مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

فالأول أن يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر حقيقة ، كالخبر الصحيح الوارد في المسألة بالنسبة إلى حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

والثاني أن يتعرض أحدهما لما لا يتعرض له الآخر فيتصرف فيه تعبدا كقوله : لا شك لكثير الشك بالنسبة إلى قوله : إذا شككت فابن على الأكثر حيث إن لسان الأوّل رفع موضوع الثاني تعبدا.

والتعارض أن يتعرض أحد الدليلين لنفس النسبة التي تعرض لها الآخر بما ينافيها فيكون أحدهما مثبتا لها والآخر نافيا ، إما بنحو التباين أو العموم من وجه أو العموم والخصوص المطلق. وقد ذكروا لصورة عدم الجمع العرفي بينهما مرجحات أحصوها في محله. والتزاحم أن يحرز وجود الملاك في كلا الدليلين ولكن لا يقدر المكلف على امتثالهما معا كالمسلمين الغريقين مع عدم تمكن المكلف من إنقاذهما معا فالعقل يحكم بتقديم الأهم ان كان وإلّا فالتخيير. وهل يكون التقدم بحسب الزمان مرجحا فيه أم لا ، بين الأصحاب فيه كلام.

١٨١
١٨٢

الفصل السادس :

القطع

وهو يشتمل على فوائد :

١٨٣
١٨٤

الفائدة الاولى :

حالات المكلف

«محل البحث : بيان حالات المكلف الملتفت إلى الحكم يعني القطع او الظن به او الشك كما صرح به الشيخ ، وأورد عليه في المتن بأن نفس الالتفات لا يكفي في حصول الحالات الثلاث إذ قد يلتفت الشخص إلى نسبة شيء إلى شيء ولا يلتفت إلى أنها واقعة أم لا؟ ، فحصول إحدى الحالات الثلاث إنما هو في مرتبة لحاظ الخارج وأنها واقعة فيه أم لا؟. ثم بين علّة تغيير صاحب الكفاية العنوان ب «أن البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف الخ ، وهي أن تقسيم الشيخ كان مظنّة أن يستشكل عليه بأنه تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره بلحاظ أن الشاك ـ مثلا ـ ربما لا يكون مكلفا بما شك فيه ...»

ليس الإشكال عبارة عن تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره فإن عمدة الإشكال هو أن كلّا من القطع والظن والشك قد يتخلف عن الواقع فلا يكون تكليف في البين ولا ينحصر الإشكال ببعض الأقسام. ثم إن الظاهر عدم ورود الإشكال على ما ذكره في الكفاية إذ ليس مراده ، من وضع عليه القلم بالنسبة إلى هذا التكليف بل ليس مراده قدس‌سره المكلف الفعلي بل من له شأنية التكليف. فافهم. (١)

الفائدة الثانية :

أقسام القطع

«المبحث : قيام الأمارة مقام القطع فيما إذا كان موضوع الحكم بحسب

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٩٣.

١٨٥

الحقيقة هو الطريق المعتبر إلى الواقع بعنوان جزء الموضوع ، كما إذا قال : إذا قطعت بخمرية مائع فاجتنب عنه وكان أحد جزئي الموضوع هو الخمر والجزء الآخر هو القطع بما أنه طريق معتبر لا بما أنه كاشف تام ؛ فحينئذ قد أدعي أن أدلة اعتبارات الأمارات تفي بإثبات كونها قائمة مقام القطع ، فإذا قامت الأمارة على الخمرية مثلا ثبت أحد جزئي الموضوع أعني الخمرية بالتعبد والجزء الآخر أعني الطريق المعتبر وهو الأمارة بالوجدان. وناقش فيه في المتن بأن ذلك يستلزم الدور فإن اعتبار الأمارة يتوقف على كون مؤدّاها ذا أثر وكونه ذا أثر يتوقف على اعتبار الأمارة لدخالته في الموضوع أيضا فيدور.»

أقول : والعجب من الأستاذ ـ مد ظلّه ـ تسليمه لهذا الدور مع بداهة بطلانه فإن اعتبار الأمارة لا يتوقف على كون المؤدّى ذا أثر فعلي بل يكفي في ذلك انتهائه بالأخرة إلى أثر شرعي ، لكفاية ذلك في دفع محذور اللغوية ، بل لنا إجراء ذلك في تمام الموضوع أيضا إذ الموضوع إذا كان عبارة عن معلوم الخمرية مثلا وإن خالف الواقع فالخمر وإن لم يكن جزء للموضوع ولكنه قيد له فاعتبار الأمارة لإثبات القيد.

بل لقائل أن يقول : كون نفس قيام الإمارة ذا أثر شرعي يكفي في دفع محذور اللغوية في الجعل من دون احتياج إلى كون المتعلق أيضا ذا أثر شرعي ، على إشكال في الأخيرين. وجواب الدور ، هو أن كون المؤدّى ذا أثر ، لا يتوقف على ثبوت الجزء الآخر ، بل ترتب الأثر خارجا يتوقف على ثبوته فلا دور ، فافهم.» (١)

الفائدة الثالثة :

التجري

«ذكر في المتن أمران : ١ ـ إن مقطوع الحرمة بما هو مقطوع الحرمة في صورة مصادفة القطع مع الواقع هل يمكن أن يكون حراما شرعيا أم لا؟

__________________

(١) نهاية الأصول ، ص ٤٠٧.

١٨٦

واختار فيه الثاني للزوم التسلسل في الأحكام على الأوّل إذ لو كان مقطوع الحرمة بما هو مقطوع الحرمة موضوعا لحرمة شرعية اخرى فهذه أيضا تصير مقطوعة وتتعلق بها حرمة اخرى وبعد القطع بها أيضا تتعلق حرمة اخرى فيتسلسل الأحكام.

٢ ـ بعد نقل كلام الشيخ في المتن وهو ـ أن القطع حجة على القاطع ولو كان مخالفا للواقع ، وادعى عليه اتفاق كلماتهم ... ـ أورد عليه بأن معنى الحجيّة تنجيز الواقع ، وفي صورة المخالفة لا واقع حتى ينجّز ، فإطلاق الحجة عليه غير سديد ...»

نقد مواضع من كلام الأستاذ البروجردي قدس‌سره

أقول : يمكن أن يقع النظر في مواقع مما ذكره الأستاذ ـ مد ظلّه ـ :

الأوّل : ما ذكره أولا من : «أن ثبوت الحرمة لمقطوع الحرمة يوجب التسلسل».

وفيه : أنا لا نسلّم لزوم التسلسل ، إذ فعلية الحكم المتعلق بالموضوع يتوقف على تحقق موضوعه خارجا فثبوت الأحكام غير المتناهية يتوقف على تحقق العلوم غير المتناهية في ذهن العبد وحيث لا يتحقق هذا فلا يتحقق ذاك وبالجملة ، تنتهي سلسلة الأحكام بانتهاء سلسلة الالتفاتات.

الثاني : ما ذكره ـ مد ظلّه ـ في رد الشيخ أولا : «من إطلاق الحجة على القطع المخالف».

وفيه : أن الحجة عبارة عما يحتج به المولى على العبد ويصير سببا لاستحقاقه العقوبة وهذا يختلف على القولين فعلى القول بقبح التجري يكون القطع تمام الموضوع لذلك ولا أثر للواقع في إيجاب العقوبة فلا معنى لتنجّز الواقع إذ العقاب ليس دائرا مداره.

نعم : على القول بعدم قبحه يكون القطع جزءا للموضوع فيكون العقاب دائرا مدار الواقع المنجّز وليس معنى تنجزه إلّا صيرورته بحيث يستحق على مخالفته العقوبة. فافهم. (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٤١٢.

١٨٧

الدفاع عن صاحب الفصول

«نقد في المتن ما في الفصول من تداخل عقاب الواقع وعقاب التجري في صورة مصادفة القطع بالحرمة للحرمة الواقعية ، فقال : هو كلام مجمل بل غير صحيح إذ مخالفة هذا القطع من مصاديق العصيان لا التجري فان المفروض موافقة القطع للواقع فالثابت إنما هو عقاب واحد لا عقابان حتى يتداخلان إذ البحث عن التجري هو في صورة مخالفة القطع للواقع ...»

لعلّ مراد صاحب الفصول قدس‌سره أن التجري بالمعنى الأعم المتحقق في صورة العصيان أيضا ملاك لاستحقاق العقاب ونفس العصيان أعني مخالفة الواقع عن علم وعمد ملاك آخر ، ففي صورة العصيان يجتمع الملاكان ويثبت عقابان ومعنى تداخلهما ، هو ثبوت عقاب واحد بنحو الاشتداد بحيث يساوي عقابين ، والعلم في الملاك الأوّل تمام الموضوع وفي الثاني قيده فلا يتوهم أن ذلك يستلزم القول بثبوت العقاب على الواقع وإن لم يكن منجزّا. (١)

ما هو الموجب لاستحقاق العقاب؟

«نقد ما ذكر من أن الموجب لاستحقاق العقاب هو الإتيان بمبغوض المولى وهو في صورة مصادفة القطع للواقع ... ولا يتوهم أن موجب الاستحقاق هو الإتيان بمبغوض المولى ... ولا يتحقق إلّا عند المصادفة ، وذلك لما عرفت من أن باب الثواب والعقاب غير مربوط بالجهات الواقعية والمصالح والمفاسد ، ولذا لو فرض أمر المولى بلا مصلحة ومحبوبيّة كان مخالفته موجبة للاستحقاق.»

لقائل أن يقول : إن الموجب للاستحقاق ليس هو الإتيان بمبغوض المولى بل مخالفة أمره و

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٤١٧.

١٨٨

نهيه بلا عذر فيها من جهل أو عجز أو نحوهما وما هو المخرج عن رسم العبودية ، هو ذلك لا مطلق مخالفة العلم وإن لم يصادف إذ لا نسلّم أن رسم العبودية عدم مخالفته مطلقا ، بل رسمها العمل بأوامره والانتهاء عن نواهيه مع التنجّز.» (١)

تصوير الجزء الندبي في مقام الامتثال للعلم الإجمالي

«ويبحث أيضا عن دوران الأمر في مقام الامتثال بين الأقل والأكثر ... الظاهر أنه لا يتصور كون شيء كالقنوت مثلا مع استحبابه جزء للصلاة إلّا أن يفرض الصلاة عنوانا بسيطا ذات مراتب طولية ينتزع بعض مراتبها من الأقل وبعضها من الأكثر ...»

ولنذكر لذلك مثالا عرفيا ، وهو انه إذا أمر المولى عبده ببناء مدرسة فللعبد بناء مدرسة تشتمل على عشر حجرات مثلا وله بناء مدرسة تشتمل على مأئة حجرة والمدرسة عنوان عرضي مقول بالتشكيك على مجموع المتكثرات ، فإذا بنى العبد ما تشتمل على المائة أيضا تصير باجمعها منطبقا لعنوان المامور به وامتثالا للأمر الوجوبي وكذا لو أمر عبده بتشكيل مجمع ، فله تشكيل مجمع يشتمل على خمسة نفر وله تشكيل ما يشتمل على مأئة مثلا ، والجمعية عنوان عرضي تنتزع من مجموع المتكثرات كما لا يخفى.

ثم إنه ربما يتوهم جواز تصوير الجزء الندبي بنحو آخر وذلك بأن يكون الندبي جزء من الفرد دون الطبيعة كاللحية التي هي جزء من زيد دون الإنسان.

وفيه : أن هذا يصح في ما اذا اتّحد أجزاء الفرد بحسب الوجود كما في مثل زيد ولحيته وأما المركب الاعتباري كالصلاة مثلا فجزئية شيء لها تحتاج إلى الاعتبار ، فإنها حقائق متباينة متعددة بحسب الوجود ووحدتها باعتبار المعتبر ، فلا تنتزع الجزئية إلّا عمّا دخل تحت الأمر وإلّا للزم كون تحريك اليد مثلا أيضا من أجزائها مع أنه من المقارنات. فافهم. (٢)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٤١٨.

(٢) نهاية الاصول ، ص ٤٢٥.

١٨٩

الفائدة الرابعة :

هل تجري الاصول في أطراف العلم الإجمالي؟

«المبحث : بيع المختلط من الميتة والمذكى وأنه هل يجوز بيع أحدهما بقصد بيع المذكّى؟ وهل يجري في كل واحد منهما أصالة الحلّ والطهارة ، أو أصالة عدم التذكية؟ ويبحث عن جريان الأصول العملية في اطراف العلم الإجمالي إذا استلزم المخالفة العملية له وعدمه مطلقا أو بنحو التخيير ، وهل في ذلك فرق بين الأصول التنزيلية وغير التنزيلية؟ وهل فرق بين العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي وبين العلم بالحجّة الإجمالية؟ وعن نكات اخرى اصولية.» (١)

توضيح ذلك أن الاصل الجاري في المشتبهين قد يكون أصالة الحلّ كما إذا كان هنا إناءان طاهران مثلا ثم علم بتنجّس احدهما لا بعينه ، وقد يكون الأصل الجاري فيهما الحرمة ، كما إذا كانا نجسين ثم علم بطهارة أحدهما لا بعينه.

ففي الأوّل لم يجز الأخذ باستصحاب الطهارة والحلّيّة في كليهما ، لاستلزامه المخالفة العملية للعلم الإجمالي ، ولكن يمكن القول بجواز الأخذ باحدهما تخييرا ويترك الآخر للحرام المعلوم في البين ، نظير التخيير في الخبرين المتعارضين على القول به.

وأمّا في الثاني فبمقتضى استصحاب الحرمة والنجاسة الجاري في كلّ منهما يحكم بنجاسة كلّ منهما ويجب الاجتناب عن كليهما. ويترتب على ذلك وجوب الاجتناب عن ملاقي كلّ منهما أيضا ولا يلزم من ذلك مخالفة عملية للعلم الإجمالي. والمختلط من الميتة والمذكى يكون من قبيل القسم الثاني ، إذ مقتضى استصحاب عدم التذكية الجاري في كلّ منهما نجاسته وحرمته ، فيجب الاجتناب عن كليهما شرعا. ومعه لا مجال لأصالة الحلّ والطهارة ، إذ أصالة عدم التذكية أصل موضوعي حاكم عليها ومتقدم عليها تقدم الأصل السببي على المسببي.

أقول : ينبغي هنا التعرّض لأمور وإن كان محلّ تفصيلها كتب الأصول :

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ١ ، ص ٣٧٧.

١٩٠

الفائدة الخامسة :

الإشكال في إجراء أصالة عدم التذكية في المسألة

الأوّل : في مصباح الفقاهة ناقش في إجراء أصالة عدم التذكية هنا. ومحصّلها :

«أن هذا الأصل لا يثبت الميتة التي هي أمر وجودي إلّا على القول بالأصول المثبتة.

لا يقال : إنّ الميتة عبارة عما لم تلحقه الذكاة كما في القاموس.

فإنّه يقال : لا نسلّم اتحادهما ، إذ الميتة في اللغة والشرع إمّا عبارة عمّا مات حتف أنفه ، أو عبارة عما فارقته الروح بغير ذكاة شرعية وعلى هيئة غير مشروعة إمّا في الفاعل أو في القابل فلا يثبت شيء منهما بأصالة عدم التذكية. وأمّا ما في القاموس فلم تثبت صحّته ، وكذلك ما عن أبي عمرو من أنّها ما لم تدرك تذكيته.» (١)

أقول : يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بأنّ حلّيّة الأكل لمّا كانت معلّقة على التذكية الشرعية كما هو المستفاد من الكتاب والسنة فلا محالة يكون ما لم يذك محكوما بالحرمة وإن لم يصدق عليه عنوان الميتة

وإن شئت قلت : بأن الحرمة وإن علّقت في لسان الدليل على عنوان الميتة ، لكن لا إشكال في أنّ حلّيّة الحيوان تتوقّف على التذكية الشرعية ، فإذا فرض إحراز عدمها ولو بالاستصحاب حكم بانتفاء الحلّيّة قهرا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه وإن لم نحكم عليه ـ على هذا المبنى ـ بالأحكام الوجودية كالحرمة والنجاسة. هذا.

وقد يقال : إنّ المترتب على عدم التذكية هو حرمة الأكل أو عدم حلّيته ، وأمّا النجاسة فهي ثابتة لعنوان الميتة ، إذ لا ملازمة بين الحكمين ، ومحلّ الكلام في المقام هي النجاسة لا حرمة الأكل ، فتدبّر.

وهاهنا شبهة تختلج بالبال ، وهي أنّه لا دليل على كون عدم التذكية بإطلاقه موضوعا

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ١ ، ص ٧٣.

١٩١

للحرمة أو لعدم الحلّيّة ، فإنّ عدم الذكاة ثابت في حال حياة الحيوان أيضا ولا دليل على حرمة التقامه حينئذ لو أمكن ، نظير التقام السمك الحيّ في قعر البحر مثلا. فما هو الموضوع للحرمة أو لعدم الحلّيّة هو ما زهق روحه بغير التذكية الشرعية ، فكأنّ زهوق الروح مقتض لقذارة الحيوان والتذكية رافعة لها ، وإثبات هذا المقيد باستصحاب قيده العدمي تعويل على الأصل المثبت ولا نقول به.

بل يمكن أن يقال : إنّ كلّا من زهوق الروح بالتذكية وزهوقها بغير التذكية مسبوقان بالعدم ، فيستصحب عدمهما ، ويتعارضان فيرجع إلى أصل الحلّيّة والطهارة.

اللهم إلّا أن يمنع التقييد ويقال بتركب الموضوع من زهوق الروح وعدم التذكية ، حيث إنّ التذكية وعدمها ليسا من حالات زهوق الروح وقيودها بل من صفات الحيوان وحالاته ـ كما قيل ـ وعلى هذا فيحرز أحد جزئي المركب بالوجدان والآخر بالأصل كما في سائر الموضوعات المركبة. هذا والتفصيل يطلب من محلّه.

الفائدة السّادسة :

تساقط الاستصحابين في طرفي العلم الإجمالي

الأمر الثاني : أنّ الشيخ الأنصاري ـ قدس‌سره ـ حكم في أواخر الاستصحاب من الرسائل بتساقط الاستصحابين في طرفي العلم الإجمالي إذا استلزم الأخذ بهما المخالفة العملية للعلم الإجمالي ، واستدلّ لذلك بما لفظه :

«لأنّ العلم الإجمالي هنا بانتقاض أحد اليقينين يوجب خروجهما عن مدلول لا تنقض. لأنّ قوله : «لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين مثله» يدلّ على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين. فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا إبقاء أحدهما المعين لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح. وأمّا أحدهما المخير فليس من أفراد العام ، إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج فإذا خرجا

١٩٢

لم يبق شيء. وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة وأن قوله : كلّ شيء حلال حتى تعرف أنه حرام لا يشمل شيئا من المشتبهين.» (١)

أقول : ظاهر هذا الاستدلال أنّ دليل الأصل لا يشمل طرفي العلم الإجمالي لا أنه يشملهما ويسقطان بالتعارض. وقد يعبّر عن هذا الاستدلال بلزوم مناقضة صدر الدليل لذيله فتوجب إجمال الدليل.

ويرد عليه أوّلا : أنّ ظاهر استدلال الشيخ لا يطابق ظاهر ما ادّعاه ، إذ ظاهر المدّعى جريانهما بالذات وسقوطهما بالتعارض ، وظاهر الاستدلال عدم شمول الدليل لهما ، فراجع.

وثانيا : أنّ هذا البيان يجري فيما إذا لم يستلزم من إجراء الأصلين مخالفة عملية أيضا ، كما في أصالة عدم التذكية في المقام ، وقد صرّح المصنف في المقام بجريانهما.

وثالثا : ما مرّت الإشارة إليه من منع المناقضة ، لاختلاف متعلقي اليقين والشك ، حيث إنّ الشك تعلق بكلّ واحد من الطرفين مشخصا وكذا اليقين السابق ، واليقين بالخلاف تعلق بعنوان أحدهما المردّد.

ورابعا : أنّ الذيل الموجب للمناقضة والإجمال لا يوجد في جميع أدلّة الأصول ، وما في البعض أيضا ليس لبيان حكم مستقل شرعي بل تأكيد لبيان موضوع الأصل أعني الشك ، كيف؟! والأخذ باليقين بمعنى حجيته والعمل به ليس بحكم الشرع بل مما يحكم به العقل كما قرّر في محلّه.

وخامسا : يرد على ما ذكره أخيرا : أنّ القائل بالتخيير في المقام لا يريد جعل الفرد المخير فردا ثالثا مشمولا للعام ، بل يقول : إنّ إطلاق دليل الأصل إذا لم يمكن الأخذ به في الطرفين وجب الأخذ به في أحدهما لا محالة رعاية لمصلحة الجعل مهما أمكن. والتخيير هنا عقليّ نظير سائر موارد تزاحم الملاكات. فوزان الأصلين المتعارضين ظاهرا وزان الخبرين المتعارضين على القول بالسببية ، حيث لم يلحظ في جعل الأصول الطريقية إلى الواقع ، بل هو مجعول تعبّدي لوجود المصلحة في نفسه ولو كانت هي التسهيل على المكلف لئلا يبتلي بالاحتياط الموجب للحرج ، والله ـ تعالى ـ كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه يحبّ أن يؤخذ برخصه أيضا مهما

__________________

(١) الرسائل ، ص ٤٢٩ (ـ ط. اخرى ، ص ٧٤٤) في الكلام في تعارض الاستصحابين.

١٩٣

أمكن ، وإذا كان عدم القدرة تكوينا على الجمع بين واجدي المصلحة موجبا للحكم بالتخيير بينهما فليكن عدم القدرة على ذلك تشريعا أيضا موجبا لذلك. وقد قالوا : الممنوع شرعا كالممتنع عقلا. والعجب أنّ الشيخ ـ قدس‌سره ـ كان ملتفتا إلى هذا المعنى كما يظهر مما ذكره قبل العبارة السابقة وبعدها فراجع ، فلم ذكر هنا هذا الإشكال؟!

الفائدة السّابعة :

هل فرق بين الاصول التنزيلية وغيرها؟

الأمر الثالث : قد فصّل المحقق النائيني ـ على ما في أوائل الجزء الرابع من فوائد الأصول ـ بين الأصول التنزيلية وغير التنزيلية وقال ما محصّله :

«أنّ المجعول في الأصول التنزيلية ـ ومنها الاستصحاب ـ إنّما هو البناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع. وأمّا في الأصول غير التنزيلية كأصالة الطهارة والحلّيّة ونحوهما فالمجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ من دون تنزيل المؤدى منزلة الواقع المشكوك فيه. فالقسم الأوّل يمكن جعلها في الشبهات البدوية وفي بعض أطراف العلم الإجمالي. وأمّا بالنسبة إلى جميع الأطراف فلا يمكن مثل هذا الجعل للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف فكيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبدا.

ولا فرق في ذلك بين أن يلزم من إجرائهما مخالفة عملية أم لا. وأمّا في القسم الثاني فيمكن جعلها في الطرفين أيضا إلّا أن يلزم من إجرائهما مخالفة عملية.» (١)

أقول : الظاهر عدم الفرق بين التنزيلية وغيرها ، فيمكن جعلها في جميع الأطراف في التنزيلية أيضا إلّا أن يلزم مخالفة عملية. فعلى فرض كون الاستصحاب من التنزيلية كما فرضه يجوز في المقام جعل استصحاب عدم التذكية في الطرفين ، حيث لا يلزم من التعبد بهما وإجرائهما مخالفة عملية بل هما يؤكّدان العلم الإجمالي بالنجاسة.

والسرّ في ذلك أنّ كلّ أصل يلحظ بنفسه ومفاده ويكون مجعولا مستقلا في قبال

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ١٤ الى ١٧. في الشكّ في المكلّف به في الشبهة الموضوعية التحريمية.

١٩٤

الأصل الآخر وكلّ منهما تعبد مستقلّ بلحاظ تحقق موضوعه وليسا معا تعبّدا واحدا حتى يورد بأن التعبّد بهما ينافي التعبّد بالمعلوم إجمالا في البين.

وبعبارة أوضح : الموضوع لكلّ واحد من الاستصحابين هو الشك في مجراه والمفروض أنه متحقق. والتعبّد بكل منهما مستقلا لا ينافي الواقع المعلوم إجمالا في البين ، لاختلاف الموضوع ولاختلاف الرتبة كما في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري. وكلّ أصل يثبت مفاد نفسه ومجراه دون لوازمه وملازماته وملزوماته. ولذا نرى التفكيك بين مفاد الأصول ولوازمها ، كما إذا توضّأ بمائع مردّد بين البول والماء ، حيث يحكم ببطلان الوضوء وطهارة البدن باستصحابهما مع العلم إجمالا بكون أحدهما خلاف الواقع. وكذا لو شك بعد الصلاة في وقوعها مع الطهارة ، حيث يحكم بصحة هذه الصلاة بقاعدة الفراغ ووجوب الوضوء للصلوات الآتية.

وقد تلخّص مما ذكرنا هنا وفي الأمر السابق أنّ المقتضي لجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي متحقق ثبوتا وإثباتا ، بمعنى تحقق موضوعها وهو الشك وشمول إطلاق الأدلّة أيضا من غير فرق بين التنزيلية وغيرها ، وأن المانع عن إجرائها ليس إلّا لزوم المخالفة العملية للحكم المعلوم والترخيص في المعصية القطعية. هذا. والتفصيل يطلب من محلّه.

الفائدة الثامنة :

هل العلم الإجمالي كالتفصيلي في تنجيز الواقع؟

الأمر الرابع : بعد ما ثبت حجية العلم التفصيلي ذاتا وكونه علّة تامّة لتنجيز الواقع عقلا فهل العلم الإجمالي كذلك أو لا؟

ربما نسب إلى المحقق الخوانساري والمحقق القمي ـ طاب ثراهما ـ المنع وأنه بحكم الشك البدوي ، فيجري في مورده الأصول المرخّصة ، إذ الواقع لم ينكشف تمام الانكشاف ، ومرتبة الحكم الظاهري أعني الشك محفوظة في كل واحد من الطرفين ، فيشملهما إطلاقات أدلّة الأصول وإن استلزمت المخالفة العملية للعلم الإجمالي.

١٩٥

وظاهر الكفاية في مبحث القطع (١) أنّه منجّز بنحو الاقتضاء لا العلّية التامّة ، فللشارع الترخيص في بعض الأطراف أو جميعها ولكن بدون تحقق الترخيص يتنجز الواقع قهرا.

ويظهر من بعض كلمات الشيخ الأنصاري ـ قدس‌سره ـ (٢) أنه بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية علّة تامّة وبالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء فتجب الموافقة إلّا أن يرد الترخيص في بعض الأطراف فيجعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع.

الفائدة التاسعة :

هل فرق بين العلم الإجمالي بالتكليف او بالحجّة الإجماليّة؟

وللأستاذ آية الله العظمى البروجردي ـ قدس‌سره ـ في هذا المقام تفصيل كتبناه منه فيما قررناه منه في مبحث القطع من الأصول.

ومحصّله :

«التفصيل بين العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي أعني البعث أو الزجر الفعلي الحتمي من ناحية المولى ، وبين العلم بالحجة الإجمالية :

فالأول كالعلم التفصيلي علّة تامة للتنجيز ولا مجال للترخيص لا في جميع أطرافه ولا في البعض فإنه مناقضة صريحة.

وأمّا في الحجج الإجمالية غير العلم فيمكن أن يرخص في بعض الأطراف بل في الجميع أيضا فيكشف عن رفع اليد عن إطلاق الدليل الأوّل. مثلا إذا فرض العلم الوجداني الحتمي إجمالا بحرمة أحد الشيئين بالفعل وأنه مع إجماله وعدم تميّزه مبغوض للشارع جدا فلا محالة يحكم العقل حكما جازما بوجوب الاجتناب عنه ولو بترك الطرفين مقدمة ، ولا يعقل ترخيص الشارع في مخالفته بعد العلم الوجداني بحرمته فعلا ومبغوضيته له ، إذ بالعلم وصل التكليف الفعلي إلى العبد وانكشف له تمام الانكشاف فلا حالة منتظرة لحكم العقل بتنجزه و

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٣٥ ، المقصد الثاني ، الأمر السابع.

(٢) الرسائل ، ص ١٦ (ـ ط. اخرى ، ص ٢٧) وما بعدها ، في كفاية العلم الإجمالي في تنجز التكليف ...

١٩٦

استحقاق العقوبة على مخالفته ، والترخيص فيه يرى ترخيصا في المعصية ومناقضة صريحة لما علم.

وأمّا إذا علمنا إجمالا بأنّ أحد الإناءين خمر مثلا فإطلاق قوله : «لا تشرب الخمر» وإن كان يشمله لكنه ليس علما بالتكليف الفعلي بل علما إجماليا بوجود الحجة أعني إطلاق الدليل بالنسبة إلى هذا أو ذاك ، فلا يرى العقل مانعا من ترخيص الشارع في ارتكاب الطرفين أو أحدهما وبه ينكشف عدم إرادة إطلاق وتقييد قوله : «لا تشرب الخمر» بما علم خمريته بالتفصيل أو بما لم يرد الترخيص فيه من الطرفين.

وبعبارة أوضح : العلم الذي هو صفة خاصّة نفسانية ويرادف القطع واليقين والجزم إذا فرض تعلّقه بالتكليف الفعلي والإرادة الحتمية من المولى فلا مجال للقول بعدم تنجيزه والترخيص في مخالفته ، تفصيليا كان أو إجماليا ، محصورة كانت الشبهة أو غير محصورة.

وجهل العبد ببعض خصوصيات المنكشف لا يضرّ مع فرض تحقق ماهية العلم أعني انكشاف الواقع عنده انكشافا تامّا بنحو المائة في المائة بحيث لا يدخله في ذلك شكّ وريب ، فيحرم مخالفة التكليف الواقعي المنكشف ويجب موافقته عقلا ولا يحصل هذا إلّا بإتيان الطرفين من باب المقدمة العلمية.

والترخيص في أحد الطرفين وجعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع ينافي ما هو المفروض من الجزم بكون المعلوم في البين بواقعه وذاته مرادا حتميّا للمولى بحيث لا يرضى بتركه سواء كان في هذا الطرف أو ذاك.

بل في الشبهة البدوية أيضا مع فرض فعلية التكليف بواقعه على فرض تحققه يجب الاحتياط أيضا كما في الأمور المهمة كالدماء والفروج فكيف مع العلم به إجمالا.

والظاهر أنّ القوم خلطوا بين العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي وبين العلم بالحجة الإجمالية فعنونوا العلم الإجمالي بالتكليف ولكنهم في مقام التمثيل لذلك

١٩٧

مثّلوا بالحجج الإجمالية كإطلاق لا تشرب الخمر مثلا الشامل بطبعه للخمر المردد بين الإناءين مع أنه ليس علما إجماليا بالتكليف الفعلي الحتمي بل علما بوجود الحجة أعني الإطلاق بالنسبة إلى هذا أو ذاك. ولا يخفى أنّ مثل هذا يمكن ترخيص الشارع في بعض أطرافه أو جميعها ، ومرجعه إلى رفع اليد عن الإطلاق وعدم إرادته.

والظاهر أنّ نظر المحقق الخوانساري والمحقق القمي في التمسك بأخبار الترخيص إلى الحجج الإجمالية لا إلى صورة تعلّق العلم الوجداني ولو إجمالا بنفس التكليف الفعلي والإرادة الحتمية. هذا.

والأصوليون تعرّضوا للعلم الإجمالي تارة في مبحث القطع واخرى في الاشتغال. ولا يخفى أنّ المناسب لمبحث القطع البحث عن العلم الإجمالي المتعلق بالتكليف الفعلي الحتمي ، والمناسب لمبحث الاشتغال البحث عن الحجج الإجمالية وأنّها توجب الاشتغال أو أنّ أدلّة الأصول العملية المرخّصة تشملها.» هذه خلاصة ما ذكره الأستاذ آية الله البروجردي في المسألة. والأستاذ الإمام (ره) أيضا تعرّض لهذا التفصيل هنا وفيما طبع من تقريرات بحثه (١). ولعلّه أخذه منه ـ طاب ثراهما ـ حيث كان يحضر درسه. هذا.

نقد كلام الأستاذ البروجردي (ره) في المسألة

وهنا ملاحظات على هذا التفصيل نشير إليها إجمالا :

الأولى : قد يناقش ما ذكره في القسم الأوّل من عدم جواز الترخيص في بعض الأطراف وعدم كفاية الموافقة الاحتمالية بأن العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي قطعا ، وقد جاز في مورده الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ، كما في موارد قاعدة التجاوز والفراغ والشكّ بعد الوقت ونحو ذلك.

__________________

(١) المكاسب المحرمة للإمام الخميني ، ج ١ ، ص ٥٦١ ؛ وتهذيب الأصول ، ج ٢ ، ص ١٢٣ ، المقصد السادس ، الأمر السادس.

١٩٨

ولكن يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة : بأنّ حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز أو الفراغ يكشف عن كون المأتي به بنظر الشارع مصداقا طوليّا للطبيعة المأمور بها وافيا بتمام غرضه منها ولأجل ذلك اكتفي به ، فتأمّل.

وأما في الشكّ بعد الوقت في أصل إتيان العمل فحكمه بعدم الاعتناء به كاشف لا محالة عن رفع يده عن الواقع على فرض عدم تحقق المأمور به. والداعي على ذلك تسهيل الأمر على المكلفين وهو من أهمّ المصالح في الشريعة السهلة ، إذ لو فرض بقاء فعلية الواقع كيفما كان ولو في صورة الشكّ وكونه مرادا حتميا للمولى بحيث لا يرضى بتركه أصلا لما جاز ترخيصه في تركه ولو احتمالا لكونه مناقضة صريحة. واحتمال المناقضة أيضا كالقطع بها غير معقول كما لا يخفى.

موضوع الأحكام نفس الطبائع لا المعلوم منها

الثانية : ما في كلام الاستاذ (ره) في القسم الثاني أعني الحجة الإجمالية من جواز الترخيص في البعض أو الجميع وأنّ به ينكشف تقييد إطلاق الدليل الأوّل لا يخلو تعبيره الأخير عن مسامحة ، إذ الموضوع لجلّ الأحكام الشرعية نفس الطبائع بواقعيتها ولم يؤخذ العلم بها جزء من الموضوع. فموضوع الحرمة في قوله : «لا تشرب الخمر» مثلا نفس طبيعة الخمر لا ما علم خمريّته. والأصول المرخّصة موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي ، فهي متأخرة عن موضوع الحكم الواقعي بمراتب ، فلا يعقل أن تمسّ كرامة الأحكام الواقعية بتقييد موضوعاتها ، حيث إنّ القيد والمطلق المقيّد به في رتبة واحدة. فيجب أن يحمل كلام الاستاذ (ره) على إرادة عدم وصول التكليف الأوّل إلى مرحلة الفعلية التامة الملازمة للتنجز إلّا بسبب العلم التفصيلي.

وبالجملة فموضوع الحكم الأوّلي في مرحلة الإنشاء مطلق ، وبفعلية الموضوع يصير الحكم فعليا من جهة ، ولكن الفعلية التامة الملازمة للتنجّز تتوقف على عدم المانع عنها ويمكن أن يكون رعاية مصلحة التسهيل مانعة عنها ، فبالأصل المرخّص يكشف اشتراط الفعلية التامّة بالعلم به تفصيلا ، نظير ما قيل في جميع الأمارات والأصول المخالفة للواقع ، حيث إنّ في موارد تخلفها عن الواقع لا محيص عن رفع اليد عن فعلية الواقع وعدم وصوله إلى مرتبة التنجز من دون أن يوجب ذلك تقييدا في مرحلة الإنشاء.

١٩٩

والمصحّح لتفويت الواقع ورفع اليد عنه ثبوتا ملاحظة مصلحة أقوى وأهمّ منه أعني تسهيل الأمر على المكلفين على ما هو مقتضى الشريعة السمحة السهلة.

لا ثمرة مهمة في الفرق بين العلم الإجمالي بالتكليف او بالحجّة الإجمالية

الثالثة : أنّ التفصيل الذي شيّد أركانه الاستاذان العلمان ـ طاب ثراهما ـ مع كثرة اهتمامهما به لا يترتب عليه ثمرة مهمّة ، إذ العلم الوجداني بالتكليف الواقعي الفعلي والإرادة الحتمية للشارع بحيث لا يرضى بتركه كيفما كان قلّما يتفق للفقيه. حيث إنّ فقهنا ليس على أساس الإلهام والمكاشفة ، وإنما الذي يزاوله الفقيه في أبواب الفقه ليس إلّا ظواهر الحجج الشرعية وإطلاقاتها. وليس العلم بالحجة الشرعية مستلزما للعلم الوجداني بالتكليف الفعلي الحتمي من المولى كما مرّ. ولكنها مع ذلك يجب الأخذ بها أيضا تفصيلية كانت أو إجمالية كالعلم بنفسه ، إذ معنى حجيتها اعتماد الشارع عليها في تحصيل أغراضه ومقاصده الواقعية وجواز احتجاجه بها على العبيد.

وظاهر الحجج أيضا كون مفادها أحكاما فعليه لا يجوز للعبد التخلف عنها بعد وصولها إليه. إذ تشريع الأحكام يكون على نحو القضايا الحقيقية ولم يؤخذ العلم في موضوعاتها. وفعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه ، فهي من هذه الجهة تكون مطلقة.

وكما يحكم العقل في العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الحتمي بحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة كذلك من باب وجوب الإطاعة ولزوم المقدمة العلمية وأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، فكذلك في الحجة الإجمالية أيضا طابق النعل بالنعل. ولا يعذر العبد في مخالفة الواقع بعد قيام الحجة عليه ولو إجمالا. إذ المعتبر وصول التكليف إليه لا تميّز المكلف به لديه.

وبالجملة وزان قيام الحجة على الحكم الفعلي ولو إجمالا وزان العلم الوجداني به بنظر العقل الحاكم في باب الإطاعة والعصيان.

اللهم إلّا أن تقوم حجة أقوى على الترخيص ورفع اليد عن الواقع رعاية لمصلحة

٢٠٠