أشهد أنّ عليّاً ولي الله

السيد علي الشهرستاني

أشهد أنّ عليّاً ولي الله

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5331-19-6
الصفحات: ٥٩٤

بحوث فكرية عقائدية فقهية قيّمة ، لأنّ هذا البحث مرتبط بموضوع حسّاس ومهم ، وشعار لمذهب يعتنقه مئات الملايين من المسلمين ، وفي الوقت نفسه هو سؤال لملايين المسلمين في جميع البلدان ، فإنّ موضوعا كهذا لَحَرِيٌّ أن يدرس من قبل العلماء وبكتابات حديثة معاصرة يفهمها الجميع.

كل هذا هو الذي دعاني لأن أدلو بدلوي معطيا رأيي في هذا المجال ، غير مدّعٍ بأني قد أوفيت البحث حقّه ، بل هو مبلغ وسعي وغاية جهدي ، ومن اللّه‏ أرجو التوفيق.

موكِّدا للقارئ العزيز بأنّ ما سأطرحه هنا هو عرض لوجهة نظر ـ جل أو كلّ ـ الإمامية وبيان لما قاله فقهائهم وأعلامهم.

ولا أريد أن أُثبت شرعيّة الشهادة الثالثة للاخرين العامة ، لا لصعوبة الأمر ، بل لعدم الضرورة لبحث كهذا الآن ، إذ أنّ إثبات الشهادة الثالثة وما يماثلها سهل وفق أُصولهم الفقهية والأُصولية والروائية ؛ وذلك لأنّ غالبيّتهم يقولون بعدم توقيفيّة الأذان ، وأنّه شُرّع وفق منام رآه أحد الصحابة ، وفي آخر : أنّه شُرّع طبق استشارة من النبيّ مع أصحابه ، وقيل : بأنّ الأذان شرّع أَوّلاً بقول المؤذّن : « الصلاة الصلاة » ، ثم أُضيفت إليه الشهادة بالتوحيد ، وأن عمر بن الخطاب أضاف إليه الشهادة بالنبوّة.

ولهم اُصول اُخرى كالقول بأنّ الحَسَنَ هو ما حَسَّنه الناس (١) ، وكالقول بالمصلحة وأشباهها.

كلّ هذه الأُصول تسهّل الأمر للقول بشرعيّتها عندهم ، لكنّا الآن في غنىً عن ذلك ، بل الذي نريد الإشارة إليه هو عرض سريع لما جرى على الأذان بعد رسول

__________________

(١) الاثار ، لمحمد بن الحسن الشيباني : ٨١ كتاب الأذان / ح ٥٩ ، عن حماد بن إبراهيم أنّه سال ابا حنيفة عن التثويب؟ قال : هو ما احدثه الناس ، وهو حسن مما احدثوه.

٢١

اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التغييرات والزيادات ، لأنّ بيان موضوع كهذا يحدّ من هجمة الآخرين علينا ، ويوقفهم عند حدودهم.

وقبل عرضي لما جرى بعد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابدّ من نقل كلام الاستاذ خليل عزمي في كتابه « بين الشيعة والسنة » صفحة ٩٠ طبعة بغداد ؛ إذ قال : « زيادتهم على الأذان جملة « وأشهد ان عليا ولي اللّه‏ » باعتبار أنّها لم تكن داخلة ضمن الأذان بعهد رسول اللّه‏ ، فأيّ ضرر يتأتّى من إضافة هذه الجملة طالما استحسنها جمهور من المسلمين كما استحسن جمهور آخر إدخال كلمات لم تكن ضمن الأذان في عهد رسول اللّه‏ مثل « الصلاة خير من النوم » في الأذان » (١).

وذكرت كتب السير والتاريخ خبر الأسود العنسي ـ عبهلة بن كعب ـ في اليمن ، وظهوره متزامنا مع مسيلمة الكذاب في اليمامة ، وادعائهما النبوّة ، وأنّ رسول اللّه‏ كتب إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم أن يحثّوا الناس على التمسّك بدينهم ، وعلى النهوض إلى حرب الأسود ، فقتله فيروز الديلمي على فراشه (٢).

وفي التنبيه والاشراف : أنّ النبي كان كاتب الفرس أن يقتلوه ، فقتلوه ، فأَخبر النبيَّ أصحابَهُ : مقتله (٣).

وفي غرر الخصائص الواضحة للوطواط المتوفّى ٧١٨ هـ : قال عبداللّه‏ بن عمر : أتانا الخبر من السماء إلى رسول اللّه‏ في الليلة التي قتل فيها ، فقال : قتل العنسي ، فقيل : من قتله؟ قال : رجل مبارك من أهل بيت مباركٍ ، قيل : من هو؟ قال : فيروز ،

__________________

(١) الاعمى في الميزان : ٢ ، عن كتاب : بين الشيعة والسنة : ٩٠ ، والقسطاس المستقيم في ولاية أمير المؤمنين للسيّد محمد على بن محمد باقر الموسوي الكاظمي : ١٣٥ ـ ١٣٦ طبع مطبعة المعارف / بغداد سنة ١٣٧٦ ه‍ عنه.

(٢) تاريخ الخميس ٢ : ١٥٦.

(٣) التنبيه والاشراف : ٢٤١.

٢٢

وفي صبيحة تلك الليلة قبض رسول اللّه ‏(١).

وفي تاريخ الطبري ، وتاريخ دمشق وغيرهما: فلمّا طلع الفجر نادوا بشعارهم الذي بينهم ثم بالأذان وقالوا فيه : « نشهد أنّ محمدا رسول اللّه‏ وأنّ عبهلة كذاب » ، وشنّوها غارة ، وتراجع أصحاب رسول اللّه‏ إلى أعمالهم ، وكتبوا إلى رسول اللّه‏ بالخبر ، فسبق خبر السماء إليه ، فخرج قبل موته بيوم أو ليلة ، فأخبر الناس بذلك ، ثمّ ورد الكتاب ورسولُ اللّه‏ قد مات (٢).

وفي فتوح البلدان احتز قيس بن هبيرة رأس الأسود المتنبئ ، ثم علا سور المدينة حين اصبح فقال : « اللّه‏ اكبر! اللّه‏ اكبر!. أشهد ان لا إله إلاّ اللّه‏ ، وأشهد ان محمدا رسول اللّه‏ ، وإن الاسود العنسي عدو اللّه‏ » (٣).

وهذه النصوص التاريخية جوّزت الزيادة في الأذان في عهد الرسول وأوائل رحلته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدعوى أنّها حالة نبعت من واقع المسلمين وإحساسهم بنشوة النصر على الكافرين ، وأنّ الأذان عندهم هو الإعلام ، فيمكن الإعلام عن عودة المُلك إلى المسلمين ودحر الكافرين والمتنبئين.

وبعد زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رووا بأنّ التثو يب الثاني ـ أي قول المؤذن بعد الانتهاء من الأذان : « السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة يرحمك اللّه‏ » ـ قد شرّع على عهد أبي بكر (٤) ، وفي آخر : في عهد عمر بن الخطاب (٥) ، وقال ثالث : في عهد

__________________

(١) غرر الخصائص الواضحة : الفصل الثالث من الباب السابع ، فيمن ارتقى بادعائه النبوة مرتقى صعبا ، معارج القبول ٣ : ١٤٦ ، المنتظم ٤ : ٢٠ ، احداث سنة إحدى عشر للهجرة.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٢٥٠ ، البداية والنِّهاية ٦ : ٣١٠ ، تاريخ دمشق ٤٩ : ٤٨٨ ، تاريخ الإسلام ٣ : ١٩.

(٣) فتوح البلدان ١ : ١١٤.

(٤) انظر تنوير الحوالك ١ : ٧١ ، وفيه : كان المؤذن يقف على بابه فيقول : السلام عليك يا خليفة رسول اللّه‏ ، الصلاة يا خليفة رسول اللّه‏.

(٥) انظر شرح الزرقاني ١ : ٢١٦ ، وفيه : كان المؤذن يقف على بابه ويقول : السلام عليك يا

٢٣

عثمان (١) ، ورابع : في عهد معاوية (٢).

ولا نرى خلافا بيّنا بين هذه النصوص ، وذلك لتبنّي اللاّحق ما جاء به السابق من التثويب الثاني ، وأنّهم كانوا لا يرون ضيرا في مثل هذه الزيادات في الأذان ، فيمكن أن يقال : إنّ معاو ية ، أو عثمان ، أو عمر قال به.

أنا لا أُريد أن أُثبت هذا التشريع لهذا أو أنفيه عن ذاك ، المهمّ عندي أنّهم جوّزوا هذا التثويب في العصور السابقة ، فلا يحقّ لأمثال هؤلاء الاعتراض على الآخرين بقولهم بالشهادة الثالثة في الأذان.

ويضاف إلى ذلك ما ذكره التفتازاني والقوشجي وغيرهما من أنّ عمر ابن الخطاب منع من متعة النساء ، ومتعة الحج ، ورفع حي على خير العمل من الأذان (٣).

وفي موطأ مالك : إنّ المؤذّن ، جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما ، فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح (٤).

ولا ينكر أحد من المسلمين بأن عثمان بن عفان هو الذي أضاف الأذان الثالث يوم الجمعة (٥).

نعم ، إنّهم قالوا بشرعية الأذان الثالث يوم الجمعة وما يماثله من جهة المصالح

__________________

أمير المؤمنين ، ثم أن عمر أمر المؤذن فزاد فيها ( رحمك اللّه‏ ). ويقال : إن عثمان هو الذي زادها.

(١) انظر شرح الزرقاني ١ : ٢١٦ ، وفيه : ويقال إن عثمان هو الذي زادها.

(٢) انظر مواهب الجليل ١ : ٤٣١ ، الذخيرة ٢ : ٤٧.

(٣) شرح المقاصد في علم الكلام ٢ : ٢٩٤ ، وشرح التجريد / باب بحث الإمامة.

(٤) موطأ مالك ١ : ٧٢.

(٥) صحيح البخاري ١ : ٣٠٩ / ح ٨٧٠ / باب الأذان يوم الجمعة.

٢٤

المرسلة ، مع اعتقادهم بعدم شرعيته على عهد رسول اللّه‏ ، ونحن يمكننا إلزاما لهم إثبات الشهادة الثالثة وغيرها طبق المصالح المرسلة وما يماثلها عندهم.

هذا هو خلاصة ما يمكننا قوله مع القائلين بعدم توقيفية الأذان عند العامة وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم.

كما يمكننا أن نثبت لهم شرعية الشهادة بالولاية من جهة شرعية « حيّ على خير العمل » على عهد رسول اللّه‏ ، وأنّ الصحابة كانوا قد أذّنوا بها ، وأنّ عمر حذفها لأسباب معروفة عند مدرسة أهل البيت ، وقد أكّد الإمام الكاظم على هذه الحقيقة ، بقوله : إنّ « حيّ على خير العمل » دعوة للولاية ، وإنّ عمر كان لا يريد دعاءً إليها ولا حثّا عليها (١).

وهذا نص له قيمته التاريخية والشرعية ، لأ نّه صدر في القرن الثاني الهجري وعلى لسان أحد أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وقريب منه موجود في كتب الزيدية والإسماعيلية مما يؤكد اجماع مدرسة أهل البيت على هذا المعنى عندهم.

ومن المعلوم بأنّ جملة : « حيّ على خير العمل » ليس لها ظهور في الإمامة والولاية ، وإن فهمها بعض خُلّص الصحابة من خلال الآيِ الكريمِ والأحاديثِ المتواترةِ عن رسول اللّه‏.

وكلامُ الإمام « أنّ حيّ على خير العمل دعوة للولاية وإنّ عمر كان لا يريد دعاءً إليها ولا حثا عليها » يشير إلى أن بعض الصحابة كانوا يفتحونها بجمل دالة على الإمامة والولاية ، توضيحا وتفسيرا ، كقولهم بعد « حيّ على خير العمل » ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ : « محمد وعلي خير البشر » ، أو « محمد وآل محمد خير البرية » ، أو « علي وأولاده المعصومون حجج اللّه‏ » ، وغيرها من الصيغ الدالة على الإمامة والولاية ، وأنّ عيون عمر كانوا يخبرونه بفعل هذا النزر من الصحابة.

__________________

(١) أنظر علل الشرائع ٢ : ٣٦٨ ، وعنه في وسائل الشيعة ٥ : ٤٢٠ / ح ٦٩٧٧.

٢٥

فعمر بن الخطاب أراد أن لا يكون حثٌ عليها ولا دعاءٌ إليها ، فمنعها تحت طائلة أنّ البعض من الصحابة سيتركون الجهاد بدعوى أنّهم يؤدّون خير العمل وهو الصلاة ، فلا صلاة مع احتياج الأ مّة إلى الجهاد ، إلى غير ذلك من الكلام الذي مرّ بعضه في الباب الأول من الدراسة « حي على خير العمل الشرعية والشعارية » (١) ، وسيأتي البعض الآخر منه في الفصل الأوّل من هذا الباب.

ومما مرّ تعرف أن البحث مع الاخرين سهل ليس بالعسير المتعب كما يتصورّه البعض.

نحن نترك البحث مع العامة في هذا المجال ، ونقصر الكلام على أدلة الشيعة ، ونتناولها بأسلوبنا ومنهجنا الخاص ، لتتضح الأ دّلة لمن خفيت عليه ويقف عليها من لم يكن قد وقف عليها من قبل.

الشهادة الثالثة بين الأذان والإقامة

هذا ، وقد تصور البعض أن مبحث الأذان يختلف عن الإقامة ، لكون الأول خارجا عن حقيقة الصلاة والثاني داخل فيها ، فتجوز الزيادة والنقصان في الأوّل ولا تجوز في الثاني ، لكون الأذان إعلاما فقط ، أما الإقامة فهي من الصلاة.

وقد بارك لي أحد الإِخوة دراستي هذه عن الشهادة الثالثة موكّدا الاكتفاء بمبحث الأذان دون الإقامة ، لاعتقاده بأنّ الإقامة من الصلاة ، للروايات الواردة في ذلك ، فأجبته بأنّ الأمر لم يكن كما تتصوَّره ، إذ الفقهاء قد اختلفوا في ذلك ، فالنزرُ القليل اعتبروها من الصلاة ، والجُلُّ الأعظم جعلوها خارجة عنها.

ولكن مما لا يخفى على الباحث البصير أنّ الأذان والإقامة خارجان عن حقيقة

__________________

(١) كتابنا « الأذان بين الاصالة والتحريف » يقع في ثلاثة أبواب ، صدر الباب الاول منه تحت عنوان : « حيّ على خير العمل الشرعية والشعارية » أما الباب الثاني فهو « الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة » وهو قيد التدوين ، أما الباب الثالث فهو ما بايدينا.

٢٦

الصلاة جزءً وشرطا ، إذ النداء للشيء غير نفس الشيء ، بل في بعض فصولهما كالحيعلات الثلاث ما يدل على عدم إرتباطهما بالصلاة أصلاً ، لكونهما ليسا أذكارا ، والصلاة إنّما هي الذِّكر.

والفرق بينهما أنّ الأذان هو نداء ودعوة للغائبين ، والإقامة هي تنبيه للحاضرين المجتمعين في المسجد ، وذلك لإمكان اشتغالهم بالكلام والأُمور الحياتية الاُخرى ، فربّما لا يلتفتون إلى قيام الصلاة إلاّ بعد قول الإمام « قد قامت الصلاة ».

ويؤيد ما قلناه ورودهما معا في بعض الأخبار ، فقد يسمّى الأذان إقامة ، والإقامة أذانا في الأخبار الواردة عن الأئمّة المعصومين ، بل إنّ إطلاق النداء على الإقامة يؤكّد معنى الإعلامية فيهما معا.

إنّ كونهما نداءً ، دليل على خروجهما عن حقيقة الصلاة وعدم تقوّمها بهما ، فلا يمكن لأحدٍ أن يفتي ببطلان الصلاة لو وقعت بدونهما أو بدون أحدهما.

نعم ، لا ننكر وجود فروق بينهما ، لكنها لا تكون بحدٍّ توجب القول بأن الإقامة جزء من الصلاة ، فإنّ القول بعدم جواز الالتفات في الإقامة وجوازه في الأذان ، أو لزوم الطهارة والوضوء في الإقامة بخلاف الأذان ، أو جواز الفَصْل بين الأذان والإقامة وعدم جواز الفصل بين الإقامة والصلاة ، أو لزوم التوجّه إلى القبلة في الإقامة دون الأذان ، إلى غيرها من الأمور الكثيرة الملحوظة في الإقامة دون الأذان ، لا توجب حكما شرعيا وتَقَوُّما ذاتيّا آخر بحيث تعدّ الإقامة من الصلاة دون الأذان.

إذ روى الشيخ عن محمد الحلبي ، قال : سألتُ أبا عبداللّه‏ عن الرجل يتكلم في أذانه أو في إقامته؟ قال : لا باس (١).

__________________

(١) الإستبصار ١ : ٣٠١ / ح ١١١٣ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٥٤/ح ١٨٦ ، وسائل الشيعة ٥ : ٣٩٥/ ح ٦٩٠٠.

٢٧

وعن الحسن بن شهاب ، قال : سمعت أبا عبداللّه‏ يقول : لا باس أن يتكلّم الرجل وهو يقيم الصلاة ، وبعدما يقيم إن شاء (١).

وعن حماد بن عثمان ، قال : سألت أبا عبداللّه‏ عن الرجل يتكلم بعدما يقيم الصلاة ، قال : نعم (٢).

وعن عبيد بن زرارة قال : سألتُ أبا عبداللّه‏ ، قلت : أيتكلم الرجل بعدما تقام الصلاة؟ قال : لا باس (٣).

وفي ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه ، قال : سألتُ أبا جعفر عن رجل نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصلاة ، قال : فليمض في صلاته ، فإنّما الأذان سنّة (٤).

فلو كانت الإقامة من الصلاة فلا وجه لتعليل المضيّ في الصلاة مع نسيانه الإقامة.

هذه الروايات وغيرها تحدّ من رواية عمرو بن أبي نصر (٥) وأبي هارون المكفوف (٦) ، ومحمد بن مسلم (٧) ، الناهية عن التكلّم حين الإقامة.

ومقتضى الجمع بين الطائفتين هو حمل الروايات الناهية على الكراهة ، مضافا إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الحكم بالكراهة ، لأنّ المقيم ليس بداخل في الصلاة واقعا حتى ينبغي له ترك الكلام.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٠١ / ح ١١١٥ ، تهذيب الاحكام ٢ : ٥٥ / ح ١٨٨.

(٢) الاستبصار ١ : ٣٠١ / ح ١١١٤.

(٣) الحدائق الناضرة ٧ : ٤٢٧ ، عن ابن إدريس في مستطرفات السرائر : ٦٠١.

(٤) الاستبصار ١ : ٣٠٤ / ح ١١٣٠ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٢٨٥ / ح ١١٤٠.

(٥) الكافي ٣ : ٣٠٤ / ح ١٠ ، من باب بدء الأذان .. الاستبصار ١ : ٣٠١ / ح ١١١٠.

(٦) الكافي ٣ : ٣٠٦ / ح ٢٠ ، وعنه في الاستبصار ١ : ٣٠١ / ح ١١١١.

(٧) الاستبصار ١ : ٣٠١ / ح ١١١٢ ، تهذيب الاحكام ٢ : ٥٥ / ح ١٩١.

٢٨

وقد تكون حرمة الكلام (١) مختصة على أهل المسجد رعايةً لمصالح الجماعة ، لرواية ابن أبي عمير ، قال : سألتُ أبا عبداللّه‏ عن الرجل يتكلّم في الإقامة؟ قال : نعم ، فإذا قال المؤذن « قد قامت الصلاة » ، فقد حرم الكلام على أهل المسجد ، إلاّ أن يكونوا قد اجتمعوا من شتى وليس لهم إمام ، فلا باس أن يقول بعضهم لبعض : تقدم يا فلان (٢).

وقد ورد في روايات أهل البيت بأنّ مفتاح الصلاة التكبير وتحليلها التسليم (٣) ، فلو كانت الإقامة جزءا أو شرطا لكان اللاّزم القول أنّ مفتاحها الإقامة.

وقد سُئل الصادق عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح ، قال عليه‌السلام : يعيد الصلاة (٤).

وعن علي بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتى يركع ، قال : يعيد الصلاة (٥) ، إلى غيرها من الروايات الكثيرة في هذا الباب.

وبعد هذا ، فلا يمكن لأحدٍ أَن يحتاط في عدّ الإقامة جزءا ؛ بمجرّد ملاحظة الفوارق الموجودة بينها وبين الأذان ، إذ أنّا نجد غالب هذه الفوارق مجتمعة في التكبيرات السبع المستحبّة قبل تكبيرة الإحرام ، وفي دعاء التوجّه إلى الصلاة ، وعند القيام إليها ، لكنّا لا نرى أحدا من الفقهاء يقول بجزئيّتها في الصلاة مع اشتراطهم فيها الطهارة ، والاستقبال ، وعدم جواز الالتفات ، وعدم الفصل بينها وبين الصلاة ، إلى غيرها من الامور السابقة.

ونحن فصّلنا بعض الشيء عن هذا ، لأ نّا رأينا البعض يريد التشكيك في

__________________

(١) ومعناها الكراهة هنا.

(٢) الاستبصار ١ : ٣٠٢ / ح ١١١٦.

(٣) اُنظر تهذيب الاحكام ٣ : ٢٧٠ / ح ٧٥٥ ، تفسير الإمام العسكري : ٥٢١ وفيه : مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ... وعنه في وسائل الشيعة ١ : ٣٩٨ / ح ١٠٣٩.

(٤) الكافي ٣ : ٣٤٧ / ح ١ ، وسائل الشيعة ٦ : ١٢ / ح ٧٢١٨ ، منتهى المطلب ١ : ٢٦٧.

(٥) الاستبصار ١ : ٣٥٢ / ح ١٣٢٩ ، وسائل الشيعة ٦ : ١٣ / ح ٧٢٢٢.

٢٩

شرعيّة الشهادة الثالثة من خلال الإقامة والتي تختلف بزعمه عن الأذان.

والكلّ يعلم بأ نّهما حقيقتان خارجتان عن الصـلاة جزءا وشرطا ؛ سمّيت إحداهما أذانا والأُخرى إقامة.

فالأذان على نحوين (١) :

١ ـ الأذان الإعلامي : وهو ما شرّع لإعلام البعـيد ، وهو المعروف اليوم والذي يطلق عليه لفظ « الأذان ».

٢ ـ الأذان الصلاتي أو الفرضي : وهو ما شـرّع لإعلام القريب الجالس في المسجد بإيذان وقت الصلاة ، وهو ما يسمّى اليوم بالإقامة.

وكلاهما حقيقة واحدة وليسا بواجبين لا اسـتقلاليا ولا شـرطيا للجماعة ، أو لأصل كل صلاة (٢) ، إذ أنّ القول بالوجوب مسـاوقٌ للقول بوجوب الجماعة ، وهو ما لا يقوله أحد من أصحابنا.

قال السيّد بحر العلوم في منظومته :

وما له الأذان في الأصل رُسِمْ

شيئان إعلامٌ وفرضٌ قد عُلِمْ

ولنا تعليق على كلامه رحمه‌الله ليس هنا محلّه ، مؤكّدين بأ نّا لا نريد تسليط الضوء على الأذان الصلاتي « أي الإقامة » بقدر ما نريد توضيح الأذان الإعلامي ، وكيف أمكن لهذا الإعلام أن يحظى بدور يمكّنه أن يصير شعارا لمذهب يعتنقه مئات الملايين ، ويكون صَرْحا عقائديّا لأ مّة مجاهدة.

فالكلام عن الأذان الإعلامي أسهل من الكلام عن الأذان الصلاتي عند من يعتقد بأنّ الإقامة من الصلاة ، لكنّه خطأ ، فهما سيّان بنظرنا ولا تمايز أساسيّا

__________________

(١) أنظر تقريرات السيّد البروجردي بقلم المرحوم الشيخ فاضل اللنكراني.

(٢) وأمّا وجوب أذان واحد كفاية لجميع البلد ، فهو خارج عن محل بحثنا.

٣٠

بينهما ، وإن كان بحثنا يدور في الأعمّ الأغلب عن الأذان الإعلامي.

هذا وإني جعلت دراستي هذه في ثلاثة فصول :

الفصل الاول : وفيه نبيّن النصوص والمباني الدالّة على شرعيّة الشهادة الثالثة ، وهي تنقسم إلى ثلاثة اقسام :

القسم الأوّل : النص الكنائي الدالّ على الولايـة لعلي ، وهي جملة « حيّ على خير العمل » مع بياننا لاقوال الأئمة وسيرة المتشرّعة من عهد الرسول إلى عصر الشيخ الصدوق رحمه‌الله المتوفي ٣٨١ ه‍ في ذلك.

القسم الثاني : وفيه نبيّن اقرار المعصوم ـ وهو الإمام الحجة الغائب في عصرنا ـ لما تفعله الشيعة على مر الأزمان بالشهادة الثالثة ؛ لأ نّه عليه‌السلام لو كان منكرا لهذا العمل لكان عليه ـ بمقتضى وظيفته المقدسة ـ تصحيحه ، ولما لم نقف على انكاره علمنا ان فعل ذلك جائز ، منوهين بأن ذلك متوقف على تمامية اجماع الطائفة على الجواز.

القسم الثالث : وفيه نذكر النصوص الصريحة والمجملة الموجودة في كتب أصحابنا ، والدالة على الشهادة الثالثة ، بدءا بكلام الشيخ الصدوق المتوفى ٣٨١ ه‍ ، ومرورا بكلام السيّد المرتضى والشيخ الطوسي وابن البراج وختما بكلام يحيى بن سعيد الحلي والعلاّمة الحلي المتوفى ٧٢٦ ه‍ ، مع بياننا لسيرة المتشرّعة في هذه العصور.

الفصل الثاني : نقل أهمّ أقوال فقهائنا المتأخّرين ومتأخري المتأخرين وانتهاءً بالمعاصرين مع وقوفنا عند كلامهم تعليقا وتوضيحا إن اقتضى الأمرُ.

الفصل الثالث : بيان القرائن التعضيدية التي يمكن أن تصير أدلة فيما بعد ، كبعض العمومات ، مثل أن « ذكر علي عبادة » ، وهو ليس من الكلام الباطل المخلّ بالأذان ؛ وذلك لوجوده في أُمور عبادية أُخرى ، كوروده بعد تكبيرة الإحرام ، وعند افتتاح الصلاة ، وفي خطبة الجمعة ، وقنوت العيدين ، وقنوت الوتر ، وفي

٣١

التشهد والتسليم ، وما جاء في استحباب تطابق الأذان وحكاية السامع له ، وغيرها كما في تلقين الميت ...

باحثين كل هذه الامور ضمن الكلام عن الشعارية ، والتي هي مستند فقهاءنا المعاصرين.

مقدمين لذلك بعض البحوث التمهيدية عن نشأة الغلوّ ، ومنهج القميّين والبغداديّين في العقائد والرجال ، وتعريف البدعة لغة وشرعا ، وبيان موقع الشهادة بالولاية منها.

منبهين القارئ الكريم على أن الكتاب مترابط ترابطا وثيقا فلا يمكن النظر إلى الأدلة نظرة احادية مجتزءةً ، فلا يحق للقارئ النظر إلى دليل دون دليل آخر بل عليه النظر إلى مجموع الأدلة بما هي مجموع حتى لا يأخذ فكرة خاطئة عن نظام الاستدلال عندنا.

وختاما اسال اللّه‏ جلّ شأنه أن يتقبّل هذا القليل ، ويجعله في حسناتي ، مكفّرا به عن سيّئاتي ، آملاً ممّن قرأ كتابي هذا ووقف فيه على ما لا يرضية من قولي أن يُوقفني على رأيه ، فإنّي طالب علم ، باحث عن الحقيقة ، وأمّا الذي يستحسن ما كتبته فأرجوه أن يُحسنَ لي بالدُّعاء بطلب المغفرة وحسـن العاقبة. وآخر دعوانا أن الحمدُ للّه‏ِ ربِّ العالمين.

المؤلف

الاربعاء ١٥ شعبان ١٤٢٨ ه‍

E-mail:info@shahrestani.org

http://www.shahrestani.org

٣٢

بحوث تمهيديّة

الشهادة الثالثة بين التفويض والتقصير.

منهج القميين والبغداديين في العقائد والرجال.

الشهادة الثالثة شرع أم بدعة؟

الأقوال في المسألة.

٣٣
٣٤

قبل الخوض في تفاصيل هذه الدراسة لابدّ من الوقوف عند كلام الشيخ الصدوق رحمه‌الله لأ نّه كلام صدر في القرن الرابع الهجري وعلى لسان شيخ المحدثين ، إذ قال رحمه‌الله في ( من لا يحضره الفقيه ) بعد أن ذكر حديث أبي بكر الحضـرمي وكليب الاسدي ـ والذي ليس فيه الشهادة الثالثة ـ :

هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، والمفوّضة لعنهم اللّه‏ قد وضعوا أخبارا وزادوا في الأذان « محمد وآل محمد خير البرية » مرّتين ، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمدا رسول اللّه‏ ، « أشهد أنّ عليّا وليُّ اللّه‏ » مرّتين ، ومنهم من روى بدل ذلك : « أشهد أن عليّا أمير المؤمنين حقّا » مرّتين ، ولا شك أنّ عليّا وليّ اللّه‏ ، وأنّه أمير المؤمنين حقا ، وأنّ محمّدا وآله خير البرية ، ولكنّ ذلك ليس في أصل الأذان ، وإنّما ذكرت ذلك ليُعرف بهذه الزيادة المتّهمون بالتفويض المدلِّسون أنفسهم في جملتنا (١).

وهذا النص يحمل في طياته ثلاث دعاوى أساسية يجب الوقوف عندها وتوضيحها.

الأُولى : أنّ الشهادة الثالثة هي من فعل المفوّضة الملعونة ، لقوله : « والمفوّضة لعنهم اللّه‏ ».

الثانية : أنّ المفوّضة « قد وضعوا أخبارا » في الشهادة الثالثة. ومن المعلوم أنّ

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٨٩ / ح ٨٩٧ ، وسائل الشيعة ٥ : ٤٢٢.

٣٥

الرواية الموضوعة غير الرواية الضعيفة.

الثالثة : قوله : « وزادوا » ، يَدُلُّ على أنّهم أتوا بتلك النصوص على نحو الجزئية ، والشـيخ لا يرتضيها لقوله : « ولكن ذلك ليس في اصل الأذان ».

إذن علينا توضيح مغزى كلام الصدوق ببعض البحوث التمهيدية لكي نرى هل أنّ كلامه رحمه‌الله صدر عن حِسٍّ حتى يلزمنا الأخذ به ، أم كان عن حدس يجوز تركه ، بل إلى أيّ مدى يمكن الاعتماد على قناعاته واجتهاداته رحمه‌الله ، وخصوصا أنّه كان يعيش في ظروف صعبة.

إنّ الواقف على مجريات الأحداث بعد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم ما جرى على آل بيت الرسالة من مظالم من قِبَلِ الحكّام ، وأنَّ الرواة وحتّى الصحابة والتابعين والفقهاء كانوا يتّقون السلطة في نشر رواياتهم وبيان آرائهم ، فلا يمكن معرفة أبعاد صدور أيّ نص منهم ، خصوصا في العصر الأموي والعصر العباسي الأوّل أو الثاني ، إلاّ بعد معرفة الظروف المحيطة به.

ونحن نظرا لحساسية كلام الشيخ رحمه‌الله بدأنا الدراسة بثلاثة مواضيع أساسية كتمهيد لهذه الدراسة :

الأُولى : ارتباط الغلوّ والتفويض بالشهادة الثالثة ، وهل حقا أنّ ما يُؤتى به في الشهادة الثالثة فيه فكر تفويض أم لا؟ بل كيف نشأت فكرة الغلو والتفويض؟ وهل هما مختصان بالشيعة أم أنّهما ظاهرتان أصابتا البشريّة جمعاء ، وجميع الأديان والمذاهب؟ وما هو موقف أهل البيت منها؟ وهل حقا أنّ البغداديين غلاةٌ ، والقميّين مقصّرةٌ؟

الثانية : أشرنا إلى ثلاث نقاط أساسية ـ كنموذج ـ في منهج القميّين والبغداديين في العقائد والرجال ، مؤكّدين بأنّ بعض هذه النقاط أدّت إلى صدور مثل هذا الكلام عن الشيخ الصدوق رحمه‌الله.

الثالثة : مناقشة دعوى الزيادة من قبل القائلين بها ، وهل حقا أنّ هذه الزيادة من وضع المفوّضة ، وجاء ، على نحو الجزئية ، أم أنّها زيادة موجودة في الروايات

٣٦

وتقال على نحو التفسـيرية وبقصد القربة المطلقة وأمثالها؟

والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن دعوى صدورها عن المفوِّضة وأنّهم وضعوا أخبارا على نحو الجزئية فيها دعوى مجملة ، إذ لا يستطيع أحد بالنظر البدوي الجزم بمقصود الشيخ الصدوق النهائي إلاّ بعد بحث وتمحيص ، وهذا ما يدعو الباحث الموضوعي إلى الوقوف عندها ودراستها بروح علمية نزيهة ، بعيدا عن التقديس ، لكي يرى مدى تطابقها مع الواقع أو بعدها عنه ، وهذا ما نريد توضيحه ضمن النقاط الثلاث اللاحقة ، مع الإشارة إلى غيرها من البحوث الدخيلة في فهم المسألة.

مؤكّدين على أنّ المنهج المتَّبع عند فقهاء ومتكلِّمي مدرسة أهل البيت هو مناقشة الأقوال ، فلا يصان أحد عندهم إلاّ المعصوم ، وليس لهم كتاب صحيح بالكامل إلاّ كتاب اللّه‏ المنزل على رسوله ، فهم يناقشون أقوال علمائهم واجتهاداتهم وإن كان قد وُلِدَ بعضُهُم ـ كشيخنا الصدوق رحمه‌الله ـ بدعاء الإمام الحجة عليه‌السلام ، مع اعتقادهم الكامل فيه بأ نّه الإمام الثقة ، والصدوق في القول والعمل ، والحامل إليهم علوم آل محمد ، لكنّ هذا كلَّهُ لا يمنعهم من الدخول معه في نقاش علميّ منطقيّ رزين ، لأ نّه رحمه‌الله لا يدّعي العصمة لنفسه كما أَنّا لا نقول بعصمته ، وبذلك يكون كلامه رحمه‌الله عرضةً للخطأ والصواب ، وهو كغيره من الفقهاء قد يعدل عمّا كان يقول به ويفتي بشيء آخر غير ما كان يذهب إليه.

وعليه فالشيخ رحمه‌الله لم يتّهم قائل الشهادة الثالثة بالتفويض بل قال : بأنّ المفوّضة وضعوا أخبارا وزادوا في الأذان ، وبين الامرين فرق واضح.

وهذا الكلام من الشيخ الصدوق لا ينفي وجود نصوصٍ صريحة عنده صدرت عن الإمام الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام دالّة على وجود معنى الولاية والإمامة في الأذان (١) لا على نحو الزيادة والجزئية ، بل على نحو التفسيرية كما جاء في تفسير

__________________

(١) وهذا ما سنوضحه لاحقا ضمن كلامنا عن الدليل الكنائي في الشهادة الثالثة : ١٥٧.

٣٧

معنى « حيّ على خير العمل » عن المعصومين ، إذ أراد الإمام الكاظم عليه‌السلام حثّا عليها ودعوة إليها في الأذان ، غيرَ محدِّدٍ عليه‌السلام لصيغها ، فقد تكون : « أشهد أنّ عليا ولي اللّه‏ » وقد تكون : « محمد وعلي خير البشر » وقد تكون : « محمد وآل محمد خير البرية » ، وقد تكون شيئا آخر يرد عنهم عليهم‌السلام أو يأذنون به ، لكنّها كلّها تتضمن معنى الولاية.

وعلى هذا ، كيف يُتَصَوَّرُ اتّهام شيخنا الصدوق رحمه‌الله القائلين بما يدلّ على الولاية في الأذان بالتفويض ، مع علمه بوجود فصل « حيّ على خير العمل » الدالّ على الولاية لعليّ ولزوم البرّ بفاطمة وولدها في الأذان؟!

وعليه ، فمع وجود نصٍّ صريح واضح من قبل الأئمّة بأنّ « حيّ على خير العمل » هي الولاية ، ووقوفِ الصدوق على ذلك النص ـ وهو المحدّث المتتبّع ـ يفهمنا بأنه رحمه‌الله يعني بكلامه القاصدين للجزئية على نحو الخصوص لقوله رحمه‌الله : « لكن ذلك ليس في أصل الأذان ».

فهل يعقل أن لا يسمح الشيخ للقائلين بها أن يفتحوها بعبارات دالّة عليها ـ مع التأكيد على أنّها ليست جزءً ـ دفعا لاتّهام المتَّهِمِين وافتراءات المُفتَرِين ، أو رفعا لمنزلة الإمام عليّ عند شيعته وعند غيرهم ـ المحظور آنذاك ـ؟! إِنّ الجواب عن ذلك لا يمكن أن يُتَصَوَّرَ في هذا المجال إلاّ من خلال أحد دوافع ثلاثة دفعت الشيخ لهذا القول.

وهي إمّا ظروف التقية التي كان يعيشها الشيخ ، فإنه رحمه‌الله قد يكون قالها حقنا لدماء البقية الباقية من الشيعة ، خصوصاً وأنّ الشيخ كتب «من لا يحضره الفقيه» بقصبة بلخ من أرض ايلاق الواقع حالياً شمالي افغانستان.

أو أنّه قالها تبعا لمشايخه القميين.

أو أنّه قالها بعد أن وجد المفوِّضة ـ الطائفة المنحرفة عن الأمة ـ هم أكثر الناس تبنّيا علنِيّا لهذا الشعار ، وأنَّ قولهم لها كان على نحو الشطرية والجزئية لقوله رحمه‌الله « ولكن ذلك ليس في أصل الأذان » ، وهذا ممّا لا يسمح به الشرع.

وإليك الآن توضيح النقاط الثلاثة الآنفة :

٣٨

١ ـ علاقة الغلوّ والتفويض بالشهادة الثالثة

«تمهيد»

الغلو في اللّغة : هو تجاوز الحدّ والخروج عن القصد (١) ، ومنه : غلا السعر يغلو غلاءً ، وغلا الرَّجُلُ غُلُوّا ، وغلا بالجارية لحمُها وعظمُها : إذا أسرعت الشباب وتجاوزت لِداتها.

وفي المصطلح : هو الإفراط غير المرضيّ بالعقيدة ، وهو كأنْ يقول شَخْصٌ بأُلوهيّة النبي (٢) ، أو الإمام (٣) ، أو مشاركته في العبودية أو الخلق والرزق ، وأنّ اللّه‏ تعالى قد حلّ فيهم أو اتّحد بهم ، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي ، أو إلهامٍ ، أو فضلٍ من اللّه‏ ، أو القول في الأئمّة أنّهم كانوا أنبياء ، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض ، أو القول بأنّ معرفتهم تغني عن جميع الطـاعات والعبادات ، ولا تكليف معها بترك المعاصي.

والاعتقاد بكلّ منها إلحادٌ وكفرٌ وخروج عن الدين ، كما دلّت عليه الأدلة العقلية ، والآيات ، والأخبار.

والتفويض : هو أن يكون العبد مستقلاًّ في الفعل بحيث لا يقدر الربّ على صرفه ، وأنّ اللّه‏ بعد أن خلق الأئمّة فوّض إليهم خلق العباد ورزقهم ، وهذا هو

__________________

(١) مفردات الراغب : ٣٧٧ ، لسان العرب ٦ : ٣٢٩.

(٢) قال ابن تيمية في الجواب الصحيح ٣ : ٣٨٤ ، ظن طائفة من غلاة المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم ، أنّ الاشياء خلقت منه [ أي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] حتى قد يقولون في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جنس قول النصارى في المسيح.

(٣) قال المفيد في تصحيح الاعتقاد : ٢٣٨ الغلاة من المتظاهرين بالإسلام ، نسبوا إلى أمير المؤمنين والأئمة من ذريته الألوهية والنبوة ، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا ما تجاوزوا فيه الحدّ وخرجوا عن القصد.

٣٩

الآخر كفر والحاد تَبَرَّأ الأئمّة منه.

قال الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد : والمفوِّضة صنف من الغلاة ، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة : اعترافهم بحدوث الأ ئمّة وخلقهم ، ونفي القدم عنهم ، وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم ، ودعواهم أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى تفرّد بخلقهم خاصّة ، وأنّه فَوَّضَ إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال (١).

وقال العلاّمة المجلسي : وأمّا التفو يض فيطلق على معان ، بعضها منفيُّ عنهم عليهم‌السلام ، وبعضها مثبت لهم ، فالأول التفو يض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء ، فإنّ قوما قالوا : إنّ اللّه‏ تعالى خلقهم وفَوَّضَ إليهم أمر الخلق ، فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون ، وهذا الكلام يحتمل وجهين :

أحدهما أن يقال : إنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقيقةً ، وهذا كُفرٌ صريح دلّت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية ، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما : إنّ اللّه‏ تعالى يفعل ذلك مقارِنا لإرادتهم ، كشقِّ القمر ، وإحياء الموتى ، وقلب العصا حية ، وغير ذلك من المعجزات ، فإنّ جميع ذلك إنّما تحصل بقدرته تعالى مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم ، فلا يأبى العقل عن أن يكون اللّه‏ تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ، ثمّ خلق كلّ شيء مقارنا لإرادتهم ومشيتهم.

وهذا وإن كان العقل لا يعارضه كِفاحا ، لكنّ الأخبار السالفة (٢) تمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهرا بل صُراحا ، مع أنّ القول به قولٌ بما لا يُعْلَمُ ، إذ لم

__________________

(١) تصحيح اعتقادات الإمامية : ١٣٤ ، وعنه في خاتمة المستدرك ٥ : ٢٣٤ ، وبحار الانوار ٢٥ : ٣٤٥.

(٢) وهي الاخبار التي ذكرها المجلسي قبل هذا الكلام.

٤٠