مرقاة الأصول

آية الله الشيخ بشير النجفي

مرقاة الأصول

المؤلف:

آية الله الشيخ بشير النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8220-56-5
الصفحات: ٢٦٣

المبحث الثالث : صيغة الأمر وما في حكمها ظاهر في الوجوب :

الظهور لغة : الوضوح.

والمقصود منه هاهنا : وضوح الدلالة على المعنى بحيث إنّ العرف يحمل اللفظ عند تعرّيه من القرينة على ذلك المعنى.

وهذا الظهور يختلف شدّة وضعفا حسب اختلاف الموارد.

فإذا عرفت هذا فاعلم :

انّ صيغة «افعل» وما في معناها من أسماء الأفعال والجمل الخبرية المستخدمة في الطلب كلّها ظاهرة في الوجوب ، أي الطلب الإلزامي.

بل قيل : إنّ ظهور الجمل الخبرية ـ المستعملة في الطلب ـ في الوجوب أقوى من ظهور الصيغة فيه. ولو قلنا بأنّ الصيغة ليست موضوعة للوجوب بل موضوعة لمطلق الطلب ، فمع ذلك لا يمكن إنكار ظهورها فيه.

المبحث الرابع : تقسيمات الواجب :

يقسّم الواجب بعدّة تقسيمات (١) :

أولا : الواجب التعبّدي والتوصّلي :

التعبّدي : ما لا يمكن الامتثال به إلّا مع قصد التقرّب ، مثل : وجوب الصلاة ، فإنّ وجوبها لا يسقط ولا يمكن الامتثال به إلّا إذا أتى بها قربة إلى الله تعالى.

__________________

(١) هكذا المعروف على الألسن ، والتحقيق : أنّها تقسيمات للوجوب وليست للواجب ، فإنّ فكرة طروء تلكم التقسيمات على الواجب تستقى من النظرية القائلة بتبعيّة الأحكام الإلهية لمصالح ومفاسد في متعلّقاتها لا في أنفسها. والثاني هو الحقّ ، وهكذا الكلام في التقسيمات التي سترد عليك في بحث مقدّمة الواجب.

٦١

والتوصّلي : وهو ما يمكن الامتثال به ولو أتى به المكلّف من غير قصد القربة ، بل ولو جاء به بقصد الرياء ، أو نحو ذلك ، مثل تنظيف البدن والثوب من الخبائث.

ثانيا : الواجب النفسي والغيري :

النفسي : ما وجب لمصلحة في نفسه لا لأجل واجب آخر ، مثل : الصلاة ، فإنّها واجبة لأجل نفسها سواء وجب شيء آخر أم لا.

والغيري : ما كان واجبا لأجل واجب آخر ، فإنّه لا يجب إلّا إذا وجب ذلك الواجب الآخر ، مثل : الوضوء والغسل والتيمم ، فإنّه لا يجب غالبا شيء منها إلّا إذا وجب شيء آخر يشترط فيه الطهارة مثل : الصلاة أو الصوم بالنسبة إلى غسل الجنابة. فالوضوء واجب غيري ، كما أنّ الغسل والتيمم واجبان غيريان.

ثالثا : الواجب العيني والكفائي :

العيني : ما وجب على المكلف ولم يسقط بإتيان غيره ، كأنّه تعيّن عليه ، مثل الصلاة أيضا ، فإنّها تجب على المكلف ولا تسقط بإتيان غير من وجبت عليه ما دام حيّا.

والكفائي : ما وجب إتيانه من غير تعيين من وجب عليه ، بل يسقط بإتيانه من كلّ أحد قام به ، ولكن الكلّ يعصي إن لم يقم بإتيانه أحد ، مثل : تكفين الميّت ودفنه وسائر ما يجب له من الأحكام الكفائية ، فإنّه إن لم يقم بها أحد كان الكل عاصيا ، وإن أتى بها من يقدر عليها سقط عنه وعن الباقين أيضا.

٦٢

رابعا : الواجب التخييري والتعييني :

التخييري : ما وجب بدل شيء آخر في عرضه ، بمعنى أنّ المكلّف يتخيّر في إتيان ما شاء منهما ، مثل : خصال الكفارة ، أي العتق وصوم شهرين وإطعام ستين مسكينا. فإنّ من أفطر في شهر رمضان متعمّدا على حلال يجب عليه إتيان واحد منها على نحو التخيير.

والتعييني : الواجب الذي لا يكون له بدل في عرضه ، ولا يكون له عدل في مرتبته ، مثل : الصلاة ، فإنّه لا يقوم مقامها شيء.

٦٣

الفصل الثالث

هل الأمر ظاهر في الوجوب عقيب الحظر؟

إذا وقع الأمر عقيب الحظر المعلوم أو المظنون أو الموهوم ، هل هو ظاهر في الوجوب؟

المشهور أنّه ظاهر في الإباحة ، ونسب إلى بعض العامّة أنّه ظاهر في الوجوب ، وإلى البعض الآخر أنّ ما ورد به الأمر عقيب الحظر حكمه حكم ما قبل النهي ، إن كان الأمر معلّقا على زوال علّة النهي ، مثلا قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) حيث إنّه ورد بعد النهي ، أعني قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)(٢) ، فعلّل النهي بكون المكلّف محرما ، ثمّ علّق الأمر على زوال تلك العلّة حيث قال : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(٣) ، يعني إذا زال عنكم الإحرام فاصطادوا ... وأمّا في غير مثل هذا المورد فيرجع إلى القرائن.

والتحقيق : أنّه يرجع إلى القرائن الحالية والمقالية والسياقية في حمل الأمر على شيء ممّا ذكر.

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) المائدة : ٩٥.

(٣) المائدة : ٢.

٦٤

وقد اتّفق المحقّقون من المتأخّرين على أنّ صيغة الأمر لا دلالة لها على المرّة ولا التكرار ، لا بهيئتها ولا بمادّتها ؛ لأنّه ليس مفادها إلّا طلب الطبيعة من المكلف ، ولكنّه قد يكتفى بالمرّة لأجل تحقّق الطبيعة المأمور بها ، لا لأن المرّة بخصوصها مطلوبة.

ثمّ إنّه على القول بأنّ مفاد الأمر هو إتيان المأمور به مرّة ، لا مجال للإتيان به مرّة ثانية ؛ لأن الأمر قد سقط بالإتيان به بالمرّة الأولى ، فإتيانه ثانيا يكون لغوا ، أو يكون تشريعا إن أتى به ثانيا بعنوان الواجب.

وأمّا بناء على ما عليه المحقّقون ـ من أنّ المطلوب هي الطبيعة ـ فهل يمكن الإتيان به مرّة أخرى أو لا؟

المشهور أنّه لا معنى للامتثال عقيب الامتثال ، ولكن لصاحب الكفاية هنا تحقيق نردّ عليه إن شاء الله.

٦٥

الفصل الرابع

دلالة الأمر على الفورية أم التراخي؟

هل الأمر يدلّ على لزوم إتيان المأمور به فورا ، أو يدل على إتيانه على التراخي ، أو لا يدل على شيء منهما؟

المعروف لدى الأعلام الأخير ، وهو أنّه لا يدلّ على شيء من الفور والتراخي ، بل يدل على طلب الطبيعة المجرّدة من وصفي الفور والتراخي.

٦٦

الفصل الخامس

إتيان المأمور به هل يقتضي الإجزاء؟

إتيان المأمور به على الوجه المطلوب هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

أقول : هذا بحث معروف لديهم ببحث الإجزاء ، وله معالم خاصّة نذكر أهمّها :

١ ـ المراد بالوجه المطلوب هو النهج والسبيل الذي ينبغي أن يؤتى المأمور به عليه بحكم الشرع أو العقل ، مثل : إن كان المأمور به من التعبّديات وله شرائط خاصّة فسبيل إتيانه أن يؤتى به بقصد القربة ، مع جميع الشرائط وهكذا.

٢ ـ المقصود بالاقتضاء في العنوان العلّية والتأثير (١) ، فالمراد أنّه هل الإتيان بالمأمور به على الوجه المعتبر علّة للإجزاء؟

٣ ـ المراد بالإجزاء هو معناه اللغوي ، أعني الكفاية. فمعنى العنوان هل إتيان المأمور به على الوجه المعتبر علّة للكفاية أم لا؟

__________________

(١) إنّ مادّة الاقتضاء إن نسبت إلى لفظ وما يجري مجراه فالمراد بها الدلالة والكشف ، وإن نسبت إلى غيره فالمراد بها حينئذ العلّية والتأثير.

٦٧

٤ ـ البحث في هذا الفصل يختلف عن البحث الأسبق ، أعني بحث المرّة والتكرار ، فإنّ النزاع هاهنا في كفاية إتيان المأمور به مرّة حتى لا يجب القضاء والإعادة بعد الفراغ من تحديد مفاد الأمر ، وهل هو عبارة عن المرّة أو التكرار على ما تقدّم؟

وهكذا يختلف هذا البحث عن أنّ القضاء تابع للأداء أم لا؟ لأنّ البحث هاهنا ـ كما عرفت ـ في أنّ إتيان المأمور به يجزي عقلا عن الإتيان به مرّة ثانية بعنوان الأداء أو القضاء ، أي هل الإتيان به علّة لسقوط الأمر أم لا؟

والبحث في المسألة الثانية في دلالة الصيغة على التبعية ، بمعنى هل الأمر يدلّ على وجوب القضاء على تقدير فوت الأداء؟

٥ ـ ينقسم الأمر إلى أقسام ثلاثة : الواقعي والاضطراري والظاهري.

أ ـ الواقعي : هو الأمر المتعلّق بالفعل بعنوانه الأوّلي ، مثل : الخمر حرام ، والماء مباح وما شاكلهما.

ب ـ الاضطراري : هو الأمر المتعلّق بالفعل على تقدير طروء الاضطرار على العبد ، مثل : وجوب التيمّم حين عجزه عن استعمال الماء.

ج ـ الظاهري : هو الأمر المتعلّق بالفعل بملاحظة جهل المكلف بالواقع.

إذا عرفت هذا فاعلم :

انّه لا شكّ عندهم في كفاية إتيان المأمور به بالأمر الواقعي وإجزائه عن الإتيان به مرّة ثانية ؛ لأنّ وجوب الفعل إنّما هو بملاحظة المصلحة المودعة في الفعل (١) المقتضية لأمر المولى به ، فإذا أتى المكلّف به على الوجه الذي أراده المولى فلا جرم من حصول تلك المصلحة ، ويحصل

__________________

(١) هكذا على الألسن ، وقد ألمحنا إلى أنّه خلاف التحقيق.

٦٨

الغرض الذي لأجله أمر المولى به ، فلا يبقى المجال للإتيان به مرّة أخرى.

وأمّا الاضطراري فيلاحظ فيه أنّ ما أمر به المولى في حال الاضطرار ، هل هو واف بتمام المصلحة الموجودة في متعلّق الأمر الواقعي أم لا؟ وعلى تقدير أنّ الأمر الاضطراري واف بمصلحة الأمر الواقعي كلّها فلا فرق بين إتيان المأمور به بالأمر الواقعي والاضطراري ، فكما لا يجب الإتيان به مرّة ثانية بعد إتيانه في امتثال الأمر الواقعي ، كذلك في الاضطراري ، وأمّا إن لم يكن المأمور به ، بالأمر الاضطراري وافيا بتمام مصلحة الأمر الواقعي ، بل يبقى منها ما يعتدّ به ، فحينئذ لا يكون إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري مثل الإتيان به بالأمر الواقعي.

وأمّا الظاهري وذلك مثل ما إذا كان المكلّف قد توضّأ ، ثمّ عرضه الشك في أنّه انتقض أم لا ، فيبني على عدم الانتقاض ، فتثبت له الطهارة الظاهرية ، فإذا صلّى بهذه الطهارة الظاهرية ثمّ انكشف الخلاف وأنّه لم يكن متوضّئا ، فهل تجب عليه الصلاة مرّة أخرى أداء أو قضاء أم لا؟ ففيه بحث بين الأعلام سوف تعرفه إن شاء الله تعالى.

٦٩

الفصل السادس

في مقدّمة الواجب

قبل التطرّق إلى الموضوع يجب تقديم عدّة أمور هي :

الأمر الأوّل : إحراز الملازمة بين وجوب شيء ومقدّمته :

المقصود من هذا البحث في الأصول هو إحراز الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، يعني إذا علمنا بوجوب شيء وعلمنا أنّه متوقّف على فعل معيّن ، كتوقّف الصلاة على الطهارة ، فهل يعني ذلك أنّ وجوب الصلاة وتوقّفها على الطهارة يكشف بالملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الطهارة عن وجوبها؟

الأمر الثاني : من تقسيمات المقدّمة :

قد تقسّم المقدّمة إلى عدّة تقسيمات منها :

١ ـ الداخلية والخارجية :

فالمقدّمة الخارجية : هي التي يتوقّف عليها الواجب ويكون وجودها منفصلا عن وجود الواجب وماهيّته ، مثل : الطهارة للصلاة.

والمقدّمة الداخلية : هي أجزاء الواجب التي يتكوّن المركّب منها ،

٧٠

كأجزاء الصلاة بالنسبة إليها.

٢ ـ العقلية والشرعية والعادية :

أمّا العقلية : فهي التي يستحيل حصول واجب بدونها عقلا ، مثل :

توقّف الحجّ على طيّ المسافة.

وأمّا الشرعية : فهي التي يتوقّف عليها الواجب بحكم الشارع ، مثل :

توقّف الصلاة على الطهارات الثلاث.

وأمّا العادية : فهي التي يتوقّف الواجب عليها بحكم العادة والطبيعة دون العقل والشرع ، كتوقّف الصعود إلى السطح على نصب السلّم على ما قيل.

٣ ـ مقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة

ومقدّمة الوجوب ومقدّمة العلم :

أما مقدّمة الوجود : فهي ما توقّف وجود الواجب عليه ، مثل : الماء للوضوء ، فإنّ وجوده يتوقّف عليه.

وأمّا مقدّمة الصحّة : فهي ما توقّفت صحّة الواجب عليه ، مثل : التوجّه إلى القبلة ، فإنّ الصلاة الواجبة لا تصحّ اختيارا من دون التوجّه إلى القبلة.

وأمّا مقدّمة الوجوب : فهي ما توقّف وجوب الواجب عليه ، مثل : دخول الوقت للصلاة ، فإنّها لا تجب قبل دخول الوقت ، ومثل : الاستطاعة للحج ، فإنّه لا يجب بدونها.

وأمّا مقدّمة العلم : فهي التي يتوقّف العلم بحصول الواجب عليها ، مثل : الصلاة إلى أربعة جوانب حين اشتباه القبلة ؛ كي يحصل العلم بحصول الصلاة المطلوبة.

٧١

٤ ـ المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة :

أمّا المتقدّمة : فهي التي تتقدّم على الواجب زمانا ، مثل : وجوب تحصيل الزاد والراحلة وقطع المسافة لإدراك الحجّ في زمانه.

وأمّا المقارنة : فمثل الاستقبال المقارن لوجود الصلاة.

وأمّا المتأخّرة : فكغسل المستحاضة الكثيرة لصحّة الصوم المتقدّم على ما قيل.

الأمر الثالث : في تقسيمات الواجب (١) :

يقسّم الواجب إلى الأقسام الآتية :

١ ـ المطلق والمشروط :

فالواجب المطلق : يطلق على الواجب بلحاظ شيء آخر ، بمعنى إذا لاحظنا واجبا بالنسبة إلى شيء لم يقيّد به فهو واجب مطلق بالنسبة إليه ، فالصلاة واجبة ، ولكنّها لمّا نلاحظها بالقياس إلى الغنى والفقر نرى أنّها غير مقيّدة بشيء منهما ، فالصلاة واجبة سواء كان المكلّف غنيا أو فقيرا ، فهي واجب مطلق بالنسبة إليهما.

والواجب المشروط : ما لا يجب إلّا مع وجود ما قيّد به ، مثل : الحجّ ، فإنّه لا يجب إلّا مع الاستطاعة.

ثمّ إنّه ما من واجب إلّا وهو مشروط بشرط ما لا محالة ، وحيث إنّ الاشتراط والإطلاق من الأوصاف الإضافية فكلّ واجب يعتبر مشروطا بالقياس إلى الشيء الذي توقّف وجوبه عليه ، ويعتبر مطلقا

__________________

(١) هذه التقسيمات غير التي تقدّمت الإشارة إليها.

٧٢

بالنسبة إلى الشيء الذي لم يتوقّف وجوبه عليه ، فالصلاة واجب مطلق بالقياس إلى الغنى والفقر ؛ لأنّ وجوبها لا يتوقّف على شيء منهما ، وهي واجب مشروط بالقياس إلى القدرة والحياة والبلوغ ، فإنّها لا تجب إلّا مع وجودها.

ثمّ إطلاق لفظ «الواجب» على الواجب المشروط بعد تحقّق شرط وجوبه إطلاق حقيقي ، وإطلاقه عليه قبل حصول شرطه محل بحث بين الأعلام ، فمثلا : إطلاق الواجب على الصلاة قبل دخول الوقت ، هل هو حقيقي أو مجازي؟ وبعد حضور الوقت حقيقي بلا إشكال.

٢ ـ الواجب المعلّق والمنجّز :

فالواجب المعلّق : ما كان موقوفا على أمر متأخّر ، ولكن وجوبه فعليّ غير متوقّف على ذلك الأمر ، مثل : الحجّ ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف منذ حصول الاستطاعة على الحجّ وخروج القوافل إلى مكّة ، إلّا أنّ حصول الواجب وإتيانه متوقّف على حضور زمانه.

والفرق بين الواجب المعلّق والواجب المشروط : أنّ الشرط في الثاني راجع إلى الوجوب ، فلا يتحقّق الوجوب إلّا بعد حصول الشرط ، كالصلاة فإنّها لا يتأتى وجوبها إلّا بعد حضور وقتها ؛ والشرط في الأوّل راجع إلى الواجب نفسه لا إلى الوجوب ، فإنّ وجوبه يتحقّق قبل الشرط ، ولكن ذات الواجب لا يتحقّق إلّا بعد حصول القيد ، كما عرفت في مثال الحجّ.

والواجب المنجّز : ما لا يتوقّف إلّا على قدرة المكلّف عليه ، مثل : معرفة الله سبحانه ، فإنّها تجب على كلّ مكلّف قادر ، وهي لا تتوقّف على شيء سواها.

٧٣

٣ ـ الواجب النفسي والواجب الغيري :

فالواجب النفسي : ما كان واجبا لأجل مصلحة في نفسه (١) ، ولا يكون واجبا لأجل واجب آخر ، مثل : المعرفة ، فإنّها واجبة لأجل نفسها لا لأجل واجب آخر.

والواجب الغيري : ما كان واجبا لأجل التوصّل إلى واجب آخر ، مثل : الوضوء والغسل والتيمم ، فإنّها تجب لأجل التوصّل إلى مصلحة الصلاة ، فإنّ الصلاة الصحيحة لا تتحقّق إلّا مع الطهارة ، وهو واضح وقد تقدّم.

ثمّ إنّه لا إشكال عندهم في ترتّب الثواب والعقاب على الواجب النفسي ، ولكنّهم اختلفوا في الواجب الغيري : أنّه هل يترتّب عليه ثواب وعقاب علاوة على الثواب المترتّب على الواجب النفسي أم لا؟ ذهب إلى كلّ فريق.

٤ ـ الواجب الأصلي والتبعي :

فالواجب الأصلي : ما كان مقصودا للمولى بنفسه ، ولأجل مصلحة فيه.

والتبعي : ما يكون مقصودا للمولى بتبع غيره.

والفرق بينهما : أنّ الواجب الأصلي يكون معلوما للمولى وهو ملتفت إليه بخلاف الواجب التبعي ، فإنّه يكون مغفولا عنه ، ولكن العبد يعلم أنّه لو كان المولى ملتفتا لأمر به ، مثلما يأمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق ، ومعلوم أنّ شراءه يتوقّف على المشي إلى السوق والمساومة مع بايعه عليه ، وحيث إنّ المولى غير ملتفت إلى هذه الأمور التي يتوقّف الشراء عليها ؛ ولذلك لم يأمر بها بل أمر بالشراء فقط ، ولكن العبد العاقل يعلم بأنّ المولى

__________________

(١) هذا على المعروف من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها. والحقّ المحقّق : أنّها تتّبع المصالح في نفس الأحكام ، كما ستطّلع على حقيقة الحال إن شاء الله.

٧٤

لو كان ملتفتا إلى هذه الأمور لأمر بها جزما (١).

الأمر الرابع : تبعية وجوب المقدّمة لذيها :

المشهور أنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة في الإطلاق والاشتراط ، فإنّ كان وجوب ذي المقدّمة مطلقا كان وجوب المقدّمة مطلقا ، وإن كان وجوبه مشروطا كان وجوب المقدّمة مشروطا أيضا ، مثلا : وجوب الصلاة مشروط بالقدرة والحياة والبلوغ ، ووجوب الوضوء لها أيضا مشروط بها ؛ ووجوب الحجّ مشروط بالاستطاعة ، ووجوب تهيئة المقدّمات من الزاد والراحلة أيضا مشروط بها ، ووجوب الصلاة غير مشروط بالغنى والفقر ، ووجوب الوضوء أيضا ليس مشروطا بواحد منهما.

لمّا عرفت هذه الأمور فاعلم : انّهم اختلفوا في مقدّمة الواجب إذا كانت مقدورة : هل هي واجبة أم لا؟

قيل : إنّها واجبة مطلقا.

وقيل : إنّها ليست بواجبة مطلقا.

وقيل : واجبة إن كانت سببا لذي المقدّمة ، وأمّا إن لم تكن سببا فغير واجبة.

ثمّ على القول بوجوبها تكون واجبة بالوجوب الغيري لا النفسي.

وكما اختلفوا في مقدّمة الواجب ، كذلك اختلفوا في مقدّمة المستحب ، من أنّها مستحبّة أم لا؟

وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه فالمعروف أنّها لا تتّصف بالحرمة والكراهية.

__________________

(١) هذا واضح في المولى العرفي ولا يتحقّق في المولى الحقيقي.

٧٥

الفصل السابع

الأمر بشيء هل يدلّ على حرمة ضدّه؟

إذا أمر المولى بشيء فهل يدلّ ذلك الأمر على حرمة ضدّ المأمور به أم لا؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من التمهيد له بعدّة أمور :

أولا : لفظ «الضدّ» يطلق عند أصحاب المعقول على أمر وجودي يقابله أمر وجودي مثله ، ويكونان على نحو يتواردان على موضوع واحد ، بينهما غاية البعد ، مثل : السواد والبياض.

وقد يطلق على ما يمتنع اجتماعه مع مقابله في شيء واحد ، ولا يشترط كونهما وجودين ، وهذا الإطلاق يشمل الضدّين والنقيضين. فالفعل والترك لا يمكن اجتماعهما فهما ضدّان بالإطلاق الثاني ، وليسا بضدّين بالإطلاق الأوّل ، كما لا يخفى.

والمقصود عند الأصوليين من لفظ «الضدّ» في هذا البحث هو المعنى الثاني دون الأوّل.

ثانيا : المقصود من الدلالة على النهي عن الضدّ في المقام هو أعمّ من

٧٦

كونها مطابقية أو تضمّنية (١) أو التزامية ، يعني يبحث عن أنّ الأمر بالشيء هل يدل على النهي عن ضدّه بإحدى الدلالات الثلاث : المطابقة أو التضمّن أو الالتزام أم لا؟

ثالثا : قسّموا الضدّ إلى قسمين : الضدّ العامّ ، والضدّ الخاصّ.

والضدّ العامّ للمأمور به عبارة عن تركه.

والضدّ الخاصّ عبارة عن الأفعال الوجودية الأخرى التي لا تجتمع مع المأمور به ، مثل : الأكل والشرب والنوم للصلاة ، فإنّها أضداد خاصّة للصلاة بخلاف الترك فإنّه ضدّ عامّ لها ؛ لأنّه يجتمع مع جميع الأضداد الخاصّة ، مثل : اجتماع الكلّي بأفراده ، فإنّه إذا اشتغل المكلّف بفعل مضادّ للصلاة ـ مثل : الأكل أو الشرب أو المطالعة ـ فلا محالة يلزمه ترك الصلاة الذي هو ضدّ عامّ لها ، فلا يمكن تحقّق الضدّ الخاصّ بدون الضدّ العامّ ، كما هو شأن الكلّي وأفراده.

رابعا : ثمرة هذا البحث الأصولي هي أنّه لو قلنا بأنّ الأمر بالشيء يدلّ على النهي عن ضدّه ، وفرضنا الضدّ أمرا عباديا ، وكان النهي عن العبادة يقتضي فسادها وتكون العبادة فاسدة ، مثل : المثال المعروف أنّه إذا وجد المكلّف في المسجد نجاسة وكان قد حضر وقت الصلاة ، فتكون الصلاة ضدّ المأمور به ، أعني إزالة النجاسة ، فحينئذ هل الأمر بإزالة النجاسة يدلّ على النهي عن الصلاة؟

فإن قلنا : إنّه يدلّ ، فتكون الصلاة باعتبار كونها ضدّا للمأمور به منهيّا

__________________

(١) هذا هو المعروف ، وقد حقّقنا انحصار الدلالة في المطابقية والالتزامية ، والتفصيل في محلّه.

٧٧

عنها ، وحيث فرضنا أنّ النهي المتعلّق بالعبادة كالصلاة يقتضي فسادها ، فتكون الصلاة فاسدة ، وطبعا أنّها إنّما تكون فاسدة إن قلنا : إنّ الأمر بالشيء يدلّ على النهي عن الضدّ.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم :

انّهم اختلفوا في أنّ الأمر بالشيء هل يدلّ على النهي عن ضدّه أم لا؟

قيل : لا.

وقيل : نعم.

ثمّ القائلون بالدلالة اختلفوا ، فقال قوم : إنّه يدلّ على النهي عن الضدّ العامّ بالمطابقة ، يعني أنّ الأمر بالصلاة عين النهي عن تركها.

وقيل : إنّه يدلّ على النهي عن الضدّ العامّ بالتضمّن ؛ لأنّ الأمر يدلّ على الوجوب ، كما تقدّم ، والوجوب مركّب من جزءين : أحدهما رجحان الفعل ، والآخر : المنع من الترك ، فيكون المنع من الترك جزءا من الوجوب الذي يدلّ عليه الأمر بالمطابقة ، فيكون الأمر دالّا على المنع من الترك بالتضمّن ؛ لأنّ الدلالة على جزء الموضوع له تكون تضمّنية.

وقيل : إنّ الأمر بالشيء يدلّ على النهي عن الضدّ الخاصّ.

وقيل : إنّها بالمطابقة.

وقيل : بالالتزام.

أمّا الأوّل : فمعناه أنّ الأمر بالشيء كالصلاة يعني اترك أضدادها ، مثل : الأكل والشرب وغيرها من الأمور المضادّة لها ، حتى الجلوس فارغا من كلّ عمل.

وأمّا الثاني : فمعناه أنّ الأمر بالشيء كالصلاة يلزمه النهي عن هذه الأمور المضادّة ؛ لأنّ الصلاة لا تتحقّق إلّا مع ترك هذه الأمور كلّها ، فيكون

٧٨

تركها لازما لفعل الصلاة ، فالأمر الدالّ على وجوب الصلاة دالّ على ترك هذه الأمور بالالتزام.

تنبيهات ثلاثة :

الأوّل : اتّفق الأصحاب على أنّه لا يصحّ من المولى الحكيم الأمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه ؛ وذلك لأنّ الفعل لا يتحقّق في الخارج بدون علّته التامّة ، والعلّة تتألّف من أمور أربعة : المقتضي ، والشرط ، وعدم المانع ، والمعدّ.

مثلا : الإحراق بالنار لا يتحقّق إلّا باجتماع هذه الأمور ، الأمر الأوّل : المقتضي للإحراق وهو النار ، والثاني : الشرط وهو المحاذاة والوضع الخاصّ بين النار والحطب ، والثالث : عدم المانع وهو في المقام عبارة عن عدم الرطوبة المانعة من تأثير النار ، والرابع : تهيئة النار واقتراب الحطب للإحراق والاحتراق. ومعلوم أنّه إذا تحقّقت هذه الأمور كان الإحراق حاصلا في الواقع لا محالة ؛ لأنّ العلّة تتألّف من هذه الأمور ، وإذا اجتمعت تمّت العلّة ، فحصل المعلول ، وإذا فقد واحد منها أو أكثر انعدمت العلّة ؛ لأنّ المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه ، وإذا عدمت العلّة عدم المعلول ، بل امتنع وجوده في الخارج.

ومنه اتّضح أنّه إذا عدم الشرط كان وجود المشروط مستحيلا في الخارج ، فإذا علم المولى بأنّ شرط الفعل منتف في الخارج ، وأنّ الفعل مستحيل في الخارج ، وأنّ العبد غير قادر عليه ، فكيف يعقل منه أمره بذلك الشيء؟

الثاني : الأوامر والنواهي إنّما تتعلّق بالطبائع المطلقة دون الأفراد.

٧٩

مثلا : إذا أمر المولى بالصلاة كان المأمور به طبيعي الصلاة ، ولا يكون فرد خاصّ مأمورا به بخصوصه ، بل يكون المكلف مختارا في إتيان أيّ فرد شاء من أفراد ذلك الطبيعي ، وحيث تحقّق في المنطق أنّ الطبيعي يتحقّق في الخارج بكلّ فرد ، فإذا أتى المكلف بفرد من أفراد الطبيعي حصل الطبيعي المأمور به ، وحصل الامتثال.

وهكذا الكلام في النهي ، فإنّه أيضا يتعلّق بالطبيعي المطلق ، ولكن حيث إنّ المقصود بالنهي الترك ، أي ترك الطبيعة وإعدامها في الخارج ، وهو لا يتحقّق إلّا بترك جميع أفرادها ، فلا يمكن امتثال النهي إلّا بترك جميع أفراد الطبيعة التي تعلّق النهي بها.

الثالث : لا بدّ لكلّ فعل صادر من المادّيات من زمان عقلا ، إلّا أنّه قد يكون الزمان مشروطا في الواجب بحكم الشارع ، بأن يعيّن وقتا خاصّا له ، فحينئذ يسمّى الواجب مؤقّتا.

ثمّ قد يكون الزمان مساويا للواجب ، مثل : زمان الصوم ، فإنّه بقدر الصوم ، أعني الإمساك.

وقد يكون الزمان أوسع من الواجب بأن يتمكّن المكلّف من إتيان الفعل الواجب فيه عدّة مرّات ، مثل : صلاة الظهر ، فإنّ وقتها على المشهور من الزوال إلى أن يبقى من الغروب مقدار أربع ركعات ، ومعلوم أنّ هذا الوقت أوسع ممّا يحتاج إليه المكلف لإتيان صلاة الظهر.

فإن كان الوقت مساويا للفعل المأمور به فالواجب مضيّق ، وإن كان أوسع فالواجب موسّع.

ثمّ اختلفوا في الموسّع وقيل : إنّ الوقت الأصلي للواجب هو ما يسعه من أوّله.

٨٠