مرقاة الأصول

آية الله الشيخ بشير النجفي

مرقاة الأصول

المؤلف:

آية الله الشيخ بشير النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8220-56-5
الصفحات: ٢٦٣

تكون قطعية ؛ لأنّ المفروض أنّهما متكاذبان متنافيان ولا يمكن القطع باجتماع المتنافيين. نعم ، لا مانع من أن يكونا معا قطعيين في السند والصدور مع كونهما ظنيين في الدلالة.

٢ ـ أن يتنافى مدلولهما وهو يتصوّر على نحوين ، الأوّل : التنافي ذاتا بأن يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة. والثاني : التنافي العرضي وهو ما إذا لم يكن بينهما تناف حسب ذاتهما ، بل إنّما ثبت التنافي لأجل دليل آخر دلّ على كذب واحد منهما لا بعينه ، وذلك مثل ما إذا دلّ أحدهما على وجوب صلاة الظهر في زمان الغيبة ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة. ومن الواضح أنّه لا منافاة بين وجوب الظهر والجمعة ولكن قد علمنا من دليل آخر أنّه لا يجب بالأصل على المكلّف في يوم وليلة أكثر من خمس صلوات ، ومنه يعلم بأنّ الواجب إمّا الجمعة وإمّا الظهر ولا يمكن وجوبهما معا ، فأحد الدليلين كاذب وغير مطابق للواقع.

٣ ـ أن يكون كلّ من الدليلين في نفسه واجدا لشرائط الحجّية والاعتبار بأن يكون كلّ منهما حجّة لو لا المعارضة.

٤ ـ أن لا يكون الدليلان متزاحمين ، فإنّ للتعارض قواعد وأحكاما ، وللتزاحم (١) قواعد وأحكاما أخرى.

٥ ـ أن لا يكون أحد الدليلين حاكما (٢) على الآخر.

٦ ـ أن لا يكون أحدهما واردا (٣) على الآخر.

٧ ـ أن لا يمكن الجمع بينهما بالنحو المقبول لديهم بأن يكون أحدهما عامّا والآخر خاصّا فيخصّص العامّ به ، أو أحدهما كان مطلقا والآخر مقيّدا

__________________

(١ و ٢ و ٣) سيأتي معنى التزاحم والحكومة والورود.

٢٢١

فيقيّد المطلق به ؛ لأنّه لا تعارض مع إمكان الجمع بينهما على أحد الوجهين. كما أنّ كون أحدهما حاكما أو واردا على الآخر أيضا يرفع التعارض كما سنبيّن إن شاء الله.

٢٢٢

الفصل الثالث

في الفرق بين التعارض والتزاحم

التعارض :

اعلم أنّ التعارض ـ كما عرفت ـ إنّما يحصل فيما كان الدليلان متكاذبين بأن يكذب كلّ منهما الآخر ، فالتعارض : هو التكاذب والتمانع في مقام الدلالة والإثبات ، وذلك إنّما يتحقّق فيما كان كلّ منهما دالّا على كذب الآخر بالدلالة الالتزامية ، مثلا إذا دلّ أحدهما على وجوب إكرام كلّ عالم ، والآخر على حرمة إكرام كلّ فاسق ، فيتعارضان في العالم الفاسق ؛ لأنّ مقتضى الأوّل وجوب إكرامه ، كما أنّ مقتضى الآخر حرمة إكرامه.

والأوّل يدلّ بالدلالة المطابقية على وجوبه ، وبالدلالة الالتزامية على عدم حرمته ؛ لأنّ الوجوب لا يجتمع مع الحرمة. كما أنّ الثاني يدلّ بالدلالة المطابقية على حرمته ، وبالالتزامية على عدم وجوبه.

وقد يكون التكاذب والتعارض بالدلالة المطابقية ، مثل ما ورد في خبر جواز فعل وفي الآخر حرمته ، فحينئذ كلّ منهما يكذّب الآخر بالدلالة المطابقية.

٢٢٣

التزاحم :

اعلم أنّ التزاحم ما إذا ثبت حكمان من الشارع ولا يكون في ثبوتهما في أنفسهما معا منافاة أصلا ، ولكن المكلّف عجز عن الامتثال لهما معا ، مثل ما إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين ولا يقدر المكلّف على إنقاذهما معا ، فحينئذ يقطع بثبوت الوجوب لإنقاذهما معا ، إلّا أنّ المانع من ناحية المكلّف ، وهو عجزه عن القيام بامتثال الوجوبين معا.

والمرجع في المتزاحمين تقديم الأهمّ منهما ، ففي المثال إن كان أحد الغريقين عالما والآخر جاهلا فاللازم تقديم العالم ، وإذا لم يكن أحدهما أهمّ من الآخر فالمرجع حينئذ التخيير بالاتّفاق.

وهذا بخلاف باب التعارض ، فإنّ اللازم فيه أوّلا الفحص عن المرجّحات ، ومع عدم الحصول على ما يرجّح أحدهما على الآخر ففيه اختلاف بينهم ، فذهب بعض الأصوليين إلى التخيير ، والبعض الآخر إلى الحكم بالتساقط وزوال كلّ منهما عن مقام الحجّية كما سيأتي تفصيله.

ثمّ لصاحب الكفاية وغيره في معنى التزاحم كلام حول ما ذكرناه ، والتفصيل في غير المقام.

٢٢٤

الفصل الرابع

في الحكومة والورود

الحكومة :

هي أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون الأوّل مبيّنا لمقدار مدلوله ، نظير الدليل الدالّ على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة ، أو مع كثرة الشكّ ، أو لا حكم له مع حفظ الإمام ، أو لا حكم له إذا كان بعد الفراغ عن العمل ، فإنّ الدليل الدالّ على نفي حكم الشكّ عن هذه الموارد حاكم على الدليل الدالّ على ثبوت أحكام خاصّة للشاكّ في تلك.

مثلا الشكّ بين الثلاث والأربع في الرباعية حكمه البناء على الأربع والاحتياط بركعة بعد الفراغ ، وهذا الحكم يرتفع بالدليل الدال على نفي الحكم عن الشكّ في هذه الموارد ، فعليه لو شكّ بين الثلاث والأربع مع حفظ الإمام ، أو بعد الفراغ ، أو كانت الصلاة نافلة لم يجب عليه شيء ممّا ورد في أحكام الشكّ أصلا ، فالدليل النافي للحكم حاكم ، والمثبت له محكوم ، وحيث إنّ مفاد الدليل الحاكم بيان المراد من الدليل المحكوم ـ من أنّ المقصود من إثبات الحكم الخاصّ إنّما هو ما عدا مورد الحاكم ـ

٢٢٥

فلا تعارض بينهما أصلا ؛ ولذا قلنا في شرائط التعارض : أن لا يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ، وإلّا لا يكون بينهما تعارض أبدا ؛ لأنّ الدليل الحاكم إنّما يبيّن محطّ الحكم المستفاد من الدليل المحكوم وأنّه مضيّق.

وقد يكون مفاد الحاكم توسعة مورد الحكم ، مثلا : العصمة الثابتة لأهل البيت بقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١) ، وهذه الآية حسب مورد النزول مختصّة بعلي والحسنين وفاطمة عليهم‌السلام ولا تعمّ سائر الأئمة عليهم‌السلام ، ولكنّه ورد عنهم عليهم‌السلام أنّهم كلّهم من أهل البيت (٢) ، فهذه الرواية توسّع مورد الآية لتعمّ سائر الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين.

الورود :

وهو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر تكوينا بالتعبّد بحيث لو لا هذا الدليل لكان موضوع الدليل الآخر باقيا على حاله ، فهذا الدليل وارد والآخر مورود ، مثل ما ورد أنّه يباح لك الذهاب إلى الكوفة ما لم يصلك نهي من الشارع ، ففي مثله موضوع الحكم عدم وصول النهي ، فإذا ورد الخبر يحتوي على النهي عن المسير إلى الكوفة كان ذلك رافعا لموضوع ذلك الحكم تعبّدا تكوينا ، بمعنى أنّ التعبّد والالتزام بالدليل الثاني يرفع موضوع حكم الدليل الأوّل تكوينا.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) تفسير نور الثقلين ٤ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ عن الكافي ، وكمال الدين ، والبرهان في تفسير القرآن للبحراني.

٢٢٦

فعليه لو كان أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر تكوينا تعبّدا كان الأوّل واردا والآخر مورودا ، ولا تكاذب بين الوارد والمورود ، فلا تعارض بينهما.

٢٢٧

الفصل الخامس

في بيان القاعدة الأوّلية في المتعارضين

قد علمت أنّ التعارض إنّما يحصل فيما لو تكاذب الدليلان ، أي كان كلّ منهما مكذّبا للآخر ، ولا يكون ذلك إلّا مع الشروط السبعة المتقدّمة ، ومع عدم مرجّح لأحدهما على الآخر يكونان متعادلين من جميع الجهات المقتضية للترجيح التي يأتي ذكرها ، فإذا تعادل المتعارضان مع تكاذبهما فقد اختلفوا في أنّ القاعدة الأوّلية فيهما ما هي؟ هل هي التخيير كما نسب إلى المشهور ، أو التساقط كما ذهب إليه المتأخّرون؟

واستدلّ على التخيير بأنّ التعارض لا يقع بين الدليلين إلّا إذا كان كلّ منهما واجدا لشرائط الحجّية ، بأن يكون كلّ واحد منهما مع غضّ النظر عن الآخر حائزا لجميع الشرائط المعتبرة في الحجّية كما تقدّم في شروط التعارض. وغاية ما يوجبه التعارض هو سقوط أحدهما غير المعيّن عن الحجّية لمكان التكاذب بينهما ، فيبقى الثاني لا على التعيين على الحجّية بلا مانع ، وحيث إنّ الّذي هو باق على الحجّية غير متعيّن فلا بدّ من التخيير بينهما.

والجواب : أنّه لا يمكن ترجيح أحدهما بالعمل به على الآخر ؛ إذ

٢٢٨

المفروض أنّ الدليل الدالّ على الحجّية مستوي النسبة إليهما ، فشموله لواحد دون الآخر بلا مرجّح ، وأيضا أنّ مقتضى ذلك الدليل حجّية كلّ دليل على نحو الحجّية التعينية ، والحجّية على نحو التخيير بلا دليل.

فعليه الحقّ : أنّ القاعدة الأوّلية بين المتعارضين التساقط ؛ لأنّ دليل الحجّية لا يمكنه الشمول لهما معا ، وشموله لواحد على التعيين ترجيح بلا مرجّح ، وحجّية أحدهما على التخيير لم يدلّ عليها دليل ؛ لأنّ ما يدلّ على حجّيته إنّما دلّ عليها على نحو التعيين.

٢٢٩

الفصل السادس

في الجمع العرفي

قد تقدّم أنّه لا يتحقّق التعارض إذا أمكن الجمع بين الدليلين بجمع عرفي ، أي جمعهما على نحو يقبله أهل العرف ، وهو ما إذا كان التصرّف في واحد منهم تصرّفا مقبولا لديهم رافعا للتعارض والتكاذب ، ولمثل هذا الجمع موارد منها :

١ ـ ما إذا كان أحد الدليلين أخصّ من الآخر ، فإنّ العرف في مثله يتصرّف في العامّ برفع اليد عن عمومه ويعمل بالخاصّ بتقديمه على العامّ ، مثل ما ورد : أكرم العلماء ، وورد : لا تكرم الفسّاق منهم ، فالعرف في مثله يرى أنّه يجب العمل بالخاصّ في مورده وبرفع اليد عن العامّ في ذلك المورد ، فنحكم بوجوب إكرام العلماء غير الفسّاق وبحرمة إكرام الفسّاق منهم.

٢ ـ ما إذا كان أحدهما مطلقا والآخر مقيّدا ، فنعمل بالمقيّد في مورده ، ونرفع اليد عن المطلق في مورده ، ونعمل به في غير ذلك المورد.

٣ ـ ما إذا كان لأحد المتعارضين قدر متيقّن المراد ، أو لكلّ واحد منهما قدر متيقّن ، ولكن يعلم بإرادة القدر المتيقّن من الخارج لا من نفس الدليلين

٢٣٠

المتعارضين ، مثل ما ورد : «ثمن العذرة سحت» وورد أيضا : «لا بأس ببيع العذرة» فإنّ عذرة الإنسان قدر متيقّن المراد من الدليل الأوّل ، وعذرة مأكول اللحم قدر متيقّن الإرادة من الثاني ، فهذان الدليلان بحسب مفهومهما اللفظي متباينان متعارضان متكاذبان ، ولكن لما كان لكلّ منهما قدر متيقّن المراد فالتكاذب بينهما إنّما يكون بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن ، فيحمل كلّ واحد منهما على القدر المتيقّن ويعمل به في ذلك المورد فقط ، فيحمل الدليل الأوّل على عذرة الإنسان والثاني على عذرة مأكول اللحم ، فيحكم بحرمة بيع عذرة الإنسان دون عذرة مأكول اللحم.

وهناك موارد أخرى للجمع العرفي اقتصرنا على هذه طمعا في الاختصار.

٢٣١

الفصل السابع

في القاعدة الثانوية للمتعارضين

قد عرفت أنّ القاعدة الأوّلية في المتعارضين التساقط ، ولكن ورد في الأخبار الكثيرة المروية عن الأئمة عليهم‌السلام عدم التساقط ، فيكون ذلك قاعدة ثانوية. إلّا أنّ أقوال الأعلام اختلفت في استفادة تلك القاعدة الثانوية من الأخبار لاختلافها.

والأقوال المعروفة في المقام ثلاثة :

١ ـ التخيير في الأخذ بأحدهما وهو المشهور بين القدماء ، بل ادّعي الإجماع عليه.

٢ ـ التوقّف وعدم العمل بواحد منهما بالخصوص والرجوع إلى الاحتياط في مقام العمل ، مثل ما إذا ورد ما دلّ على وجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ مع رجوعه ليومه ، وورد ما يدلّ على وجوب الإتمام عليه ، فعليه أن يحتاط بأن يجمع بين القصر والإتمام.

٣ ـ وجوب العمل بما طابق الاحتياط ، وإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط فيتخير بينهما.

أمّا الأخبار فمنها ما دلّ على التخيير على الإطلاق ، ومنها ما دلّ على

٢٣٢

التوقّف ، ومنها ما دلّ على الأخذ بما يوافق الاحتياط كأن يدلّ أحدهما على الإباحة والآخر على الحرمة فالعمل على طبق ما يدلّ على الحرمة ، ومنها ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة والمرجّحات المذكورة في الروايات.

أمّا الدالّ على التوقّف فروايتان ، إحداهما : مقبولة عمر بن حنظلة ، والأخرى : خبر سماعة بن مهران.

أمّا المقبولة فقد ورد فيها بعد ما فرض السائل تساوي الحديثين من حيث موافقة القوم ومخالفتهم إذا كان كذلك : «فارجئه حتى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١).

وأمّا خبر سماعة بن مهران فقد ورد فيه بعد قول الراوي : «يرد علينا حديثان : واحدهما يأمر بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه» قال عليه‌السلام : «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله». وقال الراوي : «قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما» يعني حيث كان المورد غير قابل للانتظار السؤال ، قال عليه‌السلام : «خذ بما فيه خلاف العامّة» (٢).

ولكن لا يمكن العمل بهما : أمّا المقبولة فمع الإشكال في سندها ، وأنّها غير مقبولة لدينا وإن اعتبرها المشهور كذلك ، فإنّها وردت في خصوص مورد المخاصمة ، ومن الواضح أنّ فصل الخصومة لا يمكن فيه العمل بالتخيير ؛ إذ كلّ منهما يختار ما فيه نفعه ، فتبقى المنازعة والمخاصمة على حالها.

وأمّا رواية سماعة فلأنّها ضعيفة السند فلا يمكن الاعتماد عليها ، مع

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٤٢.

٢٣٣

أنّ موردها فيما إذا تمكّن من لقاء الإمام عليه‌السلام ؛ لأنّها دلّت على الالتزام بالتوقّف إلى اللقاء ، وذلك يتصوّر في زمان الحضور ، فهي أجنبية عن مثل زماننا.

وأمّا ما دلّ على الأخذ بما يوافق الاحتياط فهو ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب غوالي اللآلي عن العلامة رحمه‌الله مرفوعا إلى زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر. فقلت : يا سيدي إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم. فقال : خذ بما يقول أعلمهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيان موثقان. فقال : انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه وخذ بما خالف ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم. قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. قلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر ...» (١).

المستفاد من هذا الحديث هو لزوم الأخذ بما يوافق الاحتياط عند تساوي الخبرين ، ولكن لا يمكن الاعتماد عليه لما يأتي :

١ ـ لأنّ هذا الخبر نسبه الأحسائي إلى العلّامة ولم يوجد في كتبه حسب ما تتّبع بعض الأعاظم ، ولم تثبت وثاقة الأحسائي ولا وثاقة كتابه المذكور ، فإنّه قد طعن الكلّ فيهما حتى من ليس دأبه المناقشة في السند ، أعني الشيخ يوسف البحراني في حدائقه.

٢ ـ ولأنّ هذه الرواية مرفوعة ، وبالجملة هي ساقطة عن الاعتبار.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، الجزء ٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

٢٣٤

بقي الكلام فيما دلّ على التخيير أو الترجيح.

أمّا ما دلّ على الترجيح فمنها مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة ، ومنها رواية سماعة المتقدمة أيضا.

وأمّا التخيير فقد دلّت عليه عدّة روايات لأجلها اختار صاحب الكفاية التخيير ، والشيخ الأنصاري العمل بالترجيح وعليه السيد الخوئي إلّا أنّ الأمور الموجبة للترجيح لديه اثنان فقط :

أحدهما : كونهما موافقة للكتاب والسنّة القطعية ، مثل ما دلّ إحداهما على إباحة مال الغير من دون إذنه والأخرى على عدمها ، فيؤخذ بالأولى وتطرح الثانية.

وثانيهما : كونها مخالفة للعامّة لصراحة جملة من الأخبار بأنّ الحقّ في خلافهم ، أو أنّ الرشد في مخالفتهم.

ولكن الحقّ : أنّ الترجيح منحصر في أمرين ، أحدهما : موافقة كتاب الله ، والثاني : مخالفة العامّة. والتفصيل في محلّه.

٢٣٥
٢٣٦

الخاتمة

في الاجتهاد والتقليد

الفصل الأوّل : في الاجتهاد

الفصل الثاني : في التقليد

٢٣٧
٢٣٨

الفصل الأوّل

في الاجتهاد

وهو لغة : المشقّة.

واصطلاحا ـ كما عن الحاجبي والعلّامة والبهائي في زبدته ـ : استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي. أي بذل الطاقة بما أمكن في تحصيل الظنّ به.

وعن بعض أنّه : ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قوّة قريبة ، يعني الملكة الحاصلة بطول الممارسة في الفقه حتى يقتدر على تحصيل الحكم الفرعي من مدركه ، سواء استنبط صاحب الملكة المذكورة الحكم الفرعي من مدركه بعد مراجعة الأدلّة بالفعل ، أم لا (١).

ثمّ الفرق بين مفاد التعريفين واضح ؛ إذ على الأوّل أنّه من الأفعال

__________________

(١) قد أوضحنا أنّ المعنى الّذي يصلح لحمل مفهوم الحجّة عليه ، ويصلح لأن يكون معتبرا شرعا في حقّ المجتهد وغيره ، ويصلح للتقسيم إلى المطلق والمتجزي إنّما هو ما اخترناه ، وهو عبارة عن مجموعة من الآراء والنظريات التي توصّل إليها الفقيه من خلال النظر والتأمّل في مصادر الأحكام الإلهية.

٢٣٩

الخارجية التي يقوم بها الفقيه ، وعلى الثاني أنّه عبارة عن الكيفية النفسانية الراسخة ولو لم يستعملها أصلا. إلّا أنّ هذا الاختلاف لا ينبئ عن اختلاف في حقيقة الاجتهاد لديهم ؛ لوضوح أنّهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه ، بل إنّما هم في مقام وضع ما يشير إلى مقصودهم مثل التعريف اللغوي.

والّذي يهوّن الخطب ويسهّل الأمر أنّ الاجتهاد بعنوانه لم يقع موضوعا لشيء من الأحكام في لسان الأدلّة كما تسمع إن شاء الله ، بل الّذي أخذ موضوعا للأحكام في الأخبار وغيرها المثبتة لأحكامه هو عنوان العالم والفقيه كما ستقف على ذلك.

أولا : مناصب الفقيه :

للفقيه مناصب ثلاثة : جواز عمله باجتهاده وفتواه وعدم جواز رجوعه إلى غيره ، وجواز رجوع الغير إليه ، ونفوذ قضائه وحكمه وأوامره.

المنصب الأوّل : جواز عمله باجتهاده

وفتواه وعدم جواز رجوعه إلى غيره :

لا إشكال في جواز عمل المجتهد برأيه وعدم جواز رجوعه إلى غيره ؛ لأنّ المفروض أنّه عالم بالأحكام الالهية : إمّا بالعلم الوجداني كما إذا ظفر في مقام الاستنباط بما يفيد العلم بالحكم ، أو عالم بقيام حجّة شرعية علمية كما في موارد الطرق والأصول العملية المثبتة للأحكام ، أو عالم بأنّ الشارع جعل له حكما ترخيصيا في مقام الظاهر كما في موارد الأصول الشرعية النافية لها.

ومع علمه بما ذكر كيف يمكن أن يقال بأنّه لا يجوز له العمل بعلمه

٢٤٠