مرقاة الأصول

آية الله الشيخ بشير النجفي

مرقاة الأصول

المؤلف:

آية الله الشيخ بشير النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8220-56-5
الصفحات: ٢٦٣

الفصل الثالث

في العلم والقطع

تعارف لدى الأصوليين ـ وخاصّة المتأخّرين الأساتيذ وغيرهم ـ إطلاق القطع وإرادة العلم ، فما ذكر للقطع من الأحكام إنّما هي للعلم.

وقد علمت أنّ العلم حجّة ذاتا ، ولا يحتاج في كونه حجّة وراء ذاته شيئا آخر ، وغيره إنّما يكون حجّة بالجعل على الوجه الذي أشرنا إليه ، وسوف ينجلي أكثر من ذلك.

أقسام العلم :

الأوّل : العلم الطريقي :

وهو الذي لا يكون داخلا في موضوع الحكم إنّما يكون كاشفا عن الحكم ، مثل : العلم بالخمر ، فإنّه إنّما يكشف لنا عن موضوع الحكم ويبيّن لنا ذلك وليس دخيلا في الموضوع ، يعني الموضوع ذات الخمر لا الخمر المعلوم خمريته ، فوصف المعلومية ليس داخلا في الحكم ، إنّما ثبت الحكم لنفس الخمر.

وهذا هو القسم الأوّل ويسمّى بالعلم الطريقي أو القطع الطريقي.

١٤١

والطريقي على نحوين :

١ ـ العلم التفصيلي.

٢ ـ العلم الإجمالي.

والتفصيلي مثل ما تعلم أنّ التدخين مباح والخمر حرام ، أو هذا المائع ماء طاهر وذلك نجس.

والإجمالي مثل ما تعلم بأنّ الواجب يوم الجمعة في زمان الغيبة الكبرى إمّا صلاة الجمعة أو الظهر ، أي تعلم بوجوب أحدهما لا على التعيّن ، ومثل ما تعلم بأنّ واحدا من الإناءين نجس.

ثمّ المعلوم بالإجمال قد يكون مردّدا بين أمور محصورة عرفا ، مثل المثال السابق ، وقد يكون مردّدا بين أمور غير محصورة عرفا ، مثل ما تعلم بأنّ واحدا من ألف إناء نجس ، أو امرأة من نساء هذه البلدة محرمة بالرضاعة.

وقد علمت أنّ حجّية العلم ذاتية لا تتخلّف عنه ، فيكون العلم حجّة في جميع هذه الأقسام سوى القسم الأخير ، أعني ما إذا كان المعلوم بالإجمال مردّدا بين أمور غير محصورة ، فإنّه لا يجب العمل على طبق العلم (١) ؛ لما فصّل في محلّه.

هذا كلّه في العلم الطريقي.

الثاني : القطع الموضوعي :

فهو ما أخذ موضوعا أو جزءا من الموضوع.

__________________

(١) استثناء القسم الثالث لدى الجميع بشكل أو بآخر شاهد على أنّ الحجّية ليست بحكم العقل.

١٤٢

فالأوّل : مثل ما إذا كان الوجوب أو الاستحباب أو غيرها من الأحكام ثابتا لنفس العلم ، بأن يكون المعلوم بوصف أنّه معلوم واجبا أو مستحبا.

والثاني : ما إذا كان العلم منضمّا إلى الغير موضوعا للحكم مثل ما يقال : إنّ البول المعلوم البولية نجس ، فإنّ الحكم فيه لم يثبت للبول وحده ولا للعلم وحده ، بل تعلّق الحكم بالبول الّذي تعلم أنّه بول.

تنبيه : لا يشترط في حجّية العلم أن يكون مطابقا للواقع في علم الله ، بل يجب متابعته بمجرّد حصوله من دون نظر إلى أنّه مطابق للواقع في علم الله تعالى أو لا ، فإذا حصل العلم بشيء أنّه واجب أو حرام وجب العمل على طبقه والجري على وفقه ما دام العلم باقيا ، فلمّا زال العلم وتبدّل بالجهل فحينئذ يرتفع الحكم بوجوب المتابعة.

ثمّ إذا حصل العلم بحرمة شيء مثلا ولكنّ المكلّف لم يعمل على مقتضاه ، ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّ علمه كان جهلا مركّبا ، أي علمه لم يكن مطابقا للواقع ، مثل : من اعتقد اعتقادا علميا بأنّ هذا المائع خمر فأقدم على شربه ثمّ تبيّن أنّه كان خلّا ، يعتبر المكلّف متجرّيا ، حيث إنّه تجرّى على المولى وأقدم على مخالفته وإن لم تتحقّق مخالفته واقعا.

وهذا التجرّي يكشف عن خبث باطنه وقبح سريرته ، وإن تبيّن إنّ ما شربه كان خمرا كان المكلّف عاصيا مستحقّا للعقاب.

إذا عرفت ذلك فاعلم :

انّ لهم في التجرّي بحثين :

أوّلهما : هل التجرّي محرّم من المحرّمات الإلهية ، بأن يكون نفس

١٤٣

الإقدام على مخالفة السيّد والتجرّي في جنابه فعلا محرّما ومعصية من المعاصي؟

ثانيهما : أنّه على تقدير عدم حرمة التجرّي ـ كما عليه الشيخ الأنصاري ومن تبعه من الأساتيذ ـ هل التجرّي يجلب العقاب من المولى ، أم ليس فيه سوى أنّه يكشف عن خبث سريرة المتجرّي؟

ستقف على ما هو الحقّ في المطوّلات.

١٤٤

الفصل الرابع

في بيان حجّية الظنّ وما يفيده

ولا بدّ من تمهيد أمور تجب معرفتها لمن تصدّى لفهم ما يتعلّق بحجّية الظنّ :

الأوّل : أنّه قد علمت أنّ حجّية العلم ذاتية لا تحتاج إلى جعل الجاعل ، وأنّ حجّية الظنّ لو ثبتت فهي جعلية مرهونة بجعل الجاعل ، فعليه لا بدّ من إثبات أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة ، وبدون ذلك لا قيمة للظنّ.

الثاني : حيث علمنا أنّ حجّية الظنّ ليست ذاتية بل تتوقّف على إحراز أنّ الشارع جعله حجّة ودليلا ، فعليه لا يكون الظنّ بدونه حجّة. فالظنّ في حدّ ذاته ـ أي مع قطع النظر عن ذلك ـ لا يكون حجّة (١). وهكذا حال كلّ شيء غير العلم في عدم الحجّية ، فعليه يكفي الشك في حجّيته للقطع بعدم حجّيته.

الثالث : وقع الكلام عندهم في إمكان حجّية غير العلم ، بمعنى هل يمكن

__________________

(١) ليس المقصود نفي الاقتضاء عن الظنّ للحجّية ، فإنّه يصلح لأن يجعله الجاعل حجّة ؛ إذ الجعل التشريعي لا يعقل أن يمنح للظنّ الصلاحية للحكم ، فإنّ الدليل المتكفّل للموضوع لا يتكفّل بيان تحقّق الموضوع ، فلا وجه لما أصرّ عليه السيّد الخوئي من فقدان الصلاحية والاقتضاء.

١٤٥

أن يعتبر الشارع شيئا غير العلم ويجعله حجّة مثل العلم بحيث يكون اتّباعه مثل اتّباع العلم واجبا؟

نقل عن بعض القدماء ـ مثل : ابن قبة ـ أنّه لا يمكن جعل الظنّ حجّة ، ببيان أنّ إصابة الظنّ للحكم الواقعي المخزون في علمه تعالى غير معلوم ، بل لا شكّ في أنّه قد يصيبه وربّما لا يصيبه ، ويلزم من حجّية الظنّ وجوب العمل على خلاف ذلك الحكم الواقعي إذا أخطأ الظنّ الواقع ، فلو جعل الشارع الظنّ حجّة كان لازمه تعريض المكلّف على تفويت المصلحة المترتّبة على الحكم الواقعي ، ولا شكّ في قبحه ، فلا يصدر من الشارع الحكيم. وأيضا الفعل إن كان في الواقع متّصفا بحكم مخالف لما ثبت له حسب مقتضى الظنّ لزم اجتماع الضدّين ، بأن كان الفعل حراما واقعا وحصل لنا الظنّ بوجوبه أو إباحته ، فيلزم أن يكون الفعل حراما وواجبا مثلا ، وهو اجتماع الضدّين. وإن كان متّصفا بنفس الحكم لزم اجتماع المثلين ، بأن كان الفعل في علم الله واجبا واقعا وثبت له وجوب ظاهري بمقتضى الظنّ فلزم ثبوت الوجوبين لفعل واحد في وقت واحد أحدهما واقعي والآخر ظاهري.

ولكن جمهور المتأخّرين وأعاظم القدماء على إمكان حجّية الظنّ ببيان أنّه من المعقول أن يكون في حجّية الظنّ مصلحة أخرى غير مصلحة الحكم الواقعي ، وتلك المصلحة تعوّض للمكلّف عمّا يفوته من المصلحة المترتّبة على الحكم الواقعي على فرض خطأ الظنّ وعدم إصابته الواقع ، فلتكن تلك المصلحة تسهيل الأمر على المكلّفين في شأن امتثال الأحكام الإلهية ؛ إذ لو لم يكن الظنّ حجّة ولم يصحّ الاعتماد عليه في الأحكام الشرعية لزم منه تكليف عامّة المكلّفين بتحصيل العلم الوجداني بجميع الأحكام ، ولا شكّ في أنّه يتعسّر على أغلب الناس حتى في زمان حضور الأئمة

١٤٦

الأطهار عليهم‌السلام فكيف بهم في مثل هذا الزمان الذي ليس فيه سبيل إلى تحصيل العلم بالتشرّف بحضرة الولي عجّل الله فرجه الشريف؟ فمن المعقول جدّا أن يعتبر الشارع الظنّ حجّة لأجل تسهيل قنص الأحكم واصطيادها على المكلّفين كافّة.

وقد أجابوا عمّا استدلّوا به على امتناع حجّية الظنّ ببيانات دقيقة تعرفها في المطوّلات.

الرابع : قسّم الظنّ بعدّة تقسيمات :

منها : تقسيمه إلى الظنّ الشخصي والنوعي.

فالظنّ الشخصي : وهو صفة تظهر في النفس قبل العلم ، أعني الطرف الراجح من طرفي الترديد والاحتمال.

والظنّ النوعي : وهو عبارة عن الطرف الراجح من طرفي الترديد الذي يحدث في الذهن للأسباب التي تكون غالبا أسبابا لظهوره ، مثل خبر الثقة والعدل ، فإنّه يورث الظنّ بالمخبر به غالبا.

وقد يطلق لفظ «الظنّ النوعي» ويراد به نفس السبب الّذي يوجب حدوث الظنّ غالبا ، فيقال : خبر الثقة ظنّ نوعي. والمقصود بالبحث هنا هو حجّية الظنّ النوعي.

ومنها : تقسيمه إلى الظنّ الموضوعي والظنّ الطريقي.

فالظنّ الطريقي : ما كان طريقا محضا إلى الحكم الواقعي المحفوظ من دون اعتباره في موضوع الحكم ، مثل : القطع الطريقي بعينه.

والظنّ الموضوعي : الّذي له دخل في الحكم الشرعي بنحو يكون مأخوذا في موضوعه.

ومنها : تقسيمه إلى ظنّ خاصّ وظنّ مطلق.

١٤٧

فالظنّ الخاصّ : كلّ ظنّ نوعي أو شخصي دلّ دليل خاصّ من العقل أو النقل على اعتباره وحجّيته بخصوصه ، كالظنّ المتحصّل من خبر العادل ، وكالظنّ بعدد الركعات ، والظنّ بالقبلة.

والظنّ المطلق : هو الظنّ الّذي تثبت حجّيته على الإطلاق من أي سبب حصل. والدليل الّذي يتمسّك به غالبا في إثبات حجّيته مطلقا هو دليل الانسداد المؤلّف من مقدّمات معروفة سيأتي ذكرها إن شاء الله.

وهذا الظنّ الّذي قام دليل الانسداد على اعتباره يسمّى ظنّا انسداديا.

فلنبيّن أوّلا الظنون التي قامت الأدلّة الخاصّة باعتبارها ، ثمّ نعقبه بالظنّ المطلق ، أي نبيّن الدليل الّذي استدلّ به على حجّية الظنّ على الإطلاق ، ثمّ إنّ الظنون التي ثبتت حجّيتها بالخصوص أو ادّعي ثبوت حجّيتها عديدة نذكر أهمّها وأشهرها في فصول.

١٤٨

الفصل الخامس

في حجّية الظواهر

توطئة :

من جملة الظنون الخاصّة الظنّ الحاصل من الظواهر.

وقد علمت في أوائل الكتاب معنى الظهور ، وأنّه عبارة عمّا يتحصّل من الكلام ويستفاد منه حسب متفاهم العرف ، سواء كانت الاستفادة بمعونة القرائن أو بالوضع (١). ومثال الأوّل : ظهور لفظ «أسد» في قولك : رأيت أسدا يرمي ، في الرجل الجريء بقرينة يرمي. ومثال الثاني : ظهور صيغة الأمر في الوجوب على المشهور ، فإنّها لديهم موضوعة للوجوب وظاهرة فيه.

ثمّ البحث عن حجّية الظنّ الحاصل من الظهور عبارة أخرى عن البحث عن حجّية الظهور ، كما أنّ البحث عن حجّية الظنّ المتحصّل من خبر الواحد تعبير آخر عن حجّية الخبر نفسه ؛ لما عرفت من أنّه قد يطلق الظنّ الخاصّ ويراد به أحد هذه الأسباب الخاصّة المفيدة للظنّ ؛ فلذا نرى العلماء بحثوا عن حجّية نفس هذه الأسباب.

__________________

(١) هذا أولى من تفسيره بكون اللفظ قالبا للمعنى حسب متفاهم العرف ـ كما في الكفاية ـ فإنّه ينافي تفسير استعمال اللفظ في المعنى بإفنائه فيه فتأمّل كما لا يقبل التشكيك مع أنّ بناءه في التخصيص والتقييد على تقديم الأظهر على الظاهر.

١٤٩

إذا عرفت هذا فاعلم :

انّ المعروف والمشهور بينهم حجّية الظهور على اختلاف بينهم في شرائطه وخصوصياته.

والوجه في حجّية الظهور أنّه من المقطوع به الّذي لا يشوبه ريب ولا شكّ أنّ أبناء المحاورة من العقلاء من كلّ لغة قد مشى ديدنهم وجرت سيرتهم في محاوراتهم وبيان مقاصدهم على اعتماد المتكلّم على الظواهر ، ويعني ذلك أنّه يكتفي المتكلّم في بيان مقصوده بكلام ظاهر في المطلوب كما يعتمد المخاطب على الظهور في العمل بكلام المتكلّم ، فإنّ المولى يكتفي في إيصال مقصوده إلى العبد بكلام ظاهر في مرامه كما أنّ العبد أيضا يكتفي في امتثال أمر المولى بالعمل بما يظهر من كلامه ، ولا أحد يخطّئ المولى على اكتفائه بالظهور في مقام بيان مراده ، كما لا يخطّئ العبد في اكتفائه في مقام الامتثال بالعمل بما يستفيد من ظاهر كلام المولى ، بل يصوّب العقلاء كلّا من المولى والعبد في ذلك ، بل لا يؤمن العقلاء بعذر للعبد إذا لم يعمل على طبق ما يستفاد من ظهور اللفظ.

ومن المعلوم أيضا أنّ الشارع المقدّس لم يتخطّ في محاوراته مسلك أهل المحاورة من العقلاء في تفهيم مفاده ؛ لأنّ الشارع من العقلاء بل رئيسهم ، فهو إذن متّحد المسلك معهم ، وحيث لم يثبت أنّه اخترع لنفسه محاورات اختصّت به دون سائر الناس فعليه ـ كما يجب على العبد العرفي ـ اتّباع ظواهر كلام المولى العرفي ولا عذر له في تركه عند العقلاء ، كذلك يجب على العبد الحقيقي اتّباع ظواهر كلام المولى الحقيقي الذي هو الشارع المقدّس ، وليس له لدى العقلاء عذر في عدم امتثال ما يستفاد من ظواهر كلامه.

١٥٠

الفصل السادس

في الإجماع

الإجماع لغة : الاتّفاق.

والمراد هنا : اتّفاق خاصّ.

وهو عند العامّة ـ على ما هو المعروف بينهم على ما نقل ـ : اتّفاق فقهاء المسلمين كافّة على حكم شرعي ، أو اتّفاق أهل الحلّ والعقد على اختلاف تعبيراتهم.

وأمّا الإمامية فالإجماع عندهم : هو الاتّفاق من العلماء على وجه يكشف ذلك الاتّفاق عن رضا المعصوم عليه‌السلام سواء اتّفق العلماء كلّهم أو كان الاتّفاق من البعض ، حتى لو اتّفق اثنان وكشف ذلك الاتّفاق عن رأي الإمام عليه‌السلام كان ذلك إجماعا على ما عندهم.

طرق تحصيل الإجماع :

لتحصيل مثل هذا الإجماع طرق ، منها :

١ ـ طريقة الحسّ :

والمقصود بها أن يسمع أو يتتبّع مدّعي الإجماع بنفسه حكما

١٥١

واحدا من جماعة يعلم بدخول الإمام عليه‌السلام فيهم ولكنّه لم يميّزه بشخصه من بينهم.

ويعرف هذا الإجماع لديهم بالإجماع الدخولي أو التضمّني.

٢ ـ قاعدة اللطف أو الطريقة العقلية :

وهي أن يكشف من اتّفاق العلماء عن رأيه عليه‌السلام بأن يكون بمرأى من الإمام ومسمع منه ومع ذلك لم يظهر منه ردعهم بوجه من الوجوه ، وعدم ظهور الخلاف منه يكشف عن رضاه ، وهو يستلزم أنّ ما اتّفقوا عليه حقّ ومطابق للواقع.

وهذه الطريقة تبنّاها الشيخ الطوسي ومن تبعه.

٣ ـ الحدس :

وهي أن يقطع من اتّفاق العلماء الإماميين بأنّ ما اتّفقوا عليه هو قول رئيسهم ، فإنّ اتّفاقهم مع كثرة اختلافهم في أكثر المسائل يكشف عن أنّ اتّفاقهم ليس مستندا إلى أنفسهم بل هو مستند إلى إمامهم. وهذه الطريقة اختارها أغلب المتأخّرين ، وهناك طرق أخرى ستعرفها في محلّها.

نوعا الإجماع :

إنّ هذا الإجماع والاتّفاق إن حصل عليه الفقيه بنفسه يسمّى إجماعا محصّلا ، وإن قام بتحصيله غيره ممّن تقدّمه أو أحد المعاصرين له فهو منقول بالنسبة إلى هذا الفقيه الذي لم يحصل على الاتّفاق بنفسه ، بل نقل له أنّ فلانا حصّل الاتّفاق ، فهو محصّل بالنسبة للذي قام بتحصيله.

ثمّ إنّ الإجماع المحصّل يفيد العلم بالحكم المجمع عليه لمن قام

١٥٢

بتحصيله ، ولا يفيد غير الظنّ بالنسبة إلى من لم يحصّله.

ثمّ لا ريب لدى المشهور في حجّية الإجماع المحصّل ، إنّما الكلام في المنقول ، وإن القول بحجّيته موهون جدّا.

١٥٣

الفصل السابع

في الشهرة

اعلم أنّ الشهرة على أقسام ثلاثة :

١ ـ الشهرة في الرواية :

وهي بمعنى كثرة نقلها ، ويقابلها الشذوذ والندرة بمعنى قلّة الناقلين لها. وهذه الشهرة من المرجّحات عند تعارض الخبرين على مسلك المشهور حسب ما ورد في الأخبار العلاجية ؛ إذ ورد فيها لزوم ترجّح المشهور من المتعارضين.

٢ ـ الشهرة العملية :

وهي بمعنى استناد المشهور في مقام الإفتاء إلى خبر ما ، بأن نعلم أنّ جمهور العلماء الأعلام عملوا بالرواية وأفتوا على مقتضاها ، فيقال : إنّ مثل هذه الشهرة تجبر ضعف سند الرواية ، بأن رأينا رواية ضعيفة كالروايات في منزوحات البئر ، ولكن ألفينا المشهور قد عملوا بها ، فيكون ذلك العمل جابرا لضعف الخبر ومكمّلا لمنقصته.

١٥٤

٣ ـ الشهرة في الفتوى :

وهي بمعنى اشتهار الفتوى بحكم من الأحكام من دون أن يعلم مستند الفتوى. وهذه الشهرة هي محلّ الكلام فعلا في الحجّية وعدمها.

الاستدلال على حجّية الشهرة في الفتوى :

استدلّ على حجّيتها بوجوه :

منها : الروايات الدالّة على اعتبار الشهرة في ترجيح إحدى الروايتين المتعارضتين ، وأنّه يعمل بأشهرها ؛ لأنّ المشهور ممّا لا ريب فيه وأنّه مقطوع الصدور.

ومنها : أنّ الظنّ الحاصل من الشهرة في الفتوى أقوى من الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، فالذي يدلّ على حجّية الخبر يدلّ على حجّية الشهرة الفتوائية بطريق أولى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه مبني على أنّ مناط الحجّية في الخبر هو كونه مفيدا للظنّ ، وهو فاسد لما سيأتي من أنّ الخبر إنّما أصبح حجّة لأدلّة خاصّة لا لإفادته الظنّ ؛ ولذلك نقول بحجّيته ولو لم يفدنا الظنّ.

وهناك أدلّة أخرى تمسّك بها الأعلام ستعرفها في محلّها.

١٥٥

الفصل الثامن

في حجّية خبر الواحد

إنّ هذا البحث من أهمّ المسائل الأصولية ؛ إذ العلم الضروري بالأحكام الشرعية غير حاصل إلّا في بعض الأحكام ، كوجوب الصلاة والصوم والحجّ وأمثالها. والعلم غير الضروري ـ كالعلم الحاصل من الخبر المعلوم صدوره كالتواتر مثلا ـ قليل جدّا بحيث لا يفي هذا النحو من الأخبار إلّا لجزء ضئيل من الأحكام الإلهية ؛ فغالب الأحكام وأجزاء العبادات وشرائطها إنّما تثبت بأخبار الآحاد ، فالبحث عن حجّيتها من أهمّ المسائل الأصولية ، وبإثباتها ينفتح الطريق إلى الأحكام الشرعية ، وبعدمها ينسدّ الطريق إليها.

تمهيدات : الأوّل : قد علمت أنّ القاعدة الأوّلية تقتضي عدم جواز العمل بغير العلم مهما كان ذلك الغير ، وإنّما يجوز العمل بالظنّ إذا علمنا أنّ الشارع المقدّس أباح لنا العمل به ، ومثل هذا الظنّ الذي قام الدليل الخاصّ على حجّيته بالخصوص وعلمنا بحجّيته يسمّى عند الأصوليين الطريق العلمي.

١٥٦

فإذا كان العلم بالأحكام الإلهية نادرا جدا ، والفقيه غير مدرك لها بالعلم الوجداني ، فلا محالة أنّه يلجأ إلى الظنّ الذي علمنا أنّ الشارع اعتبره وجعله حجّة ، وهذا الظنّ هو الطريق العلمي.

ومن الطبيعي أنّه مع وجود مثل هذا الطريق لا يجوز للفقيه العمل بأيّ شيء آخر. وإذا فرضنا أنّه لم يجد الظنّ الذي قام الدليل الخاصّ بحجّيته فيضطرّ إلى العمل بكلّ ظنّ مهما كان ومن أيّ سبب حصل ذلك الظنّ كما يأتي بيانه.

الثاني : إنّ البحث في المقام عن حجّية خبر سنده متّصل إلى المعصوم برواة ثقات أو عدول إلّا أنّه ليس متواترا ، ولا ننظر في الخبر المفيد للظنّ بخصوصه ، بل نبحث عن كلّ خبر الثقة أو العدل وإن لم يكن مفيدا للظنّ بالفعل ؛ لأنّ البحث عن اعتبار الخبر لأنّه مفيد الظنّ النوعي ، أي من شأنه أنّه يورث الظنّ عند أغلب الناس ، وهو شأن كلّ خبر رواه الثقة أو العدل الإمامي بسند متّصل عن المعصوم عليه‌السلام.

الثالث : الكلام في حجّية مثل الخبر إنّما يأتي على قول أغلب الأعلام من القدماء وجمهور المتأخّرين من إمكان حجّية الظنّ ، وأمّا على قول بعضهم القائل بعدم إمكان ذلك فلا مساغ للبحث أصلا.

الرابع : المقصود إثبات حجّية الخبر المفيد للظنّ النوعي من دون فرق بين زمان المعصومين وزماننا هذا ، فالمقصود حجّية الخبر في كلّ زمان حتى في زمان حضور الإمام عليه‌السلام ؛ ولذلك ترى الأدلّة التي استدلّ بها على حجّية الخبر تقتضي حجّيته مطلقا.

١٥٧

الخلاف في حجّية خبر الواحد :

وقع الخلاف بين الأعلام في حجّية خبر الواحد : فذهب جماعة من قدماء الأصحاب إلى عدم حجّيته ، بل ألحقه بعضهم ـ مثل السيّد المرتضى ـ بالقياس في أنّ عدم حجّيته لدى الإمامية مثل القياس ضروري.

وذهب المشهور من القدماء والمتأخّرين إلى أنّه حجّة.

أدلّة إنكار حجّية خبر الواحد وردّها :

استدلّ المنكرون بوجوه نسرد المشهور منها تشحيذا لذهن المبتدئ :

الوجه الأوّل :

دعوى الإجماع على عدم حجّية الخبر.

ولكنّه باطل لمّا يأتي :

أوّلا : لأنّنا لا نعترف بحجّية الإجماع المنقول.

ثانيا : إنّ دعوى الإجماع على عدم حجّية الخبر ـ مع ذهاب المشهور من القدماء وجلّ المتأخرين ـ ممّا يكذّبها الوجدان السليم.

ونقل عن المحقّق النائيني رضوان الله عليه : أنّ في خبر الواحد اصطلاحين ، أحدهما : ما يقابل الخبر المتواتر. والآخر : الخبر الضعيف في مقابل الخبر الموثوق. فلعل مقصود من ادّعى الإجماع على عدم حجّية خبر الواحد هو المعنى الثاني أعني الخبر الضعيف ، والذي يقول بحجّيته يقصد المعنى الأوّل أعني ما يقابل المتواتر.

وبهذا التحقيق الذي أفاده المحقّق النائيني يحصل الجمع بين القولين المتقابلين ، أحدهما : القول بحجّية خبر الواحد ، والآخر : القول بعدم حجّيته.

١٥٨

ويشهد بصدق ما ادّعى المحقّق النائيني أنّ الشيخ الطوسي ـ مع كونه من القائلين بحجّية خبر الواحد ـ ذكر في مسألة تعارض الخبرين وترجيح أحدهما على الآخر أنّ الخبر المرجوح لا يعمل به ؛ لأنّه خبر الواحد ، فيجري هذا التعليل على الاصطلاح الثاني في الخبر الواحد.

وعليه فالإجماع الذي ادّعي على عدم حجّية خبر الواحد لا يشمل الخبر الذي يوثق بصدوره ، بل يختصّ بالخبر الضعيف.

الوجه الثاني :

وردت أخبار متواترة بعدم جواز أخذ الخبر الذي لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من الكتاب أو من السنة القطعية ، ومن المعلوم أنّ أغلب ما بأيدينا من أخبار الآحاد ليس عليها شاهد من كتاب الله ولا من سنّة نبيّه القطعية ؛ لأنّ مضامين تلك الأخبار ـ أي أخبار الآحاد ـ ليست موجودة في الكتاب ولا في السنة القطعية أو غير مصرّح بها فيهما ، فلو كانت تلك المضامين مبيّنة في السنة المتواترة أو في الكتاب العزيز لما احتجنا إلى أخبار الآحاد.

والجواب عنه : بأنّ الأخبار الواردة في هذا الباب طائفتان :

الطائفة الأولى : هي الأخبار الدالّة على أنّ الخبر المخالف للكتاب باطل ، وزخرف ، أو اضربوا به عرض الجدار ، أو لم نقله ، إلى غير ذلك من التعبيرات الدالّة على عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب والسنّة القطعية.

والمراد من المخالفة في هذه الطائفة من الأخبار هي المخالفة بنحو لا يكون بين الخبر والكتاب وجه معقول للجمع ، كما إذا كانت النسبة بين مفاد الخبر ومفاد الآية التباين الجزئي ، وما كان من الخبر المخالف للكتاب أو السنّة القطعية بنحو التباين الكلّي فهو خارج عن محلّ الكلام بلا إشكال

١٥٩

ولا خلاف ؛ لعدم وجود مثله في الأخبار.

وأمّا الأخبار المخالفة للكتاب أو السنّة القطعية بنحو العموم والخصوص المطلق فليست مشمولة لهذه الطائفة ؛ للعلم بصدور الأخبار المخالفة للقرآن على هذا النحو جزما ؛ لأنّ القرآن لم ترد فيه الأحكام إلّا على نحو الإجمال ، بل ليس المقصود فيه إلّا تأسيس الأحكام إجمالا كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...)(١). وأمّا تفصيل الأحكام وبيان موضوعاتها فهو موكول إلى الأخبار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام. وأمّا العمومات كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(٢) فأنّه يفيد صحّة البيع مطلقا مع أنّا نعلم أنّه ليس كلّ بيع صحيحا ، وتفصيل الأحكام الراجعة إلى البيع إنّما تعلم من الروايات المروية عنهم عليهم‌السلام فإنّها المتكفّلة لخصوصياتها.

وعليه فالمقصود من هذه الطائفة من الأخبار الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب هو : المخالفة على وجه لا يمكن الجمع بينها وبين القرآن بوجه من الوجوه المعقولة ، وهي كما عرفت خارجة عن محلّ الكلام ، إنّما الكلام في الأخبار التي لا تنافي القرآن والسنّة المقطوعة على هذا الوجه ، بل هي مخصّصة أو مقيّدة أو مبيّنة للقرآن أو السنّة المعلومة ، وهذه الطائفة لا تدلّ على عدم جواز العمل بها.

الطائفة الثانية : هي الأخبار الدالّة على المنع عن العمل بالخبر الذي لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

١٦٠