مرقاة الأصول

آية الله الشيخ بشير النجفي

مرقاة الأصول

المؤلف:

آية الله الشيخ بشير النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8220-56-5
الصفحات: ٢٦٣

وهذه الطائفة وإن كانت وافية الدلالة على المدّعى إلّا أنّه لا يمكن الأخذ بظاهرها ؛ لأنّا نعلم بصدور أخبار منهم عليهم‌السلام ـ علما جزميا ـ لأجل القرائن تفيد العلم بصدورها وليس عليها شاهد من الكتاب والسنّة المعلومة ، بل هي إمّا مقيّدة لمطلقات القرآن والسنّة المعلومة أو مخصّصة لعموماتها كما ذكرنا.

فلا بدّ من حمل هذه الطائفة على صورة التعارض بين الأخبار ، ولا بدّ حينئذ من الأخذ من المتعارضين ما عليه شاهدان أو شاهد من الكتاب والسنّة.

الوجه الثالث :

منع تعالى عن العمل بغير العلم حينما قال عزّ من قائل : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، ومعلوم أنّ العمل بالخبر الذي لا يفيد إلّا الظنّ عمل بغير العلم ، وقد علمت أنّ خبر الواحد لا يفيد إلّا الظنّ ، وكذلك منع سبحانه وتعالى من العمل بالظنّ حينما قال : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢) ، فإنّه مذمّة على العمل بالظنّ ، ولا معنى للذمّ من الله سبحانه إلّا حرمة المذموم.

الجواب عنه : أنّ مفاد الآيتين وغيرهما ممّا يدلّ على حرمة العمل بغير العلم إنّما هو التأكيد على الحكم العقلي والإرشاد إليه ، وقد حكمت العقول بأنّه يجب على المكلّف في الأحكام الشرعية تحصيل ما يأمن العقاب معه ؛ لأنّه بعد ما علم أنّه تعالى كلّفه بأشياء وأنّه يعاقبه على مخالفته فهو لا يأمن العقاب إذا عمل بالظنّ بخلاف ما إذا عمل على طبق ما يعلمه ، فهو حينئذ يعلم بأنّه قد أتى بوظيفته ، فحينئذ يأمن العقوبة ، والآيتان أيضا تدلّان على هذا

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) يونس : ٣٦.

١٦١

المعنى الذي نفهمه بالعقل مستقلّا ، فالآيتان إذن إنّما تلفتان النظر إلى هذا الحكم العقلي البديهي.

فالحاصل : أنّ مفاد هاتين الآيتين وغيرهما هو لزوم تحصيل ما يؤمن من العقوبة الإلهية ، ومن المعلوم أنّه إذا قام الدليل القطعي على حجّية الظنّ ، بمعنى أنّا علمنا أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة على أحكامه كالظنّ الحاصل من الخبر ، وعلمنا أنّ العمل بالخبر الذي جعله الشارع حجّة كالعمل بالعلم الذي هو حجّة بذاته ، ففي مثله إن عملنا بالخبر فلا محالة نكون في أمن تامّ من العقاب ؛ إذ لم نعمل إلّا بما جوّز الشارع المقدّس العمل به.

فعليه الآيتان إنّما تمنعان من العمل بخبر الواحد إذا لم يدلّ دليل على حجّية الخبر على نحو يحصل العلم به.

فعليه لا بدّ من النظر في الأدلّة التي استدلّ بها على حجّيته ، فإن أفادت علما بها لم يكن العمل به عملا بما لا يأمن معه العقاب ، بل كان عملا نأمن معه العقاب.

أدلّة حجّية خبر الواحد :

وهي كثيرة نكتفي بأشهرها :

الأوّل : قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١).

توضيح الاستدلال به : أنّ الآية المباركة حسب التركيب النحوي تحوي جملة شرطية مؤلّفة من شرط وجزاء. أمّا الشرط فهو قوله تعالى :

__________________

(١) الحجرات : ٦.

١٦٢

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) أي إن كان الذي جاء بالخبر فاسقا ، فهذه جملة شرط. وأمّا الجزاء فقوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) أي فتفحّصوا حتى يحصل لكم العلم بحال المخبر أنّه صادق أو كاذب.

ولهذا الشرط عنصران مهمان ، أحدهما : المجيء بالخبر ، والآخر : الفسق.

ومن المعلوم أنّ العنصر الأوّل ـ وهو المجيء بالخبر ـ موضوع للحكم المذكور في الجزاء ، فلو كان هذا العنصر بمفرده شرطا لما تمّ الاستدلال بالآية ؛ لأنّه ـ على ما ستعرف ـ مبني على مفهوم الشرط ، وقد علمت في بحث المفاهيم أنّه لا مفهوم للشرط الذي سبق لبيان موضوع الحكم ، فلو كان هذا العنصر الذي هو موضوع الحكم شرطا كان مسوقا لبيان موضوع الحكم.

ولكن قد عرفت أنّه وحده ليس شرطا بل هو مع كون المخبر فاسقا شرط ، ومعلوم أنّ فسق المخبر ليس موضوعا للحكم بل هو شرط علّق عليه الحكم المذكور في الجزاء. فعليه معنى الشرط أنّه إن كان المخبر الذي أتى بالخبر فاسقا فحينئذ يجب الفحص عن حال المخبر أنّه صادق أو كاذب. ومن الواضح أنّه لا يجب الفحص مطلقا بل إنّما يجب لأجل العمل بالخبر.

فعليه مفاد الآية الكريمة ـ والله العالم بالصواب ـ : إن كان المخبر فاسقا وأردتم العمل بالخبر فيجب عليكم الفحص والتثبّت عن حال المخبر ، فعليه وجوب الفحص إنّما هو على خبر الفاسق لفسقه خوفا من الوقوع في خلاف الواقع إن أردنا العمل به ، فلو كان المخبر عادلا ولم يكن فاسقا ـ أي انتقض الشرط الذي علّق عليه الحكم ـ فحينئذ لا محالة ينتفي الحكم المذكور في الجزاء ، أعني وجوب الفحص.

١٦٣

فعليه من أراد العمل بخبر العادل لا يجب عليه الفحص بل يجوز العمل بدون الفحص ، وهذا هو المقصود من إثبات الحجّية لخبر الواحد.

الثاني : الأخبار الكثيرة الواردة في المضامين المختلفة إلّا أنّها تشترك في مفهوم واحد وهو أنّ العمل بخبر الواحد العدل ـ بل بخبر الموثق ـ كان أمرا مفروغا منه عند أصحاب الأئمة عليهم‌السلام. وهذه الأخبار وإن لم يكن فيها خبر متواتر بلفظه بأن يكون قد نقله في كلّ زمان جماعة كثيرة يمتنع اتّفاقهم على الكذب عادة إلّا أنّها متواترة معنى ، أي هذه الأخبار الكثيرة على اختلافها في ألفاظها متّفقة على نقل مضمون واحد ، ولا يبعد دعوى التواتر الإجمالي أيضا عليها ، بل هذه الدعوى قريبة جدا.

ومعنى التواتر الإجمالي هو ورود عدّة من الروايات التي يعلم بصدور بعضها ولو كانت مضامينها مختلفة ، وهذه الأخبار كذلك ، لأنّ :

قسما منها ورد في توضيح العلاج للأخبار المتعارضة.

وقسما آخر منها ورد في وجوب الرجوع إلى أشخاص معيّنين من الرواة ، مثل قوله عليه‌السلام : «إذا أردت الحديث فعليك بهذا الجالس» (١) مشيرا إلى زرارة رضوان الله عليه ؛ ومثله قوله عليه‌السلام : «نعم» بعد ما قال الراوي : «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا منه؟» (٢) ؛ وقوله عليه‌السلام : «عليك بالأسدي» (٣) يعني أبا بصير ؛ وقوله عليه‌السلام : حين سأله علي بن المسيب : «شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال عليه‌السلام :

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٣٦ ، ط. مشهد المقدّسة ، إيران.

(٢) المصدر السابق : ٤٨٣ و ٤٩١ وهو مضمون خبرين في المصدر.

(٣) المصدر السابق : ١٧١.

١٦٤

زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا» (١). إلى غير ذلك.

وقسما ثالثا ورد في وجوب الرجوع إلى الثقاة كقوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التشكيك بما يرويه ثقاتنا» (٢).

وقسما رابعا ورد في وجوب حفظ الروايات واستماعها وضبطها والاهتمام بشأنها على ألسنة مختلفة ، حتى ورد في هذا القسم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من حفظ من أمّتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (٣).

وذكر صاحب الوسائل هذه الأخبار في الباب الثامن من أبواب كتاب القضاء.

وهذه الأقسام من الأخبار كما ترى مختلفة الألفاظ والمضامين ، وكلّ واحد منها خبر واحد ، فلا يمكن دعوى التواتر اللفظي ويبعد التواتر المعنوي. وأمّا دعوى التواتر الإجمالي فقريبة جدا ؛ لأنّ الناظر في هذه الأخبار بعين الإنصاف لا يسعه إلّا الإيمان بصدور بعضها عن المعصوم عليه‌السلام. وهذا هو معنى التواتر الإجمالي.

الثالث : الإجماع من العلماء القدماء والمتأخّرين كافّة قولا وعملا على حجّية خبر الواحد ، ولم يخالف فيه أحد غير السيّد المرتضى وجماعة معدودين من أتباعه ، ومخالفتهم لا تمنع الإجماع وهو واضح.

الرابع : السيرة العملية من العقلاء كافّة في كلّ زمان ومكان على

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٥.

(٢) المصدر السابق : ٥٣٦.

(٣) وسائل الشيعة ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٤ ، وانظر الحديث ٥٨ ، ٥٩.

١٦٥

اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ، فإنّا نراهم يعملون بخبر الواحد إذا كان ثقة وكان ممّن يعتمد عليه حسب الموازين العرفية.

ومعلوم أنّ الشارع لم يمنع من العمل بخبر الواحد ولم يردع أحدا عن السلوك على هذه السيرة مع أنّها كانت في عصر المعصومين عليهم‌السلام وبمرأى ومسمع منهم ، وعدم الردع مع إمكانه كاشف عن رضاهم ، فكان عدم الردع يعتبر إمضاء من المعصومين عليهم‌السلام فيكون الخبر حجّة.

تنبيه :

قد تبيّن من هذه الأدلّة حجّية خبر الواحد ولكن ليس كلّ خبر حجّة ، بل إذا كان راويه عادلا أو موثقا ؛ لأنّ الذي ثبت بهذه الأدلّة هو هذا المقدار ، ولقبول الخبر شرائط ، ولبيانها محلّ آخر.

العمل بالطريق العلمي :

علمت أنّ خبر الواحد لا يفيد إلّا الظنّ بالحكم ظنّا نوعيا ، ومعنى حجّية الخبر حجّية الظنّ النوعي ، لكن لا الظنّ النوعي على الإطلاق ـ أي من أيّ سبب حصل ـ بل الظنّ النوعي الذي يحصل من خبر العدل أو خبر الثقة ؛ لأنّ الأدلّة التي سقناها لم يكن مفادها حجّية الظنّ ، بل كان لسانها حجّية خبر الواحد باعتبار أنّه يفيد ظنّا نوعيا ، أي من شأنه أن يفيد ظنّا غالبا عند أغلب الناس.

وقد عرفت أيضا أنّ مثل هذا الظنّ الذي قام الدليل على حجّيته على هذا النحو يسمّى ظنّا خاصّا ؛ لأنّه قد ثبتت حجّيته بالخصوص ، فيكون هذا الظنّ الخاصّ خارجا عن تلك القاعدة التي مهّدناها في أوائل البحث ، أعني الأصل

١٦٦

عدم حجّية الظنّ إلّا ما أخرجه الدليل.

وهذا الظنّ الذي قام الدليل على حجّيته ببركة هذا الدليل خرج عن تلك القاعدة ؛ لأنّا بفضل الدليل الدالّ على حجّية مثل هذا الظنّ الخاصّ علمنا بحجّيته ، فالعمل بهذا الظنّ وأشباهه حقيقة ليس إلّا عملا بذلك العلم ؛ وحيث إنّ العمل بهذا الظنّ لأجل العلم بحجّيته يسمّى مثل هذا الظنّ طريقا علميا ، وهو مثل العلم في وجوب العمل ، وكما لا يجوز مخالفة العلم ما دام حاصلا كذلك لا يجوز ترك العمل بمثل هذا الظنّ.

١٦٧

الفصل التاسع

حجّية الظنّ المطلق

دليل الانسداد :

وهو أشهر الأدلّة التي استدلّ بها على حجّية الظنّ المطلق ، ويتألف هذا الدليل من أمور أربعة تسمّى بمقدّمات الانسداد :

المقدّمة الأولى :

وهي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في الشرع لا بدّ من امتثالها.

فإنّ كلّ عاقل مسلم يؤمن بأنّه لم يترك سدى ولم يهمله الله تعالى ؛ لأنّه ليس مثل البهائم يفعل ما يشاء ويترك ما يريد ، بل هناك أحكام وتكاليف فرضها الله سبحانه على العباد بحيث لو لم يمتثل تلك الأحكام يكون مستحقّا للعقاب يوم القيامة.

وهذه المقدّمة من ضروريات الإسلام ، ويعتقد بصدقها كلّ من آمن بالله وبرسوله وبما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله.

المقدّمة الثانية :

إنّ باب العلم وكذا الباب العلمي في معظم تلك الأحكام

١٦٨

والتكاليف منسدّ.

ومعنى انسداد باب العلم أنّه ليس لدينا طريق يفيد لنا علما وجدانيا بأغلب الأحكام الفقهية ؛ لأنّ كلّ ما بأيدينا من الوثائق الشرعية من الكتاب والسنّة لا يفيد العلم الّذي ننشده ؛ لأنّ الكتاب وإن كان صدوره من الشارع المقدّس يقينا حيث إنّه متواتر إلّا أنّ دلالته على المقصود ظنّية ، مثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) لا شكّ في صدوره منه تعالى ، فإنّه قد ثبت بالتواتر المفيد للعلم به ، ولكن استفادة وجوب الصلاة متوقّفة على أنّ صيغة الأمر تدلّ على الوجوب ، وقد علمنا في بحث الأوامر أنّ الصيغة ظاهرة في الوجوب ، والظهور إنّما يفيد الظنّ.

وأمّا السنّة فليس منها ما يعلم بصدوره إلّا القليل الّذي لا يتعدّى رءوس الأصابع ، بل أغلب ما وصل إلينا منها أخبار الآحاد ، وهي ليست قطعيّة الثبوت ، كما أنّ دلالتها على الأحكام أيضا من باب الظهور ، فثبوت السنّة ظنّي ودلالتها على المقصود أيضا ظنّية ، فالعلم الوجداني بالأحكام لا سبيل إليه بتاتا.

وأمّا طريق العلمي ، وهو وجود طرق ظنّية علمنا باعتبارها ، وإن تكن كافية لمعظم الأحكام ، فأيضا مفقود عند من يرى حجّية الظنّ المطلق.

وصحّة هذه المقدّمة مبنية على أحد أمرين على سبيل منع الخلو ، بمعنى أنّ أحدهما يكفي في إثبات انسداد باب العلمي :

أحدهما : عدم حجّية الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة ، إمّا من جهة عدم ثبوت وثاقة رواتها ، أو من جهة عدم حجّية خبر الثقة.

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

١٦٩

والآخر : عدم حجّية ظواهرها بالنسبة إلينا ؛ لاختصاص حجّية الظواهر بأولئك الذين قصد إفهامهم وهم الذين شافههم المعصومون لدى إلقائهم الأحكام الشرعية ولسنا منهم ، فعلى أيّ من التقديرين ينسدّ علينا باب العلمي ؛ إذ على تقدير عدم ثبوت وثاقة الرواة أو عدم حجّية خبر الثقة تسقط جميع الروايات الموجودة في أيدينا عن الحجّية من حيث السند ، وإن قلنا بحجّية الظواهر بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام ، بأنّا مقصودون بالإفهام ، وعلى تقدير عدم حجّية الظواهر بالنسبة إلينا تسقط الروايات عن الحجّية من حيث الدلالة ولو حصل اليقين بصدورها من المعصوم عليه‌السلام.

والحاصل : أنّ القائل بحجّية الظنّ المطلق يكفيه تمامية أحد الأمرين ، والّذي ينكر حجّية الظنّ المطلق يلزمه إثبات حجّية خبر الثقة ، وحجّية الظواهر بالنسبة إلينا كما هي حجّة بالنسبة إلى الّذين قصدوا بالإفهام ؛ وحيث تقدّم منا أنّ الأمرين معا ثابتان ، وأنّ خبر الثقة حجّة بالأدلّة القطعية ، وأنّ ظواهر الأخبار كما كانت حجّة بالنسبة إلى المشافهين للأئمة صلوات الله عليهم كذلك حجّة بالنسبة إلينا ، فلا يكون الباب العلمي منسدّا علينا.

نعم هو منسدّ بالنسبة إلى من لم يثبت لديه الأمران معا ، وهو ـ أي الّذي انسدّ لديه باب العلمي واستطاع إثبات سائر المقدّمات ـ كان الظنّ المطلق حجّة عنده.

المقدّمة الثالثة :

إذا ثبت انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام الإلهية ، وقد فرضنا أنّ التكاليف الإلهية كما كانت مفروضة على الذين عاصروا الأئمة أو أدركوا زمان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك باقية بالنسبة إلينا ، يعني لسنا

١٧٠

كالبهائم نأكل ونعيش ونموت ، بل علينا تكاليف إلزامية من الواجبات والمحرّمات يحكم العقل بوجوب العمل على ما يؤمن من العقاب ، وذلك بأن نحتاط في جميع الأمور بأن نأتي بكلّ ما نحتمل وجوبه ونترك كلّ ما نحتمل حرمته حتى نأمن المؤاخذة الأخروية والعقاب الإلهي ، ولكنّه لا يمكننا اقتناء الاحتياط سبيلا للنجاة ؛ لأنّ الاحتياط :

إمّا غير ممكن ؛ لأنّ ما يحتمل وجوبه كثير ، كما أنّ ما يحتمل حرمته أيضا كثير بحيث لا يسع المكلّف القيام بجميع ما يحتمل أنّه واجب وترك كلّ ما يحتمل أنّه حرام ، مضافا إلى أنّه قد يجتمع في فعل واحد احتمال الوجوب والحرمة ، فيمتنع الاحتياط.

وإمّا إنّه غير واجب ؛ لأنّ العمل به يوجب اختلال النظام ؛ إذ يلزم منه أن يترك الإنسان كلّ ما يرجع إلى معاشه ويتعلّق بحياته ، ويصرف أوقاته كافّة في إتيان ما يحتمل وجوبه وترك ما يحتمل حرمته ، ومعلوم أنّ الشارع لا يوجب شيئا يستوجب اختلال النظام.

وإمّا لأنّ العمل بالاحتياط يستلزم وقوع الإنسان في العسر الأكيد والحرج الشديد ، وقد نفاهما الشارع في كتابه عن المكلّفين قال سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) ، وقال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٢).

فعليه يتبيّن أنّه ليس للمكلّف العمل بالاحتياط في جميع المسائل الشرعية التي لا يعلمها ، وليس لديه طريق آخر يعتمد عليه في تحصيل الأمن

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) البقرة : ١٨٥.

١٧١

من العقاب ، فيبقى في حيرة شديدة من أمره.

المقدّمة الرابعة :

حيث علم المكلّف انسداد باب العلم والعلمي ، وأنّه مكلّف من قبل الشارع ؛ إذ لم يتركه مثل سائر الحيوانات ، ولم يمكنه العمل بالاحتياط حتى ينجو بهذه الوسيلة من العقاب ، ففي هذه الحال لا يسعه إلّا أن يأتي بما يظنّ أنّه واجب من الأمور التي يحتمل وجوبها ، ويترك ما لا يظنّ بوجوبه بل يتوهّم أنّه واجب ؛ لأنّ المفروض أنّه لا يمكنه إتيان كلّ ما يحتمل وجوبه ؛ لأنّه يلزم منه اختلال النظام أو العسر أو الحرج الشديدان ؛ ولا يمكنه أيضا ترك ما يظنّ أنّه واجب وإتيان ما يتوهّم وجوبه ؛ لأنّه يلزم منه ترجيح المرجوح ـ أعني المتوهّم ـ على الراجح ـ أعني المظنون ـ وهو قبيح.

فعليه اللازم على المكلّف العمل بالظنّ بإتيان كلّ ما يظنّ وجوبه ، وهكذا الكلام فيما يحتمل حرمته ، فإنّه لا يمكنه ترك كلّ ما يحتمل أنّه حرام ، فعليه أن يترك كلّ ما يظن أنّه حرام ، فيعمل بالظنّ.

تنبيهات :

الأوّل : تبيّن من البحث السابق أنّه لو تمّت هذه المقدّمات الأربع كلّها كانت نتيجتها حجّية الظنّ المطلق ، ومعلوم أنّه مع سقوط واحدة من هذه المقدّمات لم يكن الظنّ المطلق حجّة ، وقد علمت أنّ المقدّمة الثانية ـ أعني انسداد باب العلم والعلمي ـ غير ثابتة ؛ لأنّه وإن اعترفنا بفقدان العلم الوجداني بالأحكام الشرعية والتزمنا بانسداد باب العلم فيها إلّا أنّ الباب العلمي بالأحكام منفتح ، فإذا فقدت هذه المقدّمة ـ التي هي أساس الدليل

١٧٢

المثبت لحجّية الظنّ ـ سقط الدليل وتحطّمت أركانه.

الثاني : لو تمّت هذه المقدّمات كانت نتيجتها حجّية الظنّ من أي سبب حصل ، فتكون حجّيته مثل حجّية العلم ، فكما أنّه حجّة من دون فرق بين الأسباب الموجبة له كذلك الظنّ على تقدير تمامية المقدّمات المذكورة ، فإنّه حجّة من أي سبب حصل ، إلّا السبب الّذي منع الشارع من العمل به مثل القياس ، فإنّه ورد متواترا النهي عن العمل به (١) ، فالظنّ المقتنص من القياس لا قيمة له لدى الشارع.

الثالث : الظنّ الخاصّ ـ مثل الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، والظنّ المطلق الثابت حجّيته من المقدّمات المذكورة على تقدير تماميّتها ـ هل يجوز العمل به في الفروع والأصول الاعتقادية معا أو يختصّ اعتباره بالفروع؟

ما يتعلّق به الظنّ :

إنّ الظنّ إمّا أن يتعلّق بالأحكام الفرعية ، وإمّا أن يتعلّق بالأصول الاعتقادية ، وإمّا أن يتعلّق بغيرهما كالأمور التكوينية والتاريخية.

أمّا الظنّ المتعلّق بالأحكام الفرعية فهو حجّة سواء كان ظنا خاصّا أو كان ظنّا مطلقا. أمّا الظنّ الخاصّ فواضح لما أقمنا من الأدلّة الدالة على حجّية الظنون الخاصّة ، مثل الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، وأمّا الظنّ المطلق فلفرض تمامية المقدّمات السالفة.

__________________

(١) ذكرت جملة وافرة منها في وسائل الشيعة ، الجزء ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

١٧٣

وأمّا الظنّ المتعلّق بالأصول الاعتقادية فلا ينبغي الشكّ في عدم حجّيته وعدم جواز الاعتماد عليه في الأمور التي يجب معرفتها عقلا مثل معرفة الله سبحانه ، أو شرعا مثل معرفة المعاد الجسماني ؛ لأنّ الظنّ بهذه الأمور لا يسمّى معرفة بل يجب تحصيل العلم والمعرفة بها مع الإمكان ، ومع العجز عنه لا ريب في عدم وجوب تحصيله ؛ لأنّ الله لا يكلّف أحدا بما لا يطيقه.

وأمّا الظنّ المتعلّق بالأمور التكوينية والتاريخية ، كالظنّ بأن تحت الأرض كذا ، أو فوق السماء كذا ، والمنطقة الفلانية تحوي النفط ، والفلانية يحتمل وجود الحديد أو المعادن الأخرى فيها ، ومثل الظنّ بأحوال القرون الخالية والأمم الماضية ، فإن كان الظنّ ممّا لم يقم على حجّيته دليل خاصّ فلا شك في عدم اعتباره ؛ لأنّ حجّية الظنّ المطلق إنّما ثبتت بالمقدّمات السابقة ، وهي كما عرفت إنّما تجري في الأحكام الشرعية.

وأمّا الظنّ الخاصّ ـ كالظنّ الحاصل من خبر الواحد ـ ففيه خلاف بين صاحب الكفاية وبين السيد الأستاذ أبو القاسم الخوئي حفظه الله ، حيث منع الأوّل وجوز الثاني ، والتفصيل في غير هذا المقام مع التحقيق حوله إن شاء الله سبحانه.

١٧٤

المقصد السابع

في الأصول العملية

تمهيد : في الأصول العملية

الفصل الأوّل : في البراءة

الفصل الثاني : أدلّة الأخباريين على وجوب الاحتياط وعدم جواز التمسّك بالبراءة

الفصل الثالث : في دوران الأمر بين المحذورين

الفصل الرابع : في قاعدة الاشتغال والاحتياط

الفصل الخامس : في شرائط الأصول العملية

الفصل السادس : في الاستصحاب

الفصل السابع : تقسيمات الاستصحاب

الفصل الثامن : أدلّة الاستصحاب

١٧٥
١٧٦

تمهيد

في الأصول العملية

قد علمت أنّ وظيفة الفقيه الفحص عن الأحكام الشرعية وتحصيل العلم الوجداني بها إن أمكن له ذلك ، وإن لم يمكنه ذلك فلا بدّ أن يلجأ إلى الظنّ الخاصّ أو الظنّ المطلق على نحو ما عرفته ، وإن عجز الفقيه في مورد عن العلم والظنّ بقسميه معا فحينئذ يرجع إلى قواعد خاصّة قرّرت للفحص عن وظيفة المكلّف حين يفقد العلم والظنّ المعتبر بالأحكام ، وتلك القواعد تسمّى بالأصول العملية. وهي كثيرة إلّا أنّ ما اشتهر لديهم البحث عنه في كتب الأصول المتداولة هي الأصول الأربعة : البراءة والاشتغال أو الاحتياط والتخيير والاستصحاب.

ثمّ البراءة على قسمين : البراءة الشرعية والبراءة العقلية ، فإن كان الدليل الدالّ على اعتبار البراءة وحجّيتها الآيات أو الروايات أو الإجماع كانت البراءة شرعية ، وإن كان الدليل هو العقل فهي عقلية.

ثمّ هناك فرق بين هذه الأصول في الموارد التي يتمسّك بها ، فالبراءة يتمسّك بها في الشبهة الحكمية والموضوعية ، حيث لم يكن هناك الحالة السابقة ملحوظة ، كأن يشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ولم يكن

١٧٧

هناك دليل من آية أو رواية أو إجماع يبيّن الواقع ، فإنّه يشكّ في الحكم ـ أعني الوجوب ـ وليس هناك لوجوب الدعاء لدى رؤية الهلال حالة سابقة معلومة من وجود وعدم ، فحينئذ يتمسّك بالبراءة ، فيقال : الأصل براءة ذمّة المكلّف من هذا الوجوب. ومثل ما يشكّ في حرمة التدخين ، فإنّه أيضا يشكّ في الحكم وأنّه ثابت أو ليس بثابت وليس هناك حالة سابقة ، وكما ليس في المقام دليل يعتمد عليه في معرفة الحكم الواقعي الإلهي فرضا ، ففي مثله أيضا يقال : الأصل براءة المكلّف من الحرمة المشكوكة. ومعنى براءة المكلّف عن الحرمة أو الوجوب هو أنّ هذا الفعل مباح ظاهرا يعني يعامل معه معاملة المباح في الظاهر.

وأمّا الاشتغال أو الاحتياط فهو إنّما يفيد فيما إذا علمنا بالحكم ، مثل ما يعلم أنّ الواجب يوم الجمعة في زمان الغيبة إمّا صلاة الظهر أو صلاة الجمعة ، فحينئذ يكون الحكم ـ أعني الوجوب ـ معلوما ، إلّا أنّ متعلّقه مردّد بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة ، ففي مثل ذلك يحتاط حيث نعلم باشتغال الذمّة بوجوب واحد منهما ، ولا نأمن العقاب إذا أتينا بواحد دون الآخر ، فحينئذ يحكم العقل بلزوم إتيانهما معا. وهو معنى الاحتياط.

وأمّا التخيير فهو إنّما يستخدم في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، مثل ما يشكّ في أنّ الفعل الفلاني إمّا واجب وإمّا حرام ، ولم يمكنه الوصول إلى العلم التفصيلي حتى يتأكّد من أنّه واجب أو حرام ، ففي مثله يحكم العقل بأنّ العبد مخيّر بين الفعل والترك.

وأمّا الاستصحاب فهو يجري فيما إذا كان الشيء متيقّنا سابقا لحقه الشكّ في البقاء ، ففي مثله يعمل على طبق اليقين السابق ، مثل ما إذا غاب زيد عنّا غيبة منقطعة ولم ندر أنّه ميت أو حيّ ، حيث كنّا نتيقّن بوجوده ثمّ شككنا

١٧٨

في بقائه ، فحينئذ نعمل كما كنّا نعمل مع اليقين بوجوده ، بأنّه لو كانت له زوجة فهي تبقى على حالها يعني لا تعتبر أرملة ، وإن مات له مورث عزل له نصيبه ويبقى ماله محفوظا كما كان الأمر حال اليقين بحياته بلا فرق بين الحالتين ، وهذا معنى الاستصحاب.

وكذا إذا وجب شيء ، مثل : الدعاء عقيب رؤية الهلال ، فإنّه إن لم يأت به وغشيه الليل فشكّ في أنّ ذلك الوجوب أي وجوب الدعاء باق أم لا ، فكان وجود ذلك الوجوب متيقّنا ثمّ حصل الشكّ في بقائه ، فيعمل مثل ما كان عليه أن يعمل حين اليقين بالوجوب ، يعني يدعو مثل ما كان عليه أن يدعو حال التيقّن.

ومن هذا تبيّن أنّ مورد الاستصحاب ما إذا علمنا بوجود شيء وشككنا في بقائه فيجري الاستصحاب ، يعني نفرضه باقيا ونرتّب عليه آثار بقائه.

هذه خارطة إجمالية لمفهوم هذه الأصول مع الإشارة إلى مواردها ، ولكلّ منها شرائط وأحكام نشير إليها في المستقبل حسبما يقتضي وضع الرسالة.

١٧٩

الفصل الأوّل

في البراءة

أوّلا : في البراءة الشرعية :

اعلم أنّ البراءة الشرعية ـ وكذا العقلية ـ تجري في موارد مختلفة يجمعها الشكّ في أصل التكليف ، أي الشكّ في ثبوت التكليف ، مثل ما نشكّ في أنّ التدخين حرام أو ليس بحرام بل مباح ، أو نشكّ في أنّ الدعاء عند رؤية الهلال واجب أو ليس بواجب.

فقد اتّفقت كلمتهم على العمل بالبراءة الشرعية فيما شكّ في وجوب شيء أو عدم وجوبه ، فهم يقولون بأنّه لا يجب عليه إتيان ما يحتمل وجوبه ويشكّ في أنّه واجب أو ليس بواجب ، ويحكم ببراءة ذمّة المكلّف ظاهرا ، وهو واضح.

وأمّا إذا شكّ في أنّه حرام أو مباح ففي مثل ذلك ذهب الأصوليون إلى البراءة ، والأخباريون قالوا : لا بدّ من ترك ما يحتمل حرمته.

أدلّة البراءة :

استدلّ على البراءة الشرعية بقسميها الجاريين في الشبهة التحريمية

١٨٠