المقداد ابن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

المقداد ابن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

« فقد عقد رسول الله ( ص ) لعمه حمزة لواءً أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعرضوا عِير قريش ، وكان هو وصاحب له ، يقال له : عمرو بن غزوان لا زالا في صفوف المشركين ، فخرجا معهم يتوصلان بذلك ، فلما لقيهم المسلمون إنحازا إليهم » (١) فكانت بداية الجهاد الطويل ! .



____________________

(١) : الكامل ٢ / ١١١ وقيل : التحقا بالمسلمين في شوال حين بعث النبي ( ص ) سريةً بقيادة عبيدة بن الحارث . راجع نور اليقين / ١٠٨ .

٢١
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMeqdad-Aswadimagesrafed.jpg

٢٢
 &

مع الرسول الأعظم في دار هجرته

* عام الحزن

* اول هجرة للرسول

* خروجه إلى الطائف

* النبي ( ص ) يعرض نفسه على القبائل

* دخول الإِسلام يثرب

* الإعداد للهجرة

* مبيت علي عليه السلام في فراش النبي ( صلى الله عليه وآله )

* الهجرة

* النبي الأعظم في المدينة

* بين الرسول الأعظم والمقداد

٢٣
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMeqdad-Aswadimagesrafed.jpg

٢٤
 &

مع الرسول الأعظم في دار هجرته

عام الحزن

قال الشيخ الأبطح * لعائديه من قريش :

« لن تزالوا بخيرٍ ما سمعتم من محمدٍ واتّبعتم أمره ، فأطيعوه تنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم » . .

كانت هذه الكلمات الرحيمة تتهدل بين شفتي أبي طالب ـ عمّ الرسول وكافله ـ وهو يُزمعُ الرحيل عن هذه الدنيا ، فقد إشتد به المرض بعد أن تخطّى الثمانين من عمره واثقلت الهمومُ كاهله ، وبينما كان النبي ( ص ) خارجاً لبعض حوائجه ، إذا بالناعي ينعىٰ له عَمه .

أقبل النبي صلّى الله عليه وآله مسرعاً نحو البيت الذي فيه عمه أبو طالب حتى إذا وصل إليه مسح جبينه الأيمن ثم مسح الأيسر ـ كما كان هو يمسح جبين النبي ـ ثم رثاه بهذه الكلمات :

« رحمك الله يا عم ، ربيتَ صغيراً وكفلتَ يتيماً ، ونصرتَ كبيراً ، فجزاك الله عني وعن الإِسلام خير جزاء العاملين المجاهدينَ في سبيله بأموالهم وأنفسهم » . ثم بكى صلّى الله عليه وآله وأبكى من كان حول عمه أبي طالب .

____________________

* : لقب أبي طالب .

٢٥
 &

أبو طالب ، هذا الذي لم يترك النصح والنصرة لابن أخيه حتى آخر لحظةٍ من لحظات حياته ، ترك غيابه فراغاً في حياة النبي ( ص ) ترجمته لنا دموع النبي ، وأفصح عنه حزنه وأساه عليه .

وما مضت أيام على موت أبي طالب ، حتى واجه النبي مصيبةً أخرى ليست بأقل من مصابه بعمه ، فها هي خديجة أيضاً تحتظر ! خديجة التي بذلت مالها وحياتها في نصرة محمد صلّى الله عليه وآله وانجاح رسالته . . صاحبة اليد الكريمة التي كانت تمسح دموع محمد وآلامه وأحزانه . . هذه اليد بدأت ترتعد من وطأة المرض أيضاً . . وماتت خديجة ! بذلك فقد محمد ( ص ) عمه الذي رباه ونصره وضحى لأجله خلال أربعين عاماً أو تزيد ، كما فقد زوجته التي بذلت له مالها وواسته في جميع الخطوب ، والتي كانت تود أن تتحمل عن كل شيء ليسلم لرسالته .

هاتان الفاجعتان الأليمتان في أيام معدودات ، كل واحدة منهما على انفرادها تكفي لأن تترك أقوى النفوس كليمة مضعضعة ! فكيف وقد اجتمعتا على محمد ( ص ) في عام واحد ! لذلك ، فقد سمي هذا العام بعام « الحزن » .

ووجدت قريش في موت أبي طالبٍ وخديجةَ ثغرةً واسعة يمكن معها النيْلُ من محمد ومضايقته ومطاردتهُ ، فأبو طالب كان الدرع الواقي والحصن الحصين للنبي ، وقريشٌ مهما بلغ بها التعسّفُ والحقد فإنها لن تستطيعَ الوصولَ إلى محمدٍ وأبو طالب حيّ ، أما الآن فقد هوى ذلك الحصن ، بل بالأحرى ذلك العملاق ، وبقي محمدٌ وحده في الساحة معه لفيف من الدهماء وبعض العبيد ، وقليل من بني هاشم ليسوا بذات أثر في نظر قريش ! لذلك فقد جدّت قريش في إيذائه والتنكيل بأصحابه ، وكان من أيسر أنواع الأذى الذي أنزلته به ـ بعد فقد عمه ـ أن مرّ عليه أحد سفهاء قريش ، فاغترف بكلتا يديه من التراب والأوساخ ، وألقاها على

٢٦
 &

وجهه ورأسه .

فدخل بيته وهو بهذه الحالة ، فقامت إليه ابنته فاطمة وكانت أصغر بناته ـ وهي حديثة عهد بفاجعة أمها خديجة ـ فجعلت تغسل رأسه وتميط عنه التراب وتبكي ، فالتفت اليها صلّى الله عليه وآله ومسح رأسها بكلتا يديه وقال لها : لا تبكي يا بنية فإن الله مانع آباك وناصره على أعداء دينه ورسالته .

لقد كان هذا العام عام الحزن والأذى والأسى ، إلا أنه كان إيذاناً بمرحلةٍ انتقالية جديدة في حياة الرسول والرسالة . تلك هي مرحلة الإِنتقال من الدعوة إلى الدولة .

٢٧
 &

أول هجرةٍ للرسول ( ص )

جاء في شرح النهج :

أن أول هجرة له كانت إلى بني عامر بن صعصعة وإخوانهم من قيس عَيْلان ، ولم يكن إلا عليٌّ عليه السلام وحده ، وذلك عقيب وفاة أبي طالب .

فقد أوحي إليه صلّى الله عليه وآله : أُخرج منها ، فقد ماتَ ناصرُك ! فخرج إلى بني عامر بن صعصعة ، فعرض نفسه عليهم وسألهم النُصرة َ ، وتلا عليهم القرآن ، فلم يجيبوه ! فعادا عليهما السلام إلى مكة . وكانت مدّة غيبته في هذه الهجرة عشرة ايام ، وهي أول هجرةٍ هاجرها صلّى الله عليه وآله بنفسه (١) .



____________________

(١) : راجع شرح النهج ٤ / ١٢٨ .

٢٨
 &

خروجه إلى الطائف

وحين اشتد ايذاء قريش للنبي ( ص ) خرج متخفياً في مكة ومعه ابن عمه علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة ، وقصد الطائف ليعرض نفسه على ساداتها من ثقيف ، وكانوا ثلاثة إخوة : عبد ياليل ، ومسعود بن عمرو ، واخوهما حبيب بن عمرو ، فدعاهم إلى نصرته والقيام معه على من خالفه .

فقال أحدهم : ما ردٰ يمرطُ ثيابَ الكعبةِ إن كان اللهُ أرسلك !

وقال آخر : أما وجَدَ الله من يرسلُهُ غيركَ ؟!

وقال الثالث : والله لا أكلّمُكَ كلمةً أبدا : لئن كنت نبياً كما تقول ، فأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ؛ ولئن كنت كاذباً على الله فما ينبغي لي أن أكلمك .

فقام رسول الله ( ص ) وقد يئس منهم ، وقال لهم : إذا أبيتم ، فاكتموا علي ذلك ، وقد كره أن يبلغ قريشاً ذلك فيجرأون عليه .

وبقي صلّى الله عليه وآله في الطائف عشرة أيام يدعو أهلها للإِسلام فلم يسمعوا منهم ، وأغروا به سفهائهم وعبيدهم حتى اجتمع عليه الناس وقذفوه بالحجارة .

فالتجأ إلى حائط ـ بستان ـ لِعُتبةَ وشيبة إبنا ربيعة ـ وكانا فيه ـ والدماء تسيل من ساقيه ، فجلس في ظل شجرة وجعل يدعو بهذا الدعاء :

٢٩
 &

« اللهم إني أشكو إليكَ ضَعفي وقِلّةَ حيلتي وهَواني على الناس يا أرحَم الراحمين أنت ربُّ المستضْعَفِينَ وربيّ إلى منْ تَكلُني إلى بعيدٍ يتجهمني أم إلى عَدوٍّ ملّكتَهُ أمري ، إنْ لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسعُ لي ، أعوذ بنورِ وجهِكَ الذي أشرَقَتْ له الظلماتُ وصَلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أَنْ تُنزلَ فييَّ غضبَكَ أو يَحلّ عليّ سخطُك ، لك العُتبى حتىٰ ترضىٰ ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بك » .

جعل يدعو بهذا الدعاء وابنا ربيعة ينظران إليه ، فأشفقا عليه ، وتحركت له رحِمَهُما ، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً إسمه : عدّاس ، وقالا له : خذ قطفاً من هذا العنب واذهب به إلى ذلك الرجل .

ففعل فلما وضعه بين يدي رسول الله ( ص ) وضع يده فيه وقال : بسم الله .

فقال عداس : والله أن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة !!

فقال له النبي ( ص ) : من أي البلاد أنت ؟ وما دينك يا عداس ؟

قال : أنا نصراني من أهل نينوى !

فقال ( ص ) : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متّى ؟

فقال : وما يدريك ما يونس بن متّىٰ !

فقال ( ص ) : ذاك أخي ، كان نبياً وأنا نبيٌّ !

فاكبَّ عداس على يدي رسول الله ( ص ) ورجليه يقبلهما ، هذا وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويقول أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك .

ولما رجع إليهما عداس قالا له : ويحك يا عداس ، ما الذي أعجبك من هذا الرجل حتى قبّلتَ رأسه وقَدَميهِ ! إحذرْ أن يصرفْكَ عن دِينِك .

٣٠
 &

فقال عداس : يا سيديَّ ، ما في الأرض خيرٌ من هذا الرجل ، لقد اخبرني بأمرٍ لا يعلمه إلا نبي .

وانصرف رسول الله ( ص ) راجعاً إلى مكة بعد أن يئس من أهل الطائف وسادتهم ، لكن أنباء رحلته هذه كانت قد تناهت الى قريش ، فاستعدوا لآذاه ، لذلك فإنه صلوات الله عليه قبل أن يدخل مكة أرسل إلى بعض ساداتها يطلب منهم : أن يجيروه فامتنعوا عن إجارته إلا المُطْعِمُ بن عدي فإنه قبل إجارته ، وقال للرسول : نعم فلِيدخل ! وأصبح المطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه ، فدخل المسجد ، فرآه ابو جهل وقال له : أمجيرٌ أنت ، أم متابع ؟

قال : بل مجير ! فقال أبو جهل : قد أجرنا من أجرت .

عند ذلك مضى النبي ( ص ) حتى دخل مكة ، وجعل يتابع تبليغ رسالته في جوار المعطم بن عدي .

٣١
 &

النبي ( ص ) يعرض نفسه على القبائل

وكان النبي صلّى الله عليه وآله يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب .

فأتى كندة في منازلهم وفيهم سيّدٌ لهم يقال له : مليح ، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم ، فأبوا عليه !

ثم أتى قبيلة ( كلب ) إلى بطن منهم يقال لهم ، بنو عبد الله ، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم ، فأبوا عليه ، ولم يقبلوا ما عرضه عليهم .

ثم أتى « بني عامر » فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ! فقال له رجل منهم :

أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك ؛ أيكون لنا الأمر على من بعدك ؟!

فقال ( ص ) : الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء !

قال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا ظهرتَ كان الأمر لغيرنا !؟ لا حاجة لنا بأمرك .

فلما صدر الناس عن الموسم ، رجع بنو عامر إلى شيخ لهم مسن كانوا يحدثونه بما يجري معهم في الموسم ، فسألهم عما جرى لهم ، فقالوا : جاءنا رجل من قريش ، ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي ! يدعونا

٣٢
 &

إلى أن نمنعه ، ونقوم معه ، ونخرج به الى بلادنا !

حين سمع الشيخ ذلك ، وضع يديه على رأسه ، ثم قال : يا بني عامر ؛ هل لها من تلافٍ ، هل لذناباها من مطّلِبْ ؟ والذي نفس فلانٍ بيده ما تقوّلها إسماعيلي قط ، وانها لحَقْ ! فأين كان رأيكم عنكم ؟

ثم أتى ( ص ) بني حنيفة وعرض عليهم نفسه ، فلم يكن أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم . وفي هذه الفترة كان عمه أبو لهب يسير خلفه ويصد الناس عنه (١) .



____________________

(١) مقتضب من السيرة النبوية لإِبن هشام ٢ / ٥٠ إلى ٥٢ .

٣٣
 &

دخول الإِسلام يثرب

وكان أهل المدينة يحجون إلى البيت كغيرهم من العرب ، فقدم منهم جماعة إلى مكة والتقوا برسول الله ( ص ) ، فسألهم ( ص ) إلى أي القبائل ينتمون ؟ فقالوا له من الخزرج . فقال لهم : أمن موالي يهود أنتم ؟ قالوا : نعم : فجلس إليهم صلّى الله عليه وآله وعرض عليهم الإِسلام ودعاهم إلى الله عز وجل ، وتلا عليهم شيئاً من القرآن ، فقال بعضهم لبعض : إنه والله النبي الذي كان اليهود يتوعدونكم به ، فلا يسبقونكم إليه ، فأجابوه فيما دعاهم إليه ، وكان عددهم ستة ، (١) ثم أخبروه أن العداء بين قومهم ـ الأوس والخزرج ـ مستشرٍ ، والقتل بينهم مستمر ، وانهم سيقدمون عليهم ويدعونهم للإِسلام عسى الله أن يجمعهم على يده ويجيبون دعوته .

فانصرفوا راجعين إلى بلادهم ، فلما قدموا على قومهم ذكروا لهم ما جرى بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله ودعوهم إلى الإِسلام حتى فشا بينهم ، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيه ذِكرٌ لرسول الله صلى الله عليه وآله .

فلما كان العام الثاني ، وفد من أهل يثرب إلى مكة إثنا عشر رجلاً ، فإلتقوا بالنبي ( ص ) في مكان يقال له : العقبة ، فبايعوه على بيعة

____________________

(١) : وهم : عبّادة بن الصامت ، وأسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، وذكوان بن عبد قيس . راجع السيرة ٢ / ٥٦ .

٣٤
 &

النساء ، وكان من بينهم عبَادةُ بن الصامت ، قال : بايعنا رسول الله على أن لا نُشركَ بالله شيئاً ، ولا نَسْرق ، ولا نزني . ولا نقتل أولادَنا ، ولا نأتي ببُهتانٍ نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه بمعروف .

وبعث رسول الله معهم مصعب بن عمير ، وأمره أن يُقرئهم القرآن ، ويعلِّمهم الإِسلام ، ويفقِّههم في الدين ، فأقبل معهم ونزل ضيفاً على أسعد بن زرارة .

وقد أسلم بعد ذلك سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وأسلم معهما قومهما . في حديث يطول .

وفي السنة التالية أقبل مصعب بن عمير ومعه جماعة من المشركين والمسلمين من أهل المدينة قاصدين مكة لأداء المناسك والإِجتماع برسول الله ( ص ) ، فالتقوا به سراً ، وتواعدوا أن يجتمعوا معه بالعقبة ليلاً بعد أن ينام الناس ليتذاكروا أمر الدعوة وليعرضوا إسلامهم عليه .

قال كعب بن مالك في حديث له : وجاءت الليلة التي واعدنا رسول الله فيها ومعنا عبد الله بن عمر بن حزام ـ وهو من ساداتنا ـ أخذناه معنا ونحن نتكتم عمن معنا من المشركين فتكلمنا معه في الإِسلام ، ودعوناه إليه ، وأخبرناه بإجتماعنا بالرسول ، فأسلم وحضر معنا بيعة العقبة ، ونمنا تلك الليلة حتى إذا مضى من الليل الثلث ، خرجنا من رحالنا نتسلل تسلل القطا حتى لا يحس بنا أحد ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ، ومعنا امرأتان لا غيرهما ، نسيبة بنت كعب ، واسماء بنت عمرو بن عدي ، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ( ص ) ، حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب ـ وهو على دين قريش ـ وقد أحب أن يرى موقفنا من النبي ويتوثق منه ، فلما جلس النبي ( ص ) وجلسنا حوله كان العباس أول المتكلمين .

فقال : يا معشر الخزرج ؛ إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من

٣٥
 &

قومنا وانه أبى إلا الإنحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده .

ثم تكلم رسول الله ( ص ) ، فتلا شيئاً من القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغب في الإِسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم .

فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع أزرنا (١) . فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أبناء الحروب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر .

وتكلم بعده أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وانا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا . ؟

فتبسم رسول الله ( ص ) ثم قال : بل الدَمُ الدم ، والهدْمُ الهدْم (٢) أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم (٣) .

ثم أمرهم رسول الله أن يختاروا منهم أثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم يتحملون المسؤولية تجاه رسول الله فاخرجوا منهم اثني عشر نقيباً (٤) تسعة من

____________________

(١) : الإِزار : كناية عن المرأة ، وكناية عن النفس أيضاً .

(٢) : قال ابن قتيبة : كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار : دمي دمُك ، وهدمي هدمك ، أي ما هدمت من الدماء هدمته انا ، وما يجري عليك يجري علينا ؛ وقد يقصد بالهدم ، الجلاء والإِرتحال .

(٣) : راجع السيرة لإِبن هشام ٢ / ٦٤ وما قبلها .

(٤) : واسماءهم كالتالي : سعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن =

٣٦
 &

الخزرج ، وثلاثة من الأوس .

ولما اجتمعوا للبيعة ـ بعد اختيار النقباء ـ قال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري :

يا معشر الخزرج ، هل تدرون على مَ تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم . قال : إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا انهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً ، أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال (١) وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة .

قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك ـ يا رسول الله ـ إن نحن وفينا ؟ قال : الجنة .

قالوا : ابسط يدك ؛ فبسط يده ، فبايعوه على ذلك .

وكان أول من ضرب يده على يد رسول الله سعد بن زرارة ، وقيل : الهيثم بن التيهان ، وتتابع القوم يتسابقون على بيعته .

وتطاير الخبر الى مشركي مكة بما جرى للنبي مع الأوس والخزرج ،

____________________

= مالك ، والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حزام ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة ، وكلهم من الخزرج . ومن الأوس : أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر . سيرة بن هشام / ٦٥ .

(١) : نهكة الأموال : نقصها .

(٢) : راجع سيرة المصطفى / ٢٣٤ وفي سيرة ابن هشام : عن كعب بن مالك قال : فلما بايعنا رسول الله ( ص ) صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب ـ المنازل ـ هل لكم في مذَمّمْ والصبأة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ! قال ، فقال رسول الله ( ص ) : هذا أزَبُّ العقبة ! أتسمع ـ أي عدو الله ـ أما والله لأفرغن لك . السيرة ٢ ـ ٦٧ . وأزب العقبة : إسم شيطان ، والمنازل : منازل منى .

٣٧
 &

فاجتمع وجوه القرشيين ، واقبلوا إلى الأنصار حيث ينزلون ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، لقد بلغنا أنكم جئتم الى صاحبنا محمد لتخرجوه من بين أظهرنا ، وتبايعوه على حربنا ، وانه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم !

فاسرع جماعة من مشركي الأوس والخزرج ممن لم يكونوا قد علموا بشيء مما جرى وحلفوا لهم بالله إنه لم يكن مما يقولون شيء ، فصدقوا وانصرفوا .

ولما انتهى موسم الحج ، ورجع الأنصار ، ايقنت قريش بالأمر ، فخرج جماعة في طلبهم فادركوا سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ـ وهما من النقباء الإِثني عشر ـ واستطاع المنذر أن يفلت من أيديهم ، وأمسكوا بسعد وربطوا يديه إلى عنقه وادخلوه مكة مكتوفاً وهم ينهالون عليه بالضرب ، ويقذعون له بالشتم حتى خلصه جبير بن مطعم ، والحارث بن حرب بن أمية .

٣٨
 &

الإِعداد للهجرة

ولم تكن قريش تتوقع هذا التطور المفاجىء في حركة محمد ( ص ) فقد كانت حركته بادىء الأمر منحصرةً داخل مكة فكان هو وأصحابه تحت قبضة قريش وسلطانها ! أما بعد مبايعة أهل يثرب له على حرب الأحمر والأسود ، فإن هذا يعني فتح جبهةٍ عسكرية واسعة ضد قريش يمكن أن تلهب معها الحرب في أي لحظة ! كما يعني إنتشار الإِسلام في ارجاء الجزيرة ، وسقوط هيبة قريشٍ من أعين العرب ! وعندها تخسر كل شيء .

لذلك ، بدأ القرشيون يفكرون في فرض مخطط جديد يحول دون ذلك ، ولكن بعد فوات الآوان .

أما رسول الله ، فهو بدوره أيضاً فكر أن يهاجر ، ولكن ما كان ليقطع أمراً دون أمر الله ووحيه ، حتى إذا نزلت الآيات المباركات التي تأذن له بالقتال :

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) (١)

____________________

(١) : الحج ـ آية ٣٩ ـ ٤٠ ـ ٤١ .

٣٩
 &

عند ذلك أمر رسول الله أصحابه أن يلحقوا بالأنصار في يثرب على ان يتركوا مكة متفرقين يتسللون ليلاً ونهارا حتى لا يثيروا قريشاً فتقف في طريقهم ، وهكذا انطلقوا من مكة يتسللون في جوف الليل ـ كما أمرهم الرسول ـ أفراداً وجماعات ، وأحست قريش بذلك ، فردت من استطاعت ارجاعه ، وفرقت بين الزوج وزوجته وأخذت تنكل بكل من وقع تحت قبضتها دون القتل لأن المهاجرين اكثرهم من القبائل المكية ، والقتل قد يثير حرباً اهلية تكون لصالح محمد في النهاية .

وأخذ المسلمون يتوافدون إلى المدينة أفواجاً في ظل ضيافة الأنصار وترحابهم ، ولم يبق في مكة إلا نفر يسير من المستضعفين ومعهم النبي ( ص ) وعلي ابن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة .

عند ذلك أحست قريش بالخطر الداهم فكان عليها أن تتخذ قراراً حاسماً في حق محمد ( ص ) . فاجتمعوا في دار الندوة ، وتشاوروا فيما بينهم في خطةٍ تقضي على حياة محمد !

قال بعضهم قيدوه بالحديد ، وضعوه في بيت وأغلقوه حتى يأتيه الموت !

ورأى آخر أن يطرد من مكة ، وتنفض قريش يدها منه . فلم يتفق الحاضرون على هذين الرأيين .

وارتأى أبو جهل بن هشام أن تختار كل قبيلة فتىً من فتيانها الأشداء ، ويأخذ كل واحد سيفاً قاطعاً ، ويعمدون إليه بأجمعهم ، فيضربونه ضربةً واحدة ، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلا يستطيع بنو هاشم الطلب بدمه ، فيختارون ديته على القتال .

فاستحسن الجميع هذا الرأي ، واستعدوا لتنفيذه ، فاختاروا الفتية ، وعينوا الليلة ، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) .

٤٠