

ففيه ان في هذا الكلام نحو تهافت ، إذ مع فرض المسامحة يكون الإطلاق بنحو من المسامحة والتجوز فكيف يكون إطلاقا حقيقيا فتدبر. هذا ما يرتبط بالمسألة الأولى.

في فرض اختلاف الموازين ما هو التكليف؟

المسألة الثانية : بعد ما اتفق أصحابنا وأكثر أهل الخلاف على كون التقديرات الشرعية مبنية على التحقيق لا التقريب فاذا فرض إختلاف الموازين فما هو التكليف؟ والمسألة خلافية فينا أيضا.

فالشيخ في الخلاف قال بعدم الوجوب ، وحكم آخرون ومنهم صاحب الجواهر بالوجوب.

قال في الجواهر ما حاصله :

«لاغتفار ذلك في المعاملة فكذا هنا ، ولصدق بلوغ النصاب بذلك ضرورة عدم اعتبار البلوغ بالجميع لعدم إمكان تحققه فلا إشكال في الاجتزاء بالبلوغ في البعض مع عدم العلم بخلاف الباقي وليس إلّا لحصول الصدق بذلك ، وهذا الملاك يوجد في صورة العلم بخلاف الباقي أيضا. ودعوى الفرق بصحة السلب أيضا في هذه الصورة دون الأوّل يدفعها منع صحة السلب بنحو الإطلاق بل مقيدا بخلاف الإثبات إذ يكفي فيه فرد ما. وتحقيق ذلك أن التقدير ينصرف إلى الأفراد المتوسطة والمدار الصدق العرفي وهو متحقق في أقل أفراد الوسط. ويمكن تأييده بعد الاحتياط بإطلاق ما دلّ على ثبوت الزكاة في الذهب ، خرج منه الناقص عن العشرين في جميع الموازين ويبقى ما عداه». (١)

__________________

(١) الجواهر ، ج ١٥ ، ص ١٧٣.

٢١٨

أقول : ما ذكره مبني على كون الموضوع الموازين والصنوج المتعارفة فتحمل على أفرادها المتوسطة مع بداهة بطلان ذلك.

والحق ما ذكره في مصباح الفقيه وحاصله بتوضيح منا :

«أن أسماء المقادير والأوزان أسام لأصول مضبوطة محدودة في الواقع بحدود غير قابلة للزيادة والنقيصة ، فالذراع مثلا أصله ذراع خاص عيّنه المأمون مثلا لتقدير المساحة محفوظ في محل خاص ، والمتر أصله محفوظ في خزانة باريس ، وكذا الصنوج المتعارفة لكل منها أصل غير قابل للزيادة والنقيصة ، والمقادير والأوزان الموجودة في البلاد وفي أيدي الناس أمارات لتلك المقادير والأوزان الواقعية يعتمد عليها من باب أصالة الصحة والسلامة ما لم يعلم نقصها ، فلو اختلفت الموازين التي في أيدي الناس وتعارضت سقطت عن الاعتبار ، ومع الشك في بلوغ النصاب الأصل يقتضي البراءة كما اختاره الشيخ. وقول صاحب الجواهر تبعا للمسالك : «لاغتفار ذلك في المعاملة» ففيه أن الاغتفار مبني على المسامحة ، ولذا يتسامحون لدى إختلاف الموازين في غير النقدين بما لا يتسامحون فيهما ، ويتسامحون في الفضة بما لا يتسامحون في الذهب. قوله : «ولصدق بلوغ النصاب بذلك» ففيه أن موضوع الحكم كونه بحد ذاته بالغا حد النصاب سواء وجد في العالم ميزان أم لا ولا موضوعية للموازين المتعارفة حتى يكتفي بصدقها بل هي أمارات وطرق ولا حجية لها مع التعارض بل تصير الأصول حينئذ مرجعا حتى عند العرف والعقلاء فتدبر.» (١)(٢)

المسامحات العرفية

«هل الزكاة تتعلق بمال المجنون الأدوراي أم لا؟ ويبحث فيها عن لزوم الدقة العقلية في تعيين الحدود وعدمه» (٣)

__________________

(١) مصباح الفقيه ، ج ٣ ، ص ٥١ و٥٢.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٢٩٧ إلى ٢٩٩.

(٣) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٣٨.

٢١٩

ليس في كلمات القدماء في المسألة تصريح بقسمي المجنون.

وأول ما رأيته في التذكرة قال فيها : «لو كان الجنون يعتوره اشترط الكمال طول الحول فلو جنّ في أثنائه سقط واستأنف من حين عوده». (١)

وظاهر كلامه إضرار الجنون ولو ساعة في طول الحول والالتزام بذلك مشكل جدّا إذ كثيرا ما يتفق الجنون واختلال الحواس للناس لبعض العوارض والأغذية في ساعة أو يوم والالتزام بقطع ذلك للحول بعيد.

وفي المدارك : «اما ذو الأدوار فالاقرب تعلق الوجوب به في حال الإفاقة إذ لا مانع من توجه الخطاب إليه في تلك الحال» ثم نقل عبارة التذكرة ثم قال : «وهو مشكل لعدم الظفر بما يدل على ما ادعاه». (٢)

والتحقيق ان يقال : لو ثبت بالدليل اشتراط العقل طول الحول كالبلوغ فالجنون آنا ما يضرّ فكيف بالساعة واليوم ولا يفيد صدق كونه عاقلا في الحول بالصدق المسامحي العرفي فان موضوعات الأحكام وان كانت تؤخذ من العرف لا من العقل ولذا نحكم بطهارة لون الدم وان كان بحسب الدقة بقايا اجزائه ولكن الملاك دقة العرف لا مسامحته فالعرف يحكم بالمسامحة على منّ من حنطة إلّا مثقال انه منّ وعلى الصوم من طلوع الفجر إلى الليل الا دقيقة انه صوم يوم ولكنه يتوجّه إلى انه مسامحة منه بحيث لو سئل عن حكمه بالدقة يحكم بالسلب ولذا لا نكتفي في الكر والنصاب والصوم ونحوها بالمسامحات العرفية فكذلك العرف في مثل من كان عاقلا طول السنة إلّا ساعة وإن كان يحكم بكونه عاقلا في السنة مسامحة ولكنه يتوجه إلى كونه حكما مسامحيّا فلا اعتبار بهذا الحكم العرفي المسامحي في تعيين الموضوعات الشرعية.

هذا ولكن الذي يسهّل الخطب أنه لا دليل على اعتبار عنوان العقل في المقام كما لا دليل على اعتبار عنوان البلوغ ، بل الذي ثبت بالأدلّة في المسألة السابقة عدم الزكاة في مال اليتيم وبعد إلغاء الخصوصية عدم الزكاة في مال الصغير وفي مسألتنا هذه عدم الزكاة في مال المختلط وإذا فرض أن امرأة تكون عاقلة طول السنة ولكنه عرضها جنون ما في بعض الساعات

__________________

(١) التذكرة ، ج ٥ ، ص ١٦.

(٢) مدارك الأحكام ، ج ٥ ، ص ١٦.

٢٢٠