المقداد ابن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

المقداد ابن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

مبيت علي عليه السلام في فراش الرسول ( ص )

أعظم مفتدٍ لأعظم مفتدىً ، لم يحدثنا التاريخ بأروع من قصة الفداء هذه ، فالملأ من قريش مجمعون على قتل محمد في فراشه ، وعلم محمد ( ص ) بذلك وأخبر علياً ، فبكى خوفاً على الرسول ، لكن الرسول حين امره أن يبيت على فراشه ، قال له علي : اوتسلم يا رسول الله إن فديتك بنفسي ؟! فقال ( ص ) : نعم ، بذلك وعدني ربي . فاستبشر عليٌّ وانفرجت أسارير وجهه ابتهاجاً بسلامة النبي ، وتقدم إلى فراشه مطمئن النفس ثابت الجنان نام فيه متشحاً ببرده اليماني .

فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج النبي من الدار وهو يقرأ : . . ( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ . . ) ومر على الملأ من قريش وأخذ حفنة من التراب وجعل ينثرها على رؤوسهم وهم لا يشعرون ، ولما حان الوقت المحدد لهجومهم على الدار إقتحموا ، ! ، فثار علي عليه السلام في وجوههم ، فانهزموا منه ، ثم سألوه عن النبي فقال : لا أدري أين ذهب (١) .

____________________

(١) : وفي تاريخ اليعقوبي : أن الله تعالى أوحى في تلك الليلة الى ملكين من ملائكته المقربين ـ وهما جبريل وميكائيل ـ أني قضيت على أحدكما بالموت ؛ فايكما يفدي صاحبه ؟ فاختار كل منهما الحياة . فاوحى إليهما : هلّا كنتما كعلي بن أبي طالب ، لقد آخيت بينه وبين محمد ، وجعلت عمر أحدهما أطول من الآخر ، فاختار علي الموت وآثر محمداً بالحياة ونام في مضجعه ، إهبطا فاحفظاه من عدوه ، فهبطا يحرسانه في تلك الليلة وهو لا يعلم ، وجبريل =

٤١
 &

الهجرة

وأوصى رسول الله ( ص ) علياً بحفظ ذمته وأداء أماناته ، وأمره أن يقيم منادياً بالأبطح غدوةً وعشية ينادي : آلا من كانت له قِبلَ محمدٍ أمانة فليأت لتؤدى إليه أمانته ، وأوصاه بالصبر ، وأن يقدم عليه مع ابنته فاطمة وغيرها من النسوة إذا فرغ من آداء المهمّات التي كلفه بها .

وأمر أبا بكر ، وهند بن أبي هالة * أن يقعدا له في مكان حدده لهما في طريقه إلى الغار ، فلما خرج ( ص ) في ظلمة الليل ، إنطلق جنوباً ميمماً غار ثور ، فوجدهما في الطريق ، ورجع هند متخفياً إلى مكة ، ودخل هو ( ص ) وابو بكر الغار ، فأرسل الله في تلك الساعة عنكبوتاً نسجت على بابه ، وشاءت قدرته أن تلتجىء إلى باب الغار حمامتان بريتان .

ومضت قريش جادة في طلبه ومعها أهل الخبرة بالقيافة وتتّبع الأثر ، إلى أن بلغوا الغار ، وانقطع الأثر عنهم ، فنظروا ، فرأوا العنكبوت قد غطت بابه بنسيجها ، واذا بالحمامتين على جانب من جوانب بابه مما لا يترك أقل شك في

____________________

= يقول : بخ لك يا بن أبي طالب من مثلك يباهي به الله ملائكة سبع سموات . راجع سيرة المصطفى / ٢٥١ نقلاً عن اليعقوبي ٢ / ٢٩ واسد الغابة ٤ / ٢٥ والشبلنجي في نور الابصار / ٧٧ والمناوي في كنوز الحقائق / ٣١ والغزالي في احياء العلوم .

* : هند بن أبي هالة التميمي : ربيب النبي ( ص ) ، أمه خديجة زوج النبي ، وكان فصيحاً بليغاً ، وصف النبي ( ص ) فأحسن واتقن . وقد استشهد مع علي عليه السلام في حرب الجمل ـ راجع الإِصابة ٣ / ٦١١ ـ ٦١٢ .

٤٢
 &

انهما ليسا فيه ، فقال بعضهم لبعض : إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد ! (١) .

وبقي الرسول ( ص ) وصاحبه في الغار ثلاثة أيام ـ على رواية ـ ثم ارتحلا ومعهما غلام لأبي بكر يدعى عامر بن فهيرة ، أردفه ابو بكر خلفه ، وأخذ بهم الدليل على طريق الساحل .

ولم تتوانى قريش في طلب النبي ( ص ) وجعلت لمن قتله أو أسره مائة ناقة .

ومروا في طريقهم على خيمة أم معبد الخزاعية ، وكانت تقري الضيف ، فسألوها تمراً أو لحماً يشترونه منها ، فلم يجدوا عندها شيئاً ، فقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم ، ! فنظر رسول الله ( ص ) إلى شاة في جانب الخيمة وقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟

قالت : هي شاة خلّفها الجَهْدُ عن الغنم ! فقال لها النبي ( ص ) : هل بها من لبن ؟

قالت : هي أجهد من ذلك ؟ فقال : أتأذنين لي أن أحلبها ؟ فقالت : نعم ، فداك أبي وأمي إن رأيت بها حلباً .

فدعا رسول الله ( ص ) بالشاة ، فمسح ضرعها وذكر اسم الله ، ثم قال : بارك الله في شأنها . فدرّت من ساعتها ، فدعا بإناءٍ كبير فحلب فيه فسقاها وسقى أصحابه حتى رويت ورووا ، وشرب هو آخرهم ، ثم قال :

وساقي القوم آخرهم شرابا

ثم حلب في الإِناء حتى إمتلأ وتركه لها وارتحل . وما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حيّلاً عجافاً هُزّلاً ، فلما رأى اللبن تعجّب وقال : من أين لكم هذا والشاة عازبة ؟ ولا حلوبة في البيت ؟!

____________________

(١) : مقتضب من سيرة المصطفى ٢٥٠ وما بعدها .

٤٣
 &

قالت : لا والله ، إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك ، وقصت عليه قصته .

فقال : والله أني لأظنه صاحب قريش الذي تطلب ؟ صفيه لي !

قالت : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة ، مُنبلجَ الوجه ، حسنَ الخلق ، لم تُعْيهِ ثَلْجة (١) ، ولم تُزرِ به صلْعَة (٢) ، وسيمٌ ، قسيمٌ (٣) ، في عينيه دعَجْ (٤) ، وفي اشفاره وَطَفْ (٥) ، وفي صوته صَحَلْ (٦) ، أحوَر ، أكحل ، ازَج ، أقرَن (٧) ، شديد سواد الشعر ، في لحيته كثافة ، إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلم سما ، وعلاه البهاء ، حلو المنطق ، لا نزر ولا هذر ، ومضت تعدد صفاته . فلما انتهت من وصفه قال لها أبو معبد : والله هذا صاحب قريش ، ولو وافقته ـ يا أم معبد ـ لإِلتمست ان أصحبه ، ولأفعلن إذا وجدت إلى ذلك سبيلا ، وأخيراً هاجر أبو معبد وزوجته إلى يثرب وأسلما .

وبينما النبي في طريقه إلى يثرب إذ عرض له سراقة بن مالك بن خثعم ـ يريد به شراً ـ فدعا عليه رسول الله ( ص ) فرسخت قوائم فرسه في الأرض ‍‍‍‍‍‍‍! فقال : يا محمد ، ادع الله ان يطلق فرسي وأرجعُ عنك وأرد من ورائي ، فدعا له النبي ، فانطلقت الفرس ، فرجع سراقة ووجد الناس يلتمسون رسول الله ، فقال لهم : إرجعوا ، فقد استبرأت لكم خبره فلم أجد له أثراً ، فرجعوا .

____________________

(١) : أي لم يكن شديد البياض .

(٢) : كناية عن جمال شعر رأسه .

(٣) : قسيم وسيم : أي جميل كله .

(٤) : الدعج : سواد العين مع سعتها .

(٥) : الوطف كثرة شعر الحاجبين والعينين .

(٦) : الصحل : بحة في الصوت .

(٧) : هذه الصفات الأربع لجمال العينين . فالحور : هو اشتداد بياض العين وسوادها واستدارة حدقتها ( كعيون الظبي ) وازج : رفيع الحاجبين .

٤٤
 &

وتابع ركب النبي ( ص ) طريقهم يقطعون السهول والجبال والأودية ، ويتحملون حرّ الهاجرة وجهد السير سبعة أيام حتى أمنوا من طلب قريش .

وخرج ابو ذر في قبيلتي غفار وأسلم ، للقاء النبي ( ص ) فلما دنا منه الركب ، أسرع الى ناقة النبي وأخذ بزمامها وهو يكاد يطير فرحاً بلقائه ، فأخبره أن غفاراً قد أسلم اكثرها ، واجتمع عليه بنو غفار فقالوا له : يا رسول الله ، إن أبا ذر قد علمنا ما علمته ، فأسلمنا وشهدنا أنك رسول الله .

واسرع المتخلفون منهم الى الإِسلام ، وبايعوا النبي وأعلنوا إسلامهم .

ثم تقدمت أسلم ، فقالوا : إنا قد أسلمنا ودخلنا فيما دخل فيه إخواننا وحلفاؤنا ، فأشرق وجه النبي سروراً بنصر الله ، ثم قال : غفار ، غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله .

وإستأنف طريقه ، فلما قارب المدينة قال : من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف .

فمشى أمامه جماعة ، فلما بلغ منازلهم ، نزل فيهم بقبا * في ربيع الأول ، وأراد أبو بكر منه أن يدخل المدينة ، فقال ( ص ) : ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي وابنتي ـ يعني علياً وفاطمة ـ .

واستقبل رسول الله بالتكبير والتهليل ، وكان في استقباله من بني عوف نحو من خمسمائة .

ثم كتب رسول الله ( ص ) من قبا إلى علي ( ع ) ، فلما ورد كتابه الى علي ابتاع ركائب لمن معه من النسوة وتهيأ للخروج ، وأمر من كان قد بقي في مكة

____________________

* : قُبا : أصله اسم بئر ، عُرِفت القرية باسمه ، وكانت مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار . فيها أيام الرسول ( ص ) . وبنى رسول الله مسجده المعروف هناك فسمي « قبا » وهو اليوم في أجمل منطقة من المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام ، وفي أجمل موقع .

٤٥
 &

من ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا ليلاً الى ذي طوي ، وخرج عليه السلام بالفواطم (١) وتبعتهم أم أيمن مولاة رسول الله ، وأبو واقد الليثي ، فجعل ابو واقد يسوق الرواحل سوقاً حثيثاً ، فقال له علي : ارفق بالنسوة يا أبا واقد ، ثم جعل علي يسوق بهن ويقول :

ليس إلا الله فارفع ظنكا

يكفيك رب الناس ما أهمكا

فلما قارب ضجنان (٢) أدركه الطلب ، وكانوا ثمانية فرسان ملثمين معهم مولىً لحرب بن أمية ، إسمه : جناح ، فقال علي عليه السلام لأيمن وابي واقد : انتحيا الإِبل واعقلاها ، وتقدم وأنزل النسوة ، واستقبل القوم بسيفه ، فقالوا : أظننت يا غدار إنك ناج بالنسوة ؟ إرجع ، لا أبا لك .

فقال عليه السلام : فإن لم أفعل ؟! قالوا : لترجعن راغماً ! ودنوا من المطايا ليثورها ، فحال علي بينهم وبينها ، فأهوى له جناح ، فراغ عليٌّ عن ضربته وضرب جناحاً على عاتقه فقدَّه نصفين حتى دخل السيف إلى كتف فرسه . وشد على أصحابه ، فتفرق القوم عنه وقالوا : إحبس نفسك عنّا يا بن أبي طالب ‍‍‍‍!

فقال لهم : إني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول الله ، فمن سرّهُ أن أفريَ لَحمُه ، واريق دمَهُ ، فليدنُ مني !!

ثم أقبل عليه السلام على أيمن وابي واقد ، وقال لهما : أطلقا مطاياكما .

وسار بها ظافراً قاهراً حتى نزل ضجنان ، فلبث بها يومه وليلته تلك هو والفواطم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، حتى طلع الفجر ، فلما

____________________

(١) : الفواطم : هن فاطمة بنت رسول الله ( ص ) وفاطمة بنت أسد ام الإِمام علي ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وفاطمة بنت حمزة راجع سيرة المصطفى / ٢٥٩ .

(٢) : ضَجْنَان : إسم جبل على اربعة فراسخ من مكة .

٤٦
 &

صلوا صلاة الفجر سار بهم حتى قدموا المدينة ، وكان قد تفطرت قدماه ، فلما رآه النبي ( ص ) اعتنقه وبكى رحمةً لما به ، ثم تفل في يديه وأمرَّهما على قدمي علي ودعا له بالعافية ، فلم يعد يشتكي منهما (١) .



____________________

(١) : راجع سيرة المصطفى ٢٥٨ وما بعدها .

٤٧
 &

النبي الأعظم في المدينة

وخرج صلّى الله عليه وآله من قبا يوم الجمعة ، فادركته الصلاة في بني سالم بن عوف ، فصلاها عندهم ومعه مائة من المسلمين ، وبعد الصلاة دعا براحلته فركبها ، والتف حوله المسلمون وهم مدججون بالسلاح ، وكان لا يمر بحي من أحياء الانصار إلا تعلقوا به ، يقولون له : انزل على الرحب والسعة يا نبي الله ، إلى القوة والمنعة والثروة ، فيدعو لهم بالخير ويقول : دعوا الراحلة فإنها مأمورة ، وما زالت تسير به ، وكلما مرَّ بحيٍّ أخذوا بزمامها وألحوا على النزول بينهم وهو يرفض ذلك إلى أن انتهت إلى حيث مسجده الآن فبركت عنده .

فجاء أبو أيوب الأنصاري ، فحط رحله وأدخله منزله ، فقال رسول الله المرء مع رحله ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام ناقة رسول الله وأدخلها داره .

قال زيد بن ثابت : وأول هديةٍ دخلت رسول الله في منزل ابي أيوب ، قصعة مثرودة فيها خبز وسمن ولبن ، فقلت : أرسلت بهذه القصعة أمي ، يا رسول الله ، فقال ( ص ) : بارك الله فيك وفي أمك ، ودعا أصحابه فأكلوا .

ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة . وما كان من ليلةٍ من الليالي إلا وعلى باب رسول الله ( ص ) الثلاثة والأربعة يحملون الطعام ، يتناوبون ذلك ، حتى فرغ رسول الله من بناء مسجده ومنازله ، وتحول عن منزل أبي أيوب ، وكان

٤٨
 &

مقامه فيه سبعة أشهر .

واهتم رسول الله ( ص ) بتوكيد الروابط بين المهاجرين والانصار ، وتأصيلها في نفوسهم على أساس التقوى والإِيمان ، فآخى بين المهاجرين والأنصار ، وأطفأ بهديه وبراعته نار الحقد بين الأوس والخزرج ، ولم يكتف ( صلّى الله عليه وآله ) بذلك ، بل حاول جاهداً تحقيق الوحدة بين جميع سكان يثرب من المسلمين والمشركين وأهل الكتاب من اليهود ، مخافة أن تثور بهم البغضاء والعصبيات وتعصف بهم الأحقاد فيصبح حينئذٍ بين خطرين ، خطر من داخل المدينة ، وخطر قريش ، وعندها يصاب هذا الدين الجديد بالنكسة ، لذلك كان ( ص ) قد أحكم الأمر فعقد معاهدةً بين المسلمين والفئات الأخرى من أهل المدينة ليحفظ وحدتها ويصون اهلها ويغلق الباب على المفسدين ، ولولا هذا التدبير الرائع ، لواجه صلوات الله عليه صعوبات ومشاق لا تقل في حجمها عن تلك التي واجهها من قريش في مكة .

والكلمة الأخيرة : فإن موقف الأنصار من الرسول والمهاجرين معه كان أشرف موقف يسجله تأريخ أمة ، نصروهم بعد أن خذلهم قومهم ، وقاسموهم آموالهم ، وآثروهم على انفسهم ووفروا لهم وسائل العمل حتى أصبح الكثير منهم في مصاف الأثرياء من أهل المدينة ، وقد أجمل الإِمام علي عليه السلام موقف الأنصار من المهاجرين بقوله مخاطباً مسلمي قريش :

« إن حب الأنصار إيمان ، وبغضهم نفاق ، وقد قضوا ما عليهم ، وبقي ما عليكم ، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله الى المدينة ، وكره له قريشاً فنقله إلى الأنصار ، ثم قدمنا عليهم دارهم ، فقاسمونا الأموال ، وكفوْنا العمل ، فصرنا منهم بين بذل الغني وايثار الفقير ، ثم حارَبنا الناسُ فوقوْنا بأنفسهم ، وقد أنزل الله تعالى فيهم آيةً من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نِعَم فقال : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ

٤٩
 &

إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .



____________________

(١) شرح النهج ٦ / ٣٣ ـ ٣٤ .

٥٠
 &

بين الرسول الأعظم والمقداد

في خلال السنة الأولى للهجرة كان المقداد لا يزال ـ هو وبعض المستضعفين ـ في مكة ، وليس من السهل أن يغادرها إلى المدينة سيما وانه حليف للأسود بن عبد يغوث ـ كما قدمنا ـ فإنه لو فعل لكان مصيره إلى القتل بلا أدنى شك ، لذلك كان يترقب فرصةً سانحةً يمكنه معها الفرار إلى يثرب واللقاء بالرسول والإِلتحاق بركبه ، حتى كانت سرية حمزة بن عبد المطلب وكان معها الخلاص ، فقد خرج مع المشركين يوهمهم أنه يريد القتال معهم ، وهكذا إنحاز إلى سرية حمزة ورجع معه الى المدينة .

وكان نزوله في المدينة على رسول الله ( ص ) في ضيافته ، ولم يكن وحده بل كانوا جماعة ، ومن الواضح أن وضع المسلمين الإِقتصادي ـ في تلك الفترة ـ كان متردّياً إلى درجةٍ بعيدة ، بل يظهر أنهم كانوا يعانون الفقر المدقع ـ لولا مساعدة الأنصار لهم ـ فقد تركوا كل ما لديهم من مال في مكة وخرجوا منها صفر اليدين ، لا يملكون إلا أبدانهم وثيابهم ، ورواحلهم ، وليس من الوارد أن يكونوا في خلال ستة أشهر ، أو تسعة ، في وضع إقتصادي مريح على الأقل ، سيما وأن النفقة ـ الصادر ـ اكثر من الوارد ، فبناء المسجد ، وبناء الدور ـ وان كانت من جريد النخل مغروساً بالطين ـ تتطلب بذل مالٍ كثير نسبةً لذلك الوقت وتلك الظروف .

وقوافل المسلمين الجدد الذين كانوا يأتون المدينة لم تقف عند حد الهجرة ، هجرة النبي ، بل توالت ، فكان على الرسول ( ص ) والمسلمين أن يستقبلوا

٥١
 &

ضيوفهم ، وأن يهيئوا لهم ما يحتاجون من متطلبات الحياة الضرورية على الأقل .

فكان إذا هاجر بعض المسلمين ، وزّعهم رسول الله ، اثنان اثنان ، أو ثلاثة ثلاثة . . أو . . حسب العدد على إخوانهم المهاجرين الذين استقرت بهم الدار في المدينة وأصبحوا قادرين على النهوض بأنفسهم وعوائلهم .

والذي يظهر ، أن المقداد كان من جملة أولئك الوافدين المهاجرين الجدد ، وكان في عدد لا يستهان به ، كما يلحظ ذلك في مطاوي كلامه ، فقد ذكر أحمد بن حنبل بسنده عن المقداد ، قال :

لما نزلنا المدينة ، عشرنا رسول الله ( ص ) عشرةً عشرةً في كل بيت ! قال : فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله (١) .

إلا أن هذه الإِقامة في بيت الرسول لا تكون طويلةً بحسب العادة ، إذ يتخللها بعوثٌ وسرايا وغزوات ، قد يطول أمدها ، وعند العودة يتبدّلُ المكان ، سيّما إذا اخذنا بعين الإِعتبار ما لرسول الله ( ص ) من هيبةٍ في نفوس المسلمين تزرع في نفوسهم الخجل من أن يكلموه في النزول عليه وفي ضيافته .

يستفاد ذلك من حديث آخر مروي عن المقداد ، حيث قال : أقبلتُ أنا وصاحبان لي وقد ذهبتْ أسماعُنا وأبصارُنا من الجَهْد (*) فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله ( ص ) فليس أحد منهم يقبلنا . » لا لبخل فيهم ، بل لأنهم كانوا مقلّين ليس عندهم شيء ! « فأتينا النبي ( ص ) ، فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ! » .

فقال النبي ( ص ) : إحتلبوا هذا اللبن بيننا .

____________________

(١) : لإِستيعاب ( على هامش الإِصابة ) ٣ / ٤٧٦ .

(*) : الجهد : الجوع والتعب والمشقة .

٥٢
 &

قال : فكنا نحتلب ، فيشرب كل انسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي ( ص ) نصيبه . فيجىء ( ص ) ليلاً فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ، ويسمع اليقظان ، ثم يأتي المسجد فيصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب . (١) .

وفي هذه الأثناء تحصل مواقف نادرة بينه ( ص ) من جهة وبين اصحابه من جهةٍ أخرى ، وهي بالإِضافة إلى ما تنطوي عليه من اقتباس الحكمة منه صلوات الله عليه والتوجيه الرفيع ، فإنها لا تخلو من ظرف وخفة روح من جانب بعض أصحابه أحياناً ونجده في هذه الحالات يعاملهم معاملة الأب لأبنائه دون قسوةٍ او غلظة وربما أنبههم إلى الخطأ أو الغلط بأسلوب هادىء مقنع لا يملك معه مستمعوه إلا الإِذعان والإِنقياد ولوم النفس على التفريط إن كان هناك تفريط أو تسامح ، كما حصل للمقداد حين كان في ضيافته صلّى الله عليه وآله على ما جاء في تتمة الرواية .

قال : فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ ، وقد شربتُ نصيبي ـ من اللبن ـ فقال : محمدٌ يأتي الأنصارَ فيتحفونه ، ويصيب عندهم ، ما به حاجة إلى هذه الجرعة .

فأتيتها فشربتها ، فلما أن وغلت (٢) في بطني ، وعلمتُ أنه ليس إليها سبيل ، ندَّمني الشيطان ، فقال : ويحك ؟ ما صنعتَ ؟ أشربتَ شرابَ محمد فيجيء فلا يجده ، فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وآخرتك . !

وعليّ شملة ، إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي . وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت .

قال : فجاء النبي ( ص ) فسلّم كما كان يُسلّم ، ثم أتى المسجد ، فصلى

____________________

(١) للرواية تتمة تأتي .

(٢) وغلت : أي استقرت وتمكنت في بطنه .

٥٣
 &

ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيءً ، فرفع رأسه الى السماء .

فقلت : الآن يدعو عليّ فأهلك ، فقال : « اللهم أطعم من أطعمني ، واسقِ من سقاني . » قال : فعمدت الى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة ، فانطلقت الى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله ( ص ) ، فإذا هي حافلة (١) واذا هن حفل كلهن ، فعمدت الى إناءٍ لآل محمد ( ص ) ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه . قال : فحلبت فيه حتى علته رغوة ، فجئت إلى رسول الله ( ص ) فقال :

أشربتم شرابكم الليلة ؟

قال : قلت : يا رسول الله ؟ اشرب .

فشرب ، ثم ناولني ، فقلت : يا رسول الله ، إشرب . فشرب ، ثم ناولني .

فلما عرفت أن النبي قد روي ، وأصبتُ دعوته ، ضحكتُ حتى القيت إلى الأرض .

قال : فقال النبي ( ص ) : إحد سوآتك (٢) يا مقداد .

فقلت : يا رسول الله ، كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا .

فقال ( ص ) : ما هذه إلا رحمةٌ من الله (٣) آفلا كنتَ آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها .

قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ؛ ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك

____________________

(١) : حافلة : أي أن ضرعها ملآن باللبن .

(٢) : احدى سوآتك : أي انك فعلت سوآة من الفعلات ، فما هي ؟

(٣) : اي أن أحداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته ، رحمة من الله .

٥٤
 &

من أصابها من الناس (١) .

هذا موقف لأبي معبد ينطوي على شيء من الظرف وخفة الروح ، بالإِضافة إلى إستشعاره الخطيئة حين عمد إلى شراب محمد ( ص ) فشربه ، ولاحظنا أن موقف النبي منه كان موقف الشفيق العطوف الرحيم الذي ينظر إلى أصحابه بميزان خاص يتلائم مع عقولهم ونفوسهم ، وربما تلاحظ معي أن الرسول الكريم ـ كما يظهر من الحديث ـ تمنى لو أن المقداد أيقض صاحبيه ليصيبا معهما الشراب ، شراب ذلك اللبن المبارك .

وموقف آخر لأبي معبد مع الرسول ، تتجلى فيه عظمة الإِسلام ، ونبي الإسلام ، كان من جملة المواقف التي خلدت على الزمان بما تحمل من نبل كلمة وسمو خلق ، ورفيع مستوى في التوجيه والتهذيب ، بل وغرس الروح الإِنضباطية لدى المسلم .

فقد سأله ذات مرة : يا رسول الله ، أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار ، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ، فقطعها ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ؛ أفأقتله ـ يا رسول الله ـ بعد أن قالها ؟!

قال رسول الله ( ص ) : لا تقتله .

قال : فقلت : يا رسول الله ، انه قطع يدي ! ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟

قال رسول الله ( ص ) : لا تقتله . فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ! وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال . ! (٢)

ويلاحظ هنا مدى ارتقاء الإِسلام بالنفس البشرية إلى آعالي قمم الكرامة

____________________

(١) : صحيح مسلم ج ٣ ك ٣٦ ص ١٦٢٥ ـ ١٦٢٦ ح ١٧٤ .

(٢) : صحيح مسلم ج ١ ك ١ ص ٩٦ ح ١٥٥ ـ ١٥٦ ـ ١٥٧ .

٥٥
 &

والإنسانية ، كلمة واحدة فقط من لسانٍ صادق كفيلة بإنقاذ حياة صاحبها من موتٍ محتم .

أي عمق هذا في تعزيز الروح الإِنسانية ، وأي صيانةٍ لها ؟؟ هكذا الإِسلام دائماً يهتم بصيانة النوع وحمايته ، فكلمة صادقة ، كفيلة في ان تقلب الموازين وكلمة صادقة ، هي مرآة للنفس تعكس آلامها وآمالها ، وليس للحقد في دنيا الإِسلام مكان .

انه موقفٌ شواهد الحكمة فيه ، ومعه .

٥٦
 &

من مواقفه البطولية

* في سرية « نخلة » . ينقذ أسيراً فيسلم .

* في غزوة بدر الكبرى

* غزوة احد

* غزوة الغابة

* عزوة خيبر

٥٧
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMeqdad-Aswadimagesrafed.jpg

٥٨
 &

في سرية « نخلة » * ينقذ أسيراً ، فيسلم !

بعد سبعة عشر شهراً من الهجرة ، أراد النبي ( ص ) أن يتتبع أخبار قريش ، ويتحسس تنقلاتها ، ويرصد تحركاتها في المنطقة ، فدعا عبد الله بن جحش ، وأمره أن يوافيه مع الصباح بكامل سلاحه .

قال : فوافيت الصبح وعلي سيفي ، وقوسي ، وجعبتي ، ومعي درقتي ، فصلى النبي ( ص ) الصبح بالناس ، ثم انصرف فوجدني قد سبقته واقفاً عند باب داره ومعي نفر من قريش .

فدعا رسول الله ( ص ) أبي بن كعب ، فدخل عليه ، فأمره أن يكتب كتاباً .

ثم دعاني ( ص ) فأعطاني صحيفةً من أديم خولاني فقال : قد استعملتك على هؤلاء النفر ، فامضي حتى إذا سرت ليلتين ، فانشر كتابي ، ثم امضي لما فيه .

قلت : يا رسول الله ، أي ناحية أسير ؟ فقال : اسلك النجديّة ، تؤم رُكيّة ( بئر ) .

فانطلق عبد الله ، حتى إذا صار ببئر ضمرة نشر الكتاب فإذا فيه :

« سر حتى تأتي بطن نخلة على إسم الله وبركاته ، ولا تكرهنَّ أحداً من

____________________

* : سميت باسم المكان ، وهو بطن نخلة : « قرية قريبة من المدينة » . هكذا قال ياقوت .

٥٩
 &

أصحابك على المسير معك ، وامضِ لأمري فيمن تبعك حتى تأتي « بطن نخلة » فترصَّدْ بها عِيرَ قريش » .

فقرأ عبد الله الكتاب على أصحابه ، ثم قال : لست مستكرهاً منكم أحداً ، فمن كان يريد الشهادة ، فليمضِ لأمر رسول الله ( ص ) ومن أراد الرجعة ، فمن الآن . !

فقالوا جميعاً : نحن سامعون ومطيعون لله ولرسوله ولك ، فسر على بركة الله حيث شئت .

فسار حتى جاء نخلة ، فوجد عيراً لقريش فيها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبدالله وهم من بني مخزوم .

وكان ذلك اليوم مشتبها في أنه آخر يوم من رجب ، أو اول يوم من شعبان . ورجب من الأشهر الحرم ، فقال قائل : لا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم ، أم لا ؟

وقائل يقول : إن اخرتم عنهم هذا اليوم ، دخلوا في الحَرم ـ حرم مكة ـ وإن أصبتموهم ، ففي الشهر الحرام .

هذا ، مع أن النبي صلوات الله عليه لم يأمرهم بالقتال ، وانما أمرهم بمراقبة تحركاتهم .

وكان رأي واقد بن عبد الله ، وعكاشة بن محصن مقاتلتهم ، وأخيراً غلبَ رأيهم على رأي من سواهم ، فشجُعَ القوم ، فقاتلوهم .

فخرج واقد بن عبد الله يقدم القوم ، قد أنبض قوسه وفوّق بسهمه ـ وكان لا يخطىء رميته ـ فرمى عمرو بن الحضرمي بسهم ، فقتله .

وأسِرَ عثمان بن عبد الله ، وحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله .

٦٠