المقداد ابن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

المقداد ابن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

التزامهم بأوامر الرسول الكريم ( ص ) واتباع رأيه . فكشفت لنا حقيقة الأمر ، فأفرزت أبطالاً اشداء مؤمنين بالله ورسوله تعاقدوا على الموت دفاعاً عن الرسول والرسالة ، أمثال أمير المؤمنين علي وعمه الحمزة عليهما السلام ، وأمثال مصعب بن عمير الذي استشهد دون لواء الإِسلام ، وأبي دجانة الأنصاري وغيرهم رضوان الله عليهم .

كما أفرزت لنا هياكل خاوية انطوت على نفوس متزلزلة وقلوب ضعيفة ونوايا كاذبة ، نربأ بأنفسنا أن نذكر اسماء بعضهم هنا ، لأن ذلك لا يكون الا سبّة عار في تاريخنا الإِسلامي .

وجميل بنا أن نذكر بعض أولئك الخالدين من أبطال الإِسلام الذين استشهدوا يوم أحد ، فنشير إلى بعض مواقفهم الخالدة ، ومواقف أسرهم وذويهم . ولا ننسى هنا دور المرأة المسلمة في هذه الحرب ، أمثال سيدة النساء فاطمة ، والسيدة صفية بنت عبد المطلب ، والسيدة أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنهم ، ونذكر الآن فيما يلي نبذاً من مواقفهم .

سعد بن الربيع

بعد أن انتهت المعركة ، قال النبي ( ص ) من ينظر إلي ما فعل سعد بن الربيع ؟

فقال رجل من الأنصار : أنا أنظر إليك ـ يا رسول الله ـ فذهب يبحث عنه ، فوجده بين القتلى ، وبه رمق ! فقال له : إن رسول الله أمرني أن أنظر له في الأحياء انت ام في الأموات !

قال سعد : أنا في الأموات !! فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمّته ! . وأبلغ عني قومك السلام وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند الله ـ إن خَلُصَ إلى نبيكم ـ وفيكم عين تطرف !

١٠١
 &

ثم تنفس ، فخرج منه مثل دم الجزور ومات ، رحمه الله . فرجع الأنصاري الى النبي ( ص ) وأخبره بحاله .

فقال ( ص ) : رحم الله سعداً ، نصرنا حيّاً وأوصى بنا ميتا ! . (١)

عمرو بن الجموح

ومن اولئك الخالدين ، عمرو بن الجموح .

وكان عمرو هذا رجلاً أعرج ، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد يشهدون مع النبي ( ص ) المشاهد ، فلما كان يوم أحد وقد خرج بنوه الأربعة مع النبي ( ص ) ، أراد هو أن يخرج أيضاً ؛ فحبسه قومه ، وقالوا له : لقد ذهب بنوك مع النبي ؛ وأنت رجل أعرج ، ولا حرج عليك !

فقال : بخ !! يذهبون الى الجنة ، وأجلس أنا عندكم !؟

قالت زوجته ـ هند بنت عمرو بن حزام ـ : كأني أنظر إليه موليّاً قد أخذ دِرقَته ، وهو يقول : اللهم لا تردني إلى أهلي ! . فخرج ، ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود ، فأبىٰ وجاء الى رسول الله ( ص ) فقال : يا رسول الله ، إن قومي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك ، واني لأرجو الله أن أطأ بعرجتي هذه الجنة !!

فقال له النبي : أما أنت ، فقد عذرك الله ولا جهاد عليك ! فأبى .

فقال النبي ( ص ) لقومه وبنيه : لا عليكم أن تمنعوه ، لعل الله يرزقه الشهادة ! فخلوا عنه .

قال بعضهم : لقد نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون عن النبي ( ص ) ثم ثابوا ، وهو في الرعيل الأول ، لكأني أنظر إلى خلفه ـ وهو

____________________

(١) : سيرة المصطفى ٤٢٦ .

١٠٢
 &

يعرج في مشيته ـ وهو يقول : أنا والله مشتاق إلى الجنة !! وابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً (١) .

ولا ننسى هنا موقف زوجته السيدة هند بنت عمرو ، فإنها فقدت زوجها عَمراً وابنها خِلاداً ، واخاها عبد الله ، وقد حملتهم جميعاً على بعير لتدفنهم في المدينة .

فقيل لها : ما وراءك ؟

فقالت : أما رسول الله ، فهو بخير . وكل مصيبةٍ بعده جَلَلْ ؛ واتخذ الله من المؤمنين شهداء ! وبينما هي تسوق بعيرها وإذا به يبرك بهم ، فلما زجرته ، وقف ! فوجهته إلى المدينة ، فعاد وبرك ! فرجعت به إلى أحد ، فأسرع ، وكأنه لم يحمل شيئاً !!

فرجعت إلى النبي ـ وكان لا يزال في أحد ـ وأخبرته بما جرى ! فقال ( ص ) : إنه لمأمور ! هل قال زوجك ـ حينما خرج ـ شيئاً ؟

قالت : نعم ، إنه لما توجه إلى أحد ، استقبل القبلة ، ثم قال : اللهم لا تردني إلى اهلي .

فقال لها ( ص ) : إن منكم ـ يا معشر الأنصار ـ من لو أقسم علىٰ الله ، لأبره ! منهم زوجك : عمرو بن الجموح . ثم دفنهم رسول الله ( ص ) وقال لهند : يا هند ، لقد ترافقوا في الجنة ثلاثتهم ،

فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني معهم ، فدعا لها بالخير (٢) .

____________________

(١) : شرح النهج ١٤ / ١٦١ .

(٢) : شرح النهج ١٤ / ٢٦٢ .

١٠٣
 &

حنظلة بن أبي عامر « غسيل الملائكة »

كان أبوه يدعى بـ « أبو عامر الراهب » وكان مع المشركين ، وقد خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله ( ص ) ومعه خمسون غلاماً من الأوس ، فلما إلتقى الناس بأُحد ، كان أبو عامر أول من لقي المسلمين في الأحابيش وعبدان أهل مكة .

فنادى : يا معشر الأوس ؛ أنا أبو عامر !

قالوا : فلا أنعم الله بك عيناً ، يا فاسق . !!

فقال : لقد اصاب قومي بعدي شرُّ ! ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً حتى راضخهم بالحجارة . . (١)

أما حنظلة « ابن ابي عامر » فقد كان في صف النبي محمد ( ص ) وكان حديث عهدٍ بالزواج فقد تزوج من جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول ، فأُدخلت عليه في الليلة التي كان في صبيحتها قتال أُحد . وكان قد إستأذن رسول الله أن يبيت عندها فأذن له ، فلما صلى الصبح ، غدا يريد رسول الله ، فلزمته جميلة ، فعاد إليها فكان معها ، وخرج إلى رسول الله مسرعاً ، ولم يغتسل من جنابته ! ـ وكانت جميلة قبل خروجه قد أشهدت عليه أربعة بأنه قد دخل بها ، فقيل لها بعد ذلك لما أشهدت عليه ؟! ـ فقالت : رأيت في الطيف كأن السماء قد انفجرت فدخل بها ، ثم أطبقت عليه ! فعلمت أنه سيُقتل ، وقد حملت منه جميلة بعبد الله ابن حنظلة .

ولما استشهد حنظلة ، قال رسول الله ( ص ) : إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة ابن أبي عامر ، بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة ! .

قال أبو أسيد الساعدي : فذهبنا ، فنظرنا إليه ، فإذا رأسه يقطر

____________________

(١) : الكامل ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٠ .

١٠٤
 &

ماءً فرجعت إلى رسول الله ( ص ) فأخبرته ، فأرسل إلى إمرأته فسألها ، فأخبرته انه خرج وهو جنب .

فقال رسول الله (ص) : لذلك غسلته الملائكة .

وحنظلة هذا ، هو الوحيد الذي لم يمثِّل به المشركون ، لأن أباه نهاهم عن ذلك ، وقال : يا معشر قريش ؛ حنظلة لا يمثل به ، وان كان خالفني وخالفكم . (١)

السَمداءُ بنتُ قيس

وهي إحدى نساء بني دينار ، قتل ولداها بأحد مع النبي ، وهما : النعمان بن عبد عمرو ، وسليم بن الحارث ، فلما نُعيا إليها ، قالت : ما فعل رسول الله ( ص ) ؟ قالوا : بخير هو بحمد الله صالح على ما تحبين . فقالت : أرونيه ، أنظر اليه ! فأشاروا لها إليه ، فقالت :

كل مصيبةٍ بعدك جَلَلٌ ـ يا رسول الله ـ .

وخرجت تسوق بابنيها بعيراً ، تردهما إلى المدينة ، فلقيتها عائشة ، فقالت لها : ما وراءك ؟ فأخبرتها . قالت : فمن هؤلاء معك ؟

قالت : إبناي ـ حِلْ ! حِلْ !! (٢) ـ تحملهما الى القبر (٣) .

صفية بنت عبد المطلب

وقد ذكرنا عنها شيئاً حين وقوفها على مصرع أخيها الحمزة .

ولها موقف بطولي آخر يوم أحد ، حيث قتلت رجلاً يهودياً في حين

____________________

(١) : راجع شرح النهج ١٤ / ٢٦٩ ـ ٢٧١ .

(٢) : حِلْ حِلْ : زجر البعير ، وهو دليل على عدم مبالاتها بمقتل ولديها لأنها مطمئنةً أن مصيرهما إلى الجنة .

(٣) : شرح النهج ١٥ / ٣٧ .

١٠٥
 &

جبن أحد الرجال المسلمين عن قتله . فهي تحدثنا بذلك فتقول :

لقد صعدنا يوم أحُد على الآطام ـ رؤوس التلال ـ وكان معنا حسان بن ثابت وكان من أجبن الناس ! ونحن في فارع ، فجاء نفر من يهود يرومون الأطم ، فقلت : دونك يا بن الفُرَيعَة ـ تعني حسانا ـ فقال : لا والله لا أستطيع القتال ، ويصعد يهودي إلى الأطم فقلت : شدَّ على يدي السيف ، ففعل فضربت عنق اليهودي ورميت برأسه إليهم ، فلما رأوه إنكشفوا ! (١)

مخيرق

قال الواقدي : وكان مخيرق اليهودي من أحبار اليهود فقال يوم السبت ـ ورسول الله ( ص ) في احد ـ يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي ، وأن نصره عليكم حق .

فقالوا : ويحك ! اليوم يوم السبت ، فقال : لا سبْت ، ثم أخذ سلاحه وحضر مع النبي ( ص ) فأصيب ، فقال رسول الله ( ص ) : مخيرق خير يهود .

وكان مخيرق قال حين خرج إلى أُحد : إن أصبتُ ، فأموالي لمحمّد يضعها حيث أراه الله فيه (٢) .

نسيبة بنت كعب

وتكنى أم عمارة ، وهي من اللواتي شهدن أحداً مع رسول الله وأبلين بلاءً حسناً .

وكانت هذه المرأة البطلة قد خرجت في أول النهار ومعها شن تريد أن تسقي الجرحى ، فقاتلت يومئذٍ وأبلت بلاءً حسناً ، وجُرحت اثني عشر جرحاً

____________________

(١) : المصدر السابق ١٥ / ١٥ و ١٦ .

(٢) : نفس المصدر ١٤ / ٢٦٠ .

١٠٦
 &

بين طعنة برمح وضربةٍ بسيف .

وقد طلبت أم سعد منها أن تروي لها ما جرى عليها في أحد ، فقالت : خرجت أول النهار إلى أُحد وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله ( ص ) في الصحابة والدُوَلَة للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون ، إنحزت إلى رسول فجعلت أباشر القتال ، وأذب عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوس ، حتى أصابتني الجراحات .

تقول أم سعد : فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور ، فقلت : يا أم عمارة ، من أصابكِ بهذا الجرح ؟

قالت : لقد أقبل ابن قمئة ـ وقد ولى الناس عن رسول الله ( ص ) ـ وهو يصيح : دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ! فاعترضه مصعب بن عمير وناس معه كنتُ فيهم ، فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان . (١)

وهذه المرأة ، هي التي أعطاها النبي ( ص ) وسام شرفٍ حين قال : « لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان » . (٢)

لقد وقف أولئك الأبطال الأشاوس أعظم موقف في سبيل الدفاع عن الحق وعن العقيدة ، فسطروا بدمائهم أروع ملحمةٍ تاريخية كان رائدهم فيها الصدق والإِخلاص ، صدق الإِيمان وصدق العقيدة ، والإِخلاص فيما عاهدوا الله عليه ، وقد بلغ عدد الذين استشهدوا من المسلمين نحواً من سبعين رجلاً .

أما الذين ثبتوا مع رسول الله في ساعة العسرة فإنهم لم يتجاوزوا السبعة نفر فإن جمهور المؤرخين يروي : انه لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وآله إلا علي

____________________

(١) : شرح النهج ١٤ / ٢٦٦ .

(٢) : شرح النهج ٥ / ٥٤ .

١٠٧
 &

عليه السلام وطلحة والزبير وأبو دجانة ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : ولهم خامس وهو عبد الله بن مسعود ، ومنهم من أثبت لهم سادساً ، وهو : المقداد بن عمرو (١) .

ولما رجع النبي ( ص ) إلى المدينة إستقبلته فاطمة (٢) ومعها إناءٌ فيه ماء فغسل وجهه الكريم ، ثم لحقه أمير المؤمنين علي وقد خضب الدم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار ، فناوله فاطمة ، وقال : خذي هذا السيف ، فلقد صدقني هذا اليوم ، وأنشد :

أفاطم هاك السيف غير ذميم

فلست برعديد ولا بلئيم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمِد

وطاعة ربٍ بالعباد عليم

اميطي دماء القوم عنه فإنه

سقىٰ آل عبد الدار كاس حميم

وقال لها رسول الله ( ص ) : لقد أدى بعلك ما عليه ، وقتل الله بسيفه صناديد قريش (٣) .



____________________

(١) : البحار ٢٠ / ١٤١ .

(٢) : لا يمنع أن تكون فاطمة قد حضرت أحداً ثم سبقت رسول الله الى المدينة .

(٣) : سيرة المصطفى / ٤٣٠ ورواه في فرائد السمطين قريباً من ذلك ١ / ٢٥٢ وفي شرح النهج ايضاً ١٥ / ٣٥ .

١٠٨
 &

غزوة الغابة *

الغابة : موضع قرب المدينة من ناحية الشام ، فيه شجر كثيف ومرعيَّ خصب للإِبل ، وكان للنبي ( ص ) عشرون لقحة *١ ترعى في مكان يقال له : البيضاء . *٢ فلما أجدب قربوها للغابة تصيب من أثلها وطرفائها . فكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلة عند المغرب .

وفي ذات يوم استأذن أبو ذر رسول الله ( ص ) أن يذهب إلى تلك الإِبل ليحتلبها ويغدو بلبنها إليه ، فقال له ( ص ) : اني اخاف عليك من هذه الضاحية أن تغير عليك ـ ونحن لا نأمن من عيينة بن حصن وذويه ! هي في طرف من أطرافهم .

فألح عليه أبو ذر فقال : يا رسول الله إإذن لي .

فلما ألح عليه قال ( ص ) : لكاني بك قد قتل إبنك ، وأخذت إمرأتك ، وجئت تتوكأ على عصاك *٣ .

يقول ابو ذر : والله انا لفي منزلنا ، ولقاح رسول الله ( ص ) قد

____________________

* : وقعت في السنة السادسة للهجرة ، وتسمى أيضاً : غزوة ذي قرد .

*١ : اللقحة : الواحدة من الإِبل الحامل ، ذات اللبن ، جمعها : لقاح .

*٢ : البيضاء : موضع تلقاء حمى الربذة .

*٣ : وكان أبو ذر يقول في ذلك : عجباً لي ! إن رسول الله ( ص ) يقول « لكأني بك » وأنا ألح عليه ، فكان والله على ما قال رسول الله ( ص ) .

١٠٩
 &

رُوِّحت ، وعطنت وحلبت عتمتها (١) ونمنا ، فلما كان الليل أحدق بنا عُيينة في أربعين فارساً ، فصاحوا بنا وهم قيام على رؤوسنا فأشرف لهم ابني فقتلوه ، وكانت معه إمرأته وثلاثة نفر فنجوا ، وتنحيت عنهم ، وشغلهم عني إطلاق عُقل اللقاح ، ثم صاحوا في أدبارها فكان آخر العهد بها . ونترك لأبي معبد يكمل القصة :

قال المقداد بن عمرو : لما كانت ليلة السَّرْح ، جعلت فرسي سبحة لا تقر ضرباً بأيديها وصهيلاً ، فيقول أبو معبد (٢) : والله إن لها شأناً ! فننظر آريَّها (٣) فإذا هو مملؤ علفاً ! فيقول : عطشى ! فيعرض الماء عليها فلا تريده ، فلما طلع الفجر اسرجها ولبس سلاحه ، وخرج حتى صلى الصبح مع رسول الله ( ص ) فلم يرَ شيئاً ، ودخل النبي ( ص ) بيته ، ورجع المقداد إلى بيته ، وفرسه لا تقر ، فوضع سرجها وسلاحه واضطجع ، وجعل إحدى رجليه على الأخرى ، فأتاه آتٍ فقال : إن الخيل قد صيح بها .

وكان سلمة بن الأكوع قد غدا قاصداً الغابة ليأتي بلبن اللقاح إلى النبي ( ص ) فلقي غلاماً في ابل لعبد الرحمن بن عوف ، فأخبره أن عيينة بن حصن قد اغار في اربعين فارساً على لقاح رسول الله ( ص ) وأنه قد رأى مدداً بعد ذلك أمد به عيينة .

قال سلمة : فاحضرت فرسي راجعاً إلى المدينة حتى وافيت على ثنية الوداع (٤) فصرخت بأعلى صوتي : يا صباحاه ! ثلاثاً ، أسمِعُ من بين

____________________

(١) : العتمة : ظلمة الليل ، وكانت العرب تسمي الحلاب باسم الوقت .

(٢) : هو نفسه المقداد ، وهنا انتقل بحديثه من صيغة المتكلم الى الغائب مبالغةً في الأهمية .

(٣) : الآري : حبل تشد به الدابة في محبسها .

(٤) : ثنية الوداع : عن يمين المدينة ودونها ، وهي ثنيّة مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة .

١١٠
 &

لابَتْيها . (١)

ثم نادى : الفَزَعْ ! الفَزَعْ ! ثلاثاً * ثم وقف واقفاً على فرسه حتى طلع رسول الله ( ص ) في الحديد مُقَنّعاً فوقف واقفاً . فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو ، عليه الدرع والمغفر شاهراً سيفه . فعقد له رسول الله (ص) لواءً في رمحه ، وقال :

امضِ حتى تلحقك الخيول ، ونحن على أثَرِك .

قال المقداد : فخرجت وأنا أسال الله الشهادة حتى أدرك اخريات العدو ، وقد أذمَّ (٢) بهم فرس لهم فاقتحم فارسه وردف أحد أصحابه ، فأخذُ الفرس المذّم فإذا هو ضَرع (٣) أشقر ، عتيق ، لم يقوَ على العدو ، وقد غدوا عليه من أقصى الغابة فحسِرْ (٤) فأربط في عنقه قطعة وترٍ وأخليّه ، وقلت : إن مرَّ به أحد فأخذه جئته بعلامتي فيه ، فأدرك مسعدةَ فأطعنه برمح فيه اللواء ، فزلَّ الرمح وعطف علي بوجهه فطعنني ، وآخذُ المرحَ بعضدي فكسرته ، وأعجزني هرباً ، وأنصبُ لوائي ، فقلت : يراه أصحابي ! ويلحقني أبو قتادة معلماً بعمامةٍ صفراء على فرس له ، فسايرته ساعةً ونحن ننظر إلى دبر (٥) مسعدة فاستحث فرسه ، يعني أبو قتادة ـ فتقدم على فرسي ، فبان سبقه ، فكان أجود من فرسي حتى غاب عني فلا أراه . ثم ألحقه فإذا هو ينزع بردته ، فصحت : ما تصنع ؟ قال : خيراً ، أصنعُ كما

____________________

(١) : يا صباحاه : كلمة كان العرب يستعملونها لإِستنفار الناس فيما إذا دهمتهم غارةٌ . و « لابتيها » كناية عن انه اسمع جميع من في المدينة .

* : في السيرة النبوية : وبلغ رسول الله صياح ابن الأكوع ، فصرخ بالمدينة : الفزع ! الفزع إلخ ( ٣ ـ ٧٦ ) وأظنه أشتباه ، لأن مثل هذا بعيد على النبي ( ص ) .

(٢) : أذّم : أعيى وتأخر .

(٣) : الضرع : الضعيف .

(٤) : حسرْ : تعب وأعيا .

(٥) : الدبر : من الأدبار وهو الهرب .

١١١
 &

صنعتَ بالفرس . فإذا هو قد قتل مسعدة وسجاه ببردِه .

ورجعنا ، فإذا فرس في يد عُلْبةَ بن زيد الحارثي ، فقلت : فرسي هذا ، وعلامتي فيه !

فقال : تعال إلى النبي ، فجعله مغنماً .

وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو ليسبق الخيل مثل السبع .

قال سلمة : حتى لحقت القوم ، فجعلت أرميهم بالنبل واقول حين أرمي : خذها مني وأنا ابن الأكوع ، فتكر علي خيل من خيلهم ، فإذا وجَّهت نحوي انطلقت هارباً فاسبقها واعمد إلى المكان المعور *١ فاشرف عليه وأرمي بالنبل إذا امكنني الرمي وأقول :

خذها ، وأنا ابن الأكوع

واليوم يوم الرُّضع

فما زلت أكافحهم وأقول : قفوا قليلاً يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار ، فيزدادون علي حنقاً فيكرون علي ، فاعجزهم هرباً حتى انتهيت بهم إلى ذي قَرَد *٢

ولحِقَنَا رسول الله ( ص ) والخيول عشاءً ، فقلت : يا رسول الله ، إن القوم عطاش وليس لهم ماءٌ دون أحساء كذا وكذا فلو بعثتني في مائة رجل ، استنقذت ما بأيديهم من السرح ، وأخذت باعناق القوم .

فقال رسول الله ( ص ) : ملكت ، فأسجح *٤ ، ثم قال النبي

____________________

*١ : المعور : المكمن للستر .

*٢ : ذي قرد : مكان يبعد عن المدينة مسيرة يوم وقيل يومين .

*٣ : دون أحساء كذا وكذا : أي دون بلوغهم مكان كذا وكذا .

*٤ : ملكت فاسجح : أي قدرت ، فسهل ، وأحسن العفو . وهو مثل معروف .

١١٢
 &

( ص ) : إنهم ليُقرَوْنَ في غطفان (١)

قال : ثم توافت الخيل وهم ثمانية : المقداد وأبو قَتَادة ، ومُعاذ بن ماعِص وسعد بن زيد ، وأبو عيَّاش الزُرَقي ، ومُحرِز بن نَضْلَة ، وعُكَّاشة بن مِحْصَن ، وربيعة بن أكثَم

ولم تزل الأمداد تترى ، حتى إنتهوا إلى رسول الله ( ص ) بذي قرد ، فاستنقذوا عشر لقائح ، وافلت القوم بما بقي ، وهي عشر .

وقتل في هذه المعركة من المسلمين واحد ، وهو محرز بن نضلة . قتله مسعدة .

وقتل من المغيرين خمسة مسعدة بن حكمة ، قتله أبو قتادة ، وأوثار وابنه عمرو بن أوثار ، قتلهما عكاشة بن محصن ، وحبيب بن عيينة كان على فرس له ، قتله المقداد بن عمرو ، وكذلك فَرَقَة بن مالك قتله المقداد أيضاً .

وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة ، قول حسان بن ثابت .

لولا الذي لاقت ومسَّ نسورها

بجنوب ساية أمس فـي التقواد (٢)

للقينكم يحملن كل مدجَّج

حامي الحقيقة ماجد الأجداد (٣)

ولسر أولاد اللقيطة أنناً

سلم غداة فوارس المقداد (٤)

كنا ثمانيةً وكانوا جَحْفلاً

لجباً فشكوا بالرماح بداد (٥)

____________________

(١) : يقرَوْن : يُضيّفون .

(٢) : ساية : اسم وادٍ بالحجاز .

(٣) : الحقيقة : ما يحق عليك أن تحميه .

(٤) : وقد اعترض سعيد بن زيد على حسان حيث جعل المقداد هو القائد ـ وسعيد هذا أنصاري ـ والمقداد مهاجري ، فاعتذر إليه حسان . راجع السيرة ٣ / ١٨٠ والمغازي / ٥٤٨ .

(٥) : اللجب : الجلبة والصياح . وبداد : يقال جاءت الخيل بَدادِ بَدادِ أي متفرقة .

١١٣
 &

كنا من القوم الذين يلونهم

وَيُقدمون عِنان كلِ جوادِ

كلا ورب الراقصات إلى منىً

يقطعن عرض مخارم الأطواد (١)

حتى نبيل الخيل في عرصاتكم

ونؤوب بالملكات والأولاد (٢)

رهواً بكل مقلصٍ وطمرة

في كل معترك عطفن روادي (٣)

أفنى دوابرها ولاح متونها

يوم تقاد به ويوم طِرِاد

فكذاك إن جيادنا ملبونة

والحرب مشعلة بريح غواد (٤)

وسيوفنا بيض الحدائد تجتلي

جُنَنَ الحديد وهامةَ المرتادِ (٥)



____________________

(١) : الراقصات : يقصد بها الإِبل . ومخارم الأطواد : شقوق الجبال ، ويقصد بها الطرق .

(٢) : نبيل الخيل : نجعلها تبول في دياركم .

(٣) : الرهو : المشي الهادىء . المقلَّص : المشمّر . والطِّمرة : الفرس الجواد .

وروادي : سريعة .

(٤) : ملبونة : الملبون : من به كالسِّكر من شرب اللبن . وغواد : من الغادية وهي السحابة .

(٥) : تجتلي : تقطع . جنن الحديد : ما ستره الحديد ، أو المقصود به الترس خاصة .

راجع المغازي للواقدي من صفحة ٥٣٧ إلى ٥٤٩ للتفصيل ، وكذا السيرة لإِبن هشام ٣ / ١٧٥ الى ١٨١ والكامل ٢ / ١٨٨ ـ ١٩٠ .

١١٤
 &

غزوة خيبر *

وقد وقعت في السنة السادسة للهجرة أيضاً . وذلك :

إن النبي صلّى الله عليه وآله كان قد قصد مكة في أوائل شهر ذي القعدة من نفس هذه السنة لأداء مناسك الحج ، فصدته قريش عن دخولها ، فكان أن أبرمت وثيقة الصلح المسمى بصلح « الحديبية » بعد مشاورات طويلة بين وفود الطرفين .

ورجع النبي إلى المدينة ، وفي طريقه أنزل الله عليه سورة الفتح ، فتلاها على المسلمين مستبشراً بالنصر .

وكان صلّى الله عليه وآله قد إطمأن بعد صلح الحديبية إلى حدّ ما من ناحية قريش والعرب الذين كانوا لا يزالون على الشرك ، إلا إنه ظل يراقب اليهود الذين كانوا خارج المدينة ، ويخشى غدرهم لأنه لمس منهم انهم لا يلتزمون بعهدٍ ولا بحلف ، لذلك صمم على غزوهم ومحاربتهم ، فلم يلبث في المدينة اكثر من شهر حتى أعلن رأيه هذا لأصحابه ، وأمرهم ان يتجهزوا لغزو خيبر .

____________________

* : قال في معجم البلدان : وتشتمل خيبر ـ هذه الولاية ـ على سبعة حصون ، ومزارع ، ونخل كثير . واسماء حصونها : حصن ناعم . وعنده قتل محمود بن مسلمة ، والقموص ، وحصن الشق ، وحصن النطاة . وحصن السلالم وحصن الوطيح ، وحصن الكتيبة ، وأما لفظ خيبر ، فهو بلسان اليهود : يعني الحصن . ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سميت خيابر ٢ / ٤٠٩ .

١١٥
 &

فخرج من المدينة في ألف وستمائة مقاتل ، ومضى في طريقه الى خيبر ، وقطع المسافة التي بينها وبين المدينة في ثلاثة أيام ، ودخل إلى مشارفها ليلاً ، وكانت خيبر تتراىء للمسلمين واحةً تمتد بين تلال الحرّة وصخورها السوداء ، وكأنها بحيرة من الزمرد الأخضر . . وأقام المسلمون تلك الليلة على مشارفها مخيمين هناك يستريحون من عناء الرحلة ، حتى إذا تمطى الليل عن الصبح ، وانتشرت أشعة الشمس المشرقة تكسو آعالي النخيل بلون ذهبي جميل ، انتشر عمال خيبر ـ كعادتهم ـ خارجين من قلاعهم الى بساتينهم يحملون محافرهم وفؤوسهم ، وقد علقوا السلال باكتافهم ، فبصروا بجند المسلمين الآتين من الحرّة ، ومعهم الرماح والسيوف المتوهجة في أشعة الشمس ، فصاحوا : « محمدٌ ، والخميسُ (١) معه ! » وأدبروا هاربين مخلفين المحافر ، والفؤوس والسلال .

فقال النبي ( ص ) : « الله اكبر ؛ خربت خيبر ؛ إنا إذا نزلنا بساحةِ قوم فساءَ صباح المنذرين . » .

ووقف العرب عامة ، وبخاصة قريش ، يتطلعون بشوق ولهفة إلى نتائج هذه الغزوة ، وفي حسابهم أن الدائرة ستدور على محمد وأصحابه .

أما اليهود ، فقد تشاوروا فيما بينهم ، واتفقوا أخيراً على القتال ، فأدخلوا نساءهم وذراريهم وأموالهم حصن « الوطيح والسلالم » وأدخلوا ذخائرهم حصن « ناعم » ودخلت المقاتلة في حصن « نطاة » والتقى الجمعان حول هذا الحصن ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتى جرح عدد كبير من المسلمين ، واستبسل الفريقان ، وظلوا على ذلك شطراً من النهار .

____________________

(١) : الخميس : الجيش .

١١٦
 &

وقتل في ذلك اليوم محمود بن مسلمة ، كان حين أنهكه التعب قد استظل بجدار الحصن فالقى عليه يهوديٌّ رحى من أعلى الحصن فقتله .

وأظهرت قلاع « النطاة » وناعم صموداً أمام معسكر المسلمين ما لبث أن إنهار بعد أيام أمام ضرباتهم واصرارهم العنيد ، ولكن خيبر لم تفتح ، فقد بقي من قلاعها قلعة « القموص » وهي أهم قلاعها ، كانت قائمة على قمة تل صخري أملس رأسي الحواف ، محاطة بجدار ضخم مرتفع ، وقد اشتهرت بالقوة والمناعة ، وكان يدافع عنها « مرحب » البطل الشهير .

وطال الحصار ، ودبت المجاعة بالجيش ، ففترت همة الجند ، وكان النبي ( ص ) كلما أعطى الراية لبعض أصحابه يرجع منهزماً كاسفاً . فرأى النبي ( ص ) أن يحشد كل قواه الضاربة لفتح هذا الحصن ، فاجتماع اليهود فيه يجعلهم أقدر على الفتك بالمسلمين .

وجمع محمد جيشه ، وأمرهم أن يقتحموا الحصن ، وسلم أبا بكر راية الجيش ، ولكن أبا بكر لم يستطع أن يصنع شيئاً ولا أن يقتحم الحصن ، فبعث في اليوم الثاني عمر ابن الخطاب ، فكان نصيبه كنصيب صاحبه . « فقد انكشف عمر وأصحابه ورجعوا إلى رسول الله ( ص ) كما في رواية الطبري : يجبنه أصحابه ويجبنهم » وظل القتال مستمراً وكلما أعطى الراية إلى أحد ، رجع خائباً ، أو فاراً . (١)

ولما بلغ الجهد بالمسلمين مبلغاً تخشى عواقبه وساء رسول الله ذلك . فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً ، كرّاراً غير فرّاراً ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ولا يرجع حتى يفتح الله على يده » (٢) فتطاولت لها

____________________

(١) : راجع سيرة المصطفى / ٥٤٩ .

(٢) : إعلام الورى / ١٠٧ وغيره .

١١٧
 &

قريش ، ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب الراية وكان علي في تلك الحال أرمد لا يكاد يبصر أمامه ، ولما سمع مقالة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قال : اللهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت » .

فأصبح رسول الله واجتمع إليه الناس كل يرجوها له ، حتى روي عن عمر أنه قال : إني ما أحببت الإِمارة إلا ذلك اليوم ، وتمنيت أن أعطى الراية بعد أن سمعت ذلك من رسول الله .

قال سعد بن أبي وقاص : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ثم قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني ! فقال ( ص ) : إدعوا لي عليّاً . فصاح الناس من كل جانب : إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه . فقال : إرسلوا إليه وادعوه ! فأتي به يُقاد . فوضع رأسه على فخذه ، ثم تفل في عينيه ، فقام وكأن عينيه جزعتان . وبرء من ساعته ، وقال له : خذ الراية ، ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك .

فقال له عليّ : على ماذا أقاتلهم يا رسول الله .

قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم . ثم دعا له .

قال سلمة بن الأكوع ، فانطلق عليّ عليه السلام يهرول هرولةً ونحن خلفه نتتبع أثره ، حتى ركز الراية بين حجارة مجتمعة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من أعلى الحصن وقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال اليهودي : « علوتم ! وما أنزل على موسى !! » (١) وخرج إليه اليهود يتقدمهم أبطالهم ، وفيهم الحارث أخو

____________________

(١) : وفي الكامل ٢ / ٢٢٠ : فاشرف عليه رجل من يهود فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . فقال اليهودي غُلبتم يا معشر اليهود . وفي بقية المصادر والمراجع بمضمون واحد . وقوله : وما انزل على موسى : أي قسماً بما أنزل على موسى .

١١٨
 &

مرحب وكان من شجعانهم المعروفين ، فحمل بمن معه على المسلمين ، فوثب علي عليه السلام وضربه بسيفه ، فخر صريعاً ، ثم كر بأصحابه على اليهود ، فتفرقوا بين يديه وانخذلوا بعد مقتل الحارث وجماعة منهم ، وولوا منهزمين الى داخل الحصن .

فاستعظم ذلك قائدهم « مرحب » بعد أن شهد مصرع أخيه وهزيمة من معه . فخرج يطلب الثأر « وكان هو حقاً سيد فرسان خيبر ، ولكنه خرج إلى علي بطيئاً ، في كبرياءٍ وثقةٍ مطمئنة ، مهيباً ضخماً ، بيده حربة ذات ثلاث رؤوس ، وكل جسده الفارع الشاهق ، في الزرد ، والحديدُ يغطي رأسه وساقيه ، وليس في كل بدنه ثغرة ينفذ منها سيف » . فجعل يرتجز ويقول :

قد علمت خيبرُ أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا السيوف أقبلت تلتهب

أطعن أحياناً وحيناً أضرب

فبرز أليه علي وهو يقول :

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

كليث غابات شديد قسورة

أكيلكم بالسيف كيل السندرة

وتقدم إليه علي بقامته المعتدلة ، وهو بلا درع ، وفي يده السيف وحده ، وتوقع المسلمون واليهود جميعاً أنها نهاية علي عليه السلام ، ولكن علياً إستطاع أن يحسن الإِستفادة من تخففه من الدرع والزرد ، وترك مرحباً يتقدم بدرعه وزرده وحربته ، حتى إذا أوشك سِن الحربة أن يمس صدر علي ( عليه السلام ) تراجع على فجأةً ثم قفز في الهواء متفادياً حربة مرحب ، ثم إقتحم وأهوى بكل قوته على رأس مرحب بالسيف ، فانفلق الحديد من على رأس مرحب ، وسقط سيف علي على الجمجمة

١١٩
 &

فشقها نصفين وهوى مرحب وسط ذعر اليهود وعجبهم ، وصيحات النصر ترتفع من معسكر المسلمين .

ثم إقتلع علي عليه السلام باب الحصن ـ وكان حجراً طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع ـ فرمى به الى خلفه ، ودخل الحصن هو والمسلمون . (١)

وبعد فتح حصن « القموص » . أيقن سكان خيبر بالهلكة ، وكانت قلاع « الوطيح والسلالم » لم تسقط بعد ، فأرسلوا الى رسول الله ( ص ) يطلبون الصلح ـ بعد أن حاز النبي أموالهم كلها بالشق ونطاة ، والكتيبة . ـ على أن يحقن دماءهم . فقبل النبي بذلك ، وأبقاهم على أرضهم التي آلت له بحكم الفتح على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم .

وقسم رسول الله ( ص ) أموال خيبر ونتاجها الزراعي على المسلمين . « فأطعم كل إمرأةٍ من نسائه ثمانين وسقاً * من تمر وعشرين وسقاً شعيراً . وللعباس بن عبد المطلب مائتي وسق ، ولفاطمة وعلي عليهما السلام من الشعير والتمر ثلاثمائة وسق . . . وللمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً شعيراً . » (١)

وفي السيرة لإِبن هشام : قسم لنسائه من القمح مائة وثمانين وسقاً ، ولفاطمة بنت رسول الله ( ص ) خمسة وثمانين وسقاً ، ولأسامة بن زيد أربعين وسقاً ، ولمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً ولأم رميثة خمسة أوسق . (٣)

____________________

(١) : اليعقوبي ٢ / ٥٦ وغيره .

* : الوسق : ستون صاعاً أو حمل البعير .

(٢) : الواقدي : ٦٩٣ .

(٣) : السيرة النبوية لإِبن هشام ٣ / ٢٢٩ .

١٢٠