مجمع الفوائد

آية الله المنتظري

مجمع الفوائد

المؤلف:

آية الله المنتظري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر سايه
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-5918-39-1
الصفحات: ٤٩٤

أوّل الطفولية والنشو في محيط الكفر صاروا جازمين بمذاهبهم الباطلة ، بحيث كلّ ما ورد على خلافها ردّوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحقّ ، فالعالم اليهودي والنصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة وصار بطلانها كالضروري له. نعم فيهم من يكون مقصّرا لو احتمل خلاف مذهبه وترك النظر إلى حجته عنادا.

فتحصّل مما ذكر أنّ ما ادّعي من السيرة على بيع الطعام من الكفار خارج عن عنوان الإعانة على الإثم ، لعدم الإثم والعصيان غالبا وعدم العلم ـ ولو إجمالا ـ بوجود مقصّر فيمن يشتري الطعام وغيره منهم. هذا مع غفلة جلّ اهل السوق لو لا كلّهم عن هذا العلم الإجمالي.

وأمّا ما ذكر من السيرة على معاملة الملوك والأمراء لو سلّم حصول العلم الإجمالي المذكور فلا تكشف تلك السيرة عن رضى الشارع بعد ما وردت الروايات الكثيرة في باب معونة الظالم ، حيث يظهر منها حرمة إيجاد بعض مقدمات الظلم ولو لم يقصد البائع ذلك. وإن شئت قلت : إنّ السيرة ليست من المسلمين المبالين بالديانة أو قلت : إنّ تلك السيرة مردوعة بالروايات المستفيضة ...» (١)

أقول : ما ذكره (ره) من كون علماء اليهود والنصارى قاصرين غير آثمين ولا معاقبين لا يمكن المساعدة عليه ، إذ كيف يمكن القول بكون علمائهم العائشين في البلاد الإسلامية ومجاورتها ولا سيما في أعصارنا قاصرين غير مطّلعين مع بسط الإسلام وانتشار خبر ظهور نبيّنا بكتاب جديد وشريعة جديدة؟ بل العوامّ منهم أيضا إلّا ما قلّ وندر قد سمعوا خبر الإسلام والدين الجديد بعد المسيح عليه‌السلام. والاحتمال في الأمور المهمة منجزّ عقلا وفطرة ، فكان عليهم البحث والفحص. وبالجملة فأكثرهم مقصرون إلّا من لم يقرع سمعه اسم الإسلام والمسلمين.

__________________

(١) المكاسب المحرّمة للإمام الخمينى (ره) ، ج ١ ، ص ١٣٣ (ـ ط. اخرى ، ج ١ ، ص ١٩٩) ، في النوع الثاني من القسم الثاني.

١٠١

ما هو الحق في الجواب عن الإشكال؟

والحقّ أن يجاب بأنّ الأمثلة التي ذكروها في المقام مختلفة متفاوتة بحسب نظر العرف وإن اشترك الجميع في إيجاد شرط من شروط الحرام. ففي بعضها لا تصدق عنوان الإعانة على الإثم عرفا كتجارة التاجر وسير الحجّاج والزوّار مع علمهم بأخذ الضرائب والكمارك منهم ، حيث إنّ التاجر مثلا يكون مشتغلا بحرفته الحلال مقبلا على شأنه ولكن الظالم هو الذي يسدّ عليه الطريق قهرا فيضطرّ لدفع شرّه إلى إعطاء الضريبة له.

ومن هذا القبيل أيضا بناء المساجد والمدارس والمشاهد ونحوها وإقامة مجالس الإرشاد والوعظ والتعزية بقصد القربة مع العلم بأنّه قد يحضر فيها من يتفكّه بالكذب والنميمة والغيبة والتهمة ، أو ينظر إلى النساء الأجانب ونحو ذلك.

فالإقدام على هذه الخيرات والأعمال الحسنة لا يعدّ إعانة على الإثم وإن وجد بها أرضيّته.

ومن هذا القبيل أيضا بيع المطاعم والمشارب وسائر الحاجات العامّة في السّوق مع العلم إجمالا بأنّ الكفّار والظالمين والعصاة أيضا في عداد المبتاعين لها ولا محالة يتقوّون بها ويديمون الكفر والظلم والمعاصي ولكن لا يقصد البائع ببيعه ذلك ولا المشتري التقوي بها على الظلم والمعصية بل إدامة الحياة والتعيش على وزان سائر الناس.

ومثل هذا البيع لو كان قبيحا وحراما لقبح على الله ـ تعالى ـ أيضا خلقهم وإدامة حياتهم ورزقهم بأنواع رزقه مع علمه بأنّهم يتقوّون بذلك ويعصونه ، والأحكام العقلية تنطبق على الله ـ تعالى ـ أيضا ولا تخصيص فيها.

ومن هذا القبيل أيضا تمكين الزوجة لزوجها أداء لحقّه المشروع مع علمها بتركه لغسل الجنابة. إلى غير ذلك من الأمثلة.

وإنّما الإشكال فيما إذا كان في البين بيع وشراء أو أخذ وإعطاء وكان الشراء أو الأخذ بقصد الانتفاع المحرّم والبائع أيضا يعلم ذلك ومع ذلك يبيعه له أو يعطيه كبيع العنب لمن يشتريه للتخمير ، وبيع المساكن والمراكب أو إجارتها بل وبيع المطاعم والمشارب ممّن يعلم

١٠٢

بإرادة الانتفاعات المحرّمة منها ، وإن لم يكن البائع أو الموجر قاصدين لذلك ، وبيع القرطاس ممن يعلم ولو إجمالا بصرف بعضه في نشر كتب الضلال ، وإعطاء العصا أو السيف لمن يريد الضرب بها أو القتل ظلما.

الفائدة الحادية عشرة :

هل الصور المتصورة للإعانة على الحرام حرام مطلقا أم لا؟

والإنصاف أنّ عنوان الإعانة على الإثم في أمثالها صادقة.

فهل يحكم في أمثال ذلك بالحرمة مطلقا وتطرح أخبار الجواز في المسألة بكثرتها بسبب كونها على خلاف حكم العقل ، كما قيل أو يحكم بالجواز مطلقا بلحاظ أخبار الجواز ويقال بعدم الدليل على حرمة الإعانة على الإثم ، كما في مصباح الفقاهة.

أو يفصّل بين الأمور المهمّة كما إذا كان الحرام المقصود منه مثل الظلم والفساد في الأرض أو صنع الأصنام والصلبان وبين غيرها ، كما يشهد بهذا التفصيل مكاتبة ابن اذينة السابقة المفصلة بين بيع الخشب ممن يتخذه برابط وبيعه ممّن يتخذه صلبانا كما مرّ.

أو يفصّل بين مثل إعطاء العصا أو السيف للظالم وبين بيع العنب لمن يقصد تخميره ، كما مرّ بيانه ويظهر من المصنّف أيضا ، حيث إنّه لا يكون بين قصد الظالم وبين تحقق الضرب منه حالة منتظرة إلّا وقوع العصا في يده وصارت فائدة إعطائها له في هذه الحالة منحصرة في الضرب بها بلا فصل ، وهذا بخلاف بيع العنب لوقوع الفصل الزماني بين قصد المشتري للتخمير وبين وقوعه خارجا.

أو يفصّل بين انحصار البائع أو المعطي في هذا الشخص وبين عدم انحصاره فيه فيقال بصدق الإعانة في الأوّل دون الثاني ، إذ الحرام في هذه الصورة يتحقق لا محالة سواء باعه هذا الشخص أم لا فليس بيعه سببا لوقوع الحرام؟

في المسألة وجوه. ولعلّ التفصيل الأخير يقرب من الاعتبار. ويمكن حمل أخبار الجواز أيضا على هذه الصورة ، إذ الغالب عدم الانحصار ، ويبعد جدا بيع الأئمة عليهم‌السلام تمرهم ممن

١٠٣

يعلمون بتخميره مع انحصار البائع فيهم بحيث لو امتنعوا من البيع انتفى موضوع التخمير وارتفع المنكر من رأس ، فتدبّر. (١)

الفائدة الثانية عشرة :

الفروض الثلاثة في بيع العنب ممن يعمله خمرا

ويبحث عن الفرق بين الرفع والدفع ، وعن مفاد النهي المتعلق بالطبيعة

«١ ـ ما إذا علم البائع بأنه لو لم يبعه لم يحصل منه المعصية.

٢ ـ ما إذا لم يعلم البائع ذلك.

٣ ـ ما إذا علم البائع بأنّه يحصل منه المعصية بفعل الغير ... وهذا القسم كما إذا وجب على جماعة حمل شيء واحد ثقيل مثلا ، بحيث يراد منهم الاجتماع ، فاذا علم واحد من حال الباقي عدم القيام به والاتفاق معه في إيجاد الفعل بحيث كان فعله لغوا فلا يجب عليه الإقدام ... فإن عدم تحقق المعصية من مشتري العنب موقوف على تحقق ترك البيع من كل بايع ، فترك المجموع سبب واحد لترك المعصية ، كما أن بيع واحد منهم على البدل شرط لتحققها ، فاذا علم واحد منهم عدم اجتماع الباقي سقط وجوبه لكون قيامه منفردا لغوا ... ويبحث عن الفرق بين الرفع والدفع ومتعلقهما ، ومفاد النهي المتعلق بالطبيعة ، والإشارة الى الواجب العيني والكفايي و ...» (٢)

أقول : محصّل ما يوجّه به كلام المصنّف في المقام هو الفرق بين الرفع والدفع ، إذ المقصود بالرفع رفع المنكر الموجود ، واحدا كان أو متعددا ، فالحكم فيه يتكثّر بتكثّر وجودات الطبيعة.

وأمّا الدفع فالمتعلّق له نفس الطبيعة ، وهي أمر واحد ، إذ لا تكثر لها ما لم توجد. فالغرض من إيجاب دفعها منع تحققها في الخارج من رأس ، فهو تكليف واحد توجّه إلى الجميع إمّا بنحو

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٢٥ و٣٢٦.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٦٠.

١٠٤

الوجود المطلق ـ كما هو الظاهر من كلماتهم ـ بأن يجب على كلّ واحد منهم السّعي في منع تحقق الطبيعة بقيام نفسه وببعث الآخرين أيضا نحوه حتى يحصل المنع المطلق ، أو بنحو الوجوب المشروط بأن يجب على كلّ فرد منهم بشرط مساعدة غيره وقيامه.

وكيف كان فلو فرض العلم بعدم قيام غيره وعدم مساعدته في هذا الترك لم يجب عليه أيضا لكونه لغوا ، فوزانه وزان إيجاب حمل جسم ثقيل لا يقدر على حمله إلّا جماعة ، فلا يجب إقدام واحد منهم إلّا مع إقدام غيره ومساعدته.

ولو شكّ في مساعدة غيره فإن كان الوجوب بنحو الإطلاق وجب عليه الإقدام أيضا ، إذ مع الشكّ في القدرة لا يجوز التواني في الامتثال بل يجب الإقدام حتى يثبت العجز ، إذ الظاهر أنّ القدرة من شرائط تنجّز التكليف لا من شرائط أصله. وإن كان الوجوب بنحو الوجوب المشروط رجع الشكّ إلى أصل التكليف ، إذ الشكّ في الشرط شكّ في المشروط فتجري البراءة.

والمصنّف خصّ أوّلا ـ كما ترى ـ وجوب الدفع بصورة علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم يحصل المعصية ، ولكن يأتي عنه عن قريب قوله : «فإن علم أو ظنّ أو احتمل قيام الغير بالترك وجب قيامه به.» ومقتضى ذلك ثبوت التكليف مع الشك في إقدام الغير ومساعدته أيضا. هذا.

انحلال النهي عن الطبيعة إلى نواهي متعددة

وفي حاشية المحقق الإيرواني (ره) في ذيل قول المصنّف : «إنّما يحسن مع علم البائع» قال :

«بل يحسن مع جهله ، بل ومع علمه بحصول المعصية على كلّ حال ، وذلك أنّ النهي عن الطبيعة ينحلّ إلى نواهي متعددة حسب تعدّد أفراد تلك الطبيعة على سبيل العموم الاستغراقي ، فكان كلّ فرد تحت نهي مستقل ، ولذا يعاقب بارتكاب كل فرد بعقاب مستقل وإن ترك سائر ما عداه من الأفراد.

١٠٥

وعلى هذا فترك بيع فرد من العنب دفع لتخمير هذا الفرد وإن علم أنّ عنبا آخر يباع ويخمّر لو لم يبع هو هذا ، فإذا تراكمت التروك بترك هذا للبيع وترك ذاك له وهكذا ، حصل ترك التخمير رأسا وكان كل ترك مقدمة لترك فرد من الحرام ، لا أنّ مجموع التروك يكون مقدمة لترك حرام واحد حتى لا يجب على المكلّف ترك بيع ما عنده من العنب مع عدم العلم بترك سائر أرباب العنب للبيع أو العلم بعدم تركهم.

فليس المقام من قبيل رفع الحجر الثقيل كيلا يجب الإقدام مع عدم إقدام آخرين ، بل يجب على كلّ مكلف ترك البيع دفعا لمنكر يحصل ببيعه سواء ترك المنكر رأسا بترك آخرين أو لا.» (١)

ومحصّل ما ذكره هذا المحقق : أنّ النهي المتعلق بالطبيعة ينحلّ إلى نواهي متعددة تارة بلحاظ تكثر المكلّف واخرى بلحاظ تكثر موضوع الحكم ، وعلى هذا فكلّ مصداق من العنب يتعلق به نهي التخمير مستقلا ويجب دفعه بترك بيع هذا العنب وإن علم أنّ عنبا آخر يباع ويخمّر لو لم يبع هو هذا. فليس الواجب ترك واحد متعلق بالطبيعة ويكون مجموع التروك سببا واحدا له حتى يصير نظير حمل الثقيل المذكور في المتن ، بل كلّ ترك واجب مستقل لكونه دفعا بالنسبة إلى فرد من المنكر. هذا.

نقد الأستاذ الإمام كلام المحقق الإيرواني وتأييد نقده

ولكن الأستاذ الإمام (ره) سلك في المقام مسلكا آخر ـ والظاهر صحة ما ذكره ـ وملخّصه :

«أن الشيء قد يكون منكرا بوجوده السّاري كشرب الخمر وتخميرها ، واخرى بصرف وجوده المنطبق على أوّل فرد يوجد. وعلى الأوّل فالمشتري تارة يكون مريدا لتخمير كلّ عنب يشتريه ، واخرى لا يريد إلّا تخمير مصداق واحد ، فهنا

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٦.

١٠٦

ثلاثة أقسام : ففي القسم الأوّل يحرم البيع منه مطلقا ـ على القول بوجوب الدفع ـ لأنّ المفروض أنّ كلّ مصداق منكر مستقل يجب دفعه ، وأما في القسمين الآخرين فهل يجوز البيع منه إلّا فيما انحصر البائع فيه لأنّ دفع المنكر حينئذ غير مقدور عليه لوجود بائع آخر أو لا يجوز لأنّ الدفع يجب على كل واحد منهم ولو بمنع الغير عن المخالفة؟ وانتقاض الدفع الواجب غير جائز شرعا وعقلا لكونه مخالفة للأمر. ومجرّد بناء الغير على انتقاضه لا يكون عذرا ، فالبائع الواحد وإن لا يقدر على الدفع المطلق لكنه قادر على انتقاض الحكم ومخالفته ، وهذا كاف في تحقق المعصية منه.

فلو أمر المولى عبيده بدفع السّارق عن سرقة ماله وتوقّف ذلك على بقاء الباب مسدودا ، وجب على كل واحد منهم دفعه بحفظ سدّ الباب ، فلو علم أحدهم أنّ بعض العبيد يريد فتح الباب وتمكين السارق لا يوجب ذلك البناء والعلم بفتحه على أيّ حال أن يكون هذا معذورا في فتح الباب ، فلو فتحه كان فاتح الباب عاصيا لا الباني على فتحه. وهذا بوجه نظير أن يتعذر قاتل مظلوم محقون الدّم بأنّه لا محالة كان مقتولا ولو لم يقتله لقتله غيره.

وتنظير المقام بحمل الجسم الثقيل غير وجيه ، فإنّ الواجب هناك حمل الثقيل ، وهو أمر بسيط لا يتحقق إلّا بالاجتماع ، فمع العلم بعدم اجتماعهم يكون إقدامه لغوا.

وأمّا في المقام فالواجب هو الدفع عن التخمير لأجل كونه مبغوضا ، وكلّ واحد منهم مستقل في القدرة على نقضه ، فمن نقضه أوّلا فهو عاص لا من بنى على نقضه. وإن شئت قلت : إنّ بيع الغير وتسليمه للعنب موجب لتعجيزه عن دفع المنكر لا بناءه عليه. فما لم يتحقق التسليم من الغير تكون القدرة على الدفع باقية له فإنّه قادر على إبقاء الدفع ونقضه ما دام الدفع لم ينتقض» (١) هذا.

__________________

(١) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني (ره) ، ج ١ ، ص ١٣٧ (ـ ط. اخرى ، ج ١ ، ص ٢٠٦) ، في النوع الثاني من القسم الثاني.

١٠٧

تصوير السيد الطباطبائي للواجبات والمحرّمات الاجتماعية

وقال السيّد الطباطبائي اليزدي (ره) في الحاشية :

«إذا كان المطلوب فعلا واحدا بسيطا من جماعة على وجه الاشتراك ولم يكن مقدورا إلّا للمجموع من حيث المجموع كدفع المنكر فيما نحن فيه وكحفظ النفس إذا لم يكن مقدورا إلّا لمجموع جماعة فلا يعقل أن يكون المطلوب الأوّلي من كلّ واحد منهم ذلك العنوان ، بل لا بدّ أن يكون المطلوب من كلّ واحد مقدار ما هو مقدوره من مقدمات حصول ذلك الفعل ، إذ لا بدّ في تعلق التكليف من وجود القدرة ، والعنوان الذي يتوقف حصوله على اجتماع جماعة لا يكون مقدورا لواحد منهم ، والمفروض أنّ كلّ واحد منهم مكلّف مستقل ومخاطب كذلك فلا بدّ أن يمتاز ما هو المطلوب منه من غيره ، فعلى هذا يكون ذلك العنوان البسيط غرضا في المطلوب لا مطلوبا أوّليا. وهذا بخلاف ما إذا كان مقدورا لكلّ منهم ، فإنّه لا بأس بتعلّق التكليف به حينئذ ، بناء على المختار من أنّ الأمر بالمسبّب ليس أمرا بالسبب وأنّ المقدور بالواسطة مقدور.

والغرض أنّ الإشكال في المقام أنّ ذلك العنوان ليس مقدورا بالواسطة أيضا لأنّ كونه مقدورا للجميع لا يكفي في تعلق الطلب بكلّ واحد ، ومن المعلوم أنّ كلّ واحد مكلّف على حياله وفي حدّ نفسه فلا يمكن إلّا بالتزام أنّ تكليفه إيجاد ما هو مقدور له من المقدمات.

ومما ذكرنا ظهر أنّه لا يعقل أن يكون المطلوب منه المقدّمة بشرط كونه موصلة ، أي مع وصف الإيصال الفعلي ، لأنّه أيضا ليس داخلا تحت قدرة كلّ واحد ... فالمقدمة المطلوبة من كلّ منهم واجب نفسي أوّلي بالنسبة إليه وليست واجبة من باب المقدمة لأنّه فرع وجوب ذي المقدمة عليه ، والمفروض عدم كونه مقدورا له ، فيكون ذلك العنوان غرضا في المطلوب لا مطلوبا أوّليا ... فلا بدّ في مقامنا هذا من أن يكون الواجب على كلّ من المكلفين ترك بيع العنب لا عنوان

١٠٨

دفع المنكر لعدم كونه فعلا مقدورا له ...

فإن قلت : هب أنّ الواجب على كلّ واحد ما يتمشّى منه من المقدمات إلّا أنّ إيجاد المقدمة مع عدم حصول الغرض لغو فيسقط حينئذ الوجوب بالعلم باللغوية.

قلت : نمنع أنّ اللغوية مسقطة للطلب ، نعم إذا فرض تحقق العصيان من البعض يسقط الخطاب عن البقية ، ففي مسألة بيع العنب لا يجوز البيع إلّا بعد عصيان غيره بالبيع ، وإلّا فالبناء على العصيان غير مسقط للخطاب ...» (١)

أقول : لا يخفى أنّ ما ذكره أخيرا يناقض ما بنى عليه من كون كلّ مقدمة بنفسها واجبا نفسيا مستقلا على كلّ واحد ، إذ عصيان بعضهم لا يوجب تخلف غيره عما وجب عليه ، حيث إنّ الغرض بمنزلة الحكمة لا العلّة ، وتخلّف الحكمة لا يوجب سقوط الحكم.

نقد الأستاذ الإمام (ره) كلام السيد الطباطبائي

والأستاذ الإمام (ره) أطال الكلام في ردّ كلام السيّد في المقام. (٢) ومحصّل ما ذكره أمران :

«الأوّل : أنّ أوامر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تفي بما ذكره بعد ما كان وجوبهما شرعيا لا عقليا كما هو مذهبه. وذلك لأنّ تلك الأوامر كغيرها في سائر الأبواب متوجّهة إلى آحاد المكلّفين لا إلى مجموعهم ، ولا يعقل أن تكون متوجهة إلى الآحاد مستقلا وإلى المجموع بلفظ واحد ، فحينئذ يكون إيجاب الدفع على طبق الرفع أيضا متوجها إلى الآحاد فلم يكن أمر متوجها إلى المجموع حتى يقال : لا بدّ من إرجاعه إلى السبب.

الثاني : أنّ متعلق الأوامر هو الرفع المفهوم منها الدفع أو الدفع أيضا ولا يكون الدفع غير مقدور مطلقا. وكونه في بعض الأحيان غير مقدور لا يوجب إرجاع

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٨ ، ذيل قول المصنّف : مدفوع بأنّ ذلك ...

(٢) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني (ره) ، ج ١ ، ص ١٣٩ (ط اخرى ، ج ١ ، ص ٢٠٩) في النوع الثاني من القسم الثاني.

١٠٩

الأمر إلى السبب بالنسبة إليه حتى يكون مفاد الأمر الواحد في المقدور شيء وفي غيره شيء آخر. ولو فرض فهم ذلك من الأوامر بإلقاء الخصوصية فلا يلزم منه الإرجاع إلى السبب ، فإنّ الأمر كما يتعلق بآحاد المكلفين يمكن أن يتعلق بمجموع منهم ، فيكون الأمر واحدا والمأمور به واحدا هو المجموع ، ويشترط فيه عقلا قدرة المجموع لا الآحاد فتكون الطاعة بإيجاد المجموع والعصيان بتركهم أو ترك بعضهم.»

الفائدة الثالثة عشرة :

إلفات آخر الى الواجب العيني والكفائي (١)

أقول : لا يخفى أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في الأفعال ، وعلى هذا فتصير الواجبات على قسمين :

إذ قد تكون المصلحة في صدور الفعل عن الفاعل بقيد صدوره عن نفسه كالصلاة مثلا ، حيث إنّ الغرض منها قرب الفاعل إلى مولاه.

وقد تكون المصلحة في أصل تحقق الفعل في الخارج بلا دخل لصدوره عن فاعل خاصّ في ذلك كالأمور المرتبطة بتجهيز الموتى من المسلمين وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفعا ودفعا وحفظ ثغور المسلمين والدفاع عن المظلومين ونحو ذلك.

ويسمّي القسم الأوّل من الواجبات بالواجبات العينية ، والقسم الثاني بالواجبات الكفائية. والقسم الثاني أيضا على صنفين : إذ بعضها مما يقدر كلّ فرد على إيجاده ، وبعضها مما لا يقدر البعض على إيجاده إلّا بمساعدة غيره معه. والمطلوب في كلا الصنفين أصل تحقق المطلوب.

وحينئذ فربما يتخيل أن المأمور والمكلّف في الواجبات العينية كل شخص والمأمور في الواجبات الكفائية مجموع المكلفين ، ولكن بإتيان من به الكفاية تسقط عن الباقين.

ولعلّ هذا هو الظاهر مما ذكره الأستاذ هنا في الأمر الثاني.

__________________

(١) لا يخفى أن تعرض الأستاذ ـ دام ظلّه ـ هنا للواجب العيني والكفائي مع أن محلّه بحث الأوامر ـ وقد تعرض هناك ـ كان بمناسبة نقد كلام السيد الطباطبائي في الواجبات والمحرّمات الاجتماعية ـ اللجنة ـ

١١٠

نظر السيد الأستاذ البروجردي (ره) في الفرق بين الواجب العيني والكفائي

ولكن الأستاذ آية الله العظمى البروجردي ـ طاب ثراه ـ قال :

«إنّ الفارق بين الواجبين ليس بالمأمور بل بالمأمور به. فالمأمور في كليهما كل فرد ، ولكن المأمور به في الواجبات العينية هي الطبيعة بقيد صدورها عن فاعله لقيام المصلحة بذلك ، وأمّا في الواجبات الكفائية فكل فرد مأمور ولكن المأمور به نفس الطبيعة بلا تقيّد بصدورها عن فاعل خاصّ ، إذ المصلحة في نفس تحقق الطبيعة ، فإذا تحققت في الخارج سقط التكليف عن الجميع وإلّا عوقب الجميع.

وعلى هذا فكلّ فرد يجب عليه السعي في إيجاد هذه الطبيعة المطلوبة بنفسه أو بمساعدة غيره ، لا بنحو الوجوب المشروط بأن يكون الوجوب على كلّ فرد مشروطا بمساعدة الغير بحيث لا يجب عليه تحصيل الشرط ، بل بنحو الوجوب المطلق ، فيكون كلّ فرد مكلّفا بالسعي في تحقق المطلوب على أيّ حال ولو ببعث غيره أو الاستمداد منه إلى أن يحصل المطلوب ، غاية الأمر أنّ العقل يحكم بارتفاع التنجّز مع ارتفاع القدرة رأسا كما في سائر التكاليف.» (١)

والظاهر صحة ما ذكره هذا الأستاذ ويساعده الاعتبار أيضا.

ونتيجة ذلك أنّ كلّ فرد مأمور مستقلا والمأمور به تحقّق نفس الطبيعة كيف ما كان ، فيجب فيما لا يقدر الفرد بوحدته على إيجادها أن يستعين بغيره ويستمدّ منه إلى أن يحصل المطلوب أو يظهر العجز المطلق ، فتدبّر.

وأمّا المجموع من حيث المجموع فهو أمر اعتباري لا عقل له ولا شعور ولا يتوجه إليه تكليف إلّا بلحاظ الأشخاص.

وأما ما ذكره السيّد من إيجاب المقدمات وجوبا نفسيا فلا يمكن المساعدة عليه ، إذ الأمر لا يتعلق إلّا بما هو مطلوب للمولى ومشتمل على غرضه ، وهذا واضح. (٢)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٢٢٨ وما بعدها.

(٢) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٦٠ الى ٣٦٧.

١١١

ما هو المراد من الخبر الوارد في الذّم من اتّباع بنى أميّة

«وأما ما تقدّم من الخبر في اتّباع بني أمية ، فالذمّ فيه إنّما هو على إعانتهم بالأمور المذكورة في الرواية. وسيأتي تحريم كون الرجل من أعوان الظلمة ، حتى في المباحات التي لا دخل لها برئاستهم ، فضلا عن مثل جباية الصدقات وحضور الجماعات وشبههما ممّا هو من أعظم المحرّمات.» (١)

في حاشية السيّد (ره) :

«أقول : سلّمنا أنّ الأمور المذكورة في الرواية مما يعدّ فاعلها من أعوان الظلمة ، وهو عنوان آخر مستقل ، إلّا أنّ الظلمة.

وهو عنوان آخر مستقل ، إلّا أنّ الظاهر منها أنّ وجه حرمة ذلك العنوان كون الفعل دخيلا في حصول سلب الحقّ الذي هو المحرّم ، فيستفاد منها أنّ إيجاد المقدّمة التي يترتب عليها محرّم حرام ، ألا ترى لو قال : لو أنّ الناس لم يبيعوا عنهم من الخمّار لم يشرب خمرا يستفاد منه أنّ وجه حرمة البيع ترتب شرب الخمر. إلّا أن يقال : لعلّ لمسألة سلب حق الخلافة عن الأئمة عليهم‌السلام خصوصية لكونه من أعظم المحرمات ، فحرمة إيجاد مقدمته لا تدلّ على حرمة إيجاد مقدمات سائر المحرمات ، والمفروض أنّ الرواية خاصّة بهذه المسألة.» (٢)

أقول : الظاهر أنّ المصنف كان ناظرا إلى هذه الخصوصية ، والتعدي عنها يتوقف على إلقاء العرف لها بنحو القطع وهو ممنوع. (٣)

__________________

(١) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٦٧.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٩ ، ذيل قول المصنّف : فالذمّ فيه إنّما هو ...

(٣) المكاسب المحرمة ، ج ٢ ، ص ٣٦٧.

١١٢

الفصل الثالث :

المفاهيم

وهو يشتمل على فوائد :

١١٣
١١٤

الفائدة الاولى :

تقرير محل النزاع

«مورد النزاع في باب المفاهيم أنّه هل هو انتفاء سنخ الحكم او انتفاء شخصه؟

... والمتأخرون ارسلوا (الأوّل) ارسال المسلمات ولكن لا نجد له معنى محصلا ؛ لوضوح أن المعلق في قولنا : «إن جاءك زيد فأكرمه» مثلا هو الوجوب المحمول على اكرام زيد ، والتعليق انما يدل على انتفاء نفس المعلق عند انتفاء المعلق عليه كما عرفت ، وما تفرضه سنخا إن كان متحدا مع هذا المعلق موضوعا ومحمولا فهو شخصه لا سنخه ؛ إذ لا تكرر في وجوب إكرام زيد بما هو هو وإن كان مختلفا معه موضوعا ومحمولا ... ، فلا معنى للنزاع في أن قوله «إن جاءك زيد» يدل على انتفاءه أو لا يدل؟ ...»

أقول : وجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه يغاير وجوب إكرامه على تقدير عدم المجيء بحسب التشخص ، مع اتحادهما موضوعا ومحمولا ، ولا نعني بالسنخ إلّا ذلك. والمعلق على الشرط ليس هو الإنشاء ولا المنشأ بقيد تعليقه على الشرط ، حتى يقال بانتفائه بانتفاء الشرط عقلا ولا يكون معه مجال للبحث عن المفهوم ؛ بل المعلق على الشرط هو ذات المنشأ وهو وجوب إكرام زيد ، وهذا المعنى كما يمكن أن يتحقق على تقدير تحقق الشرط يمكن أن يتحقق على تقدير عدمه ، بأن يوجد بانشاء آخر ، ففائدة المفهوم نفي تحققه (على تقدير عدم الشرط) بإنشاء آخر. «وبعبارة اخرى» خارجية وجوب إكرام زيد ، وإن كانت بالإنشاء ولكنه يمكن أن يوجد لها فردان بإنشاءين يكون المنشأ في احدهما وجوب الإكرام على تقدير المجيء ؛ وفي الآخر وجوب الإكرام على تقدير عدم المجيء ، والتعليق وإن كان يفيد انتفاء نفس

١١٥

المعلق (بانتفاء المعلق عليه) لا انتفاء شيء آخر ، ولكن المعلق ليس هذا الإنشاء ولا المنشأ بقيد التعليق ، بل ذات المنشأ ، وهو وجوب الإكرام الذي يمكن أن يتحقق عند انتفاء الشرط أيضا بإنشاء آخر.

فالظاهر أن المفهوم ـ على القول به ـ يثبت في الإنشائيات المولوية أيضا. نعم في مثل الأوقاف والوصايا لا يجري المفهوم لعدم قابلية مال واحد إلّا لوقف واحد. (١)

الفائدة الثانية :

مفهوم الشرط

«محل البحث : إثبات المفهوم للشرط ببيان أنّ ظاهر قول القائل : إن جاءك زيد فأكرمه أن المجيء علّة منحصرة للجزاء ، إذ لو كانت هناك علة اخرى كانت العلة هي الجامع بينهما لا خصوص كل منهما لعدم إمكان صدور الواحد عن الاثنين. وأجيب بأن عدم صدور الواحد عن الاثنين وكون العلة بحسب الحقيقة عبارة عن الجامع أمر تقتضيه الدقة العقلية والعرف غافل عنه ، والمرجع لفهم المعاني هو العرف.»

لا يخفى أن دليل الامتناع صدور الواحد عن الكثير لو جرى في هذه المقامات فلا يمكن الجواب عنه بعدم فهم العرف لعدم إمكان الالتزام بالمحذور العقلي تمسكا بعدم فهم العرف ، اللهم إلّا أن ينكر ظهور هذا النحو من الخصوصية (التي لا يحتاج في بيانها إلى مؤنة زائدة) في كونها دخيلة لعدم جريان دليل اللغوية بعد ما لم يكن بيان ذي الخصوصية أكثر مؤنة من بيان الجامع. (٢)

تداخل الأسباب والمسبّبات

«هل تتداخل الأسباب او المسببات؟ قال صاحب الكفاية : هذه المسألة متفرعة على مسألة تعدد الشرط واتحاد الجزاء ، فلو اخترنا هناك تقييد كل

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٠٢.

(٢) نهاية الاصول ، ص ٣٠٠.

١١٦

من المنطوقين بالآخر لينتج أن الشرط هو المجموع فالبحث في هذه المسألة لغو. وأجاب في المتن بأن المسألة هنا في تداخل المنطوقين ، وفي تلك المسألة في ثبوت المفهوم وعدمه ولا ربط بين المسألتين ...»

لا يخفى صحة ما ذكره المحقق الخراساني من عدم المورد لهذا النزاع بعد اختيار الوجه الثالث (تقييد المنطوقين بالآخر) في المسألة السّابقة (تعدد الشرط واتحاد الجزاء) إذ بعد تقييد المنطوقين وإرجاع الشرطين إلى شرط واحد مركب لا يبقى مورد للبحث عن التداخل. ثم إنه يمكن أن يقال في الفرق بين المسألتين : إن الأولى لفظية ينازع فيها في ثبوت المفهوم وعدمه للقضية الشرطية ؛ والثاني : عقلية ، حيث يبحث فيها عن حكم توارد السببين ، وان ثبتت سببيتهما بغير اللفظ أيضا فتدبر. (١)

الاستدلال لعدم التداخل

«محل البحث بيان استدلال الشيخ لعدم التداخل في الأسباب بأن ظاهر الشرط في القضية الشرطية كونه علة تامة فعلية للجزاء مطلقا سواء وجد حينه او بعده أمر آخر أم لا ، ومقتضى ذلك تعدد المسبب. ولا يقال : متعلق الحكم كالوضوء مثلا طبيعة واحدة وهي مطلقة والطبيعة الواحدة يستحيل ان يتعلق بها وجوبان مستقلان ، فمقتضى إطلاق المتعلق تداخل الأسباب ووحدة التكليف. فإنه يقال : إطلاق المتعلق إنما هو بمقدمات الحكمة ومنها عدم البيان ، وظهور الشرط في السببية التامة يكفي بيانا لرفع اليد عن إطلاق المتعلق ، فظهور الشرط دليل على تقييد المتعلق ...»

فإن قلت : ظهور كل من الشرطين في السببية التامة الفعلية أيضا بالإطلاق ، فإن مقتضى الإطلاق سببيته بهذا النحو ، سواء وجد معه أو بعده شرط آخر أم لا ، فلم يحكّم إطلاق الشرط على إطلاق المتعلق ولا يعكس؟

قلت : إذا قال الشارع إذا بلت فتوضأ مثلا فللجملة الشرطية المذكورة ظهوران :

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٠٥.

١١٧

أحدهما ظهور إطلاقي ، وهو ظهورها في سببية البول للوجوب بالسببية التامة الفعلية ، سواء وجد معه النوم مثلا أم لا ؛ وثانيهما ظهور عرفي غير مستند إلى الإطلاق وهو ظهور قوله : " إذا بلت" في كون كل فرد من البول سببا مستقلا لوجوب الوضوء في قبال الأبوال الأخر ، وهذا ظهور عرفي يفهمه العقلاء عند ملاحظتهم الأسباب العقلية والعادية الخارجية ، حيث يكون كل فرد منها سببا لوجود فرد من المسبب غير ما وجد بسبب الفرد الآخر ، وليس هذا الظهور مستندا إلى الإطلاق حتى يعارض بإطلاق المتعلق ، فهو القرينة على تقييد المتعلق ، وبذلك يفرق بين الأوامر المعلقة على الأسباب وبين الأوامر الابتدائية المتكررة ، حيث لا توجد فيها قرينة لتقييد المتعلق ، وبذلك يستشكل على تقديم التأسيس فيها على التأكيد. وجه الإشكال أن التأسيس يستلزم تقييد المتعلق والأصل عدمه.

هذا ما يستفاد من كلام الشيخ (قده) عند جوابه عما منع به الفاضل النراقي للمقدمة الثانية من المقدمات الثلاث التي بني عليها أساس استدلال العلامة ، ولكن يظهر منه ـ عند عنوانه لمسألة التداخل في مبحث اجتماع الأمر والنهي ـ أن ظهور قوله" إذا بلت" في كون كل فرد من أفراد البول سببا مستقلا أيضا ظهور إطلاقي ، فراجع التقريرات.

ثم إنّ ما ذكر من الظهور العرفي لا يوجد فيما إذا تعدد الشرط واختلفا في الجنس كالبول والنوم مثلا ، بل الثابت حينئذ هو الظهور الإطلاقي كما صرح به ، فيعارض حينئذ ظهور الشرط لظهور المتعلق ، ولا مرجح لأحدهما ، اللهم إلّا أن ينكر كون ظهور الشرط في السّببية التامة الفعلية ظهورا إطلاقيا ، وهو كما ترى.

كما أن إشكال سيدنا الأستاذ ـ مد ظلّه ـ بعدم ناظرية أحد الشرطين إلى الآخر أيضا يجري في مختلفي الجنس ، دون متحده ؛ لتسليمه إمكان الأمر بفردين من طبيعة واحدة بخطاب واحد ثبوتا ، وإن كان وجوب كل منهما استقلاليا ، فإذا أمكن ذلك ثبوتا حكمنا بتحققه لاستدعاء كل سبب مستقل مسببا مستقلا ، وعلى هذا فمقتضى كلام الشيخ (قده) وكلام السيد الأستاذ ـ مد ظلّه العالي ـ عدم التداخل في متحدي الجنس ، دون غيره عكس تفصيل الحلّي (قده). (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣٠٦.

١١٨

الفائدة الثالثة :

تطابق المفهوم مع المنطوق

«محل البحث تطابق المفهوم مع المنطوق ، وأن المفهوم فيما إذا كان الموضوع للجزاء عاما استغراقيا ـ سواء كان الحكم ثبوتيا بأن كانت القضية موجبة كلية ، او سلبيا بأن كانت القضية سالبة كلية ـ هل هو السلب الجزئي في الأوّل والإيجاب الجزئي في الثاني كما اختاره صاحب الحاشية ، أو السلب الكلي في الأوّل والإيجاب الكلي في الثاني ، كما اختاره الشيخ؟ فمفهوم قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء» على نظر صاحب الحاشية ، أن الماء إذا لم يكن بقدر الكر ليس بأن لا ينجّسه شيء بل ينجّسه بعض النجاسات ؛ وعلى نظر الشيخ ، أن الماء إذا لم يكن بقدر الكر ينجّسه كل شيء نجس.

واختار في المتن نظر صاحب الحاشية مستدلا بأنه المتبادر من موارد استعمال هذه الجمل ...

فإن قلت : لو كانت استفادة المفهوم مبتنية على استفادة العلية المنحصرة من الشرط ـ كما هو مسلك المتأخرين ـ لزم تطابق المفهوم والمنطوق في الشمول أيضا ، فإن الحكم في الجزاء ينحل إلى أحكام عديدة ، كما هو مقتضى العموم الاستغراقي ؛ والمفروض انحصار علّة الجميع في الشرط فبانتفائه تنتفي علّة جميع هذه الأحكام ، فتنقلب بأجمعها من الإيجاب إلى السلب أو بالعكس.

قلت : علّية الشرط بنحو الانحصار إنما هي بالنسبة إلى حكم الجميع ، لا كل فرد فرد بالاستقلال ، فعلّة الموجبة الكلية مثلا تنحصر في الشرط ، وهذا لا ينافي إمكان استناد الحكم في بعض الأفراد إلى علّة اخرى عند عدم ثبوت الحكم للجميع.

فإن قلت : الحكم في العام الاستغراقي ليس ثابتا للمجموع ، بل لكل فرد

١١٩

فرد ؛ فإن العام يلحظ فيه مرآة للحاظ الأفراد التي هو الموضوعات حقيقة ، ولا دخالة لوصف العموم والاجتماع.

قلت : لا نسلم عدم لحاظ وصف العموم في مقام الحكم ، بل الحكم حكم واحد ، وموضوعه أمر وحداني وهو العام ، وليس هنا موضوعات متعددة وأحكام متكثرة مستقلة ، ولذا قالوا : إن نقيض السلب الكلي الإيجاب الجزئي ، ونقيض الإيجاب الكلي السلب الجزئي ، فافهم.»

أقول : ربما يقال في جواب الإشكال : إن العام وإن لوحظ مرآة للحاظ الأفراد ، ولكنه لا منافاة بين لحاظه كذلك في مقام الحكم ، وبين لحاظه أمرا وحدانيا في مقام التعليق ، فالحكم ثابت للأفراد ، والتعليق إنما هو بلحاظ المجموع ، وبالجملة : التفكيك بين مقام الموضوعية للحكم وبين مقام التعليق ممكن ثبوتا ، فيكون التبادر دليلا عليه في مقام الإثبات كما يظهر ذلك بالتأمل في مفهوم قولهم : لو كان معك الأمير فلا تخف أحدا ونحو ذلك من الأمثلة «انتهى».

ويرد عليه : أن المعلق ليس هو الموضوع حتى يقال بلحاظه في مقام التعليق أمرا وحدانيا ، بل المعلق في جميع التعليقات هو الحكم الثابت للموضوع ، والفرض أنه يسلّم انحلال الحكم وكثرته ، ولم يصدر عن المولى حكمان أحدهما على الأفراد والثاني على العام بما هو عام ، حتى يقال بكون التعليق بلحاظ الثاني ، فافهم.

فالحق في الجواب ما ذكره سيدنا الأستاذ العلامة ـ مد ظلّه ـ إذ ما اشتهر بينهم من أن العام في العمومات الاستغراقية ليس موضوعا حقيقة بل يكون مرآة للحاظ الأفراد ـ التي هي الموضوعات حقيقة ـ كلام خال عن التحصيل ؛ لاستلزامه صدور أحكام غير متناهية وتحقق إرادات غير متناهية أو غير محصورة فيما إذا حكم المولى بنحو القضية المحصورة ، أو صدور إخبارات غير محصورة فيما إذا أخبر كذلك. ويلزم عليه أيضا عدم كون الموجبة الجزئية نقيضا للسالبة الكلية وبالعكس ، وهو كما ترى. وقد حقق في محله أن القضية المحصورة برزخ بين الطبيعية وبين القضايا الشخصية ، وأن الحكم فيها يصدر بنحو الوحدة على موضوع وحداني ، من غير فرق بين الحكم الإنشائي والإخباري ، والتكثر يحصل بتحليل العقل. (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ، ص ٣١١.

١٢٠