مرقاة الأصول

آية الله الشيخ بشير النجفي

مرقاة الأصول

المؤلف:

آية الله الشيخ بشير النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8220-56-5
الصفحات: ٢٦٣

الفصل السابع

في تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد

ربما تستبعد الأذهان الساذجة تخصيص الكتاب الكريم بالسنّة وبالأخصّ بخبر الواحد ؛ لأنّ معنى تخصيص القرآن بالخبر تقديمه على القرآن في مورد العمل بالخبر فيه ورفع اليد عن العموم القرآني ، مع أنّ الخبر ظنّي السند والقرآن قطعي السند.

فنقول : إنّ القرآن وإن كان قطعي السند إلّا أنّ تقديم الخبر ليس من جهة السند بل من جهة الدلالة لما عرفت فيما سبق من أنّ الخاصّ إنّما يقدّم على العامّ ؛ لأنّه أظهر في مقصوده من العامّ في مدلوله ، ومن الواضح أنّ الأظهر يقدّم على الظاهر (١) ولا يلاحظ فيه كون أيّ من العامّ والمخصّص قطعيا أو ظنيّا أو كليهما قطعيين أو ظنيين ، بل اللازم أن يكون كلّ واحد منهما معتبرا وحجّة في نفسه ومن دون نظر إلى الآخر.

ومن هذا تبين أنّ الخبر الخاصّ إنّما يقدّم على العامّ القرآني إذا كانت

__________________

(١) هكذا اشتهر على الألسن في العصر المعاصر ، غير أنّا قد حقّقنا في البحث عدم معقولية هذا الكلام ، فإنّ الظهور معنى غير قابل للتشكيك ، وتقدّم الخاصّ على العامّ لأجل الحكومة أو الورود.

١٢١

دلالته على المطلوب أوضح وأظهر من دلالة العامّ على معناه ؛ ولهذا ترى أنّ سيرتهم مستمرّة على العمل بالخبر وإن لزم به التخصيص للكتاب العزيز.

١٢٢

الفصل الثامن

في النسخ

النسخ لغة : إزالة الشيء وتغييره ، ويقال : نسخت الشمس الظل وأنسخته : أزالته ، ونسخت الريح آثار الدار : غيّرتها.

واصطلاحا : رفع ما هو ثابت من الأحكام في الشريعة ، والمراد منه أن يكون الحكم ثابتا في الشريعة إلى مدّة وكان الناس يعتقدونه مستمرّا باقيا ، ثمّ يأتي الأمر من الشارع بنسخ ذلك الحكم وإزالته أو تغييره ، كما هو المعروف من أنّه كان الواجب في صدر الإسلام التوجّه إلى بيت المقدس في الصلاة ، ثمّ نسخ ذلك الوجوب وأمر بالتوجّه إلى الكعبة.

واعلم أنّ الأحكام الشرعية لدى الإمامية تابعة للمصالح والمفاسد وهي على الأغلب خافية علينا ، والله تعالى ينشئ الأحكام على طبق ما تقتضي تلك المصالح والمفاسد ، وحيث قرّر في محلّه أنّ المصالح والمفاسد تختلف وتتغيّر حسب تغيّر الظروف والأزمان فيمكن أن يكون ما يحتوي على مفسدة في زمان مشتملا على مصلحة في زمان آخر ، فيجب أن يلاحظ الشارع ذلك ويجعل ما فيه مصلحة لازمة واجبا ما دام ذا مصلحة ، ويجعل ما فيه المفسدة اللازمة محرّما ما دام ذا مفسدة ، وهكذا يجعل ما فيه مفسدة غير

١٢٣

ملزمة مكروها ما دام كذلك ، وما فيه مصلحة غير لازمة مستحبّا ما دام كذلك. وهذا هو السبب الوحيد الذي لأجله تتبدّل الأحكام والشرائع عبر التاريخ الشامل لجميع الأنبياء عليهم‌السلام.

هذا وقد دلّت الآية الكريمة على إمكان النسخ في ذاته ، قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(١) ، وفي كون النسخ في الآية بالمعنى المصطلح كلام تعرفه في محلّه.

نعم وقع الكلام في ثبوت النسخ في القرآن ، فقد ذهب جمع إلى ثبوته.

والحقّ : عدم وقوع النسخ في شيء من القرآن ، وتفصيل القول في التفسير.

ثمّ إنّ النسخ لا يكون إلّا بلسان النبي ، وأمّا الإمام فإنّه حافظ لما شرعه النبي وليس شأنه التشريع ، ولا سيما نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ دينه قد كمل وشريعته قد تمّت ، قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)(٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع وغيرها من المواقف : «ما من شيء يقرّبكم إلى الله إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يبعدكم منه إلّا وقد نهيتكم عنه» (٣) ، فالنسخ بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله غير معقول.

__________________

(١) البقرة : ١٠٦.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) ورد هذا المضمون في موارد مختلفة.

١٢٤

المقصد الخامس

في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

الفصل الأوّل : في المطلق والمقيّد

الفصل الثاني : في المجمل

الفصل الثالث : في المبيّن

١٢٥
١٢٦

الفصل الأوّل

في المطلق والمقيّد

عرّف المطلق : بأنّه ما دلّ على معنى شايع في جنسه ، يعني المطلق : هو اللفظ (١) الموضوع للمعنى الذي يصحّ حمله على كلّ ما فيه صلاحيته لذلك ، فلفظ «رجل» مطلق يصحّ إطلاقه على كلّ فرد من صنفه من دون فرق بين عربي وعجمي وأسود وأبيض وصغير وكبير.

والظاهر أنّه ليس للأصوليين في باب المطلق اصطلاح بل أخذوه بالمعنى اللغوي.

والمطلق عند أهل اللغة : المرسل والشائع ، ويقابله المقيّد الذي لا إرسال فيه ، نعم إرسال كلّ شيء بحسبه ، فإرسال لفظ يسمح له أن يطلق على أفراد صنفه ، فلفظ «إنسان» إرساله وشيوعه أوسع من لفظ «رجل» وهو واضح.

فإذا سلب هذا الشيوع والإرسال من لفظ على نحو لا يبقى فيه

__________________

(١) هكذا المعروف في الألسن ، حيث جعل الإطلاق والتقييد كالعموم والخصوص من صفات اللفظ ، وفيه نظر تعرف وجهه في محلّه إن شاء الله.

١٢٧

صلاحية للانطباق على جميع أفراده فهو المقيّد ، فلفظ «رجل مؤمن» مقيّد ؛ لأنّه قد سلب منه شياعه ، حيث كان يصلح للانطباق على كلّ رجل ، ومع إضافة قيد «المؤمن» انحصر إطلاقه في جماعة خاصّة من الرجال وهم أصحاب الإيمان.

أوّلا : هل الشيوع من الوضع أم من القرينة العامّة؟

لا ريب في أنّ هناك ألفاظا مطلقة ، بمعنى أنّها تدلّ حسب متفاهم العرف على المعاني الشائعة ، مثل : أسماء الأجناس كرجل وفرس وحيوان وسواد وبياض إلى غير ذلك من الأسماء الموضوعة للمعاني الكلّية ، هذا ممّا لا ريب فيه عند الأكثر ، إنّما الكلام في أنّ هذا الشيوع والإرسال في معنى اللفظ يأتي من الوضع بأن يكون المعنى الذي وضع له اللفظ هو المعنى الشائع ، أو أنّ الشيوع والإرسال يستفاد من القرينة العامّة المسمّاة بمقدّمات الحكمة؟

والمعروف بين القدماء الأوّل ، وأنّ اللفظ كاسم الجنس وضع للمعنى المقيّد بالإطلاق ، فلفظ «رجل» موضوع لمعناه الموصوف بالإطلاق والشيوع ، فإذا استعمل في المقيّد وغير الشائع كان استعمالا له في غير ما وضع له فكان مجازا ، فعليه كان استعمال لفظ «رجل» في خصوص «رجل مؤمن» مجازا.

والمشهور بين متأخّري المتأخّرين والأساتيذ هو الثاني ، وأنّ لفظ المطلق وضع لمعنى خال من كلّ وصف ، فوصف الإطلاق والتقييد خارجان عن حريم المعنى ويستفاد كلّ واحد من الوصفين بقرينة ، أمّا الإطلاق فيستفاد بالقرينة العامّة أعني مقدّمات الحكمة ، وأمّا التقييد فيستفاد بالقرائن الخاصّة من لفظ أو حال.

١٢٨

ثانيا : القرينة العامّة أو مقدّمات الحكمة :

حيث ثبت لدى الأعلام من الأساتذة أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المعاني لا للمعاني بما هي مطلقة ، فلا بدّ في إرادة المعنى المطلق من اللفظ من دليل خاصّ يفيد بأنّ المقصود من «رجل» مثلا هو مطلق رجل ، أو دليل عامّ خارجي يجري في كلّ مقام ، وهذا الدليل هو القرينة العامّة ، وهي تتألّف من عدّة مقدّمات ، والمعروف أنّها مقدّمات أربع :

الأولى : أن يكون معنى اللفظ قابلا للإطلاق والتقييد بأن يمكن تعلّق الحكم به في صورتي الإطلاق والتقييد ، مثل : لفظ «رجل» ، فإنه يمكن أن يأمر المولى بإكرامه على الإطلاق بأن يقول : أكرم رجلا ، ويمكن أن يأمر به مقيدا بأن يقول : أكرم رجلا مؤمنا.

الثانية : عدم نصب قرينة على التقييد لا متّصلة مع اللفظ في الكلام ولا منفصلة عنه ، بأن يقول : أكرم رجلا ، ويسكت ولا يأتي بقيد لا في هذا الكلام ولا في غيره.

الثالثة : أن يكون المتكلّم في مقام البيان ، بأن لا يكون غرضه الإجمال أو الإهمال في الخطاب لداع من الدواعي.

الرابعة : أن يكون المتكلّم حكيما وجادّا في كلامه وشئونه.

فإذا تمّت هذه المقدّمات فإنّ الكلام المجرّد من دليل التقييد يكون ظاهرا في الإطلاق ، فيكون قوله : أكرم رجلا ، مطلقا إذا تمّت فيه هذه المقدّمات المذكورة.

١٢٩

الفصل الثاني

في المجمل

المجمل : هو الذي خفي المراد منه عرفا بحيث لا يدرك المقصود منه إلّا بعد البيان.

والمجمل قد يكون لفظا ، مثل : لفظ المشترك إذا تكلّم به المخاطب ولم ينصب قرينة على المراد ، ومثله كلّ لفظ لم يعرف المراد منه عرفا من دون فرق بين أسباب عدم الفهم.

وقد يكون المجمل فعلا ، ومعنى كون الفعل مجملا أن يجهل وجه وقوعه ، كما لو توضّأ الإمام عليه‌السلام مثلا بحضور واحد ربما يتّقي منه ، فيحتمل أنّ وضوءه عليه‌السلام وقع على وجه التقية ، فلا يستكشف من عمله هذا مشروعية الوضوء على الكيفية التي وقع عليها ، ويحتمل أنّه وقع على وجه الامتثال للأمر الواقعي ، فيستكشف منه مشروعيته.

ثمّ إنّ موارد الإجمال في اللفظ كثيرة متنوّعة لكثرة أسبابه ؛ إذ قد يكون السبب هو الاشتراك ، حيث وضع اللفظ للمعاني المختلفة كمثل «العين» على ما عرفت.

وقد يكون ذلك الإجمال للتشابه بين الكلمتين ، مثل : كلمة «تنظر»

١٣٠

المشتركة بين المخاطب والغائبة ، والمختار المشتركة بين اسم الفاعل والمفعول.

وقد يكون الاجمال لعدم معرفة مرجع الضمير المذكور في الكلام ، مثل قول القائل لما سئل عن فضل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من بنته في بيته» وكقول بعض : «أمرني معاوية أن أسبّ عليا ، ألا فالعنوه».

١٣١

الفصل الثالث

في المبيّن

وهو ما اتّضح مفاده ولم يتوقّف فهم مراد المتكلّم عرفا على إضافة بيان آخر ، مثل قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)(١) ، (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً)(٢) ، فإنّه واضح الدلالة على أولوية النبي من نفوسهم.

وقوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ)(٣) فأنّه يدلّ بوضوح على الأحكام المذكورة فيه الراجعة إلى أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إلى هنا تمّ المقصد الخامس ، وبه انتهى ما أردنا إيراده من مبحث الألفاظ ، ويأتي المقصد السادس في مبحث الحجّة.

__________________

(١) الأحزاب : ٦.

(٢) الأحزاب : ٥٣.

(٣) الأحزاب : ٣٢ ـ ٣٣.

١٣٢

المقصد السادس

في مباحث الحجّة

الفصل الأوّل : بيان بعض المصطلحات الأصوليّة

الفصل الثاني : بيان المناط في حجّية شيء ما

الفصل الثالث : في العلم والقطع

الفصل الرابع : في بيان حجّية الظنّ وما يفيده

الفصل الخامس : في حجّية الظواهر

الفصل السادس : في الإجماع

الفصل السابع : في الشهرة

الفصل الثامن : في حجّية خبر الواحد

الفصل التاسع : حجّية الظنّ المطلق

١٣٣
١٣٤

الفصل الأوّل

بيان بعض المصطلحات الأصولية

نبيّن فيما يلي جملة من المصطلحات الفنّية التي يعمّ دورانها على ألسنة الأصوليين ، ولا يحسن بالطالب جهلها وعدم معرفتها على وجهها ، وأهمّها :

أولا : الحجّة :

وهي لغة : اسم من الاحتجاج بمعنى الغلبة ، والمحاجّة المغالبة.

وفي اصطلاح المناطقة : قول يتألّف من قضايا يلزمه لذاته قول آخر ، على ما عرفت في المنطق.

وأمّا في اصطلاح الأصول : فهي كلّ ما يجب العمل على مقتضاه والجري على طبقه والالتزام بمفاده ، مثل الآية القرآنية ، فإنّها إذا دلّت على حكم ـ كوجوب الصلاة ـ فهي حجّة في وجوبها ، ومعنى كونها حجّة أنّه يجب العمل على طبقها والالتزام بمفادها ، يعني يجب على المكلّف الاعتقاد بوجوب الصلاة والقيام بها. فكأنّ الحجّة طريق يوصل المكلّف إلى الحكم الإلهي.

ثمّ كون الشيء حجّة وطريقا للحكم على نحوين :

١٣٥

الأوّل : أن يكون بذاته حجّة وطريقا ، يعني لا تتوقّف حجّيته وطريقيّته على شيء آخر وهو العلم بالحكم (١) ، فإنّه إذا حصل العلم به فحينئذ يجب العمل على طبقه ولا تجوز مخالفته.

وهو طريق موصل إلى الحكم وليست حجّيته وطريقيّته مفتقرة إلى شيء آخر ؛ إذ من المعلوم أنّه لا عذر للمكلّف في عدم امتثال الحكم الذي قد علم به ؛ ولهذا يقال : حجّية العلم ذاتية ، يعني هو بنفسه طريق وحجّة.

ولا يفرّق في ذلك بين الأسباب التي يحصل منها العلم ، فإنّه بذاته حجّة من أي سبب حصل ، كما لا يفرّق أيضا في ذلك بين ما يتعلّق به العلم ، سواء أتعلّق بالحكم بأن يحصل العلم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أم تعلّق بموضوع الحكم كأن يعلم أنّ هذا المائع خمر ، فإنّه حجّة على كلّ حال لا يجوز مخالفته بوجه.

الثاني : أن لا يكون حجّة بذاته ولا يكون طريقا إلى الحكم إلّا مع أمر الشارع بوجوب متابعته ولزوم الجري على طبقه ، مثل : الأخبار المروية من الأئمة عليهم‌السلام لا على وجه التواتر ، فإنّها حجّة من هذا القبيل ، أي إنّما أصبحت حجّة ؛ لأن الشارع أمر بالعمل بها كما ستعرف ذلك ، فهي حجّة لكن لا بذاتها بل الشارع أمر بالعمل بها وجعلها حجّة ؛ ولهذا يقال : إنّ حجّيتها جعلية.

ثانيا : الأمارة :

وهي ـ على ما عرّفها المحقّق الطوسي قدس‌سره ـ ما يفيد الظنّ ، فالخبر

__________________

(١) هكذا اشتهر على الألسن في العصور المتأخّرة بل كاد يصبح من المسلّمات لدى الطلّاب ، بيد أنّا قد حقّقنا أنّ حجّية العلم والقطع ببناء العقلاء وليست بالعلم بالحكم.

١٣٦

المعتبر الدالّ على الحكم بالدلالة الظنّية أمارة على الحكم.

ويقصد بها الأصوليون : الطريق المجعول شرعا في حقّ الجاهل بالواقع للوصول إليه.

وتوضيح ذلك : أنّه قد علمت في السابق أنّ الحكم واقعي وظاهري ، ولكن قد يجهله المكلّف كما قد يجهل الموضوع الذي يثبت له الحكم ، ففي مثل ذلك يوجب الشارع العمل على طبق شيء كاشف عن الحكم أو الموضوع كشفا نوعيا ، مثل : الخبر المروي عن طريق العادل ، فإنّه كاشف عمّا يدلّ عليه كشفا نوعيا ، وكذلك البيّنة العادلة المتكفّلة لبيان الموضوع ، كأن يشهد العادلان بأنّ المال الفلاني مباح أو مغصوب ، فعليه يكون الخبر الكاشف عن الحكم الواقعي أو الظاهري وكذلك البينة العادلة أمارة.

ثالثا : الظنّ النوعي والظنّ الشخصي :

المقصود بالظنّ النوعي : أنّ من شأن الأمارة إفادة الظنّ عند غالب الناس ولدى نوعهم ، ويكون اعتبار تلك الأمارة لدى الشارع من هذه الجهة ، أي من جهة أنّها تفيد الظنّ عند معظم الناس.

والظنّ الشخصي : المقصود به الظنّ الحاصل لإنسان ما بالفعل وحالا ، وإن كان أغلب الناس خلوا من ذلك الظنّ ، ولا اعتبار لهذا الظنّ لدى الشارع إلّا في بعض الموارد ، مثل : الظنّ بالقبلة وبعدد الركعات في الصلاة.

رابعا : الدليل :

وهو عند المناطقة : القياس المفيد للعلم بالنتيجة ؛ ولذا عرّفه المحقّق

١٣٧

الطوسي أنّه ما يلزمه العلم.

وعند الأصوليين : هو المرادف للحجّة ، وقد يأتي بمعنى مقابل الأصل العملي ، كما سنطّلع عليه إن شاء الله.

١٣٨

الفصل الثاني

بيان المناط في حجّية شيء ما

قد علمت معنى الحجّية من أنّ الحجّة ما يجب العمل عليه ولا يجوز مخالفته ، ومن الواضح أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا يصحّ العمل به ولا يكون مناطا للحجّية ؛ وذلك :

١ ـ لحكم العقل ، حيث إنّ الظنّ لا يكشف عن الواقع ولا يرشد إليه على نحو يطمئنّ المكلّف إليه ويأمن العقاب ؛ إذ من المحتمل مخالفته للواقع ، وهذا الاحتمال لدى العقلاء يمنع من التعويل عليه.

٢ ـ ولقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) ، وقد ذمّ الله سبحانه العمل بالظنّ ، وبيّن أنّه لا يفيد عن الواقع شيئا ، كما ذمّ من اتّبع الظنّ بقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)(٢) ، كما منع عن العمل بغير العلم أعني الظنّ بقوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٣).

__________________

(١) يونس : ٣٦.

(٢) الأنعام : ١١٦.

(٣) يونس : ٥٩.

١٣٩

وقد تبيّن من هذه الآيات أنّ العمل بالظنّ الذي لم يأذن الله بالعمل به غير جائز ، وأنّه افتراء عليه تعالى.

فعليه مقتضى القاعدة عدم جواز العمل بالظنّ إلّا إذا أذن به الشارع ، فلا بدّ من إثبات الإذن بالعمل به منه ، ومن الواضح أنّ الإذن لا بدّ وأن يكون معلوما ولا يكون مظنونا ، وإلّا كان ذلك الظنّ بالإذن ساقطا عن الاعتبار ، بل لا بدّ من أن يكون الإذن معلوما.

فالنتيجة : أنّ الظنّ لا يجوز العمل به إلّا بعد العلم بأنّ الشارع قد أذن بالعمل به ، فكلّ شيء يفيد الظنّ بالحكم أو الموضوع لا يجوز العمل به إلّا إذا علم أنّ الشارع قد أذن بذلك ، ومعنى الإذن كونه حجّة لديه ، فإذا أصبح حجّة وجب العمل به.

١٤٠