مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

الفصل الخامس :

الإطلاق والتقييد

وهو يشتمل على فوائد :

١٦١
١٦٢

الفائدة الاولى :

ما هو معنى الاطلاق في متعلق الأمر والنهي؟

«معنى الإطلاق في متعلق الأمر والنهي واحد وهو الإرسال عن كل قيد وحيثية وكون الطبيعة تمام الموضوع للحكم ، غاية الأمر نتيجة الإطلاق في الأمر البدلية وفي النهي والحكم الوضعي الاستغراق ؛ ولذا يطلق على البيع في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) العام كما يطلق عليه المطلق ، فالثاني باعتبار كون حيثيته تمام الموضوع للصّحة والأوّل باعتبار أن نتيجة الإطلاق في المقام شمول الحكم لجميع افراد البيع.»

أقول : قد اشتهر بينهم أن كل عام مطلق وكل مطلق عام ، والفرق بين العام والمطلق أن إطلاق المطلق على حيثية إنّما هو باعتبار كونها تمام الموضوع وأنه لم ينضم اليها حيثية اخرى في الموضوعية ، وفي مقابله التقييد ، وإطلاق العام عليها باعتبار شمول الحكم المتعلق بها لجميع أفرادها ، وفي مقابله التخصيص ، وقد يفرق بينهما بأن العام ما لوحظ فيه الكثرة وجعل الطبيعة فيه ما به ينظر ، بخلاف المطلق فإنه لم يلحظ فيه الكثرة فضلا عن جعل الطبيعة مرآة لها.

وقد يفرق أيضا بأن العام لا يطلق إلّا على ما يكون شموله بالوضع ، سواء كان استيعابيا او مجموعيا أم بدليا ، والمطلق يطلق على ما كان الشمول فيه بقرينة الحكمة. (١)

الفائدة الثانية :

موارد جريان مقدمات الحكمة

«الاحتياج إلى مقدمات الحكمة لإثبات الإطلاق إنما هو في الأحكام الإيجابية لا في السلبية لأن حرف النفي مثل «لا» موضوع لنفي مدخوله و

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٨٨.

١٦٣

انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع أفرادها وهذا بخلاف الأمر فإنه لطلب إيجاد المتعلق ووجود الطبيعة يصدق بوجود فرد ما فيصحّ إرادة المطلق او المقيد وإثبات الإطلاق بمقدمات الحكمة ؛ وبالجملة استفادة الإطلاق في الأحكام السلبية تكون من وضع حرف السلب والنفي لأنه وضع لنفي المدخول من المطلق او المقيد.»

أقول : وهذا البيان يجري في لفظة «كلّ» ونحوها أيضا ، مما وضع للشمول ؛ فإنها وضعت لشمول المدخول ، لا لشمول ما أريد منه لبّا.

فإن قلت : على هذا يلزم أن يكون التقييد بدليل منفصل موجبا للمجازية بالنسبة إلى لفظ «لا» أو «الكلّ» أو نحوهما ، وإن لم يلزم المجازية بالنسبة إلى المدخول.

قلت : لفظة «كلّ» إنما وضعت لشمول ما أريد من المدخول استعمالا لا بحسب الجدّ وإحراز الجد إنما يكون بأصالة التطابق بين الإرادتين والتقييد تصرّف في الجدّ لا في الاستعمال ، فافهم. (١)

الفائدة الثالثة :

اعتبارات الماهية

«إن تقسيم الماهية بالأقسام الثلاثة أي الماهية لا بشرط شيء والماهية بشرط شيء والماهية بشرط لا إنما يصح إذا كان المقسم اعتبار الماهية ولحاظها لا نفس الماهية ، فإن ما دعى القوم إلى تقسيم الماهية إنما هو تبيين ما يعرضه وصف الكلية اعني الكلي الطبيعي وبيان أنه موجود في الخارج أم لا؟ ونفس الماهية ولو في ظرف الخارج لا يمكن أن يعرض عليه وصف الكلّية ، بل ظرف عروض الكلّية الذي قوامه بالاعتبار واللحاظ ، هو الذهن ، فالمقسم لحاظ الماهية والكلي الطبيعي الذي هو نفس الماهية لا بشرط هو القسم الأوّل منها مع حذف اللحاظ واعتبار الملحوظ فقط.»

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٨٩.

١٦٤

أقول : لا يخفى أن التقسيم عبارة عن ضمّ قيود إلى المقسم الواحد ، حتى يحصل بضمّ كلّ قيد إليه قسم في قبال الأقسام الأخر التي يتحقق كل منها بضمّ قيد آخر ، ولا بد من أن تكون القيود متقابلة ، كما هو واضح. وعلى هذا فليس تقسيم القوم تقسيما صحيحا ، حيث جعلوا القيد في القسم الأوّل عبارة عن نفس مفهوم اللّابشرطية التي هي أمر ذهني ، فيجب بمقتضى المقابلة أن يجعل القيد في القسمين الأخيرين أيضا عبارة عن نفس مفهوم البشرط شيئية والبشرط لائية ، حتى تصير القيود الثلاثة كلها ذهنية متقابلة ؛ وهم قد جعلوا التقييد باللابشرطية في القسم الأوّل في قبال التقييد ببعض القيود الخارجية أو التقييد بعدمها ، فلا يحصل التقابل بين القيود حينئذ ؛ ولو جعلوا القيد في البشرط شيء أعم من القيود الخارجية والذهنية لم يكن اللابشرط القسمي قسما على حدّة ، بل كان داخلا في البشرط شيء.

والحاصل أن التقسيم يجب أن يكون إما بلحاظ القيود الذهنية فقط أو الخارجية فقط أو بلحاظ الأعم منهما فعلى الأوّل تكون القيود عبارة عن مفهوم اللابشرطية والبشرط شيئية والبشرط لائية ، وتشترك الأقسام الثلاثة في عدم الوجود خارجا ، وعلى الثاني لا يصح اعتبار اللابشرطية قيدا ، حتى يحصل قسما في قبال القسمين الآخرين ، وعلى الثالث يدخل اعتبار اللابشرطية في البشرط شيء ، فليس قسما على حدّة أيضا. فتدبر.

وبما ذكرنا من لزوم تقابل القيود في التقسيمات ظهر فساد ما ربما يتوهم في المقام من تربيع الأقسام بناء على جعل المقسم عبارة عن اللحاظ ، كما هو مبنى السيد الأستاذ ـ مد ظلّه العالي ـ بل على كلا المبنيين. بتقريب : أن اللحاظ قد يتعلق بالماهية فقط ، بحيث لا يتعدي منها ، وقد يتعلق بها ويتعدي منها إلى أمر آخر من قيودها الخارجية ، وقد يتعلق بها ، ويتعدي منها إلى عدم كون قيودها معها ، وقد يتعلق بها ويتعدي منها إلى كونها لا بشرط بالنسبة إلى قيودها ، فهذا هو اللابشرط القسمي.

وجه الفساد أن عدّ القسم الأخير في قبال سائر الأقسام بلا وجه ؛ فإن القيد فيه ذهني ، والتقسيم كان بلحاظ القيود الخارجية فقط ، وقد عرفت بيانه. (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٧٤.

١٦٥

الفائدة الرابعة :

تصوير الكلي في المعين في متعلق الزكاة ونحوها

«هل الثابت في باب الزكاة حكم تكليفي او وضعيّ؟

وتعرض سماحته ـ دام ظلّه ـ بهذه المناسبة بحث الكلي في المعين وكيفية وجوده.» (١)

هل الثابت في باب الزكاة وجوب او ندب تكليفي محض ، او تكون أمرا ثابتا في ذمة المكلف كالديون ، او تكون حقا ثابتا في المال كما في حق الرهانة ، او حق الجناية في العبد الجاني ، او حق الزوجة في العقارات ، او تحق الغرماء في التركة ، او حق الفقراء في منذور التصدق به ، او تكون ثابتة في المال بنحو الملكية للفقراء بنحو الإشاعة او بنحو الكلي في المعين؟ وجوه ذكروها في محلها وسيأتي تفصيل ذلك عند تعرض المصنف له.

والذي نريد الإشارة إليه هنا إجمالا هو أن المصنف ومن حذا حذوه وإن توهّموا أن الكلي في المعين أمر خارجي وأن تعلق الزكاة أو الخمس بهذا النحو أيضا مثل الإشاعة نحو شركة في العين الخارجية ولكن الظاهر أن الشركة في العين الخارجية تنحصر في الإشاعة فقط وأن الكلي ليس أمرا خارجيا وراء الأشخاص والأفراد.

والشيخ الاعظم قدس‌سره ذكر في المكاسب ما حاصله :

«أن بيع البعض من جملة متساوية الأجزاء كصاع من صبرة يتصور على وجوه :

الأوّل : أن يريد بذلك البعض كسرا واقعيا من الجملة مقدّرا بذلك العنوان.

الثاني : أن يراد به بعض مردد نظير تردد الفرد المنتشر بين الأفراد.

الثالث : أن يكون المبيع طبيعة كلية منحصرة المصاديق في الأفراد المتصورة في تلك الجملة. والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني أن المبيع هناك واحد من الصيعان المتميزة المتشخصة غير معين وفي هذا الوجه أمر كلي غير متشخص و

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ١٨٩.

١٦٦

لا متميز بنفسه ويتقوم بكل واحد من صيعان الصبرة ويوجد به (الى أن قال) : وحاصله أن المبيع مع الترديد جزئي حقيقي فيمتاز عن المبيع الكلي الصادق على الأفراد المتصورة في تلك الجملة». (١)

إلى آخر ما ذكره مما يظهر منه وجود الفرد المنتشر في الخارج دون الكلي في المعين.

فكلامه ـ قدس‌سره ـ في عدّ الفرد المنتشر أمرا خارجيا وإن كان خلاف التحقيق ولكن كلامه في عدم وجود الكلي إلّا بوجود الأفراد كلام صحيح. فكما أن المبيع إذا كان كليا مطلقا كمنّ من حنطة لا يكون بنفسه موجودا في الخارج بل في ذمة البائع غاية الأمر قابلية كل منّ خارجي من تطبيق المبيع عليه فكذلك إذا كان كليا مقيدا كمنّ من حنطة أصفهان أو صاع من هذه الصبرة ، فجميع تشخصات الصيعان باقية على ملك مالكها ولم ينتقل منها شيء الى المشتري. غاية الأمر انه ليس للبائع إتلاف جميعها لوجوب حفظ القدرة على الأداء ولكن قبل الأداء يكون جميع مصاديق الصاع وأشخاصه للبائع ولذا لا يجب على البائع تحصيل رضا المشتري في مقام التصرف بخلاف ما إذا كان المبيع السهم المشاع.

نعم يمكن أن يقال ان الكلي المطلق ظرفه ذمّة البائع ولكن الكلي المقيد في المقام ظرفه الصبرة الخارجية فكأن ذمة الصبرة الخارجية مشغولة بهذا الصاع المبيع ، ولكن هذا لا يلازم شركة المشتري في الصبرة وانتقال شيء منها إليه فتأمل ، فان الظاهر عدم الفرق بين منّ من حنطة أصفهان وصاع من هذه الصبرة ، فكما ان خارجية اصفهان لا توجب اشتغال ذمة هذه البلدة فكذلك خارجية الصبرة لا توجب اشتغال ذمتها فيكون ظرف الكلي المقيد أيضا مثل الكلي المطلق ذمّة البائع. (٢)

الفائدة الخامسة :

وجود الكلي الطبيعي بعين وجود افراده

«المبحث : بيان إشكال معروف للمحقق في نصب الغنم في الزكاة و

__________________

(١) المكاسب للشيخ الانصارى ، ج ٤ ، ص ٢٤٨ ، طبع الهادي.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ١٨٩.

١٦٧

الجواب عنه. وقد تعرض سماحة الأستاذ ـ دام ظلّه ـ بهذه المناسبة مطالبا حول وجود الكلي الطبيعي في الخارج.» (١)

في باب نصب الغنم إشكال مشهور يقال إنه مما طرحه المحقق ـ قدس‌سره ـ في درسه وهو أنه إذا وجب أربع شياه عند بلوغ الغنم ثلاثمائة وواحدة ولم تتغيّر الفريضة حتى تبلغ خمسمائة فأيّ فائدة في جعل الأربعمائة نصابا وكذلك الكلام على كون النصب أربعة فانه إذا وجب في المائتين وواحدة ثلاث شياه وكذلك في الثلاثمائة وواحدة فأيّ فائدة في جعل الثاني نصابا مع تداخل النصابين في الفريضة.

أقول : لا يخفى أن الإشكال وارد على صحيحة الفضلاء وكذلك على تقرير الأصحاب للنصب الخمسة او الأربعة وأما على ما بيناه في صحيحة محمد بن قيس فلا يرد الإشكال اذ ليس فيها اسم من الثلاثمائة وواحدة بل ذكر فيها بعد الثلاثمائة قوله : «فاذا كثرت الغنم ففي كل مأئة شاة» وليس معنى «كثرت» : «زادت» حتى يقال بشموله لثلاثمائة وواحدة فما فوقها بل ذكر هذه الجملة بعد الثلاثمائة ثم جعل الاعتبار بالمائة يستظهر منها كون النظر إلى أربعمائة فما فوقها فلا تداخل للنصابين أصلا كما لا يخفى.

وفي الحقيقة إلاشكال متوجه إلى الأصحاب وهو انه على فرض كون النصب في الغنم أربعة لم جعلوا النصاب الرابع ثلاثمائة وواحدة مع عدم ذكرها في الصحيحة وعدم تغير الفريضة فيها إلى الأربعمائة؟

جواب الجواهر عن إشكال المحقق

وكيف كان فقد أجاب في الجواهر عن الإشكال بأنه يمكن أن يكون الوجه في ذلك متابعة النص أو أن الاتحاد في الفريضة مع فرض كون النصاب الثاني كليّا ذا أفراد متعددة ينفرد عن الأوّل في غالب أفراده غير قادح.

وردّ عليه في مصباح الفقيه بما حاصله :

«أن الجواب الأوّل إسكاتي والثاني غير حاسم لمادة السؤال إذ ما ذكره بيان

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ١٩١.

١٦٨

لمعقولية جعل النصاب الثاني كليّا وإن اتحد مقتضاه لما قبله في بعض الأفراد والمقصود بالسؤال الاستفهام عن ثمرة جعل الأربعمائة نصابا كليا مع انه لو جعل الخمسمائة نصابا كليا لم يتداخل النصابان أصلا هذا». (١)

وأجاب المحقق بنفسه عن الإشكال بقوله في الشرائع : «وتظهر الفائدة في الوجوب وفي الضمان». (٢)

بيان ذلك أنه إذا كانت أربعمائة فمحل الوجوب مجموعها إذا المجموع نصاب ومحل الوجوب النصاب ولو نقصت عن الأربعمائة ولو واحدة فمحل الوجوب الثلاثمائة وواحدة والزائد عفو ، ويتفرع على ذلك جواز تصرف المالك في الزائد قبل إخراج الزكاة. هذا بالنسبة الى الوجوب.

وأما الضمان فهو أيضا متفرع على محل الوجوب فلو تلف من أربعمائة واحدة بعد الحول بغير تفريط سقط من الزكاة جزء من مأئة جزء من الشاة ولو كانت ناقصة من أربعمائة وتلف منها شيء لم يسقط من الفريضة شيء ما دامت الثلاثمائة وواحدة باقية وكذلك الكلام على القول بالنصب الأربعة.

نقد صاحب المدارك لجواب المحقق عن الإشكال

وناقش في ذلك صاحب المدارك فقال ما لفظه :

«لكن يمكن المناقشة في عدم سقوط شيء من الفريضة في صورة النقص عن الأربعمائة لأنّ مقتضى الإشاعة توزيع التالف على الحقّين وإن كان الزائد عن النصاب عفوا إذ لا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمّل». (٣)

وحاصل إشكاله يرجع إلى الإشكال في محل الوجوب وفي الضمان معا إذ حاصله أن الزكاة مشاعة في جميع المال فجميعه محل للوجوب ويتبعه عدم الضمان قهرا مع تلف الواحدة لا عن تفريط.

__________________

(١) مصباح الفقيه ، ج ٣ ، ص ٢٥.

(٢) الشرائع ، ج ١ ، ص ١٠٨.

(٣) مدارك الأحكام ، ج ٥ ، ص ٦٤.

١٦٩

وأجاب في الحدائق عن هذه المناقشة بما حاصله :

«أنه إن أريد كون الزكاة حقا شايعا في مجموع المال من النصاب والعفو فهو ممنوع وإن أريد كونها حقا شايعا في مقدار النصاب فقط فهو مسلّم ومقتضاه ما ذكره المحقق. غاية الأمر أن مقدار النصاب غير متميز بل هو مخلوط بالعفو ولكن لا يستلزم هذا تقسيط التالف على العفو لأنّ النصاب محل الوجوب ، ونقصان الفريضة إنما يدور مدار نقصانه والنصاب الآن موجود كملا». (١)

وقرر هذا الكلام في مصباح الفقيه بما حاصله :

«أن إشاعة حق الفقير في النصاب لا تتوقف على تميز النصاب بل على تحققه في الواقع فلو باع زيدا مثلا صاعا من صبرة وشرط عليه أن يكون ربعه لعمرو فقد جعل لعمرو في هذه الصبرة ربعا مشاعا من صاع كلي مملوك لزيد متصادق على أيّ صاع فرض من هذه الصبرة فبقاء ملك عمرو تابع لبقاء ملك زيد الذي هو صاع من هذه الصبرة على سبيل الكلية بحيث لا يرد عليه نقص بتلف شيء من الصبرة ما دام بقاء صاع منها. فان أردت مثالا لما نحن فيه فهو فيما لو نذر إن رزقه الله عشرين شاة لا بشرط عدم الزيادة وبقيت عنده سنة فنصفها صدقة فرزقه الله ثلاثين وبقيت سنة فقد تحقق موضوع نذره وصار نصف العشرين الموجود في الثلاثين صدقة وان لم يتشخص العشرون فلو تلف بعض الثلاثين قبل السنة او بعدها لم يرد نقص على الصدقة ما بقيت العشرون». (٢)

ما هو الكلي الطبيعي في المسألة؟

أقول : عمدة الإشكال هو أن الموجود في الخارج هو المتشخصات المتميزات وأن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد والكلي الطبيعي وإن كان يوجد بوجود أفراده بل هو في الخارج عين أفراده ولكن المقصود بالكلي في المعين هنا كالصاع من الصبرة ليس هو الصيعان الخارجية الموجودة بعين الصبرة إذ لا شك أن الخارج بخارجيته باق على ملك البائع في بيع صاع من

__________________

(١) الحدائق ، ج ١٢ ، ص ٦٤.

(٢) مصباح الفقيه ، ج ٣ ، ص ٢٦.

١٧٠

الصبرة وما لم يشخّص الصاع المبيع في صاع خارجي ليس للمشتري التصرف في الصيعان والصبرة فكأن المبيع صاع كلي في ذمة هذه الصبرة نظير الصاع الكلي المطلق الثابت في ذمة البائع وإن شئت قلت : المبيع صاع كلي مقيد بالصبرة ثابت في ذمة البائع فليس خارجيا ثابتا في الواقع وإذا لم يكن هو ثابتا في الخارج فعدم خارجية المشاع فيه بطريق أولى ، فلو قيل بشركة أرباب الخمس او الزكاة في المال الخارجي وثبوت حق لهم في الخارج فلا محالة ينحصر ذلك في الإشاعة في ما هو الثابت في الخارج وهو مجموع المال الخارجي دون النصاب المفروض بنحو الكلي في المعين. فلعل هذا ما أراده صاحب المدارك في مناقشته.

اللهم إلّا أن يقال : إن الشيء إمّا أن يوجد في الخارج بنفسه أو بمنشإ انتزاعه كجميع المفاهيم الانتزاعية فإن وجودها بوجود منشأ انتزاعها ، والسهم المشاع أيضا من هذا القبيل فإن الموجود في الخارج بنفسه هو ذات المقسوم بوحدته لا الأقسام والسهام ، نعم لما كان المقسوم قابلا للقسمة يكون وجود القابل بنفسه نحو وجود للمقبول. فالموجود بالفعل ذات المقسوم ، والأقسام موجودات بالقوة ويعتبر وجود المقسوم نحو وجود لها وهذا يكفي في الحكم عرفا بوجود الشيء وإذا اكتفي بهذا النحو من الوجود فنقول نظيره متحقق في الكلي في المعين فإن الصاع الكلي موجود بوجود الصبرة عرفا وإن لم يكن متميزا وموجودا بنفسه ولذا لو باع مالك الصبرة صيعانا بمقدارها يحكم عرفا بكونه واجدا لما باعه ولو باع أزيد من ذلك يحكم بعدم واجديته لما باعه.

وبالجملة الحكم بعدم وجود الكلي في المعين ينقض بعدم وجود السهم المشاع أيضا والحلّ كفاية الوجود التقديري والوجود بالقوة في كليهما فتدبر ، فان للبحث عن هذه المسائل محلا آخر. (١)

الفائدة السادسة :

حقيقة الإطلاق والتقييد في مقام الجعل

«إن الاطلاق في مقام الجعل والثبوت ليس امرا وجوديا بمعنى لحاظ

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ١٩١ إلى ١٩٤.

١٧١

السريان والشمول ، بل هو أمر عدمي بمعنى أن الطبيعة في مقام الثبوت إذا لوحظت نفسها من دون لحاظ قيد وحيثية تمام الموضوع لحكم تكون مطلقة ، وإذا لوحظت مع قيد وحيثية زائدة على نفسها تمام الموضوع تكون مقيدة. ولا يقال : إن جعل الحكم على نفس الطبيعة اعم من كونها تمام الموضوع إذ لعلّها مهملة فلا بد في الإطلاق من لحاظ السريان. فانه يقال : هذا الإهمال مربوط بمقام الإثبات وما نحن بصدده الآن أن الإهمال في مقام الجعل والثبوت لا يعقل فإمّا أن يلاحظ في مقام جعل الحكم نفس الطبيعة من دون قيد او يلاحظ معها قيد آخر.» (١)

أقول : قال في نهاية الدراية في مبحث اعتبارات الماهية ما حاصله :

«أن الماهية إذا لوحظت وكان النظر مقصورا على ذاتها من دون نظر إلى الخارج من ذاتها فهي الماهية المهملة التي ليست من حيث هي إلّا هي ، وإذا نظر إلى الخارج من ذاتها فإما أن تلاحظ بالإضافة إلى هذا الخارج مقترنة به بنحو من الأنحاء فهي البشرط شيء. وإما أن تلاحظ بالإضافة إليه مقترنة بعدمه فهي البشرط لا ؛ وإما أن تلاحظ بالإضافة إليه لا مقترنة به ، ولا مقترنة بعدمه فهي اللابشرط ، وحيث إن الماهية يمكن اعتبار أحد هذه الاعتبارات معها بلا تعين لأحدها ، فهي أيضا لا بشرط من حيث قيد البشرط شيء وقيد البشرط لا وقيد اللابشرط ، فاللابشرط حتى عن قيد اللابشرطية هو اللابشرط المقسمي ، واللابشرط بالنسبة إلى القيود التي يمكن اعتبار اقترانها وعدم اقترانها هو اللابشرط القسمي.» (٢)

وقال أيضا :

«إن نفس الماهية من حيث هي غير واجدة إلّا لذاتها وذاتياتها ، وأما إذا حكم عليها بأمر خارج من ذاتها فلا محالة تخرج من حد الماهية من حيث هي ، فيكون المحكوم عليه هو الماهية بأحد الاعتبارات الثلاثة.» (٣)

__________________

(١) نهاية الأصول ، ص ٣٧٧.

(٢) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٩٠ ، طبع آل البيت.

(٣) نفس المصدر ، ص ٢٩٢.

١٧٢

وقال أيضا :

«كما أن المتقيد به الماهية في البشرط شيء والبشرط لا نفس المعنى المعتبر لا بما هو معتبر ولا اعتباره ، كذلك اللابشرط القسمي ، فإن قيد الماهية هو عدم لحاظ الكتابة وعدمها لا لحاظ عدم اللحاظ ، فهذه الاعتبارات مصححة لموضوعية الموضوع على الوجه المطلوب لا أنها مأخوذة فيه.» (١)

وقال في العام والخاص ما لفظه :

«أن العام ليس حكمه حكما جهتيا من حيث عنوان العالم مثلا فقط ؛ بل حكم فعلي تام الحكمية ، بمعنى أن العالم (وإن كان معنونا بأي عنوان) محكوم بوجوب الإكرام ، فيكشف عن عدم المنافاة لصفة من صفاته وعنوان من عناوينه لحكمه» (٢) «انتهى».

أقول : لا يخفى أن الحاكم بعد تصوره للعنوان الواجد للمصلحة ، كعتق الرقبة مثلا لا بد من أن يلاحظ انه واجد للمصلحة مطلقا معنونا بأيّ عنوان كان ، أو أن الواجد لها هو عتق الرقبة المقترنة بالإيمان مثلا ؛ فنفس تعلق اللحاظ بالماهية إجمالا لا يكفي في جعلها موضوعة أو متعلقة للحكم ، ما لم يلحظ أنها تامة المصلحة ، أو أنها جزء المحصل لها ، ولكنه بعد ما رأى أن عتق الرقبة تمام الموضوع في تحصيل المصلحة يجعل نفس هذه الحيثية موضوعة للحكم من غير احتياج إلى لحاظ السريان ، فتمام الموضوع للحكم هو نفس حيثية الماهية لا الماهية المقيدة بكونها تمام الموضوع أو بالسريان ، ولكن تماميته ملحوظة باللحاظ السابق على جعلها موضوعة للحكم ، إذ يجب على الحاكم أن يلحظ أن تمام المحصل للغرض هو نفس هذه الحيثية أو هي بضميمة حيثية اخرى. والظاهر أن مراد هذا المحقق من لزوم اعتبار الماهية في مقام الموضوعية بنحو اللابشرط القسمي ، هو ما ذكرناه من لزوم اعتبار التمامية في مرحلة تصور الموضوع وملاحظة جهاته لا في مرحلة جعل الحكم عليه ، كما أن الظاهر أن مراد الأستاذ ـ مد ظلّه العالي ـ من عدم تعدي اللحاظ في المطلقات عن نفس الماهية هو عدم التعدي في مرتبة الموضوعية وجعل الحكم عليه ، لا في المرحلة السابقة عليها.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٩٣.

(٢) نفس المصدر ، ص ٤٥٦.

١٧٣

وبالجملة المطلق عبارة عمّا يكون في مقام جعل الحكم تمام الموضوع ، بحيث كان النظر في هذا المقام مقصورا على ذاته ، وهذا لا ينافي لحاظ تماميته في المصلحة الموجبة لتماميته في الموضوعية قبل مرتبة الجعل ؛ وعلى هذا فلا تنافي بين الكلامين ، نعم ، الظاهر كون مشي الاستاذ ـ مد ظلّه ـ في باب اعتبارات الماهية أمتن من مشي هذا المحقق ، ولا سيما أنه يرد على ما سمّاه باللابشرط القسمي : أنّا وإن سلمنا أن الحاكم قبل جعل الحكم في المطلقات يلاحظ أن الماهية بنفسها تامة في المصلحة والموضوعية وليست مقترنة بوجود القيد ولا بعدمه ؛ ولكن لا يصير عدم الاقتران بوجود القيد ولا بعدمه من قيود الماهية ؛ بل الملحوظ حينئذ نفس الماهية ، غاية الأمر أنه تعلق لحاظ مستقل آخر بأن هذه الماهية غير مقترنة ، لا بوجود شيء ولا بعدمه ، من دون أن يصير الملحوظ بهذا اللحاظ قيدا للملحوظ بذاك اللحاظ المتعلق بالماهية ؛ إذ ليس كل مجتمعين في اللحاظ يجب أن يكون أحدهما قيدا للآخر ؛ وهذا بخلاف القسمين الآخرين ، ففي البشرط شيء مثلا يصير الإيمان الملحوظ باللحاظ الثاني قيدا للرقبة الملحوظة أولا ، لكونه من حالاتها ، فبطل ما سمّاه باللابشرط القسمي ، وعدّه أحدا من اعتبارات الماهية من أصله وأساسه ، فتدبر ، فإن المسألة دقيقة جدا ، ولأجل ذلك خرجنا من طور الاختصار. (١)

الفائدة السابعة :

اعتبارات الماهية بلحاظ آخر

«وإن تقسيم لحاظها انما هو لبيان أن معروض وصف الكلية في الذهن هو الملحوظ بأي قسم من اللحاظات الثلاث وعرفت أن الملحوظ في القسم الأوّل هو نفس الماهية بخلاف القسمين الآخرين ، فلا محالة يكون الكلي الطبيعي ـ أي الذي يعرضه وصف الكلية ـ هو الملحوظ في القسم الأوّل يعني نفس الماهية لكن مع حذف اللحاظ واعتبار الملحوظ فقط ، وأما على مذاق من جعل التقسيم لنفس الماهية وجعل المقسم نفسها والقسم

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٧٧.

١٧٤

الأوّل عبارة عن الماهية المقيدة بكونها لا بشرط فلا محالة يتعين الكلي الطبيعي في المقسم ...»

أقول : لا يخفى أن التقسيم عبارة عن ضم قيود إلى المقسم الواحد ، حتى يحصل بضم كل قيد إليه قسم في قبال الأقسام الأخر التي يتحقق كل منها بضم قيد آخر ، ولا بد من أن تكون القيود متقابلة ، كما هو واضح. وعلى هذا فليس تقسيم القوم تقسيما صحيحا ، حيث جعلوا القيد في القسم الأوّل عبارة عن نفس مفهوم اللابشرطية التي هي أمر ذهني ، فيجب بمقتضى المقابلة أن يجعل القيد في القسمين الأخيرين أيضا عبارة عن نفس مفهوم البشرط شيئية والبشرط لائية ، حتى تصير القيود الثلاثة كلها ذهنية متقابلة ؛ وهم قد جعلوا التقييد باللابشرطية في القسم الأوّل في قبال التقييد ببعض القيود الخارجية أو التقييد بعدمها ، فلا يحصل التقابل بين القيود حينئذ ؛ ولو جعلوا القيد في البشرط شيء أعم من القيود الخارجية والذهنية لم يكن اللابشرط القسمي قسما على حدّه ، بل كان داخلا في البشرط شيء.

والحاصل : أن التقسيم يجب أن يكون إما بلحاظ القيود الذهنية فقط أو الخارجية فقط أو بلحاظ الأعم منهما ، فعلى الأوّل تكون القيود عبارة عن مفهوم اللابشرطية والبشرط شيئية والبشرط لائية ، وتشترك الأقسام الثلاثة في عدم الوجود خارجا ، وعلى الثاني لا يصح اعتبار اللابشرطية قيدا ، حتى يحصل قسما في قبال القسمين الآخرين ، وعلى الثالث يدخل اعتبار اللابشرطية في البشرط شيء ، فليس قسما على حدّة أيضا. فتدبر.

وبما ذكرنا من لزوم تقابل القيود في التقسيمات ظهر فساد ما ربما يتوهم في المقام من تربيع الأقسام بناء على جعل المقسم عبارة عن اللحاظ ، كما هو مبنى السيد الأستاذ ـ مد ظلّه العالي ـ بل على كلا المبنيين. بتقريب : أن اللحاظ قد يتعلق بالماهية فقط ، بحيث لا يتعدي منها ، وقد يتعلق بها ويتعدي منها إلى أمر آخر من قيودها الخارجية ، وقد يتعلق بها ، ويتعدي منها إلى عدم كون قيودها معها ، وقد يتعلق بها ويتعدي منها إلى كونها لا بشرط بالنسبة إلى قيودها ، فهذا هو اللابشرط القسمي.

وجه الفساد أن عدّ القسم الأخير في قبال سائر الأقسام بلا وجه ؛ فإن القيد فيه ذهني ، والتقسيم كان بلحاظ القيود الخارجية فقط ، وقد عرفت بيانه. (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٧٤.

١٧٥

الفائدة الثامنة :

ما هو الملاك في المتزاحمين

«محل البحث : حكم منذور التصدق لو تعلقت به الزكاة ، وبيان التزاحم بين ملاكي النذر والزكاة ، وأن الملاك في المتزاحمين هل ملاحظة الأهم والمهم منهما ، او المتقدم زمانا ، او شيء آخر؟

والمحتملات في ماهيّة النذر أربعة :

١ ـ أن يكون اعتباره تمليك العمل المنذور لله ـ سبحانه ـ

٢ ـ أن يكون اعتبار النذر ، «التعجيز» ، فالإنسان قبل النذر يقدر على أنحاء التصرف في ماله ، ولكن بنذر تصدقه على الفقراء يعجّز نفسه باختياره عن ساير التصرفات.

٣ ـ أن يكون اعتبار النذر ، المعاهدة مع الله ـ سبحانه ـ والمعاقدة معه نظير الشروط المتداولة بين الناس.

٤ ـ أن يكون النذر إلزام الإنسان نفسه على عمل وإيجابه على نفسه نظير إيجابه على غيره.» (١)

فهذه محتملات أربعة في ماهيّة النذر ، وقد عرفت (في ص ١٠٦ من كتاب الزكاة ج ١) تقوية الأوّل منها ومقتضاه صيرورة المال متعلقا لحق الله ـ تعالى ـ في نذر التصدق به فيصير كالعين المرهونة ويكون الحق مانعا من التصرف في موضوعه ، وأما على المحتملات الاخر فلا يستتبع النذر تملكا للغير ولا حقّا له ، نعم التكليف بالوفاء به يستتبع وجوب حفظ المال للتصدق به فينصرف عنه دليل الزكاة بعد ما تعيّن من قبل الشارع له قبل تعلقها مصرف خاص وبعبارة اخرى الأمر بالوفاء بالنذر في الحقيقة أمر بإبقاء المال ليصرف فيما نذر له فلا يشمله دليل الزكاة المتأخر وإن أبيت فالأقوى التفصيل بين نفوذ التكليف في الناذر وغيره فإن نفذ فيه وصار بسببه منقطعا من المال خارجا لم تتعلق الزكاة لما عرفت في بيان أخبار

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ١٠٦.

١٧٦

المال الغائب من عدم الاعتبار بنفس عنوان الغيبة بل الملاك صيرورة الإنسان منقطعا من ماله بالكلية ، وإن لم يصر نافذا فيه بل تصرف فيه بعد النذر من دون أيّ اعتناء بحكم الله ـ تعالى ـ وصادف ذلك بقاء مقدار النصاب من المال حولا وجبت زكاته وإن تعيّن أداء القيمة. هذا.

ومقتضى عدم تعلق حق لله او للفقراء بالمال صحة بيعه وهبته ونحوهما وان كان محرما نظير البيع وقت النداء.

ولكن في زكاة الشيخ ما حاصله :

«التحقيق أن نذر الصدقة إنما يفيد وجوب التمليك لا حصول التملك ، نعم الظاهر منع الناذر من التصرف فيه بما ينافي النذر ووقوعه باطلا لا لاقتضاء النهي للفساد بل لعموم الأمر بالوفاء بالنذر الشامل لما بعد التصرف المنافي ، ودعوى أن وجوب الوفاء مشروط ببقاء محله وهو بقاء العين في ملك الناذر مدفوع بأن إطلاق وجوب الوفاء بالنذر لما بعد البيع كاشف عن عدم فوات محله ، نظير إثبات بطلان العقد الناقل الثاني من البائع بأدلة إيجاب الوفاء بالعقد الأوّل الحاصل منه ، ويؤيد ذلك اتفاقهم على أن المال المنذور لا يورث فعدم قابليته للملك الاختياري أولى». (١)

أقول : هذا منه ـ قدس‌سره ـ فتح باب جديد في باب المتزاحمين او المتعارضين وهو تقديم المتقدم زمانا. والالتزام به مشكل إذ في الأوّل يقدّم الأهم مع وجوده والّا فيثبت التخيير وفي الثاني يتساقطان ويرجع إلى الأصل ولا أثر للتقدم الزماني اللهم إلّا أن يكون انطباق الأوّل رافعا لموضوع الثاني فلو صدر من المولى أولا الأمر بإنقاذ العبد وثانيا الأمر بإنقاذ الابن يقدم إنقاذ الابن على إنقاذ العبد مع التزاحم مطلقا ، وبطلان العقد الثاني من البائع ليس لوجوب الوفاء بالعقد الأوّل بل لانتفاء موضوع البيع الثاني لخروجه عن ملكه بالبيع الأوّل فتأمل وللكلام في المسألة مقام آخر وكيف كان فوجوب التصدق بشخص المال فعلا يمنع من تعلق الزكاة به وان لم يثبت بالنذر لا ملك ولا حقّ؟ (٢)

__________________

(١) كتاب الزكاة للشيخ الانصارى (ره) ، ص ٦٢.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ١٠٨.

١٧٧

الفرق بين التعارض والحكومة

«محل البحث : عدم ثبوت الزكاة في مال اليتيم ، وأن النسبة بين الأدلة الأوّليّة الدّالة على ثبوت الزكاة في كل مال والأدلة الدّالة على عدم ثبوت الزكاة في مال اليتيم هل هي التعارض أو الحكومة أو غيرها؟ وبهذه المناسبة أشار سماحة الأستاذ إلى مسألتين اصوليتين : التعارض والحكومة.» (١)

تنبيه : قد عرفت أن وجه تقديم قوله : «ليس على مال اليتيم زكاة» على العمومات الأوّليّة مع كون النسبة بينه وبين كل منها عموما من وجه لحاظه بالنسبة إلى جميعها وتقديمه عليها وإلّا لزم طرحه أو تخصيص بعضها دون بعض بلا مرجح مضافا إلى أن لسان المانع يقدم على لسان الاقتضاء بحكم العرف وهو المعبر عنه بالتوفيق العرفي.

ولكن في مصباح الفقيه أن قوله : «ليس على مال اليتيم زكاة» حاكم على العمومات الأوّليّة المثبتة الواردة في كل نوع نوع من الأجناس ولا يلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم.

أقول : الظاهر عدم صحة ما ذكره إذ المقام من باب التعارض لا الحكومة.

بيان ذلك أن التعارض عبارة عن ورود حكمين مختلفين بالإيجاب والسلب على موضوع واحد في عرض واحد سواء اختلفا بالتباين أو بنحو العموم والخصوص مطلقا أو من وجه ، فمثال الأوّل قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «لا تكرم العلماء» ومثال الثاني قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «لا تكرم النحويين» ومثال الثالث قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «لا تكرم الفساق» ففي العموم والخصوص مطلقا أو من وجه أيضا يرد الإيجاب والسلب في عرض واحد على موضوع واحد أعني الخاص ومورد الاجتماع ، ففي باب التعارض يتعرض كل واحد من الدليلين لنفس النسبة التي يتعرض لها الدليل الأخر كلا كما في المتباينين أو بعضا كما في العامين من وجه أو مطلقا ولكن يخالف معه بالإيجاب والسلب فالموضوع في القضيتين واحد كلا أو بعضا والمحمول أيضا واحد ومحط الاختلاف النسبة بينهما فتختلفان فيها بالإيجاب والسلب.

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٣٠.

١٧٨

وأما في الحكومة فدليل الحاكم لا يتعرض للنسبة التي تعرض لها دليل المحكوم بل يتعرض لحيثية اخرى لم يتعرض لها دليل المحكوم من قبيل مقدمات الحكم ومؤخراته ، وبعبارة اخرى من الأمور الواقعة في سلسلة علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها ، فاذا قال المولى : «أكرم العلماء» فما تعرض له هذا الدليل هو النسبة الواقعة بين العالم ووجوب الإكرام بنحو الإيجاب فلو تعرض الدليل الثاني لنفس هذه النسبة كلا أو بعضا بنحو السلب فهو من باب التعارض ولكن قوله : «أكرم العلماء» مسبوق بتصور المولى وتصديقه وعزمه وارادته وجعله وإنشائه وكذا الموضوع والمحمول وملحوق بوجوب إطاعته واستحقاق العقوبة والذم على مخالفته وكذا وجوب إعادته وقضائه مثلا ولكن ليست هذه الأمور مفاد القضية بالمطابقة بل مما يحكم العقل بتحققها سابقة أو لا حقة أو مقارنة للنسبة ، فلو قال المولى بدل قوله : «لا تكرم النحويين» : «ما تصورت إكرام النحويين» أو «ما أردت إكرام النحويين» أو «ما أنشأت وجوب اكرام النحويين» أو «ما جعلته» أو «النحوي ليس بعالم» أو «حارس الثورة عالم» أو «لا يجب إطاعة إكرام النحوي» أو «لا أعاقب على ترك إكرامه» أو «لا يجب الإعادة أو القضاء على من تركه» ففي جميع هذه الأمثلة ضيّق الحكم الأوّل أو وسّعه ولكن الدليل الثاني لم يتعرض لنفس النسبة التي تعرض لها الدليل الأوّل بل تعرض لحيثية اخرى يكون نتيجتها تضييق الحكم الأوّل أو توسعته ولسان الحاكم مقدم على لسان المحكوم فانه بمنزلة الشارح والمفسر للمراد عنه. وبما ذكرنا يظهر عدم انحصار الحكومة في توسعة الموضوع أو تضييقه كما اشتهر بل هما من مصاديقها والملاك فيها تعرض الحاكم لجهة من الدليل الأوّل لم يتعرض هو لهذه الجهة بل مما حكم العقل بتحققها سابقة أو لاحقة أو مقارنة له ، فقوله «أكرم العلماء» يتعرض لنسبة وجوب الإكرام إلى العلماء ولا يتعرض لتصور المولى وتصديقه وإرادته ولا لمعنى العالم ومعنى الإكرام وحدودهما ولا للجعل والإنشاء بالحمل الأوّلي ولا لوجوب الإطاعة واستحقاق العقوبة على المخالفة ووجوب الإعادة أو القضاء معها فاذا تعرض الدليل الثاني لجهة من هذه الجهات يحكم بكون الثاني حاكما على الأوّل ومفسّرا له ومقدما عليه مطلقا من غير ملاحظة النسبة بينهما فتدبر.

فإذا عرفت هذا فنقول : بين قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) وقوله : «لا زكاة في مال

١٧٩

اليتيم» عموم وخصوص مطلق وبين قوله : «لا زكاة في مال اليتيم» وبين دليل الزكاة في كل واحد من العناوين عموم من وجه ، بداهة أن الموضوع في دليل الزكاة جميع الناس واليتيم بعض من هذا الموضوع فالدليلان متعارضان.

نعم لو قال : «ما جعل الزكاة في مال اليتيم» كان حاكما نظير قوله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) إذ مفاد الدليل الأوّل ليس هو الجعل وان كان جعلا بالحمل الشائع فتقديم قوله «ليس على مال اليتيم زكاة» ليس من جهة الحكومة بل من جهة أنه يلاحظ مع قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ، وبعبارة اخرى مع مجموع الأدلّة المثبتة للزكاة لكونها بمنزلة دليل واحد فيكون خاصا بالنسبة إليه كيف ولو لوحظ مع كل منها فإما أن يقدم على الجميع فهو المطلوب أو تقدم هي عليه فيلزم طرحه أو يخصص به بعضها دون بعض فيلزم الترجيح بلا مرجح.

هذا مضافا إلى ما مرّ من أن الظاهر من الدليلين بعد جمعهما هو أن وجود المال مقتض للزكاة واليتم مانع عنها وفي أمثال ذلك يقدّم دليل المانع عرفا فهذا جمع عرفي يحكم به العرف بمناسبة الحكم والموضوع.

وعلى أيّ حال فقوله : «ليس في مال اليتيم زكاة» يدل على نفي الزكاة في جميع أموال اليتيم من النقدين والغلات والمواشي فكما لا تجب في نقديه لا تجب في غلاته ومواشيه أيضا والمال يعمّ الجميع وان كان يختلج بالبال قديما انه منحصر في النقدين. (١)

أنحاء اصطكاك الدليلين

«محل البحث : حصول ملك جديد لمالك النصاب. وتعرض سماحته ـ دام ظلّه ـ لبحث اصطكاك أحد الدليلين مع الآخر إما بالورود أو بالحكومة أو بالتعارض أو بالتزاحم.» (٢)

الأمر الرابع : اصطكاك أحد الدليلين مع الآخر إما بالورود أو بالحكومة أو بالتعارض أو بالتزاحم.

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٣٠ إلى ٣٢.

(٢) كتاب الزكاة ، ج ١ ، ص ٢٧١.

١٨٠