مرقاة الأصول

آية الله الشيخ بشير النجفي

مرقاة الأصول

المؤلف:

آية الله الشيخ بشير النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8220-56-5
الصفحات: ٢٦٣

ولا فرق في حسن الاحتياط وفي جواز إعماله بين الشبهات الموضوعية والحكمية التحريمية والوجوبية ما لم يدلّ دليل على منعه. وما تقدم في بحث البراءة من النزاع بين الأصولي والأخباري إنّما كان في وجوبه وعدمه ، وأمّا حسنه فمسلم بين الفريقين.

٢٠١

الفصل السادس

في الاستصحاب

الاستصحاب لغة : أخذ الشيء مصاحبا ، ومنه قولهم : هل يجوز استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.

واصطلاحا : عرّفه الأصوليون بعدّة تعاريف :

منها : ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري ، وهو : إبقاء ما كان.

ومنها : ما أفاده في الكفاية من أنّه : حكم الشارع بلزوم إبقاء الشيء وترتيب آثار بقائه عليه لدى الشكّ فيه ، فالاستصحاب عنده رحمه‌الله عبارة عن حكم الشارع.

ولكنّ الأقوى أنّ عباراتهم في التعريف وإن كانت شتى إلّا أنّها ـ حسب الظاهر ـ تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو : أنّه يجب على المكلّف إبقاء الشيء على ما كان عليه وترتيب آثاره. أي إذا كان الأمر متيقّنا في السابق ، وعرض الشكّ له في اللاحق ، فالاستصحاب هو العمل على طبق ما كان يعمل في زمان اليقين قبل عروض الشكّ ، فمثلا لو كان على يقين من وجود زيد فغاب ، فشكّ في حياته وموته فيعمل حينئذ مثل ما كان يعمل حين اليقين بحياته فيرتّب آثار الحياة ، فكما

٢٠٢

كانت زوجته في حبالته ولم تحسب أرملة كذلك حال الشكّ ، وما له يبقى في ملكه ولا ينتقل إلى ورثته ؛ لأن انتقاله مبني على موته وهو لم يثبت ، فيبنى على أنّه حي.

أوّلا : تقسيمات الاستصحاب :

قسّم الاستصحاب بعدّة تقسيمات فرضت من جهات مختلفة :

الأوّل : استصحاب وجودي واستصحاب عدمي :

فالاستصحاب الوجودي : كاستصحاب وجوب الجمعة الثابت في زمان حضور الإمام ـ وهو زمان لليقين ـ إلى زمان الغيبة وهو زمان الشك فيه. ومثل : استصحاب حياة زيد.

وأمّا الاستصحاب العدمي فمثل : استصحاب عدم وجوب الظهر يوم الجمعة في زمان الحضور إلى زمان الغيبة.

الثاني : استصحاب حكمي واستصحاب موضوعي :

فالاستصحاب الحكمي ما إذا كان المورد حكما ، مثل : استصحاب حلّية العصير العنبي بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه ؛ لأنّه كان حلالا بعد عصره وقبل الغليان ، فنستصحب حلّيته السابقة بعد الغليان.

والاستصحاب الموضوعي ما كان المورد موضوعا لحكم شرعي ، مثل : استصحاب حياة زيد.

٢٠٣

الثالث : استصحاب الكلّي واستصحاب الجزئي (١) :

فالاستصحاب الكلي ما كان المستصحب ـ أي مورد الاستصحاب ـ أمرا كلّيا حكما كان أو موضوعا ، ومثاله : ما إذا علمنا ثبوت كلّي الوجوب المردّد ثبوته بين صلاة الظهر أو الجمعة ، فأتينا بإحداهما ، فشككنا في أنّه هل أتينا بالواجب الواقعي أم لا ، فبذلك نشكّ في بقاء ذلك الوجوب المعلوم وجوده الّذي شككنا في بقائه.

والاستصحاب الجزئي ما إذا كان مورد الاستصحاب أمرا جزئيا ، وهو أيضا سواء أكان حكما أم موضوعا ، ومثاله : ما إذا علمنا بوجود الإنسان الكلّي في مكان في ضمن فرد منه ، ثمّ شككنا في وجود ذلك الكلّي أي كلّي الإنسان ، فنستصحبه.

والأوّل مثل ما علمنا بوجوب إكرام زيد يوم الجمعة ولكن لم نفعل ، بعده شككنا في بقاء الوجوب فنستصحبه.

والثاني مثل ما علمنا بوجود زيد في الغرفة ثمّ شككنا في بقائه فيها.

أقسام استصحاب الكلّي :

ثمّ إنّ استصحاب الكلّي ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ أن يكون مورد الاستصحاب أمرا كلّيا علمنا بوجوده ثمّ شككنا في بقائه ، إلّا أنّ منشأ الشكّ في البقاء هو الشكّ في بقاء الفرد المعين الّذي تحقّق الكلّي في ضمنه.

__________________

(١) قد رفضنا التقسيم المذكور نظرا إلى أنّ الحكم معنى اعتباري ، وهو فعل من أفعال المولى الذي يكون جزئيا حقيقيا دائما ؛ إذ النظر في واقع الحكم لا في مفهومه فتأمل والتوضيح في محلّه.

٢٠٤

مثلا : إذا علمنا بوجود زيد في البيت ، فحصل لنا العلم بوجود كلي الإنسان في البيت ، ثمّ بعد مدّة شككنا في بقاء الإنسان في البيت وعدم بقائه لأجل الشك في بقاء زيد ، فلو فرضنا أنّ المولى قال : إذا كان زيد في البيت فتصدّق بدرهم ، وإذا كان الإنسان فيه تصدّق بثوب ، فإن أجرينا الاستصحاب في نفس زيد ـ لأنه أيضا كان معلوما وجوده والآن شككنا في بقائه ـ كان هذا استصحابا للجزئي ، فبناء على هذا الاستصحاب يجب التصدّق بدرهم ، وإن أجرينا الاستصحاب في الإنسان ـ الّذي كان معلوم الوجود لكن في ضمن زيد والآن شككنا في بقائه ـ كان هذا استصحابا للكلّي ، وبمقتضى هذا الاستصحاب يجب التصدّق بثوب.

وهذا هو القسم الأوّل من استصحاب الكلّي.

٢ ـ أن يكون المستصحب ـ أي مورد الاستصحاب ـ كلّيا ، ولكن منشأ الشكّ في بقائه تردّد الفرد الّذي تحقّق الكلّي في ضمنه بين فرد نقطع بارتفاعه وفرد نعلم ببقائه.

مثلا : إذا علمنا بدخول حيوان في الغرفة وشككنا في أنّه بعوضة أو غراب ، مع الفرض بأنّ البعوضة لا تعيش أزيد من ثلاثة أيام ، ثمّ في اليوم الرابع شككنا في بقاء الحيوان الّذي قد تحقّق جزما إمّا في ضمن بعوضة أو في ضمن غراب ، وهذا الشكّ في بقاء الحيوان إنّما نشأ من الشكّ في أنّ الفرد الّذي تحقّق به الحيوان كان بعوضة أو غرابا ، فإن كان البعوضة فالحيوان غير موجود جزما ، وإن كان الغراب فهو موجود جزما. فبالنتيجة شككنا في بقاء الحيوان الكلّي الّذي تردّد فرده بين الغراب والبعوضة.

وأمّا الاستصحاب في خصوص بقاء البعوضة فغير ممكن ؛ لأنّا لم نعلم بوجودها ، كما لا يعقل الاستصحاب في خصوص الغراب كذلك ؛ لأنّا لم

٢٠٥

نعرف حدوثه أيضا ، إنّما الممكن استصحاب كلّي الحيوان الّذي علمنا بوجوده في ضمن واحد من البعوضة والغراب.

والفرق بين هذا القسم من استصحاب الكلّي والقسم الأوّل : أنّه في الأوّل كما يمكن إجراء الاستصحاب في الكلّي كذلك يمكن إجراؤه في الجزئي أيضا ، إضافة إلى أنّ منشأ الشكّ في بقاء الكلّي في القسم الأوّل هو الشكّ في بقاء الفرد المعلوم وجوده سابقا بخلاف القسم الثاني ، فإنّ الشكّ في بقاء الكلّي فيه لأجل الشكّ في الفرد الّذي تحقّق الكلّي في ضمنه : هل هو الغراب أو البعوضة؟

٣ ـ أن يكون مورد الاستصحاب كلّيا ، ولكن الشكّ في بقائه من جهة الشكّ في حدوث فرد غير الفرد الّذي تحقّق الكلّي في ضمنه ، كأن تحقّق الحيوان في الدار ضمن فرد لنفرضه زنبورا ، ثمّ علمنا بموته ، أي موت ذلك الفرد الّذي هو الزنبور ، ولكن شككنا في أنّه هل دخلت الحيّة في الدار مقارنا لموت الزنبور؟ فحينئذ نشكّ في بقاء كلّي الحيوان لأجل الشكّ في دخول حيّة فيه.

ومثال آخر : ما إذا علمنا بدخول زيد في الغرفة وقد خرج ، ولكن نشكّ في أن عمرا أيضا كان مع زيد وهو باق فيها ولم يخرج إن لم يكن معه ، فإن كان فالإنسان باق في الغرفة لأجل وجود فرد منه ، وإن لم يكن معه فالإنسان غير باق في الغرفة ، فنستصحب الحيوان.

ثانيا : مقوّمات الاستصحاب :

يتبيّن من البيان السابق أنّ الاستصحاب تعتبر فيه أمور لا يقوم عوده بل لا يستقيم بنيانه بدونها هي :

٢٠٦

الأوّل : المستصحب أعني ما يجري فيه الاستصحاب ، وقد علمت أنّه قد يكون حكما ، وقد يكون موضوعا ، وكلّ منهما قد يكون جزئيا وقد يكون كلّيا حسب ما عرفت تفصيله.

الثاني : العلم بتحقّق المستصحب في الماضي ، وهو ـ أي العلم بوجود المستصحب ـ قد يحصل من دليل عقلي ، كما قد يحصل بدليل شرعي ، فلا فرق في ثبوت المستصحب في الزمان الماضي بين كونه بعلم وجداني أو بدليل شرعي أو عقلي.

الثالث : الشكّ في بقاء المستصحب ، أي يكون ذلك الشكّ متعلّقا ببقاء ذلك المستصحب المعلوم حدوثه في السابق ، ثمّ الشكّ في البقاء قد ينشأ من الشكّ في مقتضي بقاء المستصحب ، وقد ينشأ من الشكّ في حصول رافع لذلك المستصحب.

أمّا الشكّ الناشئ من الشكّ في المقتضي فهو ما إذا كان الشكّ في البقاء لأجل الشكّ في مقدار استعداد الشيء للبقاء وكمية اقتضائه له ، كما إذا علمنا بثبوت خيار الغبن بدليل وشككنا في أنّه فوري ـ أي يمكن إعماله في أوّل أزمنة الإمكان فقط ـ وعمره قصير ، أو هو متراخ وعمره طويل لأجل الشكّ في الدليل الدالّ عليه ، فإنّ الشكّ في بقاء الخيار لأجل الشكّ في مقدار استعداده للبقاء الثابت بالدليل.

ومثال آخر : إن أسرجنا السراج في الغرفة من أوّل الليل وقفلنا بابها ، ثمّ عقيب نصف الليل شككنا في أنّه أمشتعل هو أم انطفى ؛ وذلك لأجل الشكّ في مقدار النفط الموجود حين الإسراج في مخزنه ، فإذا كان بقدر ربع الكيلو مثلا فهو صالح للاشتعال إلى الصبح ، أو بمقدار نصف الربع فهو يصلح له إلى نصف الليل ، فهنا نشكّ في بقاء السراج مشتعلا لأجل الشكّ في استعداد

٢٠٧

السراج من ناحية مقدار النفط في مخزنه للاشتعال ، وهو الشكّ في المقتضي.

وأمّا الشكّ في الرافع فهو ما كان الشكّ في ارتفاع المتيقّن السابق ناشئا من الشكّ في حدوث رافع مزيل لذلك المتيقّن ، كما إذا شكّ المتطهّر من الحدث في خروج البول أو عروض النوم عليه.

ثالثا : حجّية الاستصحاب :

الأقوال في حجّية الاستصحاب كثيرة حتى أنهاها الشيخ الأعظم الأنصاري إلى أحد عشر قولا. والمعروف منها :

١ ـ الحجّية مطلقا ، وهو مختار صاحب الكفاية قدس‌سره.

٢ ـ عدم حجّيته مطلقا ، ذهب إليه بعض القدماء.

٣ ـ الحجّية فيما كان الشكّ في الرافع وعدمها فيما كان الشكّ في المقتضي ، وهو مختار الشيخ الأعظم الأنصاري تبعا للمحقّق صاحب الشرائع في المعارج.

٤ ـ التفصيل بين كون المستصحب حكما كلّيا إلهيا فليس بحجّة فيه وبين ما لم يكن كذلك ففيه حجّة ، وهو مختار السيّد الخوئي حفظه الله.

رابعا : أدلّة الاستصحاب :

الأوّل : بناء العقلاء :

وتقريره : أنّه لا ريب في أنّ العقلاء كافّة ـ على اختلاف أذواقهم وشتات ميولهم النفسانية ـ جرت عادتهم في جميع أمورهم ، ومشت سيرتهم حتى تبانوا في سلوكهم على الأخذ بالمتيقّن السابق عند الشكّ في

٢٠٨

اللاحق في بقائه ، وعليه قامت أمور معاشهم ، ومعلوم أنّه لو لا ذلك لاختل النظام الاجتماعي ولما استقامت معيشتهم.

الثاني : حكم العقل :

وحاصله : أنّ الثبوت في الزمان السابق موجب للظنّ في اللاحق ، يعني إذا علم الإنسان بثبوت شيء في زمان ، ثمّ طرأ ما يزلزل العلم ببقائه في الزمان اللاحق ، فإنّ العقل يحكم برجحان بقائه فهو مظنون البقاء ، ومعلوم أنّ الشارع لا يخالف العقل ، فإذا حكم العقل برجحان بقائه حكم الشارع به أيضا.

وهذا الدليل هو الّذي استدلّ به الأغلب في القديم حتى قيل : إنّه لم يكن لدى القدماء دليل غير هذا ، إلّا أنّه غير تامّ لدى الأعلام المتأخّرين ، مثل الشيخ الأنصاري وصاحب الكفاية والمحقّق النائيني والسيّد الخوئي حفظه الله سبحانه (١).

الثالث : الإجماع :

نقل الاتّفاق والإجماع على اعتبار الاستصحاب ، كما نقل عن المبادئ للعلامة : «الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ثمّ وقع الشك في : أطرأ ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه على ما كان».

إلّا أنّ تحصيل الإجماع في المسألة مشكل جدا ؛ لوقوع اختلافات كثيرة فيها كما سبق.

__________________

(١) حيث لا دليل على اعتبار الظنّ المذكور.

٢٠٩

الرابع : الأخبار المستفيضة الواردة في الباب :

وهذا هو العمدة من بين أدلّة الاستصحاب ، فمن تلك الأخبار :

١ ـ صحيحة زرارة حيث قال : «قلت له (١) : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال عليه‌السلام : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، وإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء. قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم؟ قال : لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين بالشك أبدا ولكنّه ينقضه يقين آخر» (٢).

هذه الرواية وإن كان موردها الوضوء إلّا أنّ النظر الصادق في فقراتها يحكم بأنّ الحكم المزبور فيها لا يختصّ بالوضوء ، فإنّ قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين بالشكّ أبدا» ظاهر في التعليل ؛ لما حكم به في السؤال السابق ، فمعناه : أنّه إنّما حكم بما حكم لأجل هذا التعليل ، فأينما وجد هذا التعليل يصحبه الحكم السابق ، فلا يختصّ الحكم بباب الوضوء ، وهو واضح بعد أدنى تأمّل.

٢ ـ صحيحة أخرى لزرارة هي : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت (٣) أثرا إلى أن أصيب له الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصليت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك. قال : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا أن صليت وجدته؟ قال : تغسله وتعيد. قلت : فإن ظننت أنّه

__________________

(١) أي للإمام عليه‌السلام.

(٢) وسائل الشيعة ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٣) أي جعلت عليه علامة.

٢١٠

قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صليت ، فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ...» (١).

فإنّ قوله عليه‌السلام : «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» ظاهر في وجوب العمل على طبق الحالة المتيقّنة ما لم يأت اليقين على خلافه.

٣ ـ صحيحة ثالثة لزرارة أيضا. قال زرارة : «قلت له (٢) : من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد احرز الثنتين؟ قال : يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهّد ولا شيء عليه ، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، لكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» (٣).

وأمّا وجه الاستدلال بها ـ على ما قيل ـ فهو أنّ الشكّ بين الثلاث والأربع بعد إحراز الثلاث يكون قد سبق منه اليقين بعدم الاتيان بالرابعة ، فيستصحب ؛ ولذلك وجب عليه أن يضيف إليها رابعة ؛ لأنّه لا يجوز نقض اليقين بالشكّ ، بل لا بدّ أن ينقضه بيقين آخر وهو اليقين بإتيان الرابعة ، فينقض شكّه باليقين ، فتكون هذه الفقرات كلّها مؤكّدة لقاعدة الاستصحاب.

٤ ـ ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام : من كان على يقين فشكّ فليمض على

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الباب ٤١ و ٤٢ من أبواب النجاسات ، الحديث ١ و ٢.

(٢) أي الباقر أو الصادق عليهما‌السلام.

(٣) وسائل الشيعة ، الباب ١٠ و ١١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

٢١١

يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» (١). وفي رواية أخرى عنه عليه الصلاة والسلام : «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ» (٢).

قالوا : إنّ هذه الأخبار ظاهرة في حجّية الاستصحاب.

٥ ـ مكاتبة علي بن محمد القاساني ، قال : «كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب : اليقين لا يدخله الشكّ. صم للرؤية وافطر للرؤية» (٣).

قال الشيخ الأنصاري : الإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر من جميع الأخبار في هذا الباب ، إلّا أنّ سندها غير سالم (٤).

ثمّ إنّهم اختلفوا في مدى دلالة هذه الأخبار على حجّية الاستصحاب وسعة مفادها وضيقه ، ومنه تشتّت الأقوال وتشعّبت الآراء في الاستصحاب وخرجت التفاصيل في المقام.

خامسا : تنبيهات :

الأوّل : قد تبيّن ممّا تقدّم أنّه لا بدّ في الاستصحاب من يقين سابق يتعلّق بوجود شيء وثبوته ، كما لا بدّ من شكّ يتعلّق ببقاء ذلك المتيقّن ، ويكون زمان اليقين متّحدا مع زمان الشكّ ، أي يكون المكلّف حسب وجدانه يتيقّن بأنّه كان طاهرا وهو شاكّ في بقاء طهارته في نفس الوقت ، فهو متيقّن وشاكّ في آن واحد ، إلّا أنّ اليقين متعلّق بالحدوث ووجود المتيقن ، والشكّ

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٣) وسائل الشيعة ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

(٤) لأنّ في السند علي بن محمد بن شيره القاساني ، وفيه كلام.

٢١٢

متعلّق ببقائه.

الثاني : إنّ المقصود باليقين ما يعمّ الوجداني واليقين التعبدي.

أمّا اليقين الوجداني فهو مثل ما يرى زيدا بعينه فتيقّن بوجوده ، ثمّ شكّ في بقائه.

وأمّا اليقين التعبّدي فهو ما إذا قام دليل شرعي على ثبوت شيء في زمان ، ثمّ شككنا في بقائه.

والمقصود بالشكّ : هو المعنى اللغوي أعني ما يقابل العلم ، وهذا المعنى للشكّ يشمل الظنّ غير المعتبر ، أي الّذي لم يقم دليل على حجّيته ، فعليه لو تيقّن بوجود شيء ، ثمّ ظنّ بارتفاعه كان حكم هذا الظنّ هو عين حكم الشكّ ، فكما كان عليه العمل باليقين وعدم الاعتناء بالشكّ كذلك يجب عليه العمل بمقتضى اليقين وعدم رفع اليد عنه لأجل الظنّ غير المعتبر.

وأمّا الظنّ المعتبر فحكمه حكم العلم واليقين كما تقدّم.

الثالث : اختلفوا في أنّ الاستصحاب أمارة أو أصل عملي. ومن استند إلى الدليل العقلي اعتبره أمارة ، ومن استند إلى الروايات قال : إنّه أصل عملي ، وهذا هو مختار أغلب الأعلام ولا سيما متأخّري المتأخّرين ، مثل الشيخ الأنصاري ومن تأخّر عنه إلى يومنا هذا.

الرابع : إذا قلنا بأنّ الاستصحاب أصل عملي كما هو رأي الأعلام ـ وهو الحقّ المحقّق ـ فحينئذ لا بدّ أن يعلم أنّ الاستصحاب إمّا يثبّت نفس الحكم الّذي جرى الاستصحاب فيه ، مثل ما إذا ثبتت الطهارة وتيقّن بوجودها ثمّ شكّ في بقائها ؛ وإمّا يثبّت الموضوع الّذي يجري فيه الاستصحاب الّذي تعلّق اليقين بحدوثه وثبوته ثمّ حصل الشكّ في بقائه ، فحينئذ مفاد الاستصحاب هو البناء على بقاء الموضوع الّذي جرى فيه

٢١٣

الاستصحاب ، فتترتّب أحكام ذلك الموضوع الثابتة له بالمباشرة عرفا وبلا واسطة ، فلا تترتّب آثاره العقلية ، وكذا الآثار الشرعية المترتّبة عليه مع الواسطة عرفا.

مثلا : إذا غاب زيد عنّا غيبة منقطعة وكان عمره حين ذاك عشر سنين ، وقد مضى من غيبته عشر سنين ، فنشكّ في موته فنستصحب ما يثبت أنّه حي يرزق. فحينئذ تترتّب عليه الأحكام الشرعية الثابتة له بلا واسطة عرفا ، مثلا إن مات وارث له عزل نصيبه ، وإن كان له مال يبقى في ملكه ولا يقسّم بين ورثته ، وإن كانت له زوجة بقيت في حبالته. وهذه أحكام شرعية ثابتة له بلا واسطة عرفا ، فهي تثبت إذا ثبت بقاؤه بالاستصحاب.

وأمّا الأثر غير الشرعي ، مثل نبات اللحية وصيرورة قامته مترين باعتبار أنّه إذا كان حيا كان عمره عشرين سنة ـ فحيث ثبت بالاستصحاب أنّه حي فحينئذ لا يمكن إثبات نبات اللحية له ولا إثبات الطول في قامته ؛ لأنّهما أثران عاديان ليسا شرعيين.

وهكذا لا يترتّب عليه الأثر الشرعي المترتّب عليه مع الواسطة عرفا ، مثل ما إذا شككنا في يوم الثلاثين من شهر رمضان أنّه انقضى شهر رمضان من أمس ـ أي من التاسع والعشرين ـ أم لا ، فكان ثبوت شهر رمضان يقينيا الآن شككنا في ارتفاعه وانقضائه ، فنستصحب بقاءه ، فبذلك يثبت أنّ هذا اليوم ـ وهو يوم ثلاثين ـ من شهر رمضان فيجب فيه الصوم ، ولكن لازمه أنّ اليوم التالي أوّل شهر شوال فهو يوم عيد الفطر ، فهل يحكم باستصحاب شهر رمضان المثبت ؛ لأنّ هذا اليوم من شهر رمضان بأنّه تستحبّ صلاة العيد في اليوم التالي ، وتجب الفطرة فيه استنادا إلى الاستصحاب فقط؟

٢١٤

مقتضى ما قلناه أنّه لا يمكن الحكم به ؛ وذلك لأنّ استحباب صلاة العيد وكذلك وجوب الفطرة وإن كان حكما شرعيا إلّا أنّه إنّما يترتّب على المستصحب أعني ثبوت شهر رمضان في هذا اليوم وأنّه آخر يوم من شهر رمضان بواسطة أنّ اليوم التالي من شهر شوال ، وحكمه وجوب الفطرة واستحباب صلاة العيد ، فلا يترتّب هذا الحكم على المستصحب بالاستصحاب وحده.

الخامس : حيث إنّ الاستصحاب أصل عملي فلا يتمسّك به مع وجود أمارة شرعية أخرى ؛ لما تقدّم من أنّ الأصول إنّما تعيّن وظيفة المتحيّر حين فقدان الدليل الدالّ على الحكم الواقعي ، ومع وجود دليل معتبر مرشد إلى الواقع ـ أعني الأمارة ـ لا يكون الاستصحاب حجّة.

السادس : إذا وقع التعارض بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية ، فحينئذ اللازم تقديم الاستصحاب على جميع الأصول العملية الأخرى ، سوى بعض القواعد ، مثل قاعدتي الفراغ والتجاوز ، فإنّهما يتقدّمان على الاستصحاب.

٢١٥
٢١٦

المقصد الثامن

في التعادل والترجيح

الفصل الأوّل : في معنى التعادل والترجيح

الفصل الثاني : في معنى التعارض وشروطه

الفصل الثالث : في الفرق بين التعارض والتزاحم

الفصل الرابع : في الحكومة والورود

الفصل الخامس : في بيان القاعدة الأوّلية في المتعارضين

الفصل السادس : في الجمع العرفي

الفصل السابع : في القاعدة الثانوية للمتعارضين

٢١٧
٢١٨

الفصل الأوّل

في معنى التعادل والترجيح

عنون الأصوليون هذه المسألة من القديم بهذا العنوان.

والظاهر أنّ المقصود بالتعادل : تكافؤ الحجّتين وتساوي الدليلين في كلّ ما يقتضي الاعتبار والترجيح لأحدهما على الآخر.

والمراد بكلمة «الترجيح» : وجود ما يوجب رجحان أحد الدليلين على الآخر.

٢١٩

الفصل الثاني

في معنى التعارض وشروطه

التعارض : مصدر من باب التفاعل الّذي يقتضي فاعلين ولا يقع من واحد ؛ ولذا يقال : تعارض الدليلان. وعليه لا بدّ من فرض دليلين حتى يتحقّق معنى التعارض. ومعنى المعارضة الممانعة بأن يمنع كلّ منهما الآخر من التأثير في إثبات مدلوله.

وسوف يأتي أنّه إنّما يتصوّر فيما كان كلّ من الدليلين في نفسه قابلا للعمل وحجّة في حدّ ذاته ، فكلّ منهما يمنع الآخر من إثبات مطلوبه ، يعني كلّ منهما يكذّب الآخر ولا يدعه لأن يثبت على مفاده.

فعليه التعارض : هو التكاذب والتمانع بين الدليلين في مقام الإثبات والدلالة ؛ لأنّ كلّا منهما يكذب دلالة الآخر.

شرائط التعارض :

لا يتحقّق معنى التعارض إلّا بأمور :

١ ـ أن لا يكون أحدهما قطعي الدلالة على مقصوده ، وأمّا لو كانت دلالة أحدهما قطعية فلا يصلح الثاني لمعارضته ، وأمّا دلالتهما معا فلا يمكن أن

٢٢٠