أشهد أنّ عليّاً ولي الله

السيد علي الشهرستاني

أشهد أنّ عليّاً ولي الله

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5331-19-6
الصفحات: ٥٩٤

والحجّة أيضا اتّفاق الطائفة المحقّة عليه ، حتّى صار لها شعارا لا يدفع ، وعلما لا يجحد (١).

كان هذا بعض الشيء عن الشهادة بالولاية في عهد السيّد الشريف المرتضى رحمه‌الله ، وقد رأيت عدم تخطئته للذين يأتون بها ، في حين خطّأَ الذين يأتون بالتثويب في أذان الصبح ، وهو دليل على رجحان الإتيان بها عنده ، وخصوصا لو كان في ذلك ما يُنفَى به افتراءات المفترين على الشيعة ، أو يعلو به ذكر الإمام علي ، لكن لا على نحو الشطرية والجزئية بل لرجاء المطلوبيّة ، وهذا ثابت لمن تعقّب السيرة.

__________________

(١) رسائل السيّد المرتضى ١ : ٢١٩ ، المسألة الثالثة عشر في وجوب « حي على خير العمل » في الأذان ، وانظر جمل العلم والعمل : ٥٧.

٣٠١

٤ ـ الشيخ الطوسي ٣٨٥ ه‍ ـ ٤٦٠ هـ

قال الشيخ الطوسي في كتاب الصلاة من المبسوط :

... والأذان والإقامة خمسة وثلاثون فصلاً : ثمانية عشر فصلاً الأذان ، وسبعة عشر فصلاً الإقامة ... ومن أصحابنا من جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان ، وزاد فيها : قد قامت الصلاة مرتين ، ومنهم من جعل في آخرها التكبير أربع مرات ، فأمّا قول : أشهد أن عليا أمير المؤمنين ، وآل محمد خير البرية على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ، ولو فعله الإنسان لم يأثم به ، غير أنّه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله (١).

وقال رحمه‌الله في كتاب النهاية ، بعد أن عدّ الأذان والإقامة خمسة وثلاثين فصلاً :

وهذا الذي ذكرناه من فصول الأذان هو المختار المعمول عليه ، وقد رُوي سبعة وثلاثون فصلاً في بعض الروايات ، وفي

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٤٨ طبعة جامعة المدرسين ـ قم المقدسة. وفي طبعة المكتبة المرتضوية ١ : ٩٩ كلمة « يأثم به » بدل « لم ياثم به » وهو خطا بيّن ، لأنّ العلاّمة الحلي المتوفى ٧٢٦ ه‍ حكى في منتهى المطلب ٤ : ٣٨١ وكذا الشهيد ( ت ٧٨٦ ه‍ ) في البيان : ٧٣ والدروس ١ : ١٦٢ عن الشيخ قوله ( فإن فعله لم يكن آثما ) وكذا غيرهم من متأخري المتأخرين كالمجلسي في البحار ٨١ : ١١١ ، والبحراني في الحدائق ٧ : ٤٠٣ ، والميرزا القمّي في الغنائم ٢ : ٤٢٣ ، وغيرهم.

وانّ الاستثناء الموجود في ذيل كلام الشيخ « غير أنّه ليس ... » يؤكد بأ نّه لا يصلح إلاّ بعد بيان الحكم ، ومعناه الاستدراك على شيء قد مضى ، فلو كان الشيخ يفتي بالحرمة لما صحّ الاستدراك ، وبذلك ثبت خطأ تحقيق السيّد محمد تقي الكشفي لهذه الجملة ، إن كان تحقيقا ، وقد يكون الخطأ من الطبّاع أو المطبعة.

٣٠٢

بعضها ثمانية وثلاثون فصلاً ، وفي بعضها اثنان وأربعون (١).

ثم جاء رحمه‌الله يصور تلك الأقوال ، فقال :

فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات ، لم يكن مأثوما.

وأمّا ما رُوي في شواذّ الأخبار من قول : «أشهد أنّ عليا ولي اللّه‏ ، وآل محمّد خير البرية» فممّا لا يعمل عليه في الأذان والإقامة ، فمن عمل بها كان مخطئا (٢).

وقد يتصوّر المطالع أنّ الشيخ قد عارض نفسه ، لأ نّه قال في المبسوط : « ولو فعله الإنسان لم يأثم به » ، وفي النّهاية : « فمن عمل بها كان مخطئا ».

لكنّ هذا التوهّم بعيد جدا حسب قواعد العلم ومعايير الاجتهاد ، لأنّ الشيخ رحمه‌الله عنى بقوله الأوّل : الإنسان لو فعلها بقصد القربة المطلقة ولمحبوبيتها الذاتية « لم يأثم به » ، وأمّا لو فعلها بقصد الجزئية « كان مخطئا » بحسب أصول الاجتهاد ، لأنّ الشيخ الطوسي لا يأخذ بالأخبار الشاذّة إذا عارضت ما هو أقوى منها ، وسيأتي أنّ بعض العلماء ـ كالمجلسي وغيره ـ تمسّكوا بشهادة الشيخ ، فأفتوا بموجب ذلك باستحباب الشهادة الثالثة في الأذان ، باعتبار أنّ الشاذ هو الحديث الصحيح غير المشهور ، في حين ان الشاذ هو مما يؤخذ فيه انواع الحديث الاربعة ، منه الصحيح ، ومنه الضعيف ، وما بينهما عند الكثير.

واحتمل الاخر جمعا بين القولين : بأن الشيخ رحمه‌الله عنى بقوله في النهاية الذي يأتي بها على نحو الجزئية ، فإنه لا يأثم وإن كان مخطئا بحسب الصناعة ، لأ نّه بذل وسعه وتعرف على الحكم وإن كان مخطئا في اجتهاده ، لأخذه بالمرجوح وترك الراجح. وهو كلام بعيد عن الصواب لا نلتزمه.

__________________

(١) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى : ٦٨. وأنظر «نكت النهاية» ١ : ٢٩٣ للمحقق الحلي كذلك.

(٢) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى : ٦٩ وانظر نكت النهاية ١ : ٢٩٣ للمحقق الحلي كذلك.

٣٠٣

اما لو قلنا بأن معنى الشاذ عند الشيخ الطوسي هو الضعيف الذي لا يعمل به ، فالشيخ صرح بأن العامل به لا يأثم.

وعلى كل التقادير والاحتمالات في معنى الشاذ عند الشيخ الطوسي يكون العامل بالشهادة الثالثة غير مأثوم.

ولكي نفهم كلام الشيخ أكثر لابدّ من توضيح بعض الأمور :

الأمر الأول : تفسير معنى الشاذ عنده وعند غيره من علماء الدراية والفقه ، فنقول : اختلفت تعابير علمائنا وعلماء العامة في معنى الشاذّ مع اتّفاقهم على معناه اللّغويّ وهو الانفراد عن الجماعة.

فقال البعض : هو ما رواه الثقة ، مخالفا للمشهور (١) ، أو للأكثر (٢) ، أو لجماعة الثقات ، والمعنى في جميعها متقارب.

وقال الاخر : هو ما يتفرّد به ثقة من الثقات ، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة (٣).

وقال الشافعي : ليس الشاذّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره ، هذا ليس بشاذ ، إنّما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف فيه الناس (٤).

إذن الشاذّ في الأغلب عندنا وعند العامّة هو ما يقابل المشهور والمحفوظ ، وقد يطلق الشاذّ عندنا خاصّة على ما لم يعمل بمضمونه العلماء وإن صح إسناده ولم يعارضه غيره. وحكى عن الإمام البروجردي قوله : كلما ازداد [الشاذ] صحةً ازدادا ضعفا (٥) وذلك لترك الطائفة العمل به.

__________________

(١) انظر شرح البداية في علم الدراية ، للشهيد الثاني : ٣٩.

(٢) الرعاية في علم الدارية : ١١٥ ، وصول الأخبار : ١٠٨ ، الرواشح السماوية : ١٦٣ ، الراشحة السابعة والثلاثون.

(٣) معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري : ١١٩ ، وصول الاخيار : ١٠٦.

(٤) معرفه علوم الحديث للحاكم النيسابوري : ١١٩.

(٥) راجع المنهج الرجالي للسيّد الجلالي حفظه اللّه‏ تعالى.

٣٠٤

قال ابن فهد الحلّيّ في المهذّب البارع : ومنها المشهور ... ويقابله الشاذّ والنادر ، وقد يطلق على مرويّ الثقة إذا خالف المشهور (١).

والمراد من « المجمع عليه » الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة ـ المرويّة في كتب المشايخ الثلاثة (٢) : ـ .. ليس ما اتّفق الكلّ على روايته ، بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في مقابل ما ليس بمشهور ، ويوضح ذلك قول الإمام عليه‌السلام : « ويترك الشاذّ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك » (٣).

ومعنى كلام الإمام أنّ الشاذّ النادر قد يكون من أقسام الحديث الصحيح الذي لا يعمل به ، لوجود ما هو أقوى منه أو أنّه صدر لظروف التقية ونحوها.

إذن الشذوذ في الغالب هو وصف للمتن لا للسند ، فهو مقابل الضعف الذي يأتي غالبا للسند دون المتن ، ولو تأ مّلت في منهج الشيخ رحمه‌الله في الاستبصار لرأيته يسعى للجمع بين الأخبار ورفع التعارض فيما بينها بعد أن ييأس من الأخذ بالراجح ، وإنّ جمعه بين الأخبار الشاذّة والمعمول بها في بعض الأَحيان يُفهِمُ بأ نّه رحمه‌الله لا يحكم على الأخبار الشاذّة بأنّها دخيلة وموضوعة ، بل يرى لها نحو اعتبار عنده وهي داخله عنده ضمن انواع الحديث الاربعة ؛ أي أنّ حجيّتها عنده اقتضائية ، بمعنى أنّها حجّة لولا المعارضة.

ولتوضيح المسألة إليك خمسة نماذج من المجلد الاول من كتابه ( الاستبصار فيما اختلف من الأخبار ) تيمنا بالخمسة من آل العبا :

١ ـ قال الشيخ في « باب البئر يقع فيها الكلب والخنزير وما أشبههما » ـ بعد أن

__________________

(١) المهذب البارع ١ : ٦٦.

(٢) منها قوله عليه‌السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه. الكافي ١ : ٦٨ / باب اختلاف الحديث / ح ١٠.

(٣) المهذب للقاضي ابن براج ٢ : ٨.

٣٠٥

أورد عدّة روايات كان آخرها ما رواه غياث بن كلوب ، عن إسحاق بن عمار ، عن جعفر ، عن أبيه : إنّ عليا رحمه‌الله كان يقول : الدجاجة ومثلها تموت في البـئر ينزح منها دلوان أو ثلاثة ، وإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة أو عشرة ـ :

فلا ينافي ما قدّمناه ، لأنّ هذا الخبر شاذّ وما قدّمناه مطابق للأخبار كلّها ، ولأ نّا إذا عملنا على تلك الأخبار نكون قد عملنا على هذه الأخبار ، لأ نّها داخلة فيها ، وإن عملنا على هذا الخبر احتجنا أن نسقط تلك جملةً ، ولأنّ العلم يحصل بزوال النجاسة مع العمل بتلك الأخبار ولا يحصل مع العلم بهذا الخبر (١).

فالشيخ لا يمنع العمل بالخبر الشاذّ مطلقا إلاّ إذا امتنع الجمع ، وهذا يفهم بأنّ دلالة الشاذ عنده بنحو الاقتضاء والقابلية ؛ أي أنّه بنفسه حجّة لولا المعارضة ، لأنّ الترجيح فرع الحجّيّة الاقتضائيّة كما يقولون.

٢ ـ ونحوه قال الشيخ في (باب المصلي يصلي وفي قبلته نار) :

فأما ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين بن عمرو عن أبيه عمرو بن إبراهيم الهمداني رفع الحديث ، قال قال : أبو عبداللّه‏ عليه‌السلام ، لا بأس أن يصلي الرجل والنار والسراج والصورة بين يديه ، ان الذي يصلي له اقرب إليه من الذي بين يديه.

فهذه الرواية شاذة مقطوعة الاسناد وهي محمولة على ضرب من الرخصة وان كان الافضل ما قدمناه (٢).

٣ ـ وقال الشيخ في باب « من فاتته صلاة فريضة فدخل عليه وقت صلاة أُخرى

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٨ / ح ١٠٥.

(٢) الاستبصار ١ : ٣٩٦ / ح ١٥١٢.

٣٠٦

فريضة » :

فأمّا ما رواه سعد بن عبداللّه‏ ، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ، عن عمرو بن سعيد المدائني ، عن مصدق بن صدقة ، عن عمار الساباطي ، عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يفوته المغرب حتى تحضر العتمة ، فقال : إِن حضرت العتمة وذكر أنَّ عليه صلاة المغرب فإن أحبَّ أن يبدأ بالمغرب بدأ وإن أحبّ بدأ بالعتمة ثم صلّى المغرب بعدها.

فهذا خبر شاذّ مخالف للأخبار كلّها ، لأنّ العمل على ما قدمناه من أنّه إذا كان الوقت واسعا ينبغي أن يبدأ بالفائتة ، وإن كان الوقت مضيّقا بدأ بالحاضرة ، وليس هاهنا وقت يكون الإنسان فيه مخيّرا ، ويمكن أن يحمل الخبر على الجواز والأخبار الأوّلة على الفضل والاستحباب (١).

انظر إلى الشيخ كيف يسعى للجمع بين الخبر الشاذّ وغيره ، فلو لم يكن للخبر الشاذ حجيّة اقتضائيّة عنده ـ أو قل صحيحا عنده لدرجة مّا ـ لما سعى للجمع بينه وبين الأخبار الأخرى ؛ يشهد لذلك أنّه أفتى بمضمونه حيث قال : « يحمل الخبر على الجواز » ؛ أي جواز الابتداء بصلاة المغرب أو العتمة ، مع أنّ المشهور الروائي ينصّ على أن يبتدئ بالعتمة ويقضي المغرب ، وصلاة العتمة هي صلاة العشاء.

٤ ـ وقال الشيخ الطوسي في أبواب « ما ينقض الوضوء وما لا ينقضه » باب مس الحديد : وأمّا ما رواه محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ، عن عمرو بن سعيد المدائني ، عن مصدق بن صدقة ، عن عمار بن موسى ، عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام في الرجل إذا قصّ أظفاره بالحديد ، أو جزّ من شعره أو حلق قفاه : فإنّ عليه أن يمسحه بالماء قبل أن يصلي :

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢٨٨ / ح ١٠٥٥.

٣٠٧

سُئل : فإن صلّى ولم يمسح من ذلك بالماء؟ قال : يعيد الصلاة لأنّ الحديد نجس ، وقال : لأنّ الحديد لباس أهل النار والذهب لباس أهل الجنّة.

فالوجه في هذا الخبر أن نحمله على ضرب من الاستحباب دون الإيجاب ؛ لأنه خبر شاذّ مخالف للأخبار الكثيرة ، وما يجري هذا المجرى لا يعمل عليه على ما بيّنّاه (١).

فالشيخ رحمه‌الله حمل الخبر الشاذ هنا على ضرب من الاستحباب ، وهو يؤكّد أخذه بمضمونه.

٥ ـ وقال الشيخ في « باب البئر يقع فيها الدم القليل والكثير » :

فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن محمد بن زياد ، عن كردويه ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم أو نبيذ مسكر أو بول أو خمر؟ قال : ينزح منها ثلاثون دلوا.

فهذا الخبر شاذّ نادر ، وقد تكلّمنا عليه فيما تقدّم ؛ لأ نّه تضمّن ذكر الخمر والنبيذ المسكر الذي يوجب نزح جميع الماء ، مضافا إلى ذكر الدم ، وقد بيّنّا الوجه فيه ، ويمكن أن يحمل فيما يتعلّق بقطرة دم أن نحمله على ضرب من الاستحباب ، وما قدّمناه من الأخبار على الوجوب لئلا تتناقض الأخبار (٢).

وهذا أيضا رقم آخر يؤكّد ما قلناه من أنّ الشيخ يفتي بمضمون الشاذ نظرا لدلالته الاقتضائية.

ونحوه ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : سالت الرضا عليه‌السلام عن المذي فأمرني بالوضوء منه ، ثم أعدت عليه في سنة أخرى فأمرني

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٩٦ / ح ٣١١.

(٢) الاستبصار ١ : ٤٥ / ح ١٢٥.

٣٠٨

بالوضوء منه وقال : ان علي بن أبي طالب عليه‌السلام أمر المقداد بن الاسود أن يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحيا أن يسأله فقال : فيه الوضوء.

فهذا خبر ضعيف شاذ والذي يكشف عن ذلك الخبر المتقدم الذي رواه إسحاق بن عمار عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام وذكر قصة أمير المؤمنين عليه‌السلام مع المقداد وانه لما سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال : لا بأس به ، وقد روى هذا الراوي بعينه انه يجوز ترك الوضوء من المذي ، فعلم بذلك ان المراد بالخبر ضرب من الاستحباب (١).

وقد ذكر الشيخ المفيد في المقنعة عدة انواع من الاستخارات وقال :

وهذه الرواية شاذة ليست كالذي تقدم ، لكنا اوردناها للرخصة دون تحقيق العمل بها (٢).

وعلق المحقق في المعتبر على ما رواه الشيخ بسنده عن الحسن بن محبوب عن العلاء قال سألت أبا عبداللّه‏ عليه‌السلام عن الرجل يصيب ثوبه الشيء فينجسه فنسى أن يغسله ويصلي فيه ثم تذكر أنه لم يكن غسله أيعيد الصلاة قال : «لا يعيد قد مضت صلاته وكتبت له».

قال الشيخ هذا خبر شاذ لا يعارض به الأخبار التي ذكرناه ويجوز أن يكون مخصوصا بنجاسة معفو عنها. وعندي إن هذه الرواية حسنة والأصول يطابقها لأنه صلى صلاة مشروعة مأمور بها فيسقط بها الفرض ويؤيد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عفي لأمتي عن الخطا والنسيان لكن القول الاول اكثر والرواية اشهر (٣).

وقال أيضا في بعض اقوال زكاة الذهب والفضة :

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ : ١٨ / ح ٤٢.

(٢) المقنعة : ٢١٩.

(٣) المعتبر ١ : ٤٤١.

٣٠٩

والجواب عما احتج به بعض الاصحاب ، إنما ذكرناه أشهر في النقل ، وأظهر في العمل ، فكان المصير إليه أولى. وقال الشيخ رضي‌الله‌عنه في الخلاف : وقد تأولنا الرواية الشاذة ، وأشار إلى هذه الرواية ، وقال في التهذيب : «يحمله قوله «وليس فيما دون الاربعين دينارا شيء» على أن المراد بالشيءِ دينار ، لان لفظ الشيء يصح أن يكنى به عن كل شيء». وهذا التأويل عندي بعيد وليس الترجيح إلاّ بما ذكرناه (١).

كان هذا بعض الشيء عن الخبر الشاذّ عند القدماء وطريقة تعامل الشيخ الطوسي معه.

الطوسي بين الفتوى بالجواز وشذوذ أخبار الشهادة

تبيّن من الأمثلة التي سقناها آنفا أنّ الشيخ الطوسي لا يعمل بالشاذ إذا ما استحكمت المعارضة مع ما هو مشهور ، لكن إذا أمكنه الجمع فإنه لا يترك الشاذّ ويفتي بمضمونه ، فقد مرّ أنّ الشاذّ عند الشيخ ـ خلال الأمثلة الآنفة ـ يكون دليلاً على الجواز كما في خبر من فاتته صلاة المغرب حتى دخل وقت صلاة العتمة ، وهذا معناه أنّ الخبر الشاذ عند الشيخ قد يصل إلى مرحلة الحجّيّة الفعلية مع إمكانية الجمع ولا يقف على الحجية الاقتضائية فقط.

وبناءً على ذلك نقول : إنّ الشيخ وصف أخبار الشهادة الثالثة بأنّها شاذّة لكنّه مع ذلك قال بجواز الإتيان بها حين جزم قائلاً : « لم يأثم به » ، وليس لهذا معنى إلاّ أنّه أفتى بمضمونها. وهذا معناه أنّ أخبار الشهادة الثالثة لا تنهض لإثبات جزئيّة الشهادة الثالثة في الأذان لشذوذها ، ولأنّ روايات الأذان المشهورة المعوّل عليها

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٢٤ ، وانظر كذلك كلام الفاضل الآبي في كشف الرموز ١ : ٣٦٣ و ٢ : ٢٥٧.

٣١٠

لم تذكر ذلك ، لكن مع ذلك يمكن الجمع والفتوى بالجواز ، وعلى هذا الأساس يمكن للفقيه الفتوى بالجواز بالنظر لذلك ، وهذا بغضّ النظر طبعا عن الأدلّة الأخرى التي تؤدِّي إلى الاستحباب.

الأمر الثاني : من خلال المقارنة بين عبارتي الشيخ في « المبسوط » و « النهاية » نحتمل بأنه رحمه‌الله كان يفتي بجواز العمل بمضمون الروايات المتضمنة للشهادة الثالثة ، لأنّ قوله في المبسوط بعدم إثم من يقول بـ « أشهد أن عليا أمير المؤمنين » ، و « آل محمد خير البرية » ، هو معنى آخر لما قاله عن اختلاف الروايات في فصول الأذان ، وأنّ العامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثـوما ، أمّا لو أراد القائل أن يقول بالجزئية فيها استنادا لبعض هذه الروايات فسيكون مأثوما ومخطئا ، لشذوذها وقد مر عليك ما احتمله البعض بأ نّه ليس بمأثوم وإن كان مخطئا ، لأ نّه بذل وسعه للحصول على الحكم وإن كان مخطئا فيما توصل إليه ، وبهذا لا يكون تلازم بين الاثم والخطا ، فتأمل.

توضيح ذلك : أنّ الشـيخ يجيز الإتيان بها لا على نحو الجزئية ، لأ نّه لم يعتبر الشهادة بالولاية من « فضيلة الأذان ولا من كمال فصوله » ، وهو معنى آخر لما قاله في النّهاية من أنّ العامل بها كان مخطئا ، وبذلك يكون نهيه من الاتيان بها إنّما هو الإتيان بها على نحو الجزئية ، لكونها ليست من أصل الأذان وأنّ العامل بها على نحو الجزئية يكون مخطئا.

أمّا لو أتى بها لمحبوبيّتـها أو بقصد القربة المطلقة ، فالشيخ لا يمانع من الفتوى بالجواز ، كما جزم في قوله : « ولو فعله لم يأثم به » ، وكلام الشيخ هنا يجري مجرى كلام الشيخ الصدوق رحمه‌الله وما ذهب إليه السيّد المرتضى رحمه‌الله ، فكلّهم لا يرتضون الجزئية لعدم مساعدة النصوص على القول بها ، وهذا يعني عند هؤلاء الأعلام الثلاثة أنّه لا توجد روايات ناهضة للقول بجزئيتها ، ولقد تقدّم في الأمثلة التي سردناها عن الشيخ الطوسي بأنّ الشيخ يرى حجيّة الشاذّ بنحو الاقتضاء ـ بل

٣١١

الفعلية فيما لو أمكن الجمع ـ ولذلك أفتى بمقتضى هذا المبنى بالاستحباب ، فقد قال في ردّ مضمون الخبر المصرّح بضرورة غسل موضع قصّ الأظافر بالحديد : « فالوجه في هذا الخبر ( الشاذ ) أن نحمله على ضرب من الاستحباب ».

ومن كلّ ذلك نقف على نتيجة مهمّة ، وهي أنّ الشيخ لم يكن يرى الحجيّة الفعلية في أخبار الشهادة الثالثة للقول بجزئيتها أو للفتوى بالاستحباب ، فالشيخ لم يقل بحملها على ضرب من الاستحباب هنا كما فعل بالخبر الشاذّ المصرِّح بوجوب غسل موضع قص الاظافر بالحديد ، وهذا معناه أنّ أخبار الشهادة الثالثة لا تمتلك حجيّة فعلية في خصوص ذلك ، لكن يبدو كما احتملنا قو يّا بأنّ الشيخ يرى أنّ لها حجيّة فعلية لتكون دليلاً للفتوى بالجواز ؛ يشهد لذلك أنّه قال : « لم يأثم به » فالتفِتْ لذلك فهذا التفضيل قد غاب في كلمات العلماء.

هذا مع الإشارة إلى أنّ القول برجحان أو عدم رجحان الشهادة الثالثة لا يقف عند هذا الحدّ ؛ إذ هناك أدلّة أخرى لم يتعرّض لها الشيخ الطوسي ، كالعمومات ، وموثقة سنان بن طريف وحسنة ابن أبي عمير ، وغير ذلك مما يثبت الرجحان المطلق كما اتضح وسيتّضح أكثر.

الأمر الثالث : قال الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه المبسوط :

وكنت على قديم الوقت عملت كتاب النهاية ، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأُصولها من المسائل ، وفرّقوه في كتبهم ، ورتّبته ترتيب الفقه ، وجمعت من النظائر ، ورتّبت فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك ، ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظايرها ، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتّى لا يستوحشوا من ذلك (١).

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢.

٣١٢

هذا وقد عُرِفَ عن السيّد البروجردي رحمه‌الله ـ وغيره ـ أنّه كان يصرّح في دروسه بأنّ كتب المتقدّمين هي بمنزلة الأصول المتلقّاة عن المعصومين ، وأنّها متون روائية ، وأنّ جميع كتاب « النهاية » أو أكثره نصوص روايات منقولة عن المعصومين ، وفيها ما يرتبط بالأذان والإقامة ، والشهادة بالولاية ، ومعناه : أنّ ما فيها لم يكن من وضع المفوِّضة ، وخصوصا مع تأكيد الشيخ في « النهاية » بأنّ أخبار الشهاده بالولاية جاءت ضمن روايات قد وقف عليها (١).

وهذا قد يؤكّد وجود روايات موجودة في أُصول أصحابنا لا أُصول المفوّضة لعنهم اللّه‏ ، غاية ما في الأمر أنّ الشيخ لم يتوصّل إلى إمكانيّة حجيّتها الفعليّة للفتوى بالاستحباب وان تَوَصَّلَ لإمكانيّة الحجّيّة الفعليّة للفتوى بالجواز حسبما بيّنّا.

ولابد لي أن أشير هنا إلى أنّ البعض يطالبنا بتواتر الأخبار لإثبات الشهادة الثالثة ، وهذا طلب عجيب منهم ، لأنّ هذا البعض يعلمُ بأنّ الشيعة قد مرّت بظروف قاسية أدّت إلى إزهاق أرواح الكثير من علمائها ، وأنّ وصول هذه الأخبار الشاذّة قد كلّفنا الكثير من التضحيات ، فكيف يطلبون منّا لإثبات أمرٍ إعلاميّ كهذا بالتواتر؟!

ألم يكن ذلك من التعسّف بحقّ علمائنا ورواتنا؟!

نعم ، نحن بكلامنا هذا لا نريد القول بجزئيّتها ، لأن ليس بحوزتنا ما يدلّ على ذلك ، لكن في الوقت نفسه نريد التأكيد على عدم استبعاد وجود روايات على ذلك ، وهذا ما نعبّر عنه بالحجية الاقتضائية لأخبار الشهادة بالولاية.

فعلى سبيل المثال ، قال الشيخ محمد باقر المجلسي ( ت ١١١٠ ه‍ ) في بحار الأنوار مذيِّلاً عبارة الصدوق : « لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة

__________________

(١) النهاية : ٦٩ ، والمبسوط ١ : ١٤٨.

٣١٣

في الأذان والإقامة ، لشهادة الشيخ والعلاّمة والشهيد وغيرهم بورود الاخبار بها » (١). وهذا يعني عدم الشكّ في وجود روايات في أصول أصحابنا ؛ دالة على الشهادة الثالثة.

وهذا هو ما جزم به المجلسيّ الأول في روضة المتّقين ؛ حيث قال : والظاهر أنّ الأخبار بزيادة هذه الكلمات أيضا كانت في الأصول وكانت صحيحة أيضا كما يظهر من الشيخ والعلاّمة والشهيد رحمهم‌الله‏ ، فإنّهم نسبوها إلى الشذوذ ، والشاذّ ما يكون صحيحا غير مشهور ... (٢).

وقال الشيخ حسين العصفور البحراني في ( الفرحة الانسية ) : « واما الفصل المرويّ في بعض الأخبار المرسلة وهو : « أشهد أن عليا ولي اللّه‏ » فممّا نفاه الأكثر ، وظاهر الشيخ في المبسوط ثبوته وجواز العمل به ، وهو الاقوى » (٣).

الأمر الرابع : إنّ ما حكاه الشيخ من ورود أخبار شاذّة في الشهادة الثالثة لا يعارضه مع ما حكاه الصدوق عن المفوِّضة ، فقد تكون الأخبار الشاذّة وما عند المسمَّين بالمفوِّضة مقصودة من قبل الأئمّة حتى لا يقف الخصم على رأيهم عليهم‌السلام في الشهادة الثالثة ، وهو أحد الوجوه التي يمكن قولها في مفهوم التقيّة ، وأنّها لا تقتصر على الخوف من الحكّام ، أو النظر إلى رأي العامّة ، أو ما شابه ذلك ، لأ نّا نعلم أنّ الإمام قد أجاب شيعته في بعض الموارد بأجوبة مختلفة في المسألة الواحدة ، ولم يكن هناك أحد يخاف منه ، أو أنّ ما رواه أو قاله ليس فيه ما يوافق رأي السلطة ، بل قالها لأجل عدم إيقاف الخصم على رأي الأئمّة في ذلك الموضوع.

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٤ : ١١١.

(٢) روضة المتقين ٢ : ٢٤٥. وفي النص بدل « الشيخ » « المحقّق » وهو خطأ على التحقيق بنظرنا ، فأبدلناه بالشيخ للقرائن التي سقناها سابقا ، فلاحظ.

(٣) الفرحة الانسية ٢ : ١٦.

٣١٤

بمعنى : أنّ ملاك تشريع الشهادة الثالثة موجودٌ لكن اقتضاءً وإن لم تُشرَّع فعليا ، أي أنّ الإمام ذكرها على نحو الاقتضاء وما له إمكانية التشريع لا بنحو العلّة التامّة ، وأودعها عند بعض اصحابه ولم يرضَ بالبوح بها في ذلك الزمان (١) ، لإمكان تشريعهم لها (٢) ، أي أنّ المقتضى كان موجودا وكذا المانع ، ولا ريب في أنّ المانع ، كفيل بعدم التشريع ، خصوصا للحفاظ على دماء الشيعة ورقابهم ، وهو نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأ خّرت العشاء إلى ثلثي الليل » (٣) ، أو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة : « لولا أنّ قومَك حديثو عهد بجاهلية لنقضت البيت ولبنيته كما بناه إبراهيم » (٤) وهو ظاهر في أن ملاك نقض البيت وإعادة بنائه موجود ، لكن لم يؤسس النبي عليه حكما ، لوجود مانع ، وهو حداثة عهد الصحابة بالجاهلية ، وكذا الحال بالنسبة إلى تأخير العشاء ؛ فقد تركه لأ نّه إحراج للأمّة.

وعلى هذا الأساس يمكننا القـول بأنّ الاحتمال السابق يقوّي استدلال القائلين برجحان ذكر الشهادة بالولاية في الأذان ، وذلك لارتفاع المانع اليوم من ذكرها ، ولا خوف اليوم على الشيعة منها ، بل صارت شعارا ورمزا للتشيّع ، فلا يُستبعد ضرورة التمّسك بها ، كما هو مذهب السّيّدين الحكيم والخوئي ومذهب غيرهما

__________________

(١) انظر المحاسن ، للبرقي ١ : ٣٩٧ باب التقية ، وفيها ٢٧ حديثا ، منها قول الصادق لسليمان بن خالد : يا سليمان إنّكم على دين من كتمه أعزّه اللّه‏ ، ومن أذاعه أذلّه اللّه‏.

(٢) إذ جاء عن رسول اللّه‏ أنّه ترك صلاة نافلة الليل في المسجد كي لا تفرض عليهم ، انظر صحيح البخاري ١ : ٢٥٥ / ح ٦٩٦ ، ، و ١ : ٣٨٠ / ح ١٠٧٧ ، و ٦ : ٢٦٨ / ح ٦٨٦٠ ، صحيح مسلم ١ : ٥٢٤ / ح ٧٦٩ ، ٧٦١ ، صحيح ابن حبان ٦ : ٢٨٤ ـ ٢٨٦ / ح ٢٥٤٣ ، ٢٥٤٤ ، ٢٥٤٥ ، سنن أبي داود ٢ : ٤٩ / ح ١٣٧٣ ، الجمع بين الصحيحين ٤ : ٦٦ / ٣١٧٨ ، باب المتّفق عليه من مسند عائشة.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨١ / ح ١٣ / باب وقت المغرب والعشاء. وانظر من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٣ / ح ٩٨٦.

(٤) العمدة لابن البطريق : ٣١٦ ، ٣١٧ ، الجمع بين الصحيحين للحميدي ٤ : ٤٣ / باب المتّفق عليه من مسند عائشة.

٣١٥

قدّس اللّه‏ أرواحهم.

وفي الجملة : فإنّ الشـارع المقدّس وإن كان يدور تشريعه مدار الملاكات والمصالح والمفاسد إلاّ أنّ الموانعَ مأخوذةٌ أيضاً في عملية التشريع ، ومن ذلك ما روته الأ مّة عن النبيّ أنّ ملاك تشريع وجوب صلاة الليل في ليالي شهر رمضان موجود لكنّ النبيّ مع ذلك لم يشرّع ذلك لمانع وهو خوفه على الأمة من عدم الامتثال ثمّ الوقوع في المعصية ، ومن هذا القبيل الشهادة الثالثة ، فيمكن القول أنّ النبي لم يشرّعها مع وجود ملاكها خوفا على الأمة من التخبط والتقهقر.

ومهما يكن ، فقد ورد عن أئمّة العصمة في ذلك روايات ظاهرة في أنّ الملاك لا يؤسّس حكما شرعيا لو كان اقتضائيا ما لم يرتفع المانع ، وهو هنا الخوف على دماء الشيعة.

وإليك الآن بعض الروايات الدالّة على أنّ الأئمّة هم الّذين يوقعون الاختلاف بين الشيعة كي لا تعرف السلطات رأيهم ونظرهم في بعض الأحكام كما أشرنا.

فمن ذلك ما رواه في الكافي (١) في الموثّق عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن مسألة فأجابني ، ثمّ جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يا ابن رسول اللّه‏ رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه!!

فقال : يا زرارة ، إنّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم. ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدَّقكم الناس علينا ، ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم.

قال : ثمّ قلت لأبي عبداللّه‏ عليه‌السلام [ الصادق ] : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا ، وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال : فأجابني بمثل

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٥ / ح ٥ ، باب اختلاف الحديث.

٣١٦

جواب أبيه.

قال الشيخ يوسف البحراني في الحدائق : فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه‌السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد ، وتَعَجُّب زرارة ، ولو كان الاختلاف إنّما وقع لموافقة العامّة لكفى جواب واحد بما هم عليه ، ولما تعجّب زرارة من ذلك ، لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحيانا بمّا يوافق العامة تقيّة.

ولعلّ السرّ في ذلك أنّ الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين ، كلٌّ ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر ، هان مذهبهم على العامّة ، وكذّبوهم في نقلهم ، ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين ، وقَلُّوا وتشتَّتوا في نظرهم ، بخلاف ما إذا اتّفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم ، فانّهم يصدّقونهم ويعلمون أنّهم طائفة كبيرة ذات خطر فيشتدّ بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم ، ويصير ذلك سببا لثوران العداوة ، ويكون دافعا لاستئصالهم ومحو شوكتهم وإلى ذلك ، يشير قوله عليه‌السلام : « ولو اجتمعتم على أمرٍ واحد لصدّقكم الناس علينا وكان أقلّ لبقائنا وبقائكم » (١).

ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب (٢) في الصحيح ـ على الظاهر ـ عن سالم أبي خديجة ، عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام ، قال : « سأله إنسان وأنا حاضر فقال : ربّما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر ، وبعضهم يصلّي الظهر؟ فقال : أنا أمرتهم بهذا ، لو صلّوا على وقت واحد لعُرِفُوا فأُخذوا برقابهم » ، وهو أيضا صر يح في المطلوب ، إذ لا يخفى أنّه لا تطرُّقَ للحمل هنا على موافقة العامّة ، لاتّفاقهم على التفر يق بين وقتي الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك (٣).

__________________

(١) أنظر الحدائق الناضرة ١ : ٦٠ من المقدمة الاولى بتصرف.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٥٢ / ح ٣٧ باب المواقيت.

(٣) كما لا يخفى أنّ ملاك تشريع الجمع أرجح لكنّ المانع هو جملة الإمام عليه‌السلام « لاخذوا برقابهم ».

٣١٧

ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في كتاب العدّة (١) مرسلا عن الصادق عليه‌السلام : أنه « سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت؟ فقال : أنا خالفت بينهم ».

وما رواه الصدوق رحمه‌الله في علل الشرائع (٢) بسنده عن [ محمّد بن بشير و [ حريز ، عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام قال : ( قلت له : إنّه ليس شيء أشدّ عليّ من اختلاف اصحابنا ، قال : ذلك من قِبَلِي ».

وما رواه أيضا عن الخزاز ، عمّن حدثه ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : « اختلاف أصحابي لكم رحمة ، وقال عليه‌السلام : إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد ».

وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال عليه‌السلام : « أنا فعلت ذلك بكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لأُخِذَ برقابكم » (٣).

كان هذا عن المسائل المتباينة في الأحكام ، أمّا ما نحن فيه فلا تباين في أخبار الأذان ، بل بينهما إجمال وتفصيل ، ممّا يمكن الجمع بينها ، وخصوصا بعد أن عرفنا أنّ الاختلاف في الرواية هو خير للأئمّة وأبقى لشيعتهم ، لانه عليه‌السلام قال : « ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدَّقَكم الناس علينا ». ثم يكيدون بنا ، وهذا ما لا يريده الأئمّة قطعا.

وعلى هذا الأساس يمكن القول أيضا بناء على ذلك الاحتمال : أنّ روايات الشهادة الثالثة ـ التي وصفها الشيخ الطوسي بالشاذّة ـ قد صدرت عن الأئمّة فعلاً ، لكنّها صدرت لا على نحو التشريع ؛ إذ لا تمتلك ملاكا تامّا للتشريع والفتوى بالاستحباب والقول بالجزئية ، بل صدرت عنهم عليهم‌السلام باعتبار أنّ الملاك هنا اقتضائي لا غير.

__________________

(١) عدة الأصول ١:١٣٠ / الفصل ٤ ، في مذهب الشيخ في جواز العمل بالخبر الواحد.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٣٩٥ / الباب ١٣١ / ح ١٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٢ : ٢٣٦ / الباب ٢٩ / ح ٢٢.

(٣) علل الشرائع ٢ : ٣٩٥ / ح ١٥ / وعنه في بحار الأنوار ٢ : ٢٣٦ / الباب ٢٩ / ح ٢٣.

٣١٨

وهنا لابدّ من التاكيد إلى أنّ الشيخ قد يحتجّ ـ كما مّر ـ بالشاذّ ، فيحمل مضمونه تارة على الجواز ، وتارة على ضرب من الاستحباب ، ولكنّه هنا لم يفعل ، كما هو مقتضى الجمع بين الشاذّ وغيره سوى أنّه أفتى بالجواز بقوله : « لم يأثم » ، ومعلوم أنّ الجواز لا يتقاطع مع مفهوم التقيّة ، ولقد بَيَّنَّا سابقا أنّ ما أسماها أخبارا شاذة لها حجيّة فعليّة في الجواز ، اقتضائية فيما عداه من الاستحباب. ونحتمل أنَّ الشيخَ لم يفت بالاستحباب طبق ما أسماه بشواذّ الأخبار لِما قلناه من أنّ الملاك عنده اقتضائيّ ولم يرتق لأن يكون علّة تامّة للحكم ، وعليه فلا يمكن القول بالجزئية.

الأمر الخامس : كما قُلنا بأنّ الشيخ الطوسي لا يرى تعارضا مستقرّا بين الروايات التي فيها الشهادة بالولاية مع التي ليس فيها ذلك ـ وأنّ إفتاءه بعدم الإثم في العمل بها يؤكّد بأ نّه رحمه‌الله يرى لها نحوَ اعتبارٍ على ما بينّاه سابقا ـ كذلك يمكننا القول بأنّ الشيخ الطوسي لَحَظَ أدلّة المحبوبية المطلقة الأخرى التي تدعوه للقول بالجواز ، وأنّه يراها مشابهةً لما ورد من الأخبار في اختلاف فصول الأذان والإقامة ٣٥ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٤٢ فصلاً.

وقد اراد البعض ان يستفيد من عدم وجود نصوص دالة من المعصومين على الشهادة الثالثة أو عدم فعل المعصومين له الحرمة ، فقالوا أنّ المعصوم لو أراد الجزئية لكان عليه بيان ذلك ، ولمّا لم يذكرها عرفنا أنّها غير مطلوبةٍ للشارع.

في حين أنّ المستدل على الجزئيّة يقول: من الثابت علميّا أنّ إحدى مقدّمات الحكمة ، هي امكان البيان ، بمعنى أنّه يصحّ استدلالهم على نفيها فيما لو كان الإمام يمكنه أن يقولها لكنّه لم يَقُلْها.

لكنّ الواقع خلاف ذلك ، لأنّ المطّلع على مجريات الأحداث بعد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم بأنّ الإمام كان لا يمكنه قولها ، لأنّ شيعته سيفهمون من كلامه الجزئية ـ لأنّ كلامه عليه‌السلام نصٌّ شرعيٌّ يجب التعبد به ـ ولصارت سببا لإهدار دماء كثيرة ، وهذا ما لا يريده الإمام عليه‌السلام ، فهو على غرار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لولا أن أشقّ على اُمتي

٣١٩

لأخّرت العشاء إلى ثلثي الليل » ولكون الاتيان بالشهادة الثالثة في الأذان أمر جائز وليس بواجب حتى يلزم للإمام ان يبينه مثل «حي على حي العمل».

لأنّ الشهادة بالولاية في الأذان لم تكن كغيرها من الأمور المعرفيّة التي يمكن الإسرار بها والاحتفاظ بها عند الخاصة ، بل انه أمرٌ إعلاميّ يجب الجهر به ، والجهر بالولاية في مثل تلك الظروف يساوق قتل المعصوم وقتل شيعته ، ولأجل ذلك لم يلزم الشارع المقدس المسلمين للقول بها ، فكان تركها وعدم إيجابها رحمة للمؤمنين ، وسعة لشيعة أمير المؤمنين.

وعليه فلا تحقُّقَ للإطلاق المقاميّ هنا ، لعدم قدرة الإمام على بيانه ، لما في هذا البيان من عواقب تستوجب هدر الدماء ، كلُّ ذلك مع توفّر الملاكات في ذلك لكنّ الجعل غير ميسور ، وبمعنى آخر : المقتضي موجود ، والمانع موجود كذلك.

ويمكن أن يجاب كلامهم بنحو آخر وهو : إنّ عدم الذكر أعمّ من عدم الجعل ، فقد يكون الأمر مجعولا شرعيّا لكنّ الشارع أخّر بيانه لأمورٍ خاصة ، وهذا يتّفق مع مرحليّة التشريع وأنّ الأحكام لم يؤمر بها المكلّف دفعةً واحدة في بدء التشريع ، بل نزلت تدريجا ، بل قد يكون الحكم مُودَعا عند الأئمة موكولاً إلى وقت رفع المانع عنه ، وهذا ما رأيناه في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة ، فكم حكم اتّضح حاله بعد رفع المانع ، وهناك أحكام أُخرى مخفيّة ستظهر بعد ظهور الإمام الحجة عجل اللّه‏ تعالى فرجه الشريف ، والذي مر عليك بأ نّه سيأتي بأمر جديد (١).

الأمر السادس : ان الشيخ الطوسي كثيرا ما يتعرّض في التهذيب والاستبصار (٢) والمبسوط والعدّة لآراء مَن قَبْلَهُ ، وخصوصا لآراء امثال الشيخ الصدوق ؛ قال في العدة : إنّا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثّقت الثقات منهم

__________________

(١) انظر كتاب الغيبة للنعماني : ٢٠٠ وعنه في بحار الانوار ٥٢ : ١٣٥ / الباب ٢٢ / ح ٤٠.

(٢) انظر مثلا الاسـتبصار ١ : ٢٣٧ ، ٣٨٠ ، ٤٣٣ ، ج ٣ : ٧٠ ، ١٤٦ ، ٢١٤ ، ٢١٤ ، ٢٦١ ، ج ٤ : ١١٨ ، ١٣٠ ، ١٥٠ وغيرها.

٣٢٠