أشهد أنّ عليّاً ولي الله

السيد علي الشهرستاني

أشهد أنّ عليّاً ولي الله

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5331-19-6
الصفحات: ٥٩٤

وضعّفت الضعفاء ، وفرّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد ... إلى أن قال : وصنّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووهُ من التصانيف في فهارسهم ، حتّى أنّ واحدا منهم إذا انكر حديثا نظر في إسناده وضعّفه بروايته ، هذه عادتهم على قديمِ الوقت وحديثِهِ لا تنخرم (١).

وقول الشيخ : « واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم » منصرف إلى الشيخ الصدوق وشيخه ابن الوليد اللذين استثنيا كثيرا من رواة نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري ، قال النجاشي في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى : ... وكان محمّد بن الحسن ابن الوليد يستثني من رواية محمد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمد ابن موسى الهمداني ، وما رواه عن رجل أو يقول : بعض اصحابنا ... وأخذ النجاشي يعدّد الأسماء حتى وصلت إلى ٢٥ اسما ، ثم قال : قال أبو العباس ابن نوح : وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه ـ وتبعه أبو جعفر بن بابويه رحمه‌الله على ذلك ـ إلاّ في محمد بن عيسى بن عيسى ، فلا أدري ما رابه فيه ، لأ نّه كان على ظاهر العدالة والثقة (٢).

أمّا فيما نحن فيه فقد عنى الشّيخُ الطوسيُّ الشيخَ الصدوقَ كذلك ، لأ نّه قال في النهاية : وأمّا ما روي في شواذّ الأخبار من قول « أشهد أنّ عليّا وليّ اللّه‏ ، وآل محمد خير البرية » ... ، وقال في المبسوط : فأمّا قول : أشهد أنّ عليّا أمير المؤمنين ، وآل محمد خير البرية على ما ورد في شواذّ الأخبار ...

وكلامه رحمه‌الله ناظر إلى كلام الشيخ الصدوق ـ فيما احتمل قويّاً ـ ، لأنّ العبارات الثلاث التي أتى بها الشيخ هي نفس عبارات الصدوق.

١ ـ محمد وآل محمد خير البرية.

__________________

(١) العدة : ٣٦٦.

(٢) فهرست مصنفات اصحابنا المعروف برجال النجاشي : ٣٤٨ / الترجمة ٩٣٩.

٣٢١

٢ ـ أشهد أن عليا ولي اللّه‏.

٣ ـ أشهد أن عليا أمير المؤمنين حقّا.

فهذه الجمل الثلاث التي وردت في « النّهاية» و « المبسوط » هي نفس ما حكاه الصدوق في « الفقيه » ، لكن بفارق جوهريّ هو أنّ الشيخ الصدوق ادّعى وضعها من قبل المفوّضة ، والشيخ الطوسي رحمه‌الله كان يراها روايات شاذّة غير معمول بها لظروف التقية ، وكان كلاهما متّفقين على عدم لزوم الاخذ بها ، لكنّ الشيخ الطوسي أفتى بجواز فعلها لا على نحو الجزئية لقوله : « ولو فعله الإنسان لم يأثم به ».

فلو كان الشيخ الطوسي لا يعني الصدوق لأتى بالجملة التي كانت تقال في الموصل على عهد أُستاذه السيّد المرتضى : « محمد وعلي خير البشر » مع الجمل الثلاث الأخرى ، دون اختصاصه بالجمل الثلاث التي اتى بها الصدوق :

إنّ الشيخ الطوسيّ بعد أن عدّ الأقوال في صيغ الأذان والإقامة وأنّها : خمسة وثلاثون فصلاً ، وروي سبعة وثلاثون فصلاً في بعض الروايات ، وفي بعضها ثمانية وثلاثون فصلاً ، وفي بعضها اثنان وأربعون ، قال : فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثوما ، وأمّا ما روي في شواذّ الأخبار منها قول « أشهد أن عليا ولي اللّه‏ » و « آل محمد خير البرية » فممّا لا يعمل عليه في الأذان والإقامة ، فمن عمل بها كان مخطئا.

وقال في المبسوط : وفي أصحابنا من جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان وزاد فيها : « قد قامت الصلاة » مرتين ، ومنهم من جعل في آخرها التكبير أربع مرّات ، فأما قول : « أشهد أن عليا أمير المؤمنين » و « آل محمد خير البرية » على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ، ولو فعله الإنسان لم يأثم به ، غير أنّه ليس من فضيلة الأذان ولاكمال فصوله.

وهذان النصان يوقفاننا على أنّ أخبار الشهادة بالولاية معتبرة عند الشيخ

٣٢٢

الطوسي إلى حدٍّ ما وهو حد الاقتضاء دون الفعلية ، وهو ما سوّغ له فيما احتملنا قو يّا إفتاؤه بالجواز وعدم الإثم بموجب اقتضائيّتها ، وهذا يقارب قوله: « لم يكن مأثوما » في العمل طبق أخبار اختلاف عدد فصول الأذان.

هذا التقارب يجعلنا نحتمل قو يّا أنّ الشيخ جوّز ذكر الشهادة الثالثة في الأذان اعتمادا على الأخبار الشاذّة ، لكن في مرحلتها الاقتضائية دون الفعلية ، وقد يمكن أن يقال أن الشيخ كان يرى الحجية الكاملة لشواذّ الأخبار لقوله « فإن عمل عامل على احدى هذه الروايات لم يكن مأثوما » لأ نّه رحمه‌الله لم يقل « كان مصيبا » بل قال « لم يكن مأثوما » فمعناه أن العامل بتلك الاخبار لم يكن مأثوما وإن كان مخطئا بنظر الشيخ الطوسي ؛ لأ نّه عمل باخبار شاذة مع وجود الأذان المحفوظ عندهم وعملهم به فتأمل!!!

وقد يكون الشيخ اعتبر تلك الأخبار شاذة لتصوره أنّها قد وردت عن الأئمة على نحو الجزئية ، وأن عدم عمل الطائفة بتلك الأخبار جعلتها شاذة ، اما لو اعتبرنا ورود تلك الأخبار على نحو التفسيرية والبيانية من قبل المعصومين فلا معنى لاعتبارها اخبارا شاذة وذلك لعدم معارضتها مع الروايات البيانية الصادرة عن المعصومين في صيغ الأذان.

وبهذا فلا يجوز الاخذ بالأخبار الشاذة أن اخذت على نحو الجزئية اما إذا اعتبرت من قبيل التفسير والاتيان بالمستحب ضمن المستحب كما هو الحال في استحباب الصلاة على الرسول كلما ذكر اسمه في الأذان أو في غيره لا يجعلها جزءا من الأذان والإقامة ولا يبقى مانع من الاخذ بتلك الاخبار والعمل بها.

وعليه فالشيخ الطوسي فيما يحتمل كان قد عنى بكلاميه الانفين الشيخ الصدوقَ ، وذلك لاتّحاد النصّ الموجود في « الفقيه » مع ما قاله الشيخ في « النهاية » و « المبسوط ».

الأمر السابع : من المعلوم أن الشيخ الطوسي قد وقف على كتب لم يقف عليها غيره ، منها

٣٢٣

مكتبتين عظيمتين : أولاهما : مكتبة أبي نصر سابور وزير بهاء الدولة البويهي (١) ، والذي قال عنها ياقوت الحموي : « ولم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرّرة ... » (٢).

وثانيتهما مكتبة أستاذه السيّد المرتضى الثمانيني ـ والذي لقّب بهذا اللقب لأنّ مكتبته كانت تحتوي أكثر من ثمانين ألف كتابا سوى التي أهديت إليه من الرؤساء والأشراف والتجّار ، وله ثمانون قرية ، وتوفّي وعمره ثمانون عاما ـ وقد كان السيّد المرتضى شيخ الشيعة في وقته وموضع اهتمام الجميع.

وقد استفاد الشيخ الطوسي من هاتين المكتبتين كثيرا قبل دخول السلاجقة بغداد عام ٤٤٧ ه‍ وإسقاط الدولة البويهية وحرقهم لمكتبة أبي نصر سابور وغيرها من الدور الشيعية في الكرخ.

قال ابن الجوزي في حوادث سنة ٤٤٨ ه‍ : وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره (٣). ثم قال في حوادث سنة ٤٤٩ ه‍ : وفي صفر من هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ ، وأُخِذَ ما وجد من دفاتره ، وكرسيٌّ كان يجلس عليه للكلام ، وأُحرِقت مكتبته (٤).

فيحتمل قو يّا أن يكون الشيخ الطوسيّ رحمه‌الله ـ قبل هجوم السلاجقة على بغداد ـ قد وقف على أخبار دالّة على الشهادة الثالثة في أُصول أصحابنا ، لكنّها كانت أخبارا آحادا لا تقوى على معارضة غيرها ، ونظرا لاعتقاده بحجيّتها الاقتضائيّة دون الفعلية على ما فصّلنا سابقا ، وأنّها حجّة عنده ، لفتواه بالجواز وعدم الإثم ـ خلافا لأُستاذه المرتضى وتلميذه ابن إدريس في خبر الاحاد ـ كان عليه أن يأخذ

__________________

(١) الذي ولد في شيراز ٣٣٦ ه‍ وتوفي سنة ٤١٦ ه‍.

(٢) معجم البلدان ١ : ٥٣٤ ، خطط الشام ٦ : ١٨٥.

(٣) المنتظم ٨ : ١٧٣.

(٤) أنظر المنتظم ٨ : ١٧٩.

٣٢٤

بها ، ولمّا لم نره يأتِ بأسانيدها في كتبه فليس لنا إلاّ أن نقول أنّه تركها لمخالفتها لما اشتهر عند الأصحاب من أنّ الشهادة بالولاية ليست جزءً في الأذان ، أو للتقيّة لأنّ الشيخ لم يأتِ بتلك الأخبار وأسانيدها للظروف التي كان يعيشها ؛ لأ نّه مرّ بظروف قاسية جدّا.

وممّا حُكي بهذا الصدد أنّه وُشي بالشيخ الطوسي إلى الخليفة العباسي بأ نّه وأصحابه يسبّون الصحابة ، وكتابَهُ المصباح يشهد بذلك ؛ لما في دعاء زيارة عاشوراء : « اللّهمّ خصَّ أنتَ أوَّل ظالم باللعن مني ... ».

فأجاب الشيخُ الخليفَة بأنّ المراد بالأول قابيل قاتل هابيل ، وهو أوّل من سنّ القتل والظلم. وبالثاني عاقر ناقة صالح. وبالثالث قاتل يحيى. وبالرابع عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب.

فرفع الخليفة عنه العقوبة (١).

فتلّخص ممّا سبق أنّه ليس هناك تعارضٌ بين قولي الشيخ في النهاية والمبسوط ، لأ نّه رحمه‌الله عنى بقوله الأوّل الذين يأتون بها على نحو الجزئية وهؤلاء مخطئون حسب قواعد الاستنباط ، وأمّا الذين يأتون بها لجوازها في نفسها فلا إثم عليهم.

ولا يخفى عليك أنّ الشيخ قال في النهاية : « كان مخطئا » ولم يقل : « كان مبدعا » كما قاله في الذين يأتون بجملة « الصلاة خير من النوم » ، والفرق بين الأمر ين واضح.

وممّا يجب التنبيه عليه هنا هو أنّ الشيخ ألّف كتابه « النهاية » قبل « المبسوط » ، لأ نّه رحمه‌الله ذكر النهاية والتهذيب في مقدّمة الاستبصار وفي مشيخته ولم يذكر غيرهما

__________________

(١) قاموس الرجال ٩ : ٢٠٨ ، عن مجالس المؤمنين ١ : ٤٨١. ومن أراد المزيد مما كان يمرّ به الشيخ الطوسيّ من ظروف عصيبة فليطالع حياته السياسية والعلمية في مظانّها.

٣٢٥

من كتبه ، وهو يؤكّد بأنّ النهاية والتهذيب قد ألِّفا قبل الاستبصار.

وبمراجعةٍ لكتاب الخلاف والمبسـوط والعدّة وغيرها من كتبه نرى الشيخ ذكر « الاستبصار » فيهما ، وهذا يعلمنا بأنّ المبسوط قد ألِّف بعد الاستبصار ، ومنه نفهم بأنّ نص النّهاية هو الأوّل ثم يتلوه نصّ المبسوط الذي نفى فيه الإثم.

وهو الآخر يرشدنا إلى أنّ القول الأوّل للشـيخ في « النّهاية » كان قريبا إلى الصدوق حيث أنّهما كانا يعنيان بكلامهما الآتِينَ بالشهادة الثالثة بقصد الجزئية المسمَّين بالمفوَّضة ، ولكنّ الشيخ في « المبسوط » عنى الذين يأتون بها لمحبوبيّتها الذاتية ، ولذلك ليسوا هم بآثمين.

وفي هذين النصَّين إشارة إلى حدوث نقلة نوعية في كلامه رحمه‌الله ؛ لأ نّه في نصّ « النهاية » كان يتصوّر ـ كالشيخ الصدوق ـ أنّ القائلين بالشهادة بالولاية غالبهم ممن يقولون بها على نحو الجزئية ، وأنّ تهمة التفو يض المحرّم تدور مدارهم ، ولأجله خَطَّأَهُم ولم يشر إلى الرأي الآخر ، لكنّه في « المبسوط » تحقق له أنّ عمل غالب الشيعة ـ الذين يأتون بها آنذاك ـ لم يكن على نحو الجزئيّة ، بل أنّهم كانوا يأتون بها لمبحوبيّتها الذاتيّة ولرجاء المطلوبية فأشار إلى الحكم الآخر في المسألة وقال بعدم الإثم في العمل بها.

ويؤيّد ذلك ما ورد عن السيّد المرتضى بعد أن سُئل عن قول القائل : « محمد وعلي خير البشر » ، بعد : « حي على خير العمل » ، فقال :

إن قال : « محمد وعلي خير البشر » على أن ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز ، وإن لم يكن فلا شيء عليه.

اذن فالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي رحمهما اللّه‏ تعالى هما أوّل من فكّكا بين الأمرين : الجزئية والمحبوبيّة الذاتية ، والشيخ لا يقول باستحباب الشـهادة بالولاية في الأذان ، علاوة على عدم القول بجزئيّتها تبعا لما ورد في شواذّ الأخبار ، لأ نّه لا يأخذ بالخبر الشاذّ إلاّ إذا سلم من المعارِض ، كالعمومات ، والإجماع ،

٣٢٦

والأخبار المتواترة ، لأنّ أمثال هذه الأمور لا يجوز تخصيصها بمثل الشاذّ النادر.

وعليه : فالشيخ يرى في شواذّ الأخبار الحجيّة الاقتضائية لا الفعلية ، وهذا هو الذي دعاه أن لا يقول باستحبابها ، لقوله : « غير انه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله » لعدم عمل الطائفة بها ، لكنّه في الوقت نفسه ـ حسب ما احتملناه سابقا ـ يرى حجيّتها الفعلية في مرحلة الجواز ، ولذلك أفتى بعدم الإثم بفعلها لو قيلت على غير الجزئية كالمحبوبية الذاتية أو بقصد القربة المطلقة ، وهو يؤكّد وجود عمومات أخرى يمكن الاستدلال بها على الجواز.

٣٢٧

٥ ـ ابن البراج الطرابلسي ٤٠٠ ه‍ ـ ٤٨١ هـ

القاضي عبدالعزيز بن البراج الطرابلسي ، هو من كبار تلامذة الشيخ المفيد والسيّد المرتضى رحمهما اللّه‏ تعالى ، ويعدّ في مرتبة الشيخ الطوسي ، وعلى أثر تتبّعي لكتابات أعلامنا حول الشهادة الثالثة لم أقف في كتب ابن البراج المطبوعة ـ بصرف النظر عن المفقودة ـ على شيء يدل على الشـهادة بالولاية لآل البيت في الأذان غير ما جاء في كتابه « المهـذب ».

فإنه رحمه‌الله لم يُسأل في ( جواهر الفقه ) عن فصول الأذان والإقامة حتى يجيب ، لكنّه في ( شرح جمل العلم والعمل ) (١) شرَحَ كلام أستاذه المرتضى في فصل الأذان ، ولم يتعرّض إلى موضوع الشهادة الثالثة لا من قريب ولا من بعيد.

وهكذا كان حال معاصريه : أبي الصلاح الحلبي (٢) ( ٣٧٤ ه‍ ـ ٤٤٧ ه‍ ) ، وأبي يعلى حمزة بن عبدالعزيز الديلمي (٣) المتوفى ٤٤٨ ه‍ ، وسلمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي ( من أعلام القرن السادس ) (٤) ، فهم وإن تعرّضو إلى الأذان والإقامة وأنّهما خمسة وثلاثون فصلاً ، لكنّهم لم يتعرّضوا إلى الشهادة الثالثة لا من باب التفسيرية ولا من باب المحبوبية الذاتية ، مع أنّ أبا الصلاح قد أشار في ( الكافي ) إلى ما يفتتح به الصـلاة من التكبير والدعاء وذكر فيه أسماء الأئمّة الاثني عشر واحدا بعد واحد.

__________________

(١) شرح جمل العلم والعمل ، لابن البراج : ٧٨.

(٢) الكافي ، لأبي الصلاح الحلبي : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٣) المراسم العلوية في الأحكام النبوية : ٦٧.

(٤) اصباح الشيعة بمصباح الشريعة ، المطبوع ضمن سلسلة الينابيع الفقهية / ج ٤ : ٦١٦.

٣٢٨

والآن مع ما قاله ابن البراج في المهذب :

ويسـتحبّ لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسـه عند « حي على خير العمل » : « آل محمّد خير البرية » ، مرّتين ، ويقول في نفسه إذا فرغ من قوله « حيَّ على الصلاة » : « لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏ » ، وكذلك يقول عند قوله « حيَّ على الفلاح » ، وإذا قال : « قد قامت الصلاة » قال : « اللّهّم أقمها وأدمها واجعلني من خير صالحي أهلها عملاً » ، وإذا فرغ من قوله « قد قامت الصلاة » قال : « اللهم ربَّ هذه الدعوة التامّة ، والصلاة الدائمة ، أعْطِ محمّدا سؤله يوم القيامة ، وبلّغه الدرجة والوسيلة من الجنّة وتقبّل شفاعته في أُمّته » (١).

إنّ هذا النصّ يوقفنا على أمرين :

أحدهما : صحّة ما قاله الشيخ الطوسي في مقدّمة المبسوط من أنَّ الأصحاب كانوا يستوحشون من الفتوى بغير ألفاظ الروايات ، وأنّ غالب كتب القدماء هي متون روايات وبمنزلة الأُصول المتلقّاة عن المعصومين ، لأنّ الفتوى بالاستحباب من قبل ابن البرّاج متفرِّع على وجود رواية في الباب وخصوصا حينما يقيّدها بعدد كمرتين.

ويؤيد ذلك أن الاذكار الموجودة في كلام ابن البراج إنما هي مروية في روايات أهل البيت وجاءت في كلمات الفقهاء ، ولعل ترتـيب ذكر الأذكار من تقديم الحيعلة الثالثة على الحيعلتين « حيَّ على الصلاة » و « حيَّ على الفلاح » كان كذلك في أصل الرواية ولذلك قدمها بالذكر.

الثانية : وقوف ابن البرّاج على تلك الروايات ووصولها لديه ؛ فقد يقال بأن قوله رحمه‌الله باستحباب قول « محمد وآل محمد خير البرية » في النفس هو لفك

__________________

(١) المهذب لابن البراج ١ : ٩٠.

٣٢٩

الحيعلة الثالثة ، وذلك كاستحباب حكاية ما يقول المؤذن عند سماع الأذان.

فقد روى الشيخ في « المبسوط » والعلاّمة في « التذكرة » مرسلاً بقولهما : وروي أنّه إذا سمع المؤذن يقول « أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ » أن يقول : وانا أشهد ان لا إله إلاّ اللّه‏ ، وحده لا شريك له ، وان محمدا عبده ورسوله ، رضيت باللّه‏ ربا وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولاً وبالأئمة الطاهرين ائمة ، ويصلي على النبي وآله (١).

فقد يكون ابن البراج من جهة يرى شرعيّة القول بـ « آل محمد خير البرية مرتين » ، لتلك الروايات الدالة على فك معنى الحيعلة ، فيكون كلامه رحمه‌الله معنى آخر لحسنة ابن أبي عمير عن الإمام الكاظم عليه‌السلام الصريحة في الولاية.

ومن جهة أخرى كان يخاف من الجهر بها لظروف التقيّة التي كان يعيش فيها ولذلك ذهب إلى قولها سرا ، ومعناه : إنّ المقتضي موجودٌ للقول بها وكذا المانع وهو الخوف على النفس ، فسعى للجمع بين الأمرين فأفتى باستحباب أن يقولها المؤذّن سرّا في نفسه عند « حيَّ على خير العمل » ، خلافا للصدوق الذي نفاها تقيّةً ، أو لاعتقاده أنّها من وضع المفوّضة يقينا ، أو لعدم ارتضاء مشايخه لها ، وكذا خلافا للشيخ الطوسي الذي لم يذهب إلى استحباب القول بها ، لكونها وردت في شواذّ الأخبار ، المخالفة للمعمول عليه عند الطائفة ، فالشيخ أفتى بجواز العمل بها لكنّه لم يقل باستحبابها لعدم اعتبار الأخبار الشاذّة عنده إن عارضت ما هو أقوى منها.

وأمّا ابن البرّاج فقد قال باستحباب قولها سرّا للروايات التي وقف عليها ، وبهذا ترى في فتوى ابن البراج نقلة نوعيّة وفقهيّة أُخرى في تطوّر سير هذه المسألة الفقهية بعد السيّد المرتضى والشيخ الطوسي رحمهما اللّه‏ تعالى.

وإنّ تقييد ابن البرّاج الحكم بمرّتين صريح في أنّه أخذه من روايات كانت

__________________

(١) المبسوط ١ : ٩٧ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ٨٤.

٣٣٠

موجودة عنده تجزم بالمرتين ، وإلاّ لما ساغ له أن يجزم في فتواه بهذا القيد لشرعي الذي لا يمكن التفوّه به لفقيه من دون أصل من الأخبار.

وقد يظهر جليا في ان ابن البرّاج قد وقف على خبر أو اخبار غير التي وقف عليها الشيخ الصدوق ، وذلك لتقييد الذكر هنا بالاخفات في النفس ، وهذا ما لم نجده عند الصدوق ، مع ان محكي الشيخ الصدوق تدل على الجزئية ، وهذه الرواية ظاهرة في أنّها مجرد ذِكْر وليست جزءا ، وعليه تكون هذه الرواية غير مراسيل الصدوق رحمه‌الله المحكية في « الفقيه ».

قال الشهيد في الذكرى ـ : المسألة الرابعة عشر من باب فيما يؤذّن له وأحكام الأذان ـ : قال ابن البرّاج رحمه‌الله : يستحبّ لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند « حي على خير العمل » : « آل محمد خير البرية » مرتين.

وهذا النص من الشهيد الأوّل يفهم بأ نّه يقرّ بما أفتى به ابن البرّاج رحمه‌الله ، وقد يكون فهم من فتوى ابن البرّاج أنّ الشهادة بالولاية لآل محمّد هي من أذكار الأذان المندوبة بالندب الخاصّ لا جزء فصوله ـ كما قدمنا ـ لأ نّه رحمه‌الله قال بعدها : ويقول أيضا في نفسه إذا فرغ من قوله « حي على الصلاة » : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه‏ ، وكذلك يقول عند قوله : « حي على الفلاح » ، وإذ قال : « قد قامت الصلاة » قال : « اللهم أَقِمْها وأَدِمْها ، واجعلني من صالحي أهلها عملاً » ، وإذا فرغ من قوله : « قد قامت الصلاة » قال في نفسه : « اللّهّم ربّ الدعوة التامّة والصلاة القائمة ، أَعط محمدا صلواتك عليه وآله سؤله يوم القيامة ، وبلّغه الدرجة والوسيلة من الجنة ، وتقبّل شـفاعته في أمّـته » (١). وهذه هي نفس العبائر التي جاءت في المهذب (٢) لابن البراج. وكلها تشير إلى أنّها ذِكْر وليست جزءا.

وعلاوةً على ما تقدّم يمكننا القول بأنّ ابن البرّاج قال بذلك لعلمه بأن « حي

__________________

(١) ذكرى الشيعة ٣ : ٢٤١.

(٢) المهذب لابن البراج ١ : ٩٠ / من باب الأذان والإقامة واحكامها.

٣٣١

على خير العمل » معناها الولاية ، ويجوز تفسيرها بجمل دالّة عليها تدعو لها تحث عليها حسبما اتّضح في الدليل الكنائي ، كمحمد وآل محمد خير البرية ، لأ نّه قيّد الاستحباب للمؤذّن والمقيم لا للسامع ، لأنّ النداء وظيفة المؤذّن ويتلوه المقيم.

إنّ الصيغة التي أفتى بها ابن البرّاج : « آل محمد خير البرية » هي إحدى الصـيغ الثلاث التي قالها الشـيخ الطوسي وغيره من الأعلام بعد الصدوق.

فابن البراج قال بشرعية « آل محمد خير البرية ، مرتين » حين الحيعلة وفي نفسه ومن باب الذكر.

والسيّد المرتضى ذهب إلى شرعية « محمد وعلي خير البشر ».

والشيخ الطوسي أشار إلى الصيغ الثلاث التي جاء بها الصدوق في الفقيه.

ففي « النهاية » أشار إلى صيغتين منها ١ ـ أشهد أنّ عليا وليّ اللّه‏ ، ٢ ـ آل محمد خير البرية.

وفي « المبسوط » أكّد على وجود أشهد أنّ عليا أمير المؤمنين وآل محمد خير البرية في شواذّ الأخبار.

فالسيّد المرتضى وضّح جواز الشهادة بالولاية لأهل الموصل في العراق ، وقد يكون الشيخ الطوسي أشار في كلامه إلى تأذين أهل بغداد وحواليها بالشهادات الثلاث ، وفي كلام ابن البرّاج إشارة إلى تأذين أهل حلب وضواحيها بصيغة « محمد وآل محمد خير البرية » وقد يمكن أن نقول ان شيعة حلب اذنوا بذلك تبعا لمن يقلدونهم من الفقهاء كابن البرّاج والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ رحمهم اللّه‏ تعالى ، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه.

إذن فصيغة « محمد وعلي خير البشر » و « أشهد أنّ عليا ولي اللّه‏ » أو « أشهد أنّ عليا أمير المؤمنين » أو « آل محمد خير البرية » كانت صيغا تقال في الموصل وبغداد وحلب وحمص ، وجميعها تدلّ على أنّها كانت تقال بعد الحيعلة الثالثة ،

٣٣٢

أو قبلها ، وهذا هو الذي كان عمر بن الخطاب لا يريد فتحها والإتيان بتفسيرهامعها ، وحسب تعبير الإمام الكاظم « أراد أن لا يكون حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها ».

ولقد أكثرنا القول بأنّ حذف عمر بن الخطاب لـ « حيّ على خير العمل » كان بسبب تفسيرها ، وأنّ الحكومات الموالية لعمر والتي جاءت بعده كانت حساسة تسعى لرفع هذا الشعار الشرعي النبوي ومحوه من المآذن ، وتسعى جاهدة لإخماده خوفا من إعلاءِ ذكر عليّ عليه‌السلام من بعده ؛ ولأ نّه يدل على بطلان حكومة من يخالف الإمام علي ، لأن المؤذن حينما يقول « حي على خير العمل » يعني بكلامه ـ تبعا لتفسير الأئمة ـ أن الإمام علي هو خير البرية ، وخير البشر ، وبما ان انصار النهج الحاكم كانوا يعتقدون بأن هذا الفصل فيه تعريض بخلفائهم وتخطئة لمنهجهم فجدّوا لحذف الحيعلة خوفا من تواليه ، ولذلك ترى الصراع قائما ودائما بين العلو يين وبين الامويين والعباسيين في شعارية هذه المفردة الفقهية العقائدية السياسية ، كما هو ظاهر في تخالف النهجين في مفردات فقهية اخرى ، وهذا ما أكّدناه بالأرقام في الباب الأول من هذه الدراسة : ( حي على خير العمل والشعارية ) (١).

__________________

(١) طبع هذا الكتاب قبل اعوام ، وجدد طبعه لمرات عديدة في لبنان ، واليمن ، والعراق ، ومصر ، وترجم إلى اللغات الانكليزية ، والاردو ، والفارسية.

٣٣٣

٦ ـ يحيى بن سعيد الحلي ( ت ٦٨٩ ه‍ )

٧ ـ العلاّمة الحلي ( ت ٧٢٦ ه‍ )

اتّضح ممّا سبق أنّ قوّة الظنّ حاصلة برجحان القول بالشهادة بالولاية في كل شيء ومنها الأذان بغير قصد الجزئية ، إن لم نقل الشهرة متحقّقة في ذلك قبل الشيخ الطوسي رحمه‌الله ، لأ نّك قد وقفت في القسم الأوّل من هذا الفصل على محبوبيّة ذكر الولاية في الأذان من خلال تفسير الإمام الكاظم عليه‌السلام لـ « حيَّ على خير العمل » ، ولِما روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام بأنّ الحيعلة الثالثة هي معنى كنائي للشهادة الثالثة ، ولِما روى الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا أنّه أشار إلى وجود معنى الولاية في الأذان. وهذه الروايات عن الأئمة لتؤكّد على وجود معنى الولاية في الأذان وجواز التعبير عنها بأي لفظ شاء وكما جاء في حسنة ابن أبي عمير من قوله عليه‌السلام : « وإنّ الّذي أمر بحذفها أراد أن لا يكون حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها ». المفهمة بمحبوبيّة ذكر معناها معها.

وكذا وقفت على تأذين الشيعة بها في بلدان مختلفة قبل ولادة الشيخ الصدوق ، وفي عصره ، ثم من بعده ، وهو مؤشّر آخر على محبوبية الإتيان بهذا الأمر عند الشيعة آنذاك.

وإن ما حكاه الشيخ الطوسي من وجود روايات شاذّة ، وإفتاء ابن البرّاج باستحباب قولها سرّا بقيد المرّتين الدالّ على وجود رواية بذلك ، كلّها تؤكّد ما نريد قوله من أنّ هناك مستندا روائيّا في أصول أصحابنا سوّغ للشيخ الطوسي والسيّد المرتضى الإفتاء بالجواز وعدم الإثم ، كما سوّغ لابن البرّاج الإفتاء باستحباب «محمد وآل محمد خير البرية » مرتين.

ولمّا كان غالب فقهائنا اللاّحقين يستندون في أقوالهم على فتاوى الشيخ الطوسي ومنها هذه المسألة ، رأينا من الضروريّ أن نقدّم مقطعا من كلام الشيخ

٣٣٤

حسن بن زين الدين العاملي في « معالم الأصول » ؛ إذ قال :

... وبأنّ الشّهرة الّتي تحصل معها قوّة الظّنّ ، هي الحاصلة قبل زمن الشّيخ رحمه‌الله لا الواقعة بعده ، وأكثر مايوجد مشهورا في كلامهم حدَثَ بعد زمان الشيخ ، كما نبّه عليه والدي رحمه‌الله في كتاب الرّعاية (١) الّذي ألّفه في رواية الحديث ، مُبيِّنا لوجهه ، وهو أنّ أكثر الفقهاءِ الّذين نَشَؤُوا بعد الشيخ ، كانوا يتّبعونه في الفتوى تقليدا له ، لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به ، فلمّا جاء المتأخّرون ، ووجدوا أحكاما مشهورة ، قد عمل بها الشّيخ ومتابعوه ، فحسبوها شهرة بين العلماءِ ، وما دروا أنّ مرجعها إلى الشّيخ ، وأن الشّهرة إنّما حصلت بمتابعته.

قال الوالد رحمه‌الله : وممّن اطّلع على هذا الّذي تبيّنته وتحققّته ، من غير تقليد : الشيخ الفاضل المحقّق سديد الدّين محمود الحمصي ، والسيّد رضي الدّين بن طاوس وجماعة. وقال السيّد في كتابه المسمّى بـ (البهجة لثمرة المهجة) : أخبرني جدّي الصّالح ورّام بن أبي فراس ، أنّ الحمصي حدّثه أنّه لم يبق للإِماميّة مفتٍ على التّحقيق ، بل كلّهم حاكٍ ، وقال السيّد عقيب ذلك : والآن فقد ظهر أنّ الّذي يُفتَى به ويُجاب ، على سبيل ما حُفِظ من كلام العلماءِ المتقدّمين (٢).

__________________

(١) انظر الرعاية في علم الدراية ، للشهيد الثاني : ٩٢ ، الحقل الرابع في العمل بالخبر الضعيف.

(٢) معالم الأصول : ٢٠٤ ، تحقيق الدكتور مهدي محقق.

٣٣٥

وما قلناه سابقا يؤكّد لك بأنّ السيرة في الشهادة بالولاية لم تكن قد نشأت في عهد الشيخ الطوسي رحمه‌الله ، أو من بعده ، بل هي كانت سيرة عند أغلب الطوائف الشيعية : زيدية ، وإسماعيلية ، واثني عشرية ، مختلفة في صيغ الأداء فيها ، فبعضهم يقول : « محمد وعلي خير البشر » ، والآخر « محمد وآل محمد خير البرية » ، وثالث « أنّ عليا ولي اللّه‏ » أو أن « عليا أمير المؤمنين » وأن هذه الصيغ هي التي حكاها الشيخ الصدوق في الفقيه والطوسي في المبسوط والنَّهاية ، وهو مما ينبأ بأن السيرة كانت قائمة على التأذين بها قبل عهد الصدوق عملاً ورواية.

لكن لم تكن هذه السيرة إلزاميّة على جميع المؤمنين ، ولم يؤت بها على نحو الجزئية حتّى نقول بتحقيق الشهرة فيها ، بل هي كانت تؤتى في بعض البقاع دون أُخرى ، وقد تكون في البقعة الواحدة يأتي بها البعض ويتركها الآخر لعدم كونها جزءا من الأذان وهو ما نعنيه بكلمة الجواز.

فالذي نريد أن نؤكّد عليه هنا هو أنّ هذه السيرة لم يكن مرجعها الشيخ الطوسي حتى يقال فيها ما يقال ، وأنّ الفقهاء من بعده لم يكونوا يتّبعونه في الفتوى بجواز الاتيان بالشهادة بالولاية في الأذان تقليدا ، وإن كانوا يعيرون إليه كمال الاهتمام ، ويأخذون بقوله ويستندون على فتاواه ، مع ما لهم من أدلّة أُخرى كالعمومات ونحوها.

إذن ما ينبغي أن يقال : هو أنّ السيرة في رجحان الشهادة بالولاية مقرونة بتسالم الفقهاء بعدم الإثم في الإتيان بها ، شريطةَ أن لا تكون على نحو الجزئية والشطرية ، وقد أفتى بذلك السيّد المرتضى ، والشيخ الطوسي ، وابن البراج رحمهم اللّه‏ تعالى وغيرهم ، وإنّ ترك الفقهاء من بعد الشيخ الطوسي التعرض لموضوع الشهادة بالولاية في كتبهم ، لا يعني عدم قولهم بمحبوبيتها بل لتسالمهم على عدم جزئيتها.

وعلى سبيل المثال ، نرى الشهيد الثاني قدس‏سره جمع بين المطلبين في الروضة

٣٣٦

بقوله : « ولا يجوز اعتقاد شرعيّة غير هذه الفصول في الأذان والإقامة ، كالتشهّد بالولاية لعليّ وأنّ محمّدا وآله خير البرية أو خير البشر وإن كان الواقع كذلك ، فما كلّ واقع حقّا يجوز إدخاله في العبادات الموظّفة شرعا المحدودة من اللّه‏ تعالى ، فيكون إدخال ذلك فيها بدعةً وتشريعا .. ، ولو فعل هذه الزيادة أو إحداها بنيّة أنّها منه أَثِمَ في اعتقاده ، ولا يبطل الأذان بفعله ، وبدون اعتقاد ذلك لا حرج » (١).

أمّا عدم إشارة البعض إلى حكم من يقول : « محمد وآل محمد خير البرية » و « عليا ولي اللّه‏ » وأمثالها في اذانه ، فقد يعود لعدم شيوع هذا الأمر في ذلك الزمان الذي كانوا يعيشون فيه ، وقد يكون تركهم جاء خوفا من السلطان الجائر. وقد يكون لجوازه وانه لا يلزم الفقيه الاشارة إليه.

وكذا الحال بالنسبة إلى الذي قد أفتى بالحرمة كالشيخ عبدالجليل القزو يني صاحب كتاب ( النقض ) باللّغة الفارسية والذي كتبه في سنة ٥٦٠ ه‍ ، فقد أفتى بالحرمة لأ نّه رأى بعض الناس في عهده يقولون بالشهادة بالولاية على أنّها جزء الأذان ، ولأجل ذلك تهجّم عليهم ولعنهم وقال بلزوم إعادة الأذان (٢).

وعليه فالاشارة من الفقهاء تأتي لتعديل حالة الافراط والتفريط في الأمة ولبيان الاحكام الواجبة والمحرمة وقد يشار إلى الأمور المكروهة والمستحبة أمّا الأمور المباحة فليست من وظائف الفقيه.

وأمّا ابن زهرة الحلبي (٣) ( ٥١١ ـ ٥٨٥ ه‍ ) ، والفضل بن الحسن الطبرسي (٤) ( ت ٥٤٨ ه‍ ) ، وابن إدريس الحلي (٥) ( ت ٥٩٨ ه‍ ) ، وابن حمزة ( محمد بن علي

__________________

(١) شرح اللمعة ١ : ٥٧١.

(٢) النقض : ٩٧.

(٣) غنية النزوع : ٧٢.

(٤) المؤتلف من المختلف بين ائمة السلف ١ : ٨٨.

(٥) السرائر ١ : ٢١٣.

٣٣٧

الطوسي ) ( ت حدود ٥٨٥ ه‍ ) (١) ، وابن أبي المجد الحلبي ( من فقهاء القرن السادس ) (٢). والمحقّق الحلي (٣) ( ٦٠٢ ه‍ ـ ٦٧٦ ه‍ ) ، والمحقق الآبي ، المعروف بالفاضل ( من أعلام القرن السابع ) (٤) ، وفخر المحقّقين محمد بن الحسن بن يوسف ( ابن العلاّمة الحلي ) ( ٦٨٢ ـ ٧٧١ ه‍ ) (٥) ، فإنّهم لم يتعرّضوا إلى موضوع الشهادة بالولاية في الأذان ، مع أنّهم قد اشاروا إلى الأذان والإقامة وأنّ فصولهما خمسة وثلاثون فصلاً.

نعم ، قال يحيى بن سعيد الحلي ( ٦٠١ ه‍ ـ ٦٩٠ ه‍ ) في « الجامع للشرائع » :

والمرويّ في شاذّ الأخبار من قول « أنّ عليّا ولي اللّه‏ » ، و « آل محمّد خير البريّة » فليس بمعمول عليه (٦).

وهذا النص من يحيى بن سعيد الحلّيّ يشير إلى وقوفه على ذلك الخبر لأ نّه لم يحكه عن الشيخ ، وهو يؤكّد بأ نّه رحمه‌الله لم يقل ذلك تقليدا واتّباعا للشيخ رحمه‌الله ، وإن كان نظره يتّفق مع الشيخ في لزوم ترك الخبر الشاذّ إذا خالف المعمول عليه.

وكذا قال العلاّمة الحلّيّ ( ت ٧٢٦ ه‍ ) في « منتهى المطلب » :

وأمّا ما روي في الشاذ من قول « أنّ عليّا وليّ اللّه‏ » ، و « آل محمّد خير البريّة » فممّا لا يعوّل عليه ، قال الشيخ في المبسوط : فإن فعله لم يكن آثما ، وقال في النهاية : كان مخطئا (٧).

وهذا النصّ من العلاّمة قد يفهم بأ نّه قد وقف على تلك الأخبار لأ نّه لم يحكها

__________________

(١) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ٩١.

(٢) اشارة السبق : ٩٠.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ٥٩ ، المختصر النافع : ٢٨ ، المعتبر ٢ : ١٣٩ ـ ١٤١.

(٤) كشف الرموز في شرح المختصر النافع ١ : ١٤٥ ، انتهى من تاليفه ٦٧١ ه‍.

(٥) ايضاح الفوائد ١ : ٩٤.

(٦) الجامع للشرائع : ٧٣.

(٧) منتهى المطلب ٤ : ٣٨١.

٣٣٨

اتّباعا وتقليدا للشيخ رحمه‌الله.

بخلاف ما جاء عنه في ( تذكرة الفقهاء ) ، حيث قال :

قال الشيخ : ولو عمل عامل بذلك لم يكن مأثوما ، فأمّا ما رُوي في شواذّ الأخبار من قول : « أنّ عليّا ولي اللّه‏ » ، و « آل محمد خير البرية » فممّا لا يعمل عليه في الأذان ، فمن عمل به كان مخطئا (١).

كانت هذه هي النصوص التي وصلتنا من أواخر القرن السابع الهجري وحتى أوائل القرن الثامن الهجري ، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ العلاّمة لم يشر إلى هذه الحقيقة إلاّ في كتابيه المعنيَّين بأمور الخلاف مثل : « منتهى المطلب » و « تذكرة الفقهاء » ، وأمّا في كتبه الأخرى كالتحرير (٢) والمختلف (٣) والتبصرة (٤) وارشاد الاذهان (٥) والقواعد (٦) وتلخيص المرام (٨) فلم يشر إلى ما جاء في شواذّ الأخبار ، وإن ذكر الأذان والإقامة وأنّ فصولهما خمسة وثلاثون فصلاً على الأشهر ، فعدم تعرّضه إلى موضوع الشهادة بالولاية في الأذان ، في الكتب المعنيّة بالاستدلال والإفتاء ـ داخل دائرة المذهب الواحد ـ ليشير إلى عدم صيرورة الشهادة بالولاية شعارا عامّا لكلّ الشيعة في ذلك الزمان ، وذلك لعدم جزئيته لا لعدم مشروعيته ، إذ الشيعة لم يكن بمقدورهم أن يأتون بها جهارا من على المآذن ، وإن كان البعض من خلّص الشيعة يأتي بها سرّا.

فالقول بالجواز شيء ، والقول بالاستحباب أو كونه جزءا شيء آخر.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٣ : ٤٥.

(٢) تحرير الاحكام الشرعية ١ : ٢٢٣ ط مؤسسة الإمام الصادق.

(٣) مختلف الشيعة ٢ : ١٥٠ ط مكتب الاعلام الإسلامي.

(٤) تبصرة المتعلمين : ٢٥.

(٥) ارشاد الاذهان ١ : ٢٥٠.

(٦) قواعد الاحكام ١ : ٢٦٥ ط مؤسسة النشر الإسلامي.

(٧) تلخيص المرام : ٢٥.

٣٣٩

فالشيخ الطوسي ، وابن البرّاج ، والعلاّمة رحمهم اللّه‏ تعالى ، وغيرهم كانوا يخالفون من يأتي بها كجزء في الأذان ؛ لعدم الدليل عندهم عليها ، في حين أنّهم يجيزون الاتيان بها لمطلق القربة لأدلّة أخرى عندهم ، وقد وضّح العلاّمة الحلي الشق الاول [ وهو نفي الجزئية ] في ( نهاية الأحكام ) تاركا الشق الاخر إذ قال :

ولا يجوز قول ( أنّ عليّا وليّ اللّه‏ ) و ( آل محمّد خير البرية ) في فصول الأذان ، لعدم مشروعيته (١).

وعليه فيحيى بن سعيد الحلي والعلاّمة الحلي رحمهما اللّه‏ تعالى لم يكونا مقلِّدَين للشيخ الطوسي فيما حكاه من الأخبار الشاذّة ، بل يفهم من كلام التقي المجلسي ( ت ١٠٧٠ ه‍ ) أنّهما وقفا على تلك الأخبار ، لعدّ المجلسي : الشيخ والعلاّمة والشهيد في مرتبة واحدة ، إذ قال :

والظاهر أنّ الأخبار بزيادة هذه الكلمات أيضا كانت في الأصول ، وكانت صحيحة أيضا ، كما يظهر من الشيخ والعلاّمة والشهيد رحمهم‌الله‏ فإنّهم نسبوها إلى الشذوذ ، والشاذّ ما يكون صحيحا غير مشهور (٢).

ولو ألقيت نظرةً سر يعةً على تاريخ تلك الفترة وما فيها من صراعات دامية في الموصل والشام ومصر ، وما قام به صلاح الدين الأ يّوبي مع الفاطميين والعلويين لوقفت على سرّ عدم تعرّض الأعلام ـ ما بين ابن البراج ( ت ٤٨١ ه‍ ) ويحيى بن سعيد الحلي ( ت ٦٨٩ ه‍ ) أي بمدة قرنين ـ إلى ما يدلّ على رجحان الشهادة بالولاية في الكتب الموجودة بين أيدينا.

وبذلك فقد أمكننا وبهذا العرض السريع إعطاء فكرة بسيطة عن سير هذه

__________________

(١) نهاية الاحكام ١ : ٤١٢.

(٢) روضة المتقين ٢ : ٢٤٥. في المصدر المحقق بدل ( الشيخ ).

٣٤٠