نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

و[ ما ] بعده مبتدأ وقوله : ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ(١) خبره ، وهو بمكان من الضّعف لقوّة ظهور الواو في العطف ، وعدم وجود قرينة في المقام تليق أن تكون صارفا عنه.

وأضعف منه تأييد بعضهم هذا التّوهّم بأن الآية دلّت على ذمّ متّبعي المتشابه ، ووصفهم بالزّيغ وابتغاء الفتنة ، وعلى مدح الذين فوّضوا العلم إلى الله ، وسلّموا إليه ، حيث إنّ الآية دالّة على ذمّ أهل الزيغ غير العالمين بتأويل المتشابه ، بأنّهم مع جهلهم بتأويله يؤوّلونه ويتّبعونه لا طلبا للحقّ ، بل ابتغاء للفتنة ، ففيهم جهات عديدة الذمّ.

وأمّا الرّاسخون في العلم فإنّهم لعلمهم بتأويله ، ومعرفتهم بالعلوم المندرجة في المتشابهات ، يتجاهرون بالإيمان بها ، ويشهدون على رؤوس الأشهاد بأنّها كلام الله كالمحكمات.

ولو كان أهل الزيغ والعلم مشاركين في الجهل بالتأويل متفاوتين في الإيمان والنفاق لم يحسن توصيف المؤمنين بالعلم ، بل كان الأنسب أن يقال : ( وأما الرّاسخون في الايمان يقولون آمنّا به كلّ من عند ربنا ) مع أنّ التأييد المذكور لا يقاوم البرهان الّذي قدّمناه من لزوم اللّغو على الحكيم ، وهو محال عند العدليّة ، ومستبعد عند من يجوّز القبيح على الله من الأشاعرة.

وأمّا استدلالهم بما رووه بطرقهم ، عن الأعمش ، قال : إنّ في قراءة ابن مسعود ( إن تأويله إلّا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به ) (٢) فموهون سندا ودلالة ، لعدم كون ما نقل عنه قرآنا يقينا ، بل هو تفسير له ، ولعلّ مراده أنّ الراسخين لا يؤوّلون المتشابه من قبل أنفسهم وأهوائهم ، بل بتعليم الله إيّاهم.

فالعلم به أولا عند الله ، ثمّ بإفاضته يعلمه الراسخون ويقولون : آمنّا به كلّ من المحكم والمتشابه من عند الله ، كاشفات عن العلوم غير المتناهية الإلهيّة ، وبهذا يجمع بين الرواية السابقة عن ابن عبّاس ، وما روي عنه من قراءته : ( وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون في العلم آمنّا به ) (٣) وما روي عن أبيّ بن كعب أنّه قرأ : ( ويقول الرّاسخون ) (٤) .

ومثله في الوهن استدلالهم بما روي عن أبي مالك الأشعري أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « لا أخاف على أمّتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٧.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧ ، والآية من سورة آل عمران : ٣ / ٧.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٦.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧.

٨١

فيأخذه المؤمن ، يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلّا الله » (١) . حيث إنّ المراد من الأمّة المخوف عليهم التأويل ، غير الرّاسخين في العلم ، كما أنّ المراد من الّذين يخاف عليهم التحاسد والمقاتلة غير المعصومين منهم ، ولا دلالة لعدم ذكر بقيّة الآية على شيء.

كما أنّ الخطاب فيما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعلموا به ، وما تشابه فآمنوا به » (٢) متوجّه إلى غير الرّاسخين في العلم العالمين بتأويله من لدن حكيم عليم ، فإنّهم الّذين لا يجوز لهم إلّا الإيمان والتعلّم من أهل العلم والذّكر.

وكذا ما عن ابن مسعود ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كان الكتاب الأوّل ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ، فأحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عمّا نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعلموا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنّا به كلّ من عند ربّنا » (٣) .

فحاصل مدلول هذه الروايات ، أنّ وظيفة غير الرّاسخين من النّاس السّكوت عن تأويل المتشابهات ، وعدم القول فيه من قبل أنفسهم ، والإيمان بها ، والإقرار بأنّها من عند الله ، كما نقل عن ابن عبّاس رحمه‌الله أنّه قال : نؤمن بالمحكم وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به - أي لا نعمل به - وهو من عند الله كلّه (٤) .

وأعجب من جميع الاستدلالات ، استدلالهم بصنيع عمر بن الخطّاب ، حيث روي أنّ رجلا يقال له عبد الله بن صبيغ (٥) قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النّخل ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ ، فأخذ [ عمر ] عرجونا فضربه حتّى أدمى رأسه (٦) .

وفي رواية : فضربه بالجريد حتّى ترك ظهره دبرة ثمّ تركه حتّى برى ، ثمّ عاد [ له ] ثمّ تركه حتّى برئ ، ثمّ دعاه ليعود فقال : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا ، فأذن له الرّجوع إلى أرضه ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : ألّا يجالسه أحد من المسلمين ، انتهى (٧) .

فإنّ الاستدلال بهذا الخبر على الطّعن في عمر وأنّه أظلم الظالمين ، أولى من الاستدلال به على

__________________

( ١ و٢ و٣ ) . الدر المنثور ٢ : ١٤٩.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٨.

(٥) في النسخة : صنيع ( بضيع ) ، وما أثبتناه من المصادر.

(٦) تفسير القرطبي ٤ : ١٤ ، الدر المنثور ٢ : ١٥٢ ، الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٨.

(٧) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٨.

٨٢

عدم العلم بتأويل المتشابهات حتّى للرّاسخين ، لأنّ فعله لا يكون حجّة إلّا على ظلمه ، ولعلّ ارتكابه له في حقّ هذا السائل المتعلّم ، من جهة أنّ سؤاله هذا كان سببا لاهتدائه إلى باب أمير المؤمنين صلوات الله عليه وشدّة ظهور فضله على النّاس ، وجهل غيره.

وكأنّ ذهاب أكثر شيعته إلى القول بجهل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتاب الّذي أنزل عليه ، لتلازم اعترافهم بعلم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اعترافهم بعلم أمير المؤمنين عليه‌السلام به ، واضطرار الخلق إلى بابه ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق الأمّة مدينة العلم ، وعليّ بابها ، وإليه أشار أمير المؤمنين صلوات الله عليه في حديث بيان المتشابه حيث قال : « إنّما فعل [ الله ] ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من علم الكتاب ما لم يجعله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار بمن ولّاه أمرهم فاستكبروا عن طاعته تعزّزا وافتراء على الله عزوجل ... » الخبر (١) .

الطّرفة السابعة عشرة

في حكم كون كثير من الآيات متشابها ،

وعدم كون جميعها محكمات

لا يخفى أنّ فوائد جعل كثير من آيات القرآن متشابهات ، وعدم جعل كلّها محكمات كثيرة وحكمه وفيرة :

منها : ما أشار إليه أمير المؤمنين صلوات الله عليه في الرواية السابقة من اضطرار النّاس إلى الرّجوع إلى الرّاسخين في العلم ، والائتمار بأوامرهم ، فإنّهم إذا حضروا في مجالسهم لاستفادة علم القرآن ، عرفوا شأنهم وعلوّ مقامهم ، وازدادوا [ في ] موالاتهم ومحبّتهم ، واقتدوا بأعمالهم ، واكتسبوا من أخلاقهم.

ومنها : تبيّن فضل العلماء على سائر النّاس واختلاف مراتبهم.

ومنها : اضطرار أهل الإيمان إلى التّدبر والتّفكّر في القرآن ، فبالتّدبّر فيه تظهر دقائقه ، وتكشف حقائقه ، ويحصل كمال التوحيد ، وتمام المعرفة ، وقوّة اليقين ، وثبات الإيمان ، ولو كان كلّه محكما لتعلّقوا به لسهولة مأخذه ، وأعرضوا عن الغور في غوامضه.

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٥٣.

٨٣

ومنها : شدّة الاهتمام بحفظه ، وزيادة الحبّ بمضامينه ، إذ الانسان إذا تحمّل المشقّة في تحصيل شيء ، كان له أحبّ وأحفظ.

ومنها : زيادة عظم القرآن في الأنظار ، حيث إنّ العادة قاضية بأنّ كلّ كتاب كان فهم مطالبه أشكل ، كان قدره عند النّاس أعظم.

ومنها : فتنة الخلق وامتحانهم بها ، وتبيّن الصادقين في الإيمان من الكاذبين ، فإنّ الحكمة البالغة مقتضية لأن لا ينسدّ على أحد باب الغيّ والضّلال في حال من الأحوال ، ولا يكون لأحد إلجاء وقهر على الالتزام بالحقّ وقبول الرّشاد ، وإذا كانت جميع الآيات محكمات لم يكن لأهل الزيغ مجال ابتغاء الفتنة والفساد مع إتمام الحجّة عليهم بالأمر بالرجوع فيها إلى الحجج البالغة ، والزّجر عن التكلّم فيها ، وابتغاء تأويلها بالأهواء الزائغة.

والحاصل : أنّ الحكيم المتعال جعل كتابه التّدوينيّ مطابقا لكتابه التّكوينيّ ، وكما أنّه جعل غالب آيات الكتاب التّكويني من موجودات العالم متشابهات ، حيث جعل الطبائع فيها ، والأسباب والمؤثّرات لها ، حتّى يبقى للذّوات الخبيثة وذوي الأهواء الفاسدة والعقول المغلوبة الكاسدة مجال للقول بخالقيّة الطبيعة ، وألوهيّة الشمس وسائر الأجرام الفلكيّة ، وإنكار الصانع الحكيم لعدم علمهم بتأويلها ، وقصور نظرهم عن رؤية ما وراء طبائعها وأسبابها ، وزيغ قلوبهم عن إدراك مسبّب الأسباب وخالقها ، مع إتمام الحجّة عليهم بإرسال العقل ، العالم بتأويل تلك المتشابهات إليهم ، وجعله هاديا لهم ، وتأييده بالأنبياء المرسلة والكتب المنزلة.

فالذّوات الخبيثة بزيغ قلوبهم يؤوّلون تلك الموجودات المتشابهات التكوينيّة من قبل أنفسهم ، ويتّبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة ، وأمّا الذّوات الطيّبة ، والنفوس الزكيّة ، فببصيرة قلوبهم يراجعون إلى العقل السليم الذي هو الإمام الراسخ في العلم ، ويتعلّمون منه التأويل ، ويتمسّكون بالبرهان من عدم إمكان كون المخلوق خالقا ، والمتغيّر واجبا ، فعند ذلك يقولون : آمنّا ، كلّ من المحكمات الواضحات الدلالات على خالقها ، والمتشابهات من الموجودات بالأسباب والمؤثّرات التي جميعها آيات كتاب التّكوين ، من عند ربّنا.

كذلك جعل كثيرا من آيات كتاب التّدوين وهو القرآن المبين متشابهات ، ليمتاز أهل الزيغ والنفاق من المتظاهرين بالإيمان بالكتاب ، عن أهل الصدق والإخلاص ، فلو لم يكن في موجودات العالم

٨٤

تشابه ، ولم يكن في كتاب التّكوين متشابه ، بل كان كلّها محكمات ، لم يحصل الامتحان والاختيار ، وكان إيمان المؤمن شبه الإلجاء والإجبار ، وكذلك لو لم يكن في القرآن متشابهات لم يحصل للمقرّين به الفتنة والامتحان ﴿أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(١) .

الطّرفة الثامنة عشرة

في أنّ الحروف المقطّعة التي تكون في أوائل السّور

من أبين مصاديق المتشابه ، وبيان المراد منها

من أبين مصاديق المتشابه في القرآن ، الحروف المقطّعات التي تكون في أوائل السور ، ولا شبهة أنّها رموز وأسرار بين الله تعالى والرّاسخين في العلم ، لا يطّلع عليها غيرهم.

عن الشّعبيّ ، أنّه سئل عن فواتح السور ، فقال : إنّ لكلّ كتاب سرّا ، وإنّ سرّ هذا القرآن فواتح السور (٢) .

واختلفت الأخبار في بيان المراد منها ، وأكثرها تدلّ على أنّ كلّ حرف منها رمز من اسم من الأسماء الحسنى ، كما عن السّدّي ، قال : فواتح السور أسماء من أسماء الربّ جلّ جلاله ، فرّقت في القرآن (٣) .

وقال الزّجّاج : إنّ العرب كانوا ينطقون بالحرف الواحد ، كناية عن الكلمة التي هو منها (٤) .

وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في الحروف المقطّعات : إنّه لو لا أنّ العرب كانوا يعرفون أنّ لها مدلولا متداولا بينهم ، لكانوا أوّل من أنكر ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل تلا عليهم حم فصّلت وص وغيرهما ، فلم ينكروا عليه ذلك ، بل صرّحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوّقهم إلى عثرته ، وحرصهم على زلّته ، فدلّ على أنّه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار لهم فيه ، انتهى (٥) .

أقول : كان يكفي تداول التّكنية والإرماز بالحروف المقطّعة في عدم تمكنهم على الإنكار والاعتراض ، ولا يلزم معرفتهم بخصوص المعنى تفصيلا ، ولعلّ مراده المعرفة الاجماليّة. وقد تظافرت روايات الخاصّة والعامّة على أنّها رموز وكنايات عن أسماء الله تعالى وتعيينها وتبيينها.

__________________

(١) العنكبوت : ٢٩ / ٢.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٤.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٧.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٠.

٨٥

عن ( المجمع ) : عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ ( ص ) اسم من أسماء الله تعالى ، به أقسم الله » (١) .

وعن ابن عباس ، قال : ( الم ) و( طسم ) و( ص ) وأشباهها قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله تعالى (٢) .

وعن أبي العالية في ( الم ) قال : هذه الأحرف الثلاثة من الأحرف التسعة والعشرين ، دارت بها الألسن ، ليس منها حرف إلّا وهو مفتاح اسم من أسمائه تعالى (٣) .

أقول : يدلّ على ذلك ما وراه الصدوق رحمه‌الله في ( أماليه ) من تفسير المعصوم : « كلّ حرف من حروف ( أبجد ) باسم من أسماء الله تعالى » (٤) .

وعن تفسير ابن ماجة ، من طريق نافع ، عن أبي نعيم القارئ ، عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه أنّها سمعت عليّ بن أبي طالب يقول : « يا كهيعص اغفر لي » (٥) .

وعن ( المجمع ) : عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنّه قال في دعائه : « [ أسألك يا ] كهيعص » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام في حديث : « وأمّا ( الم ) في [ أوّل ] آل عمران فمعناه : أنا الله المجيد » (٧) .

وعنه عليه‌السلام في حديث : « و( المص ) معناه : أنا الله المقتدر الصادق » (٨) .

ومن طريق العامّة عن الضحاك مثله (٩) .

وقيل : معنى ( المص ) : المصوّر (١٠) .

وعن محمد بن كعب القرظي ، قال : ( المص ) الألف : من الله ، والميم من الرحمن ، والصاد : من الصّمد (١١) .

وعن ابن عباس : معنى ( المص ) : أنا الله أفصل (١٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام في ﴿كهيعص﴾ « معناه أنا الكافي ، الهادي ، الوليّ ، العالم ، الصادق الوعد » (١٣) .

وعنه عليه‌السلام أيضا : « كاف لشيعتنا ، هاد لهم ، وليّ لهم ، عالم بأهل طاعتنا ، صادق لهم وعده حتّى يبلغ

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٧٢٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩٠.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٧. (٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٠.

(٤) انظر أمالي الصدوق : ٣٩٥ / ٥٠٨.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٨.

(٦) مجمع البيان ٦ : ٧٧٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٣.

(٧) معاني الأخبار : ٢٢ / ١.  (٨) معاني الأخبار : ٢٢ / ١.

(٩) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٥.  (١٠) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٥.

(١١) الدر المنثور ٣ : ٤١٣. (١٢) الاتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٤.

(١٣) معاني الأخبار : ٢٢ / ١.

٨٦

[ بهم ] المنزلة الّتي وعدهم إياها في نصّ (١) القرآن » (٢) .

وعن ابن مسعود وناس من الصحابة ، في قوله تعالى : ﴿كهيعص(٣) : قالوا هو هجاء مقطّع ؛ الكاف من الملك ، والهاء من الله ، والياء والعين من العزيز ، والصاد من المصوّر (٤) . وفي نقل آخر : والصاد من الصّمد (٥) .

وعن أمّ هاني ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كاف ، أمين (٦) ، عالم ، صادق » (٧) .

أقول : الظاهر أنّه سقط من الرواية تفسير الهاء ، كما أنّ الظاهر سقوط تفسير الياء أو العين ممّا نقل عن ابن مسعود.

وعن ابن عبّاس في قوله : ﴿كهيعص﴾ قال : الكاف : الكافي ، والهاء : الهادي ، والعين : العالم ، والصاد : الصادق (٨) .

وعن عكرمة في قوله : ﴿كهيعص﴾ قال : يقول : أنا الكبير ، أنا الهادي ، أنا عليّ أمين صادق (٩) .

وعن ابن عبّاس ، قال : الكاف من كريم ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق (١٠) .

وعنه أيضا : كاف ، هاد ، أمين ، عزيز ، صادق (١١) .

وعن محمّد بن كعب ، في قوله : ﴿طه(١٢) ، قال : الطاء من ذي الطّول (١٣) .

أقول : وفي عدّة من روايات الخاصّة والعامّة ، أنّ ( طه ) اسم من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي بعضها : معناه : يا طالب الحقّ (١٤) .

وعن محمّد بن كعب ، في قوله : ﴿طسم(١٥) ، قال : الطاء من ذي الطّول ، والسين من القدّوس ، والميم من الرحمن (١٦) .

__________________

(١) في المعاني والصافي : بطن.  (٢) معاني الأخبار : ٢٨ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٣.

(٣) مريم : ١٩ / ١. (٤ و٥) . الدر المنثور ٥ : ٤٧٨.

(٦) في الإتقان : كاف ، هاد ، أمين ، وفي الدر : كاف ، هاد.

(٧) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦ ، الدر المنثور ٥ : ٤٧٨.

(٨) الدر المنثور ٥ : ٢٥.

(٩) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦ ، الدر المنثور ٥ : ٤٧٨.

(١٠ و١١) . الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٥.

(١٢) طه : ٢٠ / ١. (١٣) الدر المنثور ٥ : ٥٥١.

(١٤) معاني الأخبار : ٢٢ / ١ ، وزاد فيه : الهادي إليه.

(١٥) الشعراء : ٢٦ / ١ ، القصص : ٢٨ / ١.

(١٦) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦.

٨٧

وعن الصادق عليه‌السلام : « أمّا ﴿حم(١) فمعناه : الحميد المجيد » (٢) .

وعن سعيد بن جبير ، في قوله : ﴿حم﴾ قال : الحاء اشتقّت من الرحمن ، والميم اشتقّت من الرّحيم (٣) .

وعن محمّد بن كعب ، في قوله : ﴿حم* عسق(٤) قال : الحاء والميم من الرحمن ، والعين من العليم ، والسين من القدّوس ، والقاف من القاهر (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أمّا ﴿حم* عسق﴾ فمعناه : الحكيم ، المغيث (٦) ، العالم ، السميع ، القادر ، القويّ » (٧) .

وقال بعض العامّة : إنّ القاف هنا اسم الجبل المحيط بالأرض وهو مرويّ عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله : ﴿ق(٨) .

وحكي عن الكرماني في قوله : ﴿ق﴾ أنّه حرف من اسمه قادر وقاهر (٩) .

وقال بعض في قوله : ﴿ن(١٠) : إنّه مفتاح اسمه تعالى : نور وناصر (١١) .

وروي عن الصادق عليه‌السلام : « إنّه اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١٢) .

أقول : يمكن أن يستفاد من مجموع الروايات واختلافها أنّ كلّ حرف من الحروف المقطّعات رمز عن الأسماء الحسنى التي تضمّنت ذلك الحرف ، فالقاف رمز عن اسم القاهر ، والقادر ، والقيّوم ، وغير ذلك ، والصاد : رمز عن المصوّر ، والصّمد ، والصادق ، وغير ذلك ، والعين : رمز عن العزيز ، والعالم ، والعليم ، وأمثال ذلك.

وفي روايات عديدة : أنّ مجموع الحروف المقطّعات رمز عن اسم الله الأعظم.

عن القمّي ، عن الباقر عليه‌السلام ، في بيان الحروف المقطّعات : « هو حروف من اسم الله الأعظم المقطوع ،

__________________

(١) غافر : ٤٠ / ١ ، ....

(٢) معاني الأخبار : ٢٢ / ١.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦.

(٤) الشورى : ٤٢ / ١ و٢.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦.

(٦) في المعاني : الحليم المثيب.

(٧) معاني الأخبار : ٢٢ / ١.

(٨) معاني الأخبار : ٢٢ / ١ ، الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٣ ، والآية من سورة ق : ٥٠ / ١.

(٩) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦.

(١٠) القلم : ٦٨ / ١.

(١١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦.

(١٢) مختصر بصائر الدرجات : ٦٧ ، الخصال : ٤٢٦ / ٢ عن الباقر عليه‌السلام.

٨٨

يؤلّفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام عليه‌السلام ، فيكون الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب » (١) .

وعن المعاني : عن الصادق عليه‌السلام : ﴿الم*﴾ هو حرف من حروف اسم الله الأعظم [ المقطّع في القرآن الذي ] يؤلّفه النبيّ والإمام ، فإذا دعا به اجيب » (٢) .

وعن ابن مسعود ، بسند صحيح عند العامّة : هو اسم الله الأعظم (٣) .

وعن ابن عبّاس ، قال : ﴿الم*﴾ اسم من أسماء الله الأعظم (٤) .

ونقل ابن عطيّة عن بعض القول : بأنّها الاسم الأعظم ، إلّا أنّا لا نعرف تأليفه منها (٥) .

ومقتضى بعض الروايات أنّ الراسخين في العلم يستفيدون من تأليفاتها ومن أعدادها بحساب الجمّل وعلم الحروف ، علوما كثيرة ، كما عن الباقر عليه‌السلام : « علم كلّ شيء في ﴿عسق(٦) .

وعن ( المجمع ) عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنّه قال : « لكلّ كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي » (٧) .

وعن ( المعاني ) و( العياشي ) : عن الصادق عليه‌السلام أنّه أتاه رجل من بني أميّة وكان زنديقا ، فقال له : قول الله عزوجل في كتابه : ﴿المص(٨) أيّ شيء أراد بهذا ، وأي شيء فيه من الحلال والحرام ، وأيّ شيء فيه مما ينتفع به النّاس ؟

قال : فاغتاض عليه‌السلام من ذلك ، فقال : « أمسك ويحك ؛ الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، كم معك ؟ » فقال الرجل : مائة وإحدى وستّون. فقال عليه‌السلام : « إذا انقضت إحدى وستّون ومائة ينقضي ملك أصحابك » .

قال : فنظر الرجل فلمّا انقضت إحدى وستّون (٩) ومائة يوم عاشوراء دخل المسوّدة الكوفة ، وذهب ملكهم (١٠) .

وفي رواية أبي لبيد المخزوميّ ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ لي في حروف القرآن المقطّعة لعلما

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٦٧.

(٢) معاني الأخبار : ٢٣ / ٢.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٧.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٧.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٧.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٢٦٨ ، والآية من سورة الشورى : ٤٢ / ٢.

(٧) مجمع البيان ١ : ١١٢.

(٨) الأعراف : ٧ / ١.

(٩) كذا في العياشي ، وفي معاني الأخبار : سنة إحدى وثلاثون ، وهو الصحيح الموافق لتاريخ سقوط دولة بني أميه ، وللعلامة المجلسي رحمه‌الله تأويل للتاريخ المذكور (١٦١) . راجع بحار الأنوار ١٠ : ١٦٣ / ١.

(١٠) تفسير العياشي ٢ : ١٣٥ / ١٥٤٤ ، معاني الأخبار : ٢٨ / ٥.

٨٩

جمّا ، إنّ الله تبارك وتعالى أنزل ﴿الم* ذلِكَ الْكِتابُ(١) فقام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ظهر نوره ، وثبتت كلمته ، وولد يوم ولد ، وقد مضى من الالف السابع مائة سنه وثلاث سنين » .

ثمّ قال : « وتبيانه في كتاب الله في الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار ، وليس من الحروف المقطعة حرف تنقضي أيّامه إلّا وقائم من بني هاشم عند انقضائه » .

ثمّ قال : « الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فذلك مائة وإحدى وستّون ، ثمّ كان بدو خروج الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ﴿الم* اللهُ(٢) فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العبّاس عند ﴿المص﴾ ويقوم قائمنا عند انقضائها ب ﴿المر﴾ فافهم ذلك وعدّ (٣) واكتمه » الخبر (٤) .

ولا يخفى أنّ الرواية من المشكلات التي يجب ردّ علمها إليهم عليهم‌السلام وإن تصدّى لشرحها جماعة من العلماء ، ولعلّه يستفاد من قوله : « أنزل ﴿الم* ذلِكَ الْكِتابُ﴾ فقام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » وجه تقديم هذه السورة على سائر السور ، حيث إنّ فيها إشارة إلى قيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبدو بعثته.

ومن طريق العامّة : عن ابن عبّاس ، عن جابر بن عبد الله بن رياب ، قال : مرّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من اليهود برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ﴿الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود ، فقال : تعلمون ! والله لقد سمعت محمّدا يتلو فيما انزل عليه : ﴿الم* ذلِكَ الْكِتابُ﴾ فقال : أنت سمعته ؟ فقال : نعم. فمشى حيي في اولئك النفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : ألم تذكر أنّك تتلو فيما انزل عليك ﴿الم * ذلِكَ الْكِتابُ﴾ فقال : « بلى » .

فقالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بيّن لنبيّ منهم ما مدّة ملكه وما أجل امّته غيرك ؛ الألف بواحد ، واللام بثلاثين ، والميم بأربعين ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفندخل في دين نبيّ إنّما مدّة ملكه وأجل امّته إحدى وسبعون سنة ؟ !

ثمّ قال : يا محمّد ، هل مع هذا غيره ؟ قال : « نعم ، ﴿المص﴾ قال : هذه أثقل وأطول ، الألف بواحد ، واللام بثلاثين ، والميم بأربعين ، والصاد بتسعين ، فهذه إحدى وستّون ومائة سنة ، هل مع هذا غيره ؟ [ قال : « نعم ، الر » ، قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، هذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. هل مع هذا غيره ؟ ] قال : « نعم ، المر » . قال : هذه أثقل وأطول ، الألف بواحد ، واللام

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١ و٢.

(٢) آل عمران : ٣ / ١ و٢.

(٣) في العياشي والبحار : وعه.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٣٦ / ١٥٤٥ ، تفسير الصافي ١ : ٧٧ ، بحار الأنوار ٩٢ : ٣٨٣ / ٢٣.

٩٠

بثلاثين ، والميم بأربعين ، والراء بمائتين ، هذه إحدى وسبعون ومائتا سنة.

ثمّ قال : لقد لبّس علينا أمرك حتّى ما ندري أ قليلا اعطيت أم كثيرا. ثمّ قال : قوموا عنه.

ثمّ قال أبو ياسر لأخيه ومن معه : ما يدريكم ، لعلّه قد جمع هذا كلّه لمحمّد ؛ إحدى وسبعون ، وإحدى وستّون ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة. فقالوا : لقد تشابه علينا أمره. فيزعمون أنّ [ هؤلاء ] الآيات نزلت فيهم : ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ(١).

وعن ( الاكمال ) عن الحجّة القائم عجّل الله فرجه في حديث أنّه سئل عن تأويل ﴿كهيعص﴾ فقال : « هذه الحروف من أنباء الغيب ، أطلع الله [ عليها ] عبده زكريّا ثم قصّها على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلمه أسماء الخمسة ، فأهبط الله عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها ، فكان زكريّا إذا ذكر محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّا وفاطمة والحسن عليهم‌السلام سرّي عنه همّه وانجلى كربه ، وإذا ذكر الحسين عليه‌السلام خنقته العبرة ، ووقعت عليه البهرة (٢) .

فقال ذات يوم : الهي ، ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليّت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين عليه‌السلام تدمع عيني ، وتثور زفرتي ؟ فأنبأه تبارك وتعالى عن قصّته ، فقال : ﴿كهيعص﴾ فالكاف اسم كربلاء ، والهاء هلاك العترة ، والياء يزيد لعنه الله ، وهو ظالم الحسين عليه‌السلام والعين عطشه ، والصاد صبره. فلمّا سمع ذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام ، ومنع فيها الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب » (٣) الخبر.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا منافاة بين الأخبار لإمكان أن تكون ذات الحروف المقطّعة كناية ورمزا عن امور ، وتركيبها عن امور ، وعددها إشارة إلى امور.

ويستفاد بعض أنحاء استفادتهم عليهم‌السلام العلوم من الكتاب ، من الرواية الواردة عن الباقر عليه‌السلام في تفسير الصّمد حيث سألوه عن مسائل وأجابهم ، ثمّ سألوه عن الصّمد ، فقال : « تفسيره فيه ، الصّمد خمسة أحرف : فالالف دليل على إنّيّته وهو قوله عزوجل : ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ(٤) ، وذلك تنبية

__________________

(١) تفسير الطبري ١ : ٧١ ، الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٩ ، والآية من سورة آل عمران : ٣ / ٧.

(٢) البهرة : تتابع النفس وانقطاعه من الأعياء.

(٣) كمال الدين : ٤٦١ / ٢١.

(٤) آل عمران : ٣ / ١٨.

٩١

وإشارة إلى الغائب عن درك الحواسّ ، واللام دليل على إلهيّته وأنّه هو الله ، والألف واللام مدغمان لا يظهران على اللّسان ولا يقعان في السّمع ، ويظهران فى الكتابة ، دليلان على أنّ إلهيّته بلطفه خافية لا تدرك بالحواسّ ، ولا تقع في لسان واصف ، ولا اذن سامع ، لأنّ تفسير الإله : هو الذي أله الخلق عن درك ماهيّته وكيفيّته بحسّ أو بوهم ، لانّه مبدع الأوهام ، وخالق الحواسّ ، وإنّما يظهر ذلك عند الكتابة دليل على أن الله تعالى أظهر ربوبيّته في إبداع الخلق وتركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة ، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه ، كما أنّ لام الصّمد لا تبين (١) ولا تدخل في حاسّة من الحواسّ الخمس ، فإذا نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي ولطف ، فمتى تفكّر العبد في ماهيّة الباري وكيفيّته أله فيه وتحيّر ولم تحظ فكرته بشيء يتصوّر له ، لأنّه عزوجل خالق الصّور ، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنّه عزوجل خالقهم ومركّب أرواحهم وأجسادهم (٢) .

وأمّا الصّاد فدليل على أنّه عزوجل صادق ، وقوله صدق ، وكلامه صدق ، ودعا عباده إلى اتّباع الصدق [ بالصدق و] وعد بالصدق دار الصدق.

وأمّا الميم فدليل على ملكه وإنّه الملك الحقّ ، لم يزل ولا يزال [ ولا يزول ] ملكه.

وأمّا الدّال فدليل على دوام ملكه ، وأنّه عزوجل دائم متعال عن الكون والزوال ، بل هو عزوجل مكوّن الكائنات ، الذي كان بتكوينه كلّ كائن » .

ثمّ قال عليه‌السلام : « لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عزوجل حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدّين والشرائع من الصّمد ، وكيف لي بذلك ولم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه‌السلام حملة لعلمه ، حتّى كان يتنفّس الصّعداء ويقول على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّ بين الجوانح منّي علما جمّا ، هاه هاه ، ألا لا أجد من يحمله ، ألا وإنّي عليكم من الله الحجّة البالغة » الخبر (٣) .

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه من الفوائد للحروف المقطّعة مختصّ بالخواصّ ، وهم الراسخون في العلم ، وأمّا فائدتها لعامّة النّاس فهي على ما قيل : إنّ العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه ، فيكون تعجّبهم منه سببا لاستماعهم ، واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده ، فترقّ القلوب وتلين الأفئدة (٤) .

__________________

(١) في التوحيد : لا تتبيّن.

(٢) في التوحيد : في أجسادهم.

(٣) التوحيد : ٩٢ / ٦.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣١.

٩٢

وقيل : إنّه ذكرت هذه الحروف المقطّعة إشعارا بأنّ القرآن مؤلّف من الحروف التي هي ( ا ، ب ، ت ) ليدلّ القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنّه بالحروف التي يعرفونها ويتداولونها في ألسنتهم ، فيكون ذلك تقريعا لهم ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله بعد أن علموا أنّه منزل بالحروف التي يعرفونها ويبنون كلامهم منها (١) .

وإلى هذا الوجه أشار العسكري عليه‌السلام في التفسير المنسوب إليه (٢) .

الطّرفة التاسعة عشرة

في بيان معنى التفسير والتأويل ، وعدم كون بيان

المراد من الظاهر تفسيرا منهيا عنه ، واختصاص

 العلم بالتأويل بالراسخين في العلم

التفسير : هو كشف القناع عن المعنى ، وتوضيح المقصود من الكلمة أو الكلام.

والتأويل : هو أول الكلام وإرجاعه إلى بعض المعاني البعيدة المحتملة منه. وقيل : هما واحد.

والظاهر أنّ بيان المراد من المحكمات ، نصّا كان المحكم أو ظاهرا ، ليس من التفسير أو من المنهي عنه ، لتواتر الأمر بالتمسّك بالكتاب والعمل به ، وعرض الأحاديث عليه ، وترجيح المتعارضات منها به ، وتميّز الشروط الصحيحة عن الفاسدة بموافقتها له ، وسيرة المسلمين والأصحاب على التمسّك بظواهره ، فضلا عن نصوصه.

وأمّا غير المحكمات فلا شبهة أنّ العلم به مخصوص بالراسخين في العلم ، وأنّه لا يجوز لغيرهم التكلّم فيه برأيه ومن قبل نفسه عن جزم وبتّ ، وعليه تحمل الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، أو عليه وعلى القول في المحكمات من دون فحص في الأخبار المعتبرة عن الهداة صلوات الله عليهم عن ناسخها ومقيّدها ومخصّصها ومبيّنها.

في نقل تحقيق بعض العامة في وجه الحاجة إلى تفسير الكتاب بالرجوع إلى الراسخين في العلم وقال بعض في وجه الحاجة إلى تفسير الكتاب بالرّجوع إلى الراسخين في العلم زائدا على ما ذكرنا : إنّ من المعلوم أنّ الله تعالى خاطب خلقه بما يفهمونه ، ولذلك أرسل كلّ رسول بلسان قومه ، وأنزل كتابه على لغتهم ، ومع ذلك يحتاج إلى التفسير

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣١.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٢.

٩٣

لوجه يظهر بعد تقرير قاعدة ، وهي أنّ كلا من البشر إذا وضع كتابا فإنّما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح ، وإنّما احتيج إلى الشروح لامور ثلاثة :

أحدها : كمال فضيلة المصنّف ، فإنه لقوّته العلميّة يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز ، فربّما عسر فهم مراده ، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفيّة ، ومن هنا كان شرح بعض الأئمّة تصنيفه أدلّ على المراد من شرح غيره له.

وثانيها : إغفاله بعض تتمّات المسألة ، أو شرط (١) لها اعتمادا على وضوحها ، أو لأنّها من علم آخر فيحتاج إلى الشارح لبيان المحذوف ومراتبه.

وثالثها : احتمال اللفظ لمعان ، كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام ، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنّف وترجيحه ، وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السّهو والغلط ، أو تكرار الشيء ، أو حذف مبهم وغير ذلك ، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.

إذا تقرّر هذا فنقول : إنّ القرآن إنّما نزل بلسان عربيّ في زمان أفصح العرب ، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه ، أمّا دقائق باطنه فإنّما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم (٢) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأكثر ، كسؤالهم لمّا نزل قوله : ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ(٣) فقالوا : وأيّنا لم يظلم نفسه ! ففسّره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشّرك ، واستدلّ عليه بقوله : ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(٤) ، وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير ، فقال : « ذلك العرض » ، وكقصّة عدّي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود ، وغير ذلك ممّا سألوا عن آحاد منه ، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه ، وزيادة على ذلك ممّا لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر ، لقصورنا عن مدارك أحكام اللّغة بغير تعلّم ، فنحن أشدّ النّاس احتياجا إلى التفسير ، ومعلوم أنّ تفسير بعضه يكون من قبيل [ بسط ] الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها ، وبعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض ، انتهى (٥) .

وقال بعض آخر : علم التفسير عسير يسير ، أمّا عسره فظاهر من وجوه ، أظهرها أنّه كلام متكلّم لم نصل إلى مراده بالسماع منه ، ولا أمكن الوصول إليه ، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها ، فإنّ الانسان يمكن علمه به إذا تكلّم بأن يسمع منه أو ممّن سمع منه ، وأمّا القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم

__________________

(١) في الاتقان : أو شروط.

(٢) في النسخة : والسؤال عن ، وما أثبتناه من الإتقان.

(٣) الأنعام : ٦ / ٨٢.

(٤) لقمان : ٣١ / ١٣.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٩٥.

٩٤

إلّا بأن يسمع من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

أقول : ولذا ورد : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » كما عن الباقر عليه‌السلام في رواية ( الكافي ) : بإسناده عن زيد الشّحّام ، قال : دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : « يا قتادة ، أنت فقيه أهل البصرة ؟ » . فقال : هكذا يزعمون.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « بلغني أنّك تفسّر القرآن ! » قال له قتادة : نعم.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « بعلم تفسّره أم بجهل ؟ » قال : لا ، بل بعلم.

فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « فإن كنت تفسّره [ بعلم ] فأنت أنت ، وأنا أسألك » قال قتادة : بسلني.

قال : « أخبرني عن قول الله تعالى في سبأ : ﴿وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ(٢) ؟ »

فقال قتادة : ذلك : من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت ، كان آمنا حتّى يرجع إلى أهله.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « نشدتك بالله يا قتادة ، هل تعلم أنّه قد يخرج الرجل من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال ، يريد هذا البيت ، فيقطع عليه الطريق ، فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه ؟ » قال قتادة : اللهمّ نعم.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت.

ويحك يا قتادة ، ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يؤمّ (٣) هذا البيت عارفا بحقّنا ، فهوانا (٤) قلبه ، كما قال الله تعالى : ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ(٥) ولم يعن البيت فيقول : إليه ، فنحن والله دعوة إبراهيم التي من هوانا قلبه قبلت حجّته ، وإلّا فلا. يا قتادة ، فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنّم يوم القيامة » .

قال قتادة : لا جرم والله ، لا فسّرتها إلّا هكذا.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « ويحك يا قتادة ، إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من تفسير القرآن ، إنّ الآية ليكون أوّلها في شيء ،

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٩٦.

(٢) سبأ : ٣٤ / ١٨.

(٣) في المصدر : يروم.

(٤) في المصدر : يهوانا.

(٥) إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

(٦) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٥.

٩٥

وآخرها في شيء ، وهو كلام متّصل ينصرف (١) على وجوه » (٢) .

في أنّه لا يجوز العمل بالقرآن إلّا بعد الفحص عن تفسير

فتحصّل ممّا ذكرنا أنه لا يجوز تفسير المتشابهات وبيان تأويلها إلّا بالنّصّ المعتبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد من ورّاث علمه من أوصيائه المعصومين عليهم‌السلام.

بل قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ في القرآن المجيد ناسخا ، ومنسوخا ، وعامّا اريد به الخاص ، ومطلقا اريد به المقيّد ، وكذا العكس ، فلا يجوز العمل بمحكماته إلّا بعد الرجوع إلى العلماء بها وهم الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام ، فإنّ العلم بجميعها عندهم ، ولاحظّ لأحد غيرهم فيها إلّا من قبلهم ، كما روي ( الكافي ) : بإسناده عن سليم بن قيس ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام - في حديث - قال : « ما نزلت آية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أقرأنيها ، وأملاها عليّ ، فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها ، وتفسيرها ، وناسخها ، ومنسوخها ، ومحكمها ، ومتشابهها [ وخاصّها ، وعامّها ] ، ودعا الله أن يعلّمني (٣) فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا علما أملاه عليّ فكتبته منذ دعا ، وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي ، كان أو يكون (٤) ، من طاعة أو معصية إلّا علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا.

ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علما وفهما وحكمة ونورا. فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمّي ، مذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ، ولم يفتني شيء لم اكتبه ، أو تتخوّف عليّ النسيان فيما بعد ؟ فقال : [ لا ] لست أتخوّف عليك نسيانا وجهلا » (٥) .

وفي ذيل رواية اخرى قريبة من هذه : « وقد أخبرني ربّي أنّه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الّذين يكونون من بعدك. فقلت : يا رسول الله ، ومن شركائي من بعدي ؟ قال : الذين قرنهم الله بنفسه وبي ، فقال : ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ(٦) .

فقلت : ومن هم ؟ قال : الأوصياء منّي إلى أن يردوا [ عليّ ] الحوض ، كلّهم هادون مهديون (٧) ، لا يضرّهم من خذلهم ، هم مع القرآن ، والقرآن معهم ، لا يفارقهم ولا يفارقونه ، بهم تنصر امتي وبهم تمطر (٨) ، وبهم يدفع عنهم البلاء ، وبهم يستجاب دعاؤهم.

__________________

(١) في العياشي : يتصرّف.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٨٧ / ٣٩.

(٣) في المصدر : يعطيني.

(٤) زاد في المصدر : ولا كتاب منزل على أحد قبله.

(٥) الكافي ١ : ٥٢ / ١.

(٦) النساء : ٤ / ٥٩.

(٧) في العياشي : هاد مهتد.

(٨) في العياشي : يمطرون.

٩٦

فقلت : يا رسول الله ، سمّهم لي. فقال : ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسن عليه‌السلام - ثمّ ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسين عليه‌السلام - ثمّ ابن لي (١) يقال له عليّ ، وسيولد في حياتك فأقرأه منّي السّلام ، ثمّ تكملة اثني عشر من ولده » (٢) .

فقلت له : بأبي أنت وامّي ، سمّهم لي. فسمّاهم رجلا رجلا. فقال : « فيهم والله - يا أخا بني هلال - مهديّ امّه محمّد ، الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، والله إنّي لأعرف من يبايعه بين الركن والمقام ، وأعرف أسماء آبائهم وقبائلهم » (٣) .

وفيه ، بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ما يستطيع أحد أن يدّعي [ أنّ ] عنده جميع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه غير الأوصياء » (٤) .

وبإسناده ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : ﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ(٥) قال : « هم الأئمّة عليهم‌السلام » (٦) .

وفي ( العلل ) بإسناده ، عنه عليه‌السلام أنّه قال لأبي حنيفة : « أنت فقيه أهل العراق ؟ » قال : نعم. قال : « فبم تفتيهم ؟ » قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه.

قال : « يا أبا حنيفة ، تعرف كتاب الله حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ » . فقال : نعم.

فقال : « يا أبا حنيفة ، لقد ادّعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الّذين أنزله عليهم ، ويلك ولا هو إلّا عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا ، وما أراك تعرف (٧) من كتابه حرفا ، فإن كنت كما تقول ، ولست كما تقول ، فأخبرني عن قول الله تعالى : ﴿سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ(٨) أين ذلك من الأرض ؟ » قال : أحسبه ما بين مكّة والمدينة.

فالتفت أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابه ، فقال : « تعلمون أنّ النّاس يقطع عليهم ما بين المدينة ومكّة فتؤخذ أموالهم ، ولا يأمنون على أنفسهم ، ويقتلون ؟ » قالوا : نعم. فسكت أبو حنيفة.

فقال : « يا أبا حنيفة ، أخبرني عن قول الله عزوجل : ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً(٩) أين ذلك من الأرض ؟ » قال : الكعبة. قال : « أفتعلم أنّ الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في

__________________

(١) في العياشي : له.

(٢) في العياشي : من ولد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٩١ / ٥٢.

(٤) الكافي ١ : ١٧٨ / ٢. (٥) العنكبوت : ٢٩ / ٤٩.

(٦) الكافي ١ : ١٦٧ / ٢.

(٧) في المصدر : ما ورثك الله.

(٨) سبأ : ٣٤ / ١٨.

(٩) آل عمران : ٣ / ٩٧.

٩٧

الكعبة فقتله ، كان آمنا فيها ؟ » فسكت ، الخبر (١) .

وروى العامّة أنّه قال عليّ عليه‌السلام لقاض (٢) : « أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ » قال : لا. قال : « هلكت وأهلكت » (٣) .

إن قلت : يلزم ممّا ذكرت عدم جواز العمل بمحكمات القرآن ، لسقوط جميع نصوص الكتاب وظواهره عن الحجّيّة ، للعلم الإجمالي بنسخ بعض أحكامها ، وتخصيص بعض عموماتها ، وتقييد بعض مطلقاتها ، وإرادة المجاز من بعض ظواهرها ، مع أنّك ادّعيت جواز العمل بالمحكمات للأدلّة المتقدّمة من الأوامر الواردة بالتمسّك بالكتاب وعرض الشروط والأخبار المتعارضة عليه ، وسيرة المسلمين.

قلنا : بعد الفحص في الروايات المرويّة عن المعصومين عليهم‌السلام وتحصيل الناسخ ، والمخصّص ، والمبيّن ، والمقيّد ، بمقدار ينطبق عليه المعلوم بالإجمال ينحلّ العلم الإجمالي وتبقى أصالة الظهور وأصالة الحقيقة على حجّيّتها في البقيّة بلا إشكال.

الطّرفة العشرون

 في تعريف النّسخ وإمكان وقوعه

 في أحكام الله تعالى ، وبيان الآيات الناسخة

النّسخ : هو رفع الحكم الثابت في الزمان السابق وإزالته ، ولا شبهة في حكم العقل بإمكان وقوعه في أحكام الله ، وليس من البداء المحال على الله ، ولا يلزم منه الجهل الممتنع عليه ، ولا التّجهيل القبيح منه.

وقد اتّفقت الشرائع على وقوعه ، إذ لم تكن شريعة إلّا وهي ناسخة لبعض أحكام الشرائع السابقة ، وإنّما المقصود هنا بيان الآيات الناسخة ، وهي قسمان :

[١] إمّا ناسخة لأحكام الشرائع السابقة ، أو الأحكام الجاهليّة التي لم يردع عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بدو بعثته لمداراة النّاس ، ولم ينزل فيها قرآن ، وهي كثيرة جدّا.

[٢] وإمّا ناسخة لأحكام نزلت بها آيات قرآنية ، فكانت الناسخة والمنسوخة في القرآن ، ففي هذا

__________________

(١) علل الشرائع : ٨٩ / ٥.

(٢) في الإتقان : لقاصّ.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٦٦.

٩٨

القسم اختلف كثير من الخاصّة والعامّة ، وأفرده جمع كثير منهم بالتصنيف.

ولا يذهب عليك أنّ المصطلح في النسخ هو إزالة الحكم الذي يكون ظاهر دليله استمراره بحكم آخر ، وعلى هذا يكون عدّ بعض الآيات التي نزلت في الوعد والوعيد خارجة عن المصطلح والحقيقة ، فعدّ آية : ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ(١) ناسخة لقوله : ﴿إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها(٢) كما عن بعض ، ليس على حقيقته ، وكذا عدّ الحكم المغاير للحكم السابق المغيّى بغاية معيّنة بعد بلوغ غايته ، كقوله تعالى : ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ(٣) فإنّ حكم وجوب الجهاد ليس ناسخا لحكم وجوب العفو والصّفح ، بل هو أمر الله الذي كان غاية له.

والحاصل : أنّه بعد ملاحظة القيود المعتبرة في المعنى الحقيقيّ للنسخ ، وملاحظة المقصود منه ، من كون الناسخ والمنسوخ كليهما في القرآن ، كان عدد الأحكام المنسوخة فيه قليلا. منها : أربعة أحكام في سورة البقرة :

أحدها : قوله تعالى : ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً(٤) .

عن ( التهذيب ) و( الخصال ) : عن الصادق عليه‌السلام ، وعن العياشي عن الباقر عليه‌السلام : « أنّها نزلت في أهل الذّمّة - أي أهل الكتاب - ثمّ نسخها قوله تعالى :

﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ(٥) .

وعن القمّي رحمه‌الله : أنّها نزلت في اليهود ، ثمّ نسخت بقوله تعالى : اقتلوا ﴿الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ(٦) .

واورد عليه بأنّ قوله تعالى : ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ حكاية للحكم الذي أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل على العمل به ، لأنّه في ضمن آية : ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا

__________________

(١) هود : ١١ / ١١٨ و١١٩.

(٢) مريم : ١٩ / ٧١.

(٣) البقرة : ٢ / ١٠٩.

(٤) البقرة : ٢ / ٨٣.

(٥) التهذيب ٤ : ١١٥ / ٣٣٦ ، الخصال : ٢٧٥ / ١٨ ، تفسير العياشي ٢ : ٢٢٨ / ١٨٠٩ ، والآية من سورة التوبة : ٩ / ٢٩.

(٦) تفسير القمي ١ : ٥١ ، والآية من سورة التوبة : ٩ / ٥.

٩٩

الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ(١) . فليس هذا الحكم من أحكام هذه الأمّة حتّى يعدّ من المنسوخ.

ويمكن دفعه بأنّ أخذ الميثاق والعهد المؤكّد من بني إسرائيل على هذه الواجبات التي يحكم العقل بحسنها ، دالّ على جريانه في جميع الأعصار على جميع الامم ، ولمّا كان المراد من النّاس في مخاطبة بني إسرائيل خصوص قبيلتهم ، لأنهم كانوا مأمورين بالجهاد مع غيرهم من الكفّار ، كانوا مخصوصين في هذه الأمّة المرحومة بحسن القول والمخاطبة معهم ، وسيجيء عند تفسير الآية الكريمة بعض الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وثانيها : قوله تعالى : ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ(٢) .

عن القمّي ، والنعماني رحمهما‌الله وكثير من العامّة ، أنّها منسوخة بقوله تعالى في سورة المائدة : ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ إلى قوله : ﴿وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ(٣) .

قال القمّي رحمه‌الله : وترك قوله : ﴿وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا(٤) ولا يخفى أنّه قد اختلفت رواياتنا في الناسخ منهما ، وليس في المقام مجال البسط في الكلام.

وثالثها : قوله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ(٥) .

روى العيّاشي والطّبرسيّ رحمهما‌الله عن الصادق عليه‌السلام : « كان في بدو الإسلام إذا مات الرجل أنفق على امرأته من صلب المال حولا ، ثمّ اخرجت بلا ميراث ، ثمّ نسختها آية الرّبع والثّمن » (٦) .

وعنه ، وعن الباقر عليهما‌السلام : « هي منسوخة ، نسختها : ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً(٧) ونسختها آيات الميراث » (٨) .

أقول : يعني نسخت المدّة بآية التّربّص ، والنفقة بآيات الميراث ، وهي وإن كانت متقدّمة في

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٨٣.

(٢) البقرة : ٢ / ٢٢١.

(٣) تفسير القمي ١ : ٧٢ ، تفسير النعماني : ٢٨ ، تفسير الطبري ٢ : ٢٢١ ، والآية من سورة المائدة : ٥ / ٥.

(٤) تفسير القمي ١ : ٧٣ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ٢٢١.

(٥) البقرة : ٢ / ٢٤٠.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٢٤٧ / ٥٣٠ ، مجمع البيان ٢ : ٦٠٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٤٨.

(٧) البقرة : ٢ / ٢٣٤.

(٨) تفسير العياشي ١ : ٢٤٧ / ٥٢٩ ، ومجمع البيان ٢ : ٦٠٢ عن الصادق عليه‌السلام.

١٠٠