مرقاة الأصول

آية الله الشيخ بشير النجفي

مرقاة الأصول

المؤلف:

آية الله الشيخ بشير النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8220-56-5
الصفحات: ٢٦٣

إعطائه إيّاك درهما ، والمفهوم ـ أعني اللازم للمنطوق ـ هو عدم وجود الإكرام حين فقدان شرطه الذي هو الإعطاء.

ثمّ إنّ مفهوم المخالفة له عدّة موارد ، منها : مفهوم الشرط ، وهو ما إذا علّق الحكم في الكلام على شرط ، فحينئذ إن دلّ ذلك التعليق على انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه فتلك الدلالة تعتبر دلالة على المفهوم ، وإن لم يدلّ التعليق على الانتفاء فلا يكون للتعليق مفهوم.

واختلفت وجهة نظر الأصوليين نفيا وإثباتا ، فذهب السيّد المرتضى وأتباعه إلى عدم المفهوم وعدم دلالة التعليق على انتفاء الحكم عند انتفاء ما علّق عليه الحكم ، وذهب الآخرون إلى ثبوت ذلك كما تعرفه في محلّه.

تنبيه :

إنّما النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه فيما كان الشرط راجعا إلى الحكم ، مثل المثال المتقدّم ، وأمّا ما إذا كان راجعا إلى الموضوع ، مثل قوله : إن رزقت ولدا فاختنه ، حيث إنّ الشرط ـ وهو رزق الولد ـ يتوقّف عليه موضوع الحكم وهو الولد ، ولا يتوقّف عليه الحكم بعد تحقّق الموضوع ، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(١) أيضا من هذا القبيل ، فإنّ الموضوع للحكم لا يتحقّق إلّا إذا أردن التحصّن ؛ إذ مع فقد إرادة التحصّن لا يتحقّق معنى الإكراه.

__________________

(١) النور : ٣٣.

١٠١

ثانيا

مفهوم الوصف

قد يطلق الوصف ويراد به النعت النحوي ، وقد عرفته في علم النحو.

وقد يطلق ويراد به المشتق الأصولي أو النحوي ، وقد عرفتهما في بحث المشتق.

وقد يطلق ويراد به كلّ لفظ يدلّ على ما جعل قيدا لموضوع الحكم من دون فرق بين كونه مشتقّا لدى الأصولي أو النحوي أو لم يكن ، ومن غير فرق أيضا بين أن يكون نعتا لدى النحوي أو لم يكن. وهذا المعنى للوصف هو الذي أخذ محلّا للبحث في المقام على تفصيل نسرده عليك ، وحاصله :

أن يرد الحكم لموضوع وقد علّق ذلك الحكم على ثبوت عنوان خاصّ للموضوع ، ولا يكون ذلك العنوان نفس الموضوع بل يكون وصفا له ، مثل قوله عليه‌السلام : «في الغنم السائمة زكاة» (١) حيث الموضوع ذات الغنم ، والحكم وجوب الزكاة ، والسائمة عنوان للموضوع ووصف له علّق عليه الحكم بحسب متفاهم العرف ، ففيه بحث الأصوليون في أنّه : هل ذكر ذلك الوصف

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الباب ٨ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٩.

١٠٢

للموضوع وتعليق الحكم عليه يدلّ على انتفاء الحكم حين انتفاء الوصف عن الموضوع ، أو لا؟

ذهب البعض إلى الإثبات والآخر النفي.

وأمّا إذا جعل الوصف بنفسه موضوعا للحكم ـ مثل قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(١) ـ فهو خارج عن محلّ البحث.

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

١٠٣

ثالثا

مفهوم الغاية

لاحظ الأصوليون أنّ بعض الأحكام قيّد بغاية ، مثل قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١) حيث قيّد وجوب الإمساك بمجيء الليل ، ومثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه» (٢) ؛ لأنّه قيّد الحكم بحلّية كلّ شيء بحصول المعرفة بحرمته.

والبحث في المقام إنّما هو في أنّ جعل الحكم مغيّا بغاية هل يدل على انتفاء ذلك الحكم عمّا بعد الغاية ، أو لا ، بل حكم ما بعد الغاية يبقى مسكوتا عنه يعرف من دليل خارجي؟

قد ذهب إلى كلّ فريق منهم.

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) وسائل الشيعة ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

١٠٤

رابعا

مفهوم الحصر

تمهيد :

قد يطلق الحصر ويراد به ما اصطلح عليه علماء البلاغة ، أعني الذي قسّموه إلى قصر الموصوف على الصفة ، مثل قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)(١) ، وقولك : إنّما العالم من عمل بعلمه ؛ وقصر الصفة على الموصوف كقوله : «لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي (٢)» ، وإنّما القائم زيد.

وقد يطلق ويراد به كلّ ما يدل على اختصاص الحكم بموضوع خاصّ وإن لم يكن حصرا عند علماء البلاغة ، مثل قوله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً)(٣) ، حيث دلّ على وقوع الشرب من الجميع واختصاص عدم الشرب بالبعض ، وهو القليل.

ومورد البحث هو الثاني ، أعني كلّ ما يستفاد منه الاختصاص حسب

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) بحار الأنوار ٢٠ : ١٠٧.

(٣) البقرة : ٢٤٩.

١٠٥

متفاهم العرف.

وإذا عرفت هذا فاعلم :

انّ النزاع في المقام في أنّه هل الحصر يدلّ على انتفاء الحكم عن غير الموضوع المذكور في الكلام؟ مثلا قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ)(١) هل يدلّ على نفي سائر الصفات عن الرسول عدا كونه منذرا؟ وكذا إذا قال : إنّما القائم زيد ، فهل يدلّ على نفي القيام عن غير زيد؟

فبعض قال بالإثبات ، والبعض الآخر بالنفي مطلقا ، والبعض الآخر بالتفصيل بين الكلمات التي تستعمل في الحصر ، فقال بالإثبات في بعض دون بعض.

__________________

(١) الرعد : ٧.

١٠٦

خامسا

مفهوم العدد

إذا جعل وصف خاصّ موضوعا لحكم خاصّ فهل يدل ذلك على انتفاء الحكم عن غير ذلك الوصف أم لا؟

فمثلا إذا قال : صم تسعة أيّام من كلّ شهر : ثلاثة في الأوّل وثلاثة في الوسط وثلاثة من الأخير ، فهل يدل ذلك على نفي الحكم من الوجوب أو الاستحباب عن ما عدا تلك الأيّام ، بحيث لو ورد دليل على وجوب أو استحباب باقي الأيّام لكان ذلك الدليل معارضا لهذا الدليل؟

الأكثر على أنّه لا يدلّ عليه وهو الحقّ.

١٠٧

سادسا

مفهوم اللقب

المقصود باللقب في المقام : كلّ وصف أو ذات أخذ موضوعا في الحكم.

ومعنى مفهوم اللقب هو : هل ثبوت الحكم لموضوع ما يدل على انتفاء ذلك الحكم عن غيره؟ مثلا إذا قيل : زيد قائم ، فهل يدلّ على نفي القيام عن غيره؟

الحقّ كما عليه الأغلب : أنّه لا يدلّ وإلّا لكان قولنا : «محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول» دالا على نفي الرسالة عن غيره.

١٠٨

المقصد الرابع

في العامّ والخاصّ

الفصل الأوّل : معنى العامّ

الفصل الثاني : ألفاظ العامّ

الفصل الثالث : في تخصيص العامّ بلفظ متّصل معه

الفصل الرابع : لزوم الفحص عن المخصّص قبل العمل بالعامّ

الفصل الخامس : في الضمير المخالف لحكم العامّ والعائد عليه

الفصل السادس : هل الأخير مختصّ بالاستثناء عند تعاقبه؟

الفصل السابع : في تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد

الفصل الثامن : في النسخ

١٠٩
١١٠

الفصل الأوّل

معنى العامّ

العامّ : معنى لفظ وضع له وضع واحد يشمل الكثير ، غير محصور ، مستغرق جميع ما يصلح له.

فبقولنا : «وضع واحد» يخرج المشترك ؛ لكونه بأوضاع متعدّدة ، كما عرفت في المقدّمة.

وبقولنا : «الكثير» يخرج ما لم يوضع لكثير ، كزيد وعمرو.

وبقولنا : «غير محصور» تخرج أسماء العدد ، فإنّ المائة مثلا وضعت وضعا واحدا لكثير ، وهو مستغرق جميع ما يصلح له ، لكن الكثير محصور.

وبقولنا : «مستغرق جميع ما يصلح له» يخرج الجمع المنكر ، نحو : رأيت رجالا ؛ لأن جميع الرجال ليس مشمولا له.

هكذا عرّفه بعضهم ، وفيه وفي كلّ ما ذكر في مقام التعريف إشكالات وردود تعرفها في محلّها ، على أنّها تعريفات لفظية تذكر لإيضاح مفهوم العامّ في الجملة ، وهو يحصل من كلّ تعريف ، ولا يعتبر فيها أن تكون جامعة ومانعة.

١١١

الفصل الثاني

ألفاظ العامّ

لا شبهة في أنّ للعامّ ألفاظا تدلّ على العموم بالوضع ، مثل لفظ «كلّ» وما يراد منها في كلّ لغة ، ومثل لفظ «الجميع» و «الجمع» ، والجمع المحلّى باللام وغيرها.

وقيل : إنّها مشتركة بين العموم والخصوص اشتراكا لفظيا.

وقيل : اشتراكا معنويا ، يعني وضعت لمعنى مشترك بين العموم والخصوص.

والحقّ : هو الأوّل.

ثمّ إنّه قيل من جملة الألفاظ الدالّة على العموم : النكرة في سياق النفي أو النهي ، مثل قولك : لا رجل في الدار ولا حيوان في البيت.

وهو محلّ كلام ، والحقّ : خلافه.

١١٢

الفصل الثالث

في تخصيص العامّ بلفظ متّصل معه

قد يخصّص العامّ بلفظ متّصل مع العامّ ، أي يكون العامّ وما يدلّ على تخصيصه واقعين في كلام واحد متّصل عرفا ، مثل : أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم. وفي مثله لا شكّ في أنّه يجب العمل بالعامّ بالنسبة إلى الأفراد التي هي باقية تحت العامّ ولم تخرج منه بالمخصّص ، ففي المثال يجب إكرام العلماء العدول.

وكذلك فيما إذا ورد المخصّص منفصلا عن العامّ ، بأن ورد العامّ في كلام والخاصّ في كلام آخر منفصلا عنه عرفا ، مثل ما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ بعد يوم قال : لا تكرم الفسّاق من العلماء. فأفراد العلماء الذين نعرف أنّهم من العلماء وأنّهم غير داخلين في المخصّص ـ أعني قوله : لا تكرم الفسّاق من العلماء ـ لا شكّ في وجوب إكرامهم.

ثمّ إنّه قد يشكّ في فرد أنّه داخل في المخصّص فلا يعمل فيه بحكم العامّ ، أو باق تحت العامّ فلا يدخل في المخصّص ، فيعمل فيه بالعامّ.

وهذا الشكّ قد ينشأ من الشكّ في صدق عنوان المخصّص ، مثل : الفاسق في المثال المتقدّم ، حيث قد يشتبه علينا حال زيد العالم : أنّه ارتكب

١١٣

محرّما كي يكون فاسقا ، أم لم يفعل حتى لا يكون فاسقا ؛ وقد ينشأ من الجهل في معنى الفاسق ومفهومه ، وذلك مثل ما إذا لم نعلم أنّ من أصرّ على الصغيرة فاسق أم لا ، ورأينا زيدا مصرّا عليها مع كونه عالما ؛ حيث إنّ الشكّ في فسقه ينشأ من الشك في دخوله تحت عنوان المخصّص. وخروجه عن العامّ الأوّل يسمّى بالشبهة المصداقية ، والثاني بالمفهومية.

فعليه إذا ورد : أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم ، فحينئذ من علمنا بدخوله منهم في العامّ وعدم دخوله في المخصّص ـ أعني الفسّاق ـ عملنا فيه بالعامّ وحكمنا بعدم وجوب إكرامه ؛ ومن علمنا بخروجه من العامّ ودخوله في المخصّص عملنا فيه بالمخصّص وحكمنا بوجوب إكرامه ؛ ومن شككنا في خروجه عن العامّ لأجل الشبهة المصداقية فالمشهور أنّه لا يعمل فيه بالعامّ.

هذا في الشبهة المصداقية ، وأمّا المفهومية فالمعروف فيها وجوب العمل بالعامّ فيما علمنا ببقائه تحت العامّ ، وفيما شك في خروجه منه ، فينحصر العمل بالمخصّص فيما علم بخروجه من العامّ ودخوله في المخصّص ، وذلك مثل ما إذا ورد عامّ : أكرم العلماء ، ثمّ ورد خاصّ ولكن لم يتّضح مراده ، مثل ما إذا قال : لا تكرم الفسّاق منهم ، ولكن لم ندر مفهوم الفاسق ، فحينئذ نعمل بالعامّ في الأفراد التي نعلم بعدم خروجها من العامّ ، وفي التي يشك في خروجها عنه أيضا.

وهذا هو المعروف بينهم ، وفي المقامين خلاف وبحوث نردّ عليها في محلّها.

١١٤

الفصل الرابع

لزوم الفحص عن المخصّص قبل العمل بالعامّ

المعروف أنّه لا يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به ، بل ادّعي الإجماع عليه ، وعليه جمهور المحقّقين من العامّة والخاصّة.

ثمّ اللازم من الفحص مقدار ما لو كان موجودا فيما بين أيدينا من المصادر لوجدناه.

فائدة :

المعروف أنّ الخطابات الشفاهية ـ أعني الكلام المقرون بأداة الخطاب مثل : يا أيّها المؤمنون ، يا أيّها الناس ـ لا تشمل غير الحاضرين في مجلس الخطاب ، ولا تعمّ المعدومين حال الخطاب ، وكذلك الغائبين عن المجلس حينه.

والخطابات الحاملة للتكاليف المقرونة بأدوات الخطاب لم تتوجّه بالذات إلّا إلى الحاضرين في مجلس التخاطب ، ولم تتوجّه إلى الغائبين ولا إلى المعدومين ، وإنّما تثبت تلك التكاليف بالنسبة إليهم بالإجماع على وجوب اتّباع الشريعة المحمّدية البيضاء إلى يوم القيامة.

١١٥

الفصل الخامس

في الضمير المخالف لحكم العامّ والعائد عليه

إذا ورد عامّ وثبت له حكم مخصوص ، ثمّ ورد ضمير عائد إليه حكم عليه بحكم يخالف حكم العامّ ، فهل رجوع ضمير كهذا يوجب تخصيص حكم العامّ ، بأن يختصّ بالأفراد التي يرجع إليها الضمير من دون فرق بين كون الضمير والعامّ في كلام واحد ، وبين كونهما في كلامين؟

ومثّل له بقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ...)(١) ، حيث ورد فيه الحكم بالتربّص للمطلّقات الذي هو جمع معرّف باللام مفيد للعموم ، فيشمل المطلّقة الرجعية والبائنة ، والحكم بالتربّص ـ أي الاعتداد ـ بظاهره شامل للكلّ ؛ ثمّ قال الله تعالى بعد هذا : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ...)(٢) يعني يجوز لأزواج المطلقات المراجعة ، ومعلوم أنّ جواز الرجوع مختصّ بالمطلّقات الرجعية ، ولا يعمّ البائنة ، فعليه يكون الضمير في (بُعُولَتُهُنَ) راجعا إلى بعض أفراد العامّ المذكور في الآية السالفة.

فإذا قلنا : إنّ رجوع هذا الضمير إلى بعض أفراد العامّ موجب

__________________

(١ و ٢) البقرة : ٢٢٨.

١١٦

لتخصيصه ، فاللازم من ذلك اختصاص حكم العامّ بغير الرجعيات ، وهو مختار جمع.

وقال بعضهم : يلتزم في مثله بالاستخدام ، بأن يراد بالضمير شيء ومن مرجعه شيء آخر ، بأن يختلف الضمير والمرجع في العموم والخصوص وغيره (١) ، وهاهنا كذلك ؛ لأنّ المراد بالضمير خصوص الرجعيات ، والمراد بالمرجع المطلّقات الشاملة للبائنات والرجعيات.

وقيل : الكلام في مثله يبقى مجملا ؛ حيث يدور الأمر بين التصرّف في الضمير وبين تخصيص العامّ ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فالمتعيّن في مثله التوقّف وعدم ترجيح شيء منهما والرجوع فيه إلى القرائن الحالية والمقالية ، وهذا هو المختار.

__________________

(١) هذا هو الصحيح في معنى الاستخدام ، وقد اختلفت الأنظار في معناه ، فاعرف ذلك.

١١٧

الفصل السادس

هل الأخير مختصّ بالاستثناء عند تعاقبه؟

إذا تعاقب الاستثناء لجمل متعدّدة ، هل يظهر منه رجوعه إلى الكلّ أو إلى الأخير فقط ، بمعنى أنّ رجوعه إلى الأخير متيقّن ، والكلام في أنّ الأخير هو المختصّ بالاستثناء ، أو يعم غيره أيضا؟

تمهيد :

وهو ينطوي على أمور :

١ ـ البحث فيما إذا أتت جمل متعدّدة متغايرة موضوعا وحكما معا ، أو من حيث أحدهما ، ثمّ يعقبها الاستثناء. مثال الأوّل : أكرم الفقهاء وجالس العلماء وراع الفقراء إلّا الفساق ، حيث ترى أنّ الجمل مختلفة من حيث الموضوع والحكم ؛ ومثال الثاني ـ وهو ما إذا اختلفت من جهة الموضوع فقط ـ : أكرم الفقهاء والعلماء والفقراء إلّا الفسّاق ؛ ومثال الثالث ـ وهو ما إذا اختلفت من جهة الحكم فقط ـ : أكرم الفقهاء وأطعمهم وجالسهم إلّا الفسّاق ، ومثل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا

١١٨

الَّذِينَ تابُوا ...)(١).

٢ ـ أن يكون الاستثناء صالحا للعودة إلى الجميع ، بأن تكون الجمل متعاطفة ولا يكون هناك مانع آخر من العودة إلى الجميع.

٣ ـ أن يكون الحكم ـ على فرض رجوعه إلى الأخير فقط ـ يختلف عمّا إذا عاد إلى الجميع ، مع أنّ الرجوع إلى الأخير متيقّن.

وإذا عرفت هذه الأمور فاعلم :

انّ الأقوال المعروفة في المسألة خمسة :

الأوّل : أن يرجع إلى الجميع وظاهر فيه ، وهو المروي عن الشيخ والشافعية.

الثاني : أنّه لا يعود إلى غير الأخيرة إلّا بقرينة ، فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخير بلا قرينة ، وهذا مختار أبي حنيفة وأتباعه على ما قيل.

الثالث : أنّه مجمل لا ندري بلا قرينة أنّه يعود إلى الأخير فقط أو إلى الجميع ، بدعوى أنّه مشترك بين العود إلى الأخيرة فقط وبين عوده إلى الجميع ، وهو المنسوب إلى السيد المرتضى علم الهدى.

الرابع : الوقف ، بمعنى لا ندري لأي شيء وضع الاستثناء ، هل هو موضوع للرجوع إلى الأخيرة أو إلى الجميع؟ وهو منقول عن الغزالي (٢).

الخامس : القول بالتفصيل بين ما إذا كان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبة ـ وقد ذكر في صدر الكلام ولم يتكرّر ، مثل قولهم : أحسن إلى الناس واحترمهم واقض حوائجهم إلّا الفاسقين ـ وبين ما إذا كان الموضوع

__________________

(١) النور : ٤ ـ ٥.

(٢) المستصفى من علم الأصول للغزالي ٢ : ١٧٧ ، ط. دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

١١٩

متكرّرا ذكر لكلّ جملة ، كالآية الكريمة المتقدّمة ، وإن كان الموضوع بالمعنى واحدا في الجميع. فإن كان من قبيل الأوّل فهو ظاهر في رجوعه إلى الجميع ، وإن كان من قبيل الثاني فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخيرة فقط ، وهذا الذي مال إليه بعضهم ، وهو الأقرب إلى الوجدان وإن كان فيه كلام تعرفه في محلّه.

١٢٠