مرقاة الأصول

آية الله الشيخ بشير النجفي

مرقاة الأصول

المؤلف:

آية الله الشيخ بشير النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8220-56-5
الصفحات: ٢٦٣

ووضع الأعلام الشخصية خاصّ ؛ لأنّ الواضع تصوّر معنى خاصّا حين الوضع. والموضوع له أيضا خاصّ ؛ لأنّه وضع اللفظ لمعنى مخصوص ، كزيد وخالد ومحمد.

٣ ـ الوضع الشخصي والوضع النوعي

تمهيد :

اللفظ يتألف من جزءين : المادة والهيئة.

المادة : هي ذوات الحروف المرتبة ، نحو «ض ، ر ، ب» من دون ملاحظة الإعراب والحركة.

الهيئة : هي الصورة المجعولة من يد الواضع ، الطارئة على تلك المادّة ك «ضرب» مثلا ، فإنّ المادّة فيه عبارة عن نفس الحروف الثلاثة المرتّبة ، أعني : «ض ، ر ، ب» ، والهيئة فيه عبارة عن صورته الخاصّة العارضة على الحروف ، وهي الشكل المتصوّر بملاحظة توالي الحركات على نحو خاصّ وترتيب معيّن.

إذا عرفت هذا فاعلم :

ان الهيئة حيث كانت حالها حال المعنى الحرفي ؛ لأنّ عدم الاستقلال بالمفهوم متمكّن في عيبتها ، فلا يمكن لحاظها على استقلالها ، بل لا بدّ حين التصوّر من ملاحظتها طارئة للغير ، فحينما يحاول الواضع وضعها لمعنى فإمّا أن يلاحظها طارئة على مادّة مخصوصة ، فتكون تلك الهيئة الملحوظة كذلك معيّنة مشخّصة ، فإن وضعها كذلك لمعنى كان الوضع شخصيا ، إلّا أنّه لا يوجد له مثال ، وإن لاحظ الواضع الهيئة المعيّنة الطارئة لأيّة مادّة ـ كهيئة «فاعل» في أيّة مادّة تحققت ـ كان الوضع نوعيا. وحيث إن الهيئة

٢١

لا تتصوّر إلّا في ضمن مادّة ما كان تصوّر المادّة مع تصوّر الهيئة حين وضعها لازما ، وحيث يمكن تصوّر مادّة مخصوصة ، وكان وضعها من دون تصوّر الهيئة بمكان من الإمكان ، فهي تتصوّر بنفسها وتوضع لمعناها ، كان الوضع فيها شخصيّا.

والتفرقة بين الوضع النوعي والشخصي بهذا البيان أولى ؛ ليتّضح مفاد ما اشتهر بينهم من أنّ الوضع في الهيئات نوعي ، وفي الموادّ شخصي ، فافهم واغتنم.

٢٢

الأمر الثالث

في الحقيقة والمجاز

الحقيقة في الأصل : فعيل بمعنى فاعل ـ من باب ضرب ونصر ـ من حقّ الشيء إذا ثبت ؛ أو بمعنى مفعول من حقّقته أي أثبته ، ثمّ نقل إلى اللفظ الثابت أو المثبّت في مكانه الأصلي.

والتاء في «الحقيقة» للنقل من الوصفية إلى الاسمية.

ومعنى نقل التاء من الوصفية إلى الاسمية أنّ اللفظ إذا صار بنفسه اسما لغلبة استعماله في المعنى الاسمي ـ بعد ما كان موضوعا للمعنى الوصفي ـ كانت اسميّته فرعا لوصفيّته ، فكما أنّ المؤنث فرع المذكر فتجعل التاء علامة للفرعية كما جعلت علامة في لفظ «العلّامة» لكثرة العلم ؛ بناء على أنّ كثرة الشيء فرع تحقّق أصله.

وقيل : إنّ التاء فيها لتأنيث فعيلة ، فإن قلنا : إنّها بمعنى فاعل ، فواضح أنّها على زنة شريفة ؛ وأمّا إن قلنا : إنّها بمعنى المفعول ، فتقدّر منقولة من الوصف المؤنّث المحذوف.

فالحقيقة : هو اللفظ المستعمل فيما وضع له ، فعليه يلزم فيها أمران : الوضع ، واستعمال اللفظ الموضوع في معناه. ومن تضامن هذين الأمرين

٢٣

تتكوّن الحقيقة.

وبناء على ذلك إذا فرض أن اللفظ لم يوضع لمعنى واستعمل فيه ، لم يكن حقيقة بل هو مجاز كما ستعرفه ، وكذلك إذا فرض أنّ اللفظ وضع لمعنى لكنّه لم يستعمل فيه ، لم يكن حقيقة أيضا. نعم إذا أحرز الأمران معا بأن كان اللفظ موضوعا لمعنى واستعمل فيه ، لا جرم كان ذلك اللفظ حقيقة. ومنه يظهر أن الحقيقة وكذلك المجاز من أوصاف اللفظ ، فاحفظ ذلك فإنّ تعبيرات القوم مشوشة جدا.

والمجاز في الأصل : من جاز الموضع جوزا أو جئوزا أو جوازا أو مجازا ، إذا سار عنه وخلّفه.

وفي الاصطلاح : هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له مصاحبا لقرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي ، ومصاحبا لقرينة معيّنة للمعنى المجازي الذي استعمل فيه اللفظ.

فعليه لا يكون اللفظ مجازا إلّا إذا أحرزنا أربعة أمور :

١ ـ استعمال اللفظ في المعنى.

٢ ـ وأن لا يكون ذلك المعنى ممّا وضع له ذلك اللفظ.

٣ ـ القرينة التي تصرف اللفظ من المعنى الحقيقي الذي وضع له اللفظ.

٤ ـ القرينة التي تعيّن المعنى المجازي المراد من بين المعاني المجازية.

فمثلا عند ما نقول : رأيت أسدا في الحمام يغتسل ، فالأمور الأربعة السابقة الذكر محرزة في المثال ، وذلك باستعمال لفظ «أسد» في الرجل الشجاع الذي ليس هو ممّا وضع له لفظ «أسد» ، وقد صحبته قرينة تمنع من

٢٤

إرادة المعنى الحقيقي وهي قولك : في الحمام ، وحيث يحتمل أن يراد بالأسد الصورة المنقوشة في الحمام ، والتي هي أيضا معنى مجازي للأسد ، واحتمل إرادة الرجل الشجاع وهو معنى مجازي آخر للفظ الأسد ، فافتقرت إلى قرينة أخرى تعيّن المعنى المجازي المراد ، وهي قولك : يغتسل.

وربّما لا نحتاج إلى قرينتين ، بل يكتفى بقرينة واحدة ذات جهتين تفيد فائدتين : صرف اللفظ عن المعنى الحقيقي ، وتعيّن المعنى المراد ، وذلك مثل قولك : رأيت أسدا يخطب. فإنّ قولك : «يخطب» كما يدل على أنّك لم ترد المعنى الحقيقي للفظ «الأسد» ـ وهو الحيوان الجارح المعروف ـ كذلك يدلّ على أنّك أردت منه بملاحظة لفظ «يخطب» رجلا جريئا ، ولم ترد شيئا آخر من المعاني التي يطلق عليها لفظ «الأسد» مجازا.

وربّما لا تكفي قرينة واحدة بل تحتاج إلى قرينتين مختلفتين مثل المثال الأوّل.

ثمّ هل يشترط في المجاز شيء آخر؟

قال بعضهم : لا بدّ مع ما ذكر من استحسان الطبع السليم لذلك الاستعمال ، ولكن المعروف عندهم أنّه يشترط مع ما ذكرناه آنفا من الأمور أمر خامس غير استحسان الطبع ، وهو عبارة عن العلاقة الخاصّة وربط خاصّ بين المعنى الحقيقي والمجازي ، وتلك العلاقة أو الربط المخصوص يعرف من أهل اللغة.

ثمّ نقلوا تلك العلائق وأنهوها إلى خمس وعشرين علاقة ، وهي كما يلي :

١ ـ إطلاق السبب على المسبب ، كاليد على القوّة في قوله تعالى : (يَدُ اللهِ

٢٥

فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(١).

٢ ـ عكس ذلك ، كالقتل على الضرب الشديد ، وهذا الاستعمال في العرف شائع جدا.

٣ ـ إطلاق المشبّه به على المشبه ، كالأسد على الجريء والفرس على الصورة المرسومة على الجدار.

٤ ـ إطلاق الكلّ على الجزء ، كالأصبع على الأنامل في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ)(٢).

٥ ـ إطلاق الجزء على الكلّ ، كالرقبة على الذات في قول الداعي : «اللهم اعتق رقبتي من النار». واشترط في هذا القسم أن يكون انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكلّ ، ويكون للكلّ تركّب حقيقي فلا يكفي التركّب الانضمامي.

٦ ـ إطلاق اسم الشيء على ما كان عليه ، كإطلاق اليتيم على من كان كذلك في قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)(٣).

٧ ـ إطلاق اسم الشيء على ما يصير ويؤول إليه ، كالميت على الحيّ أو القتيل على من لم يقتل بعد في قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)(٤) ، وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما هو معروف : «من قتل قتيلا فله سلبه» (٥). ولا بدّ في هذا القسم من القطع أو الظن بالمؤول إليه.

٨ ـ إطلاق الشيء على مجاوره ، كالراوية التي هي اسم للبعير على

__________________

(١) الفتح : ١٠.

(٢) البقرة : ١٩.

(٣) النساء : ٢.

(٤) الزمر : ٣٠.

(٥) سفينة البحار ١ : ٦٣٨. وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يتورّع من ذلك.

٢٦

ظرف الماء والقربة.

٩ ـ إطلاق الشيء على أحد جزئياته ، كالإنسان على زيد بخصوصه.

١٠ ـ إطلاق المصدر على اسم الفاعل ، كالعدل على العادل.

١١ ـ إطلاق المصدر على اسم المفعول ، كالخلق على المخلوق.

١٢ ـ عكس العاشر ، أي إطلاق اسم الفاعل على المصدر ، كاطلاق القائم على القيام في قولهم : قم قائما.

١٣ ـ عكس الحادي عشر ، أي إطلاق اسم المفعول على المصدر ، كإطلاق المفتون على الفتنة في قوله تعالى : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)(١).

١٤ ـ إطلاق العامّ على الخاصّ ، كالعلماء على بعضهم.

١٥ ـ إطلاق المحلّ على الحال ، كإطلاق المجلس على الحضّار.

١٦ ـ عكس الخامس عشر ، أي إطلاق الحال على المحلّ ، مثل : إطلاق الحضّار على المجلس.

١٧ ـ إطلاق آلة الشيء على الشيء ، كاللسان على الذكر في قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ)(٢).

١٨ ـ إطلاق المبدل على البدل ، مثل : إطلاق الدم على الدية في قولهم : فلان صاحب الدم.

١٩ ـ إطلاق الملزوم على اللازم ، كما في قولهم : ناطق بذلك ، أي دالّ عليه.

٢٠ ـ عكس ذلك ، أي إطلاق اللازم على الملزوم ، كما في قولهم : شدّ

__________________

(١) القلم : ٦.

(٢) الشعراء : ٨٤.

٢٧

الإزار ، أي اعتزل النساء.

٢١ ـ إطلاق اسم الفاعل على المفعول ، مثل : إطلاق الدافق على المدفوق في قوله تعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ)(١).

٢٢ ـ عكس ذلك ، أي إطلاق اسم المفعول على الفاعل ، مثل : إطلاق المستور على الساتر في قوله تعالى : (حِجاباً مَسْتُوراً)(٢).

٢٣ ـ إطلاق النكرة على العامّ الأصولي ، كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ)(٣) أي كلّ نفس.

٢٤ ـ إطلاق المعرّف باللام على النكرة ، كقوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)(٤) أي بابا.

٢٥ ـ إطلاق المفرد على الجنس ، كزيد على الإنسان.

ثمّ إنّ هذه العلاقات معروفة عندهم ، وإن كان في البعض إشكال. واشتراط المجاز بوجود واحد من هذه العلائق هو رأي الجمهور ، وقد أنكره بعض الأجلاء وقال : يكفي في صحّة استعمال اللفظ في غير ما وضع له استحسان الطبع السليم والذوق المستقيم ، وسوف تعرف الحقّ في البحوث العالية.

__________________

(١) الطارق : ٦.

(٢) الإسراء : ٤٥.

(٣) الانفطار : ٥.

(٤) البقرة : ٥٨.

٢٨

الأمر الرابع

في الدلالة

تعريفها وأقسامها المعروفة :

الدلالة لغة : الهداية والإرشاد ، ومنه قولهم : «الدالّ على الخير كفاعله».

واصطلاحا : كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، ويقال للأوّل : الدال والثاني المدلول.

والدلالة قد تستند إلى الوضع فتسمّى دلالة وضعية ، وقد تستند إلى الطبع فتسمّى طبعية ، وقد تستند إلى العقل فتسمّى عقلية. والأفضل منها الأوّل إن كانت لفظية ؛ لأجل سهولة الاستفادة منها ؛ ولذلك شاع البحث عنها فقط. فالمبحوث عنها فيما يلي هي الدلالة اللفظية الوضعية.

أوّلا : الدلالة اللفظية الوضعية :

وهي على نوعين :

أ ـ تصوّرية :

وهي انتقال الذهن حين استماع لفظ «زيد» إلى ذاته.

وإنّما سمّيت تصوّرية ؛ لأنّها توجب تصوّر المعنى حين الإحساس

٢٩

باللفظ الموضوع له.

ب ـ تصديقية :

وهي انتقال الذهن من اللفظ إلى التصديق بأنّ المتكلّم مريد لمعنى اللفظ ، فمثلا إذا قال قائل : قام زيد ، فالسامع له يصدّق بأنّ المتكلّم مريد لمفاد الجملة ، وهو قيام زيد.

وإنّما سمّيت دلالة تصديقية ؛ لأنّها تستلزم التصديق بإرادة المتكلّم معنى الكلام ، وهذا التصديق يتوقّف على أمور :

١ ـ أن يكون المتكلّم ملتفتا إلى ما يقوله غير غافل أو نائم أو ساه.

٢ ـ أن يكون المتكلّم قاصدا لبيان مراده ، ولا يكون في صدد التمثيل أو السخرية أو الاستهزاء ، أو غيرها من الدواعي.

٣ ـ أن لا ينصب قرينة صارفة للّفظ إلى غير معناه الحقيقي.

تنبيه : قيل : دلالة اللفظ على معناه تابعة لإرادة اللافظ ، ونسب ذلك إلى العلمين : الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسي في الإشارات وشرحه ، ولكنّ كليهما راجع إلى الدلالة التصديقية التي عرفتها لا إلى ما قيل.

هذا ما وصل إليه تحقيق بعض الأجلّاء.

والحقّ : أنّ الدلالة منحصرة في التصوّرية ، وأنّ تقسيمها إليها وإلى التصديقية من باب اشتباه المفهوم بالمصداق ، وسوف تعرف ذلك في محله إن شاء الله.

٣٠

ثانيا : دلالة الجمل :

المفاد الصريح الذي وضعت الجملة له يعتبر مدلولا حقيقيا لها ، والجملة تدلّ عليه بالمطابقية ، والجملة كما تدلّ على مدلولها المطابقي كذلك تدلّ على مدلولها الالتزامي.

وهذه الدلالة ـ أي الدلالة الالتزامية للجملة ـ على ثلاثة أقسام : دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة.

١ ـ دلالة الاقتضاء :

وهي أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلّم بحسب العرف ، ويتوقّف صدق الكلام وصحّته عليها عقلا أو شرعا أو عادة ، مثل : دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» (١) على نفي الأحكام الضررية في الدين ، فإنّ صدق الكلام يتوقّف على تقدير الأحكام والآثار الشرعية ؛ لتكون هي المنفية حقيقة ، وإلّا يلزم الكذب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ إنّ الظاهر الضرر في العالم على الناس والمسلمين ثابت ، فيكون النفي المتوجّه إلى الضرر ظاهرا متوجّها إلى الآثار الشرعية واقعا ، والأحكام المجعولة شرعا. ومثل ذلك : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون وما اضطرّوا إليه ...» (٢) ، ومثل : قوله عليه‌السلام : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» (٣) ؛ فإنّ صدق الكلام وصحّته تتوقّف على تقدير كلمة «كاملة» أو ما يرادفها ؛ حتى يكون المنفي كمال الصلاة وفضلها لا نفسها ، فإنّ الصلاة في مثل المورد المذكور متحقّقة قطعا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٢.

(٣) وسائل الشيعة ، الباب ٢ من أحكام المساجد ، الحديث ١.

٣١

ومثال آخر : قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) فإنّ صحّته عقلا تتوقّف على تقدير لفظ «أهل» أو ما يرادفه ؛ حتى يكون من باب حذف المضاف ، أو على تقدير معنى «أهل» ؛ كي يكون من باب المجاز في الأسناد.

ومثال آخر : قول القائل : «اعتق عبدك وعليّ ألف» فيكون تقدير الكلام : ملّكني عبدك بألف ، ثمّ اعتقه عني.

ومثال آخر : قول الشاعر (٢) :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

ومن الواضح أن صحّته لغة تتوقّف على تقدير «راضون» ؛ كي يكون خبرا للمبتدا «نحن» ؛ لأن «راض» مفرد لا يصلح أن يكون خبرا ل «نحن». والدلالات المقصودة في هذه الأمثلة كلّها من باب الاقتضاء.

فذلكة : المناط في دلالة الاقتضاء شيئان ، الأوّل : أن تكون الدلالة مقصودة ، والثاني : أن يكون صدق الكلام ـ عقلا أو شرعا أو عادة ـ متوقّفا على تلك الدلالة.

وقد تفسّر دلالة الاقتضاء على نحو آخر حاصله : أنّ دلالة الاقتضاء ما إذا توقّفت صحّة المدلول المطابقي للكلام ومعقوليّته على إرادة ذلك المدلول الالتزامي له ، يعني : أنّ الكلام بما له من مدلول مطابقي لا يصحّ أو لا يعقل إلّا مع إرادة تلك الدلالة الالتزامية. ومثاله : ما إذا قال المولى : اعمل بما

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

(٢) قيل لعمر بن امرئ القيس الأنصاري ، وقيل لقيس بن الخطيم بن عدي الأوسي الأنصاري.

٣٢

يخبرك زيد ، وكان كلامه مبنيا على حجّية خبر الفاسق ، ومن الواضح أنّ المدلول المطابقي لهذا الكلام ـ وهو وجوب العمل بما يخبر زيد ـ لا يعقل إلّا مع إرادة مدلوله الالتزامي ، وهو حجّية خبر الفاسق ، ولعلّ المبحوث عنه في الأصول من دلالة الاقتضاء هو هذا المعنى.

٢ ـ دلالة التنبيه أو الإيماء :

وهي أن تكون مقصودة للمتكلّم بحكم العرف ، ولا يشترط توقف صدق الكلام ولا صحّته عليها ، وإنّما سير الكلام وسياقه يوجب القطع بإرادة ذلك المعنى المدلول بهذه الدلالة ـ أي دلالة التنبيه ـ ويستبعد العرف عدم إرادة ذلك ، وهذا هو الفارق بين دلالة التنبيه وبين الدلالة الاقتضاء التي تقدّم ذكرها.

ولدلالة التنبيه موارد نذكر بعضها تمثيلا وتقريبا لذهن الطالب ، مثل : ما إذا كان الحكم قد قرن بشيء بحيث إنّ السياق يقضي بأنّه لو لم يكن ذلك الشيء علّة لما قرن به ، مثل : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اعتق» عقيب قول الأعرابي : «هلكت ، واقعت امرأتي في شهر رمضان» (١). فعلم من ذلك أنّ الوقاع المذكور علّة لوجوب الكفارة ، وإلّا لبعد الاقتران فكأنّه قال : إذا واقعت في نهار شهر رمضان فكفّر.

٣ ـ دلالة الإشارة :

هذه الدلالة تختلف عن الدلالتين السابقتين بأنّها لا تكون مقصودة للمتكلّم حين التكلّم حسب متفاهم العرف ، ولكن يكون مدلولها لازما لمدلول

__________________

(١) سنن الدارمي ، كتاب الصوم ، الباب ١٩ ، الحديث ١.

٣٣

الكلام ، ولا يكون ذلك اللزوم بيّنا ، أو يكون بيّنا بالمعنى الأعمّ ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المدلول بهذه الدلالة مستفادا من كلام واحد أو كلامين.

ومثال ذلك : استفادة أقلّ الحمل من الآيتين وهما : آية (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(١) ، وآية (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٢) ، فإنّه بعد ملاحظة مدلول الآيتين ، وبعد طرح سنتين من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر ، فيعرف أنّه أقلّ الحمل.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ للأصوليين بحثا في اعتبار هذه الدلالات على ما ستعرفه في محلّه إن شاء الله سبحانه.

__________________

(١) الأحقاف : ١٥.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

٣٤

الأمر الخامس

في علامات (١) الحقيقة والمجاز

العلامة لغة : السمة.

واصطلاحا : هي الوصف اللازم للشيء بحيث يكون أظهر من الشيء حتى يعرف به.

ثمّ ذكروا للحقيقة والمجاز علامات :

الأولى : التبادر :

وهو علامة للحقيقة وعدمه علامة للمجاز.

والمقصود بالتبادر : تسرّع الذهن إلى المعنى حين إطلاق اللفظ ، أو سرعة المعنى إلى الذهن حين الإحساس باللفظ.

مثلا حينما يطلق لفظ «أسد» يحضر معناه في الذهن فورا ولا يسرع غيره ، وهذا الحضور الفوري علامة أنّ اللفظ موضوع لذلك المعنى ، وهذا معنى قولنا : التبادر علامة الحقيقة ؛ وحيث لم يتبادر إلى الذهن حين استماع

__________________

(١) شاع التعبير المذكور بينهم ، والصحيح أنّها دلائل وليست علامات كما حقّقناه في موضعه.

٣٥

لفظ «أسد» الرجل الشجاع ، فيعرف منها أنّ لفظ «أسد» مجاز فيه ، وهو معنى قولنا : عدم التبادر علامة المجاز.

الثانية : صحّة السلب :

وهي علامة المجاز ، وعدمها علامة الحقيقة. وقد يعبّر عن الأولى بعدم صحّة الحمل ، وعن الثانية بصحّة الحمل.

والمقصود منها أن نجعل المعنى الذي نشكّ في أنّه حقيقي أو مجازي موضوعا ونشير إليه بأيّ لفظ شئنا ، ثمّ نجعل اللفظ الذي نشك في وضعه له بما له من المعنى الارتكازي محمولا ، فإن صحّ السلب ولم يصحّ الحمل نعرف به أنّ اللفظ لم يوضع لذلك المعنى ، فالمعنى مجازي.

مثلا : إذا شككنا في نوع من الحيوان المفترس أنّه أسد أو لا ، فنجعل ذلك الحيوان المفترس موضوعا ونحمل عليه لفظ «أسد» بما له من المعنى الارتكازي ، فنقول : هذا الحيوان المفترس أسد ، فإن صحّ ذلك الحمل بحسب متفاهم العرف نعرف من ذلك أنّ الحيوان المفترس أسد ، وإن لم يصحّ الحمل ، مثل ما نشكّ في الرجل الشجاع أسد حقيقة أو لا ، فنجعله موضوعا ، فنحمل عليه لفظ «الأسد» ، فنقول : هذا الرجل الشجاع أسد ؛ وحيث نرى العرف لا يحكم بصحّة هذا الحمل ، فنعرف منه أنّ استعمال لفظ «أسد» في الرجل الشجاع مجاز وليس بحقيقة.

تلخيص :

هذه العلامة تبتنى على أمور هي :

١ ـ اللفظ الذي نشكّ في معناه لا بدّ وأن نعرف معناه إجمالا حتى نحمل

٣٦

ذلك اللفظ بلحاظ ذلك المعنى المعلوم بالإجمال.

٢ ـ المعنى الذي نريد معرفته هل هو حقيقي أو مجازي؟ فلا بدّ من أن نحدّده ، ونعتبره كموضوع في القضية التي نركّبها لمعرفة المعنى الحقيقي.

٣ ـ ثمّ بعد إحراز الأمرين السابقين نجرّب الحمل ، فإن صحّ فالمعنى حقيقي ، وإلّا فمجازي.

الثالثة : الاطّراد :

وهو لغة : افتعال من طرد. يقال : اطّرد الشيء ، إذا تبع بعضه بعضا وجرى. ونقول : اطّرد الأمر ، إذا استقام. والأنهار تطّرد : أي تجري.

والمقصود به هاهنا : إذا صحّ استعمال اللفظ في مورد لوجود مفهوم خاصّ فيه صح استعماله في كلّ مورد وجد فيه ذلك المفهوم ، مثل : قائم يستعمل في رجل منتصب وهذا الاستعمال صحيح. ومعلوم أنّ صحّة استعماله فيه إنّما لأجل حصول المعنى المصدري للقائم ، أعني : القيام في ذلك الرجل على نحو أنّ ذلك المعنى الحدثي صادر من ذلك الرجل.

فعليه يعلم منه أنّه يجوز استعمال هيئة «فاعل» في كلّ من يحصل فيه المعنى المصدري على نحو يكون صادرا منه ، فيصحّ إطلاق «العالم» على من حصل فيه العلم ، و «القادر» على من حصلت فيه القدرة وهكذا. ومن ذلك تعرف أنّ استعمال هيئة «فاعل» في من قام به الفعل بمعنى الحدوث حقيقيّ.

وإذا لم يكن كذلك بأن صحّ استعمال لفظ في مورد لوجود مفهوم خاصّ ، ولم يصحّ استعماله في مورد آخر ، مثل : استعمال لفظ «الأسد» في الرجل الجريء صحيح لوجود الجرأة فيه ، بخلاف النملة ـ مثلا ـ فإنّه لا يصحّ استعماله فيها مع وجود الجرأة فيها ، ومنه نعرف أنّ استعمال لفظ

٣٧

«أسد» في الجريء ليس مطّردا بخلاف المثال السابق ، حيث رأينا أنّ استعمال هيئة «فاعل» في من قام به الفعل بمعنى الصدور مطّرد ، فيكون الاطّراد في المثال السابق علامة الحقيقة ، وعدم الاطّراد في المثال الأخير علامة المجاز.

٣٨

الأمر السادس

في الأصول اللفظية

تمهيد :

١ ـ إن وضع اللفظ لمعنى واحد بحيث يكون لفظ واحد له معنى واحد ، فيسمى اللفظ متّحد المعنى ، والمعنى متّحد اللفظ ؛ وإن وضعت عدّة ألفاظ لمعنى واحد كالليث والأسد ـ على ما قيل ـ فألفاظ مترادفة ؛ وإن وضع لفظ واحد لمعان متعدّدة ـ مثل : العين لجرم الشمس والركبة والنابعة ، والعجوز للمطر والقدر والتمر وغيرها ـ فاللفظ مشترك بين تلك المعاني ، وهذا الاشتراك يسمّى اشتراكا لفظيا ، في مقابل الاشتراك المعنوي ، وهو ـ أي الاشتراك المعنوي ـ أن يوضع اللفظ لمعنى كلّي عامّ ، ويكون تحت ذلك المعنى العامّ أفراد كثيرة ، فاللفظ يعتبر مشتركا معنويا بين تلك الأفراد.

٢ ـ إذا علم أنّ اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني ، وعلم أيضا أنّ المتكلّم أراد ذلك المعنى فلا إشكال ؛ وإن لم يعلم المعنى الحقيقي للفظ بأن لم يعرف أنّ هذا اللفظ لأيّ معنى وضع ، ففي مثل ذلك نرجع إلى العلامات المذكورة لمعرفة المعنى الحقيقي والمجازي ؛ وأمّا إن شكّ في المعنى المراد للمتكلّم ، بأن عرفنا المعنى الحقيقي ولم نعرف أنّ المتكلّم أراد هذا المعنى أو

٣٩

غيره ، ففي مثل ذلك نفتقر إلى أمور أخرى نعتمد عليها في تشخيص مراد المتكلّم ، وتلك الأمور تسمّى أصولا لفظية ، وهي كثيرة نذكر المعروف منها.

الأصول اللفظية :

١ ـ أصالة الحقيقة :

وموردها ما إذا شكّ في إرادة المعنى الحقيقي والمجازي ، ولم تقم قرينة واضحة تدلّ على أنّ المراد هو المعنى المجازي ولكن نحتمل وجودها ، ففي مثل ذلك يقال : الأصل الحقيقة ، يعني الأصل أن نحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ؛ لأنّ حمله على المجازي موقوف على القرينة وهي لم تثبت ، فيقال : إنّ المتكلّم أراد المعنى الحقيقي.

٢ ـ أصالة العموم :

ومحلّها ما إذا ورد لفظ عامّ وشكّ في تخصيصه ، يعني شكّ في أنّه هل ورد عليه تخصيص ، ففي مثل ذلك يقال : الأصل العموم ، أي نحمل الكلام على معناه ، أي العموم ، مثل ما إذا قال المولى : أكرم العلماء ، وشككنا في أنّه أخرج الفسّاق منهم أو لا ، فيقال : الأصل في العلماء العموم ؛ لأنّه جمع محلّى باللام موضوع للعموم ، فما لم يثبت التخصيص فالعامّ يحمل على عمومه.

٣ ـ أصالة الإطلاق :

وموردها ما إذا ورد لفظ مطلق ، مثل : «رجل» وشكّ في ورود قيد له ، فيقال : الأصل الإطلاق ، مثل : قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(١)

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٤٠