نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

الطّرفة العاشرة

فى أنّ الكتاب الذي بأيدينا هو الكتاب المنزل

المجموع بأمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا تحريف

وتغيير وزيادة ونقصان

الحقّ أنّ الكتاب العزيز الذي بأيدينا ، هو ذلك الكتاب المنزل ، المجموع ، المرتّب بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصره بلا تحريف وتغيير ، وزيادة ونقصان ، لتواتره بين المسلمين كلّا وأبعاضا وترتيبا وقراءة ، ونهاية اهتمام المسلمين كافّة ، خصوصا علماءهم وقرّاءهم ، في حفظه ، وتلاوته ، والبحث عنه ، لأنّه أساس الإسلام ، وأعظم معجزات سيّد الأنام عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام ، ومأخذ الأحكام ، ومنشور الله إلى خلقه ، ونوره المبين في أرضه.

عن السيّد المرتضى ، على ما حكي عنه في جواب مسائل الطّرابلسيّات : أنّ العلم بصحّة نقل القرآن ، كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدّت ، والدّواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت حدّا لم يبلغه فيما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه ، من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضّبط الشديد ؟ !

وقال قدس الله روحه أيضا : إنّ العلم بتفسر القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ، ككتاب سيبويه ، والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز وعلم أنّه ملحق وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني ، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.

وذكر أيضا أنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن ، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتلى عليه ، وأنّ جماعة من الصحابة مثل

٦١

عبد الله بن مسعود ، وأبيّ ابن كعب وغيرهما ، ختموا القرآن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور ، ولا مبثوث ، وذكر أنّ من خالف في ذلك [ من ] الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته (١) .

ولعمري ، إنّه رضوان الله عليه أبان الحقّ وأجاد ، وأتى بما فوق المراد ، وإن قال الفيض رحمه‌الله بعد نقله : لقائل أن يقول : كما أنّ الدواعي كانت متوفّرة على نقل القرآن وحراسته من المؤمنين ، كذلك كانت متوفّرة على تغييره من المنافقين المبدّلين للوصيّة ، المغيّرين للخلافة ، لتضمّنه ما يضادّ رأيهم وهواهم (٢) .

أقول : نعم ، ولكن كان توفّر دواعيهم على التغيير ، كتوفّر دواعيهم على إطفاء نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإبطال أمره ، فكما لم ينالوا بمقصودهم في أمر النبوّة لحفظ الله وتأييده ، وقوّة المسلمين وكثرتهم بحيث صار المنافقون بينهم كالشّامة السوداء في الثور الأبيض ، لم ينالوا من القرآن ما كان في قلوبهم من الغرض ، بل كان دون نيلهم إليه خرط القتاد.

ثمّ قال الفيض رحمه‌الله : والتغيير فيه إن وقع ، فإنّما وقع قبل انتشاره في البلدان ، واستقراره على ما هو عليه الآن ، والضبط الشديد إنّما كان بعد ذلك ، فلا تنافي بينهما (٣) .

أقول : قد ثبت أنّ القرآن كان مجموعا في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان شدّة اهتمام المسلمين في حفظ ذلك المجموع بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي زمان احتمل بعض وقوع التحريف فيه ، كاهتمامهم في حفظ أنفسهم وأعراضهم ، ومن الواضح أنّه لم ينتشر الاسلام في بقاع الأرض وأقطارها إلّا بانتشار الكتاب المجيد فيها ، حيث إنّ إعجاز القرآن دعا الناس إلى الاسلام والإيمان بخاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كان نشر الكتاب وشيوعه بين النّاس أكثر من نشر الإسلام ، إذ الكفّار المعاندين للدّين ، لشدّة (٤) إعجابهم بآيات الله وسور القرآن ، كانوا يحفظونها ويتلونها أكثر من حفظهم وقراءتهم لقصائد (٥) شعراء العرب كامرىء القيس وأضرابه ، وخطب الفصحاء ، مع شيوع قوّة الحافظة في أهل ذلك العصر بحيث كان كثير منهم يحفظون الخطب الطوال بسماعها مرّة واحدة ، ولذا كانت العادة مقتضية لأن تكون كلّ آية وسورة في

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٨٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧.

(٢) تفسير الصافي ١ : ٤٨.

(٣) تفسير الصافي ١ : ٤٨.

(٤) في النسخة : بشدّة.

(٥) في النسخة : من قصائد.

٦٢

حفظ جمع كثير كان عددهم فوق حدّ التواتر ، مع أنّه كان حفظ القرآن وتلاوته من أعظم عبادات المسلمين ، فالعادة تقتضي أن يكون جمع كثير منهم حافظين لجميع القرآن.

ومن الواضح أنّه كان اهتمامهم بحفظ القرآن من التغيير ، وصيانتهم له من التحريف ؛ كاهتمامهم بحفظ الإسلام وحفظ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن تصيبه آفة وجراحة ، حيث إنّهم كانوا يفدون أنفسهم وأولادهم وأعراضهم وأموالهم دون نفسه الشريفة.

ومن الغرائب ، قوله رحمه‌الله : بل لقائل أن يقول : إنّه إنّما لا يتغير (١) في نفسه ، وإنّما التغيير في كتابتهم إيّاه ، وتلفّظهم به ، فإنّهم ما حرّفوا إلّا عند نسخهم من الأصل ، وبقي الأصل على ما هو عليه عند أهله ؛ وهم العلماء به ، فما هو عند العلماء به ليس بمحرّف ، وإنّما المحرّف ما أظهروه لأتباعهم (٢) . انتهى.

فإنّ هذا الاحتمال مبنيّ على فرض كون القرآن الموجود في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده ، نسخة واحدة أو نسختين عند واحد من الصحابة أو اثنين ، ثمّ اسستنسخه جماعة من المنافقين مع عدم اطّلاع أكثر المسلمين به وبآياته ، ثمّ خفي الأصل عن الأنظار ، وانتشر المحرّف في الأقطار ، وهذا الاحتمال ممّا لا ينبغي انقداحه في ذهن أحد ، حيث إنّ القرآن كان بآياته وسوره أظهر من الشمس عند المسلمين ، ولم يكن بينهم علم غير علم القرآن ، فكيف يمكن عدم اطّلاع أغلبهم بآياته وسوره ومحلّ آياته وكيفيّة قراءته !

وقال شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسى رضوان الله عليه : وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر في الرّوايات ، غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علما [ ولا عملا ] فالأولى الإعراض عنها ، وترك التشاغل بها ، لأنّه يمكن تأويلها (٣) .

وقال شيخنا الصدوق رحمه‌الله في ( اعتقاداته ) : اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه هو ما بين الدّفّتين و[ هو ] ما في أيدي النّاس ، ليس بأكثر من ذلك ، ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو

__________________

(١) في تفسير الصافي : إنه ما تغير.

(٢) تفسير الصافي ١ : ٤٨.

(٣) تفسير التبيان ١ : ٣.

٦٣

كاذب علينا (١) ، انتهى.

والعجب مع هذا الكلام من الصدوق أنّه نسب إلى الكليني رضوان الله عليه الذي هو من مجدّدي المذهب الجعفريّ القول بتحريف القرآن (٢) ، مستندا إلى نقله بعض الروايات التي وردت في هذا المعنى ، وعدم تعرّضه للقدح فيها ، مع ذكره في أوّل الكافي أنّه كان يثق بما رواه فيه ، فإنّه لا دلالة لنقل الروايات والوثوق بصدورها على اعتقاد الناقل بمضمونها أو إفتائه به ، لإمكان حملها على محامل ، كالتقيّة أو غيرها ، أو ردّ الناقل علمها إلى الراسخين في العلم ، مع أنّ الصدوق رحمه‌الله كان أعرف بمذهب الكلينيّ رحمه‌الله من غيره ، وكيف يمكن تكذيبه نسبة التحريف إلى الإمامية مع قول شيخه به.

والظاهر أنّ الصدوق رحمه‌الله لعلمه بإجماع الاماميّة ، ودلالة روايات كثيرة ، بل الكتاب المجيد على عدم تحريفه ، وملاحظة لزوم الوهن من القول به في أساس الإسلام ، وتواتر الكتاب أعرض عن الروايات الكثيرة الدالّة على وقوع التّحريف فيه ، مع أنّه لغاية تعبّده بظواهر الأخبار ذهب إلى القول بجواز السّهو على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

نعم ، نسب السيّد المرتضى رحمه‌الله الخلاف في ذلك إلى قوم من أصحاب الحديث من الإماميّة مع تخطئة لهم قال : إنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صّحته (٣) .

ولعلّ في قوله : ( مضاف إلى قوم ) دلالة على عدم ثبوت النسبة عنده ، والمراد من ( أصحاب الحديث ) عليّ بن إبراهيم القمّي رحمه‌الله ومن حذا حذوه.

قال القمّيّ رحمه‌الله في تفسيره : وأمّا ما كان خلاف ما أنزل الله ، فقوله تعالى : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ

__________________

(١) اعتقادات الصدوق : ٩٣.

(٢) لم نجد في ساتر مصنفات الشيخ الصدوق أي تصريح أو تلميح بنسبة القول بالتحريف إلى ثقة الاسلام الكليني ، كما لم نجد أحدا نقله عن الشيخ الصدوق ، وقد استند بعض المحدثين الذين نسبوا إلى الشيخ الكليني القول بالتحريف ( كالفيض في الصافي ١ : ٤٧ ) على جمله من روايات الكافي ، مع أنه لا توجد في الكافي رواية واحدة تدلّ دلالة صريحة على التحريف ، ولكن اشتبه عليهم حال بعض الروايات ، وهي إحدى وستون رواية فقط بجميع أجزاء الكافي ، لظهورها باختلاف القراءة أو التفسير ، فعدّوا ذلك من أصل المصحف ، وقد بيّنت بعض الدراسات الحديثة ذلك بكلّ تفصيل. راجع : دفاع عن الكافي ٢ : ٢١٩ - ٥٠١.

(٣) مجمع البيان ١ : ٨٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧.

٦٤

لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ(١) فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لقارىء هذه الآية : « [ خير أمّة ] يقتلون أمير المؤمنين والحسين بن عليّ عليهما‌السلام ؟ » .

فقيل له : كيف نزلت يابن رسول الله ؟ فقال : « إنّما نزلت : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ألا ترى مدح الله لهم في آخر الآية : ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ(٢) .

ومثله : أنّه قرىء على أبي عبد الله عليه‌السلام : ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً(٣) فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لقد سألوا [ الله ] عظيما أن يجعلهم للمتّقين إماما » .

فقيل له : يابن رسول الله ، كيف نزلت ؟ فقال : « إنّما نزلت : ( واجعل لنا من المتّقين إماما ) » .

وقوله تعالى : ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ(٤) فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يحفظ الشيء من أمر الله ! وكيف يكون المعقّب من بين يديه ؟ »

فقيل له : [ و] كيف ذلك يابن رسول الله ؟ فقال : « إنّما نزلت : ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ ورقيب يحفظونه بأمر الله ) » ومثله كثير.

وأمّا ما هو محذوف عنه (٥) فهو قوله تعالى : ﴿لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ - في على كذا نزلت - ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ(٦) وقوله : ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ - في علي - ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ(٧) وقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ - آل محمد حقهم - ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ(٨) وقوله : ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ - آل محمد حقهم - ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(٩) وقوله : ﴿وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ - آل محمد حقهم - ﴿فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ(١٠) ومثله كثير نذكره في مواضعه إن شاء الله. قال : وأمّا التقديم والتأخير فإنّ آية عدّة النساء الناسخة التي هي أربعة أشهر

وعشر ، قدّمت على المنسوخة الّتي هي سنة ، وكان يجب [ أوّلا ] أن تقرأ المنسوخة التي نزلت قبل ، ثمّ الناسخة التي نزلت بعد.

وقوله : ﴿أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً(١١) وإنّما هو : ( ويتلوه شاهد منه إماما ورحمة ومن قبله كتاب موسى ) .

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ١١٠.  (٢) آل عمران : ٣ / ١١٠.

(٣) الفرقان : ٢٥ / ٧٤.  (٤) الرعد : ١٣ / ١١.

(٥) في المصدر : محرف منه.  (٦) النساء : ٤ / ١٦٦.

(٧) المائدة : ٥ / ٦٧.  (٨) النساء : ٤ / ١٦٨.

(٩) الشعراء : ٢٦ / ٢٢٧. (١٠) الأنعام : ٦ / ٩٣.

(١١) هود : ١١ / ١٧.

٦٥

وقوله : ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا(١) وإنّما هي ( نحيا ونموت ) لأنّ الدّهريّة لم يقرّوا بالبعث بعد الموت ، وإنّما قالوا : نحيا ونموت ، فقدّموا حرفا على حرف ، ومثله كثير.

قال : وأمّا الآيات التي هي في سورة وتمامها في سورة أخرى ؛ فقول موسى عليه‌السلام : ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ(٢) و﴿قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ(٣) فنصف الآية في سورة البقرة ، ونصفها في سورة المائدة.

وقوله : ﴿اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(٤) فردّ الله عليهم ﴿وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ(٥) فنصف الآية في سورة الفرقان ، ونصفها في سورة العنكبوت ، ومثله كثير (٦) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : إلى هذه الأخبار الضعاف أشار الشيخ قدس‌سره بقوله : أنّه وردت أخبار كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ، فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها ، لأنّه يمكن تأويلها.

إلى أن قال : ورواياتنا متناصرة بالحثّ على قراءته والتمسّك بما فيه ، وردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه ، وعرضها عليه ، فما وافقه عمل عليه ، وما خالفه يجتنب ، ولم يلتفت إليه (٧) .

أقول : أخبار العرض على الكتاب متضافرة ، بل متواترة معنى أو إجمالا ، وأخبار وقوع التحريف والتغيير مخالفة للكتاب العزيز ، فيشملها قولهم عليهم‌السلام : « ما خالف كتاب الله فهو زخرف » أو « باطل » أو « فاضربه على الجدار » أو « لم نقله » (٨) .

فإنّ قوله تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ(٩) دالّ على تشريف القرآن وتفضيله على سائر الكتب السماويّة بضمانه تعالى بحفظه من الاندراس والانطماس ، وتعهّده على صيانته من التحريف والتغيير إلى يوم القيامة ، فكما أنّ ذهاب جميع القرآن ومحوه من بين الناس وجعل كتاب آخر فيهم ينافي ضمانه تعالى لحفظه ، كذلك إسقاط آية أو سورة ، أو تغيير كلمة منه أو هيئته المنزلة

__________________

(١) المؤمنون : ٢٣ / ٣٧.

(٢) البقرة : ٢ / ٦١.

(٣) المائدة : ٥ / ٢٢.

(٤) الفرقان : ٢٥ / ٥.

(٥) العنكبوت : ٢٩ / ٤٨.

(٦) تفسير القمي ١ : ١٠.

(٧) تفسير التبيان ١ : ٣.

(٨) الكافي ١ : ٥٥ / باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب.

(٩) الحجر : ١٥ / ٩.

٦٦

ينافي ضمانه تعالى لحفظه ، لأنّ كلّ آية منه قرآن ، ومحو شيء منه مادّة أو كيفيّة محو للقرآن.

وتقريبه ببيان أوضح : أنّ الله تعالى فضّل دين الإسلام على سائر الأديان بوعده بظهوره على الدّين كلّه ، ومن الواضح أنّ ظهور هذا الدّين المبين بظهور القرآن المبين ، وهو ببقائه بين النّاس محفوظا من التغيير والتحريف والاندراس والانطماس ، فلذا تعهّد سبحانه وتعالى بحفظه من جميع ذلك ، وفضّله على سائر الكتب السماويّة بضمان صيانته من كيد المعاندين ودسّ الملحدين ، ولم يكن منه تعالى هذا التعهّد والضّمان في سائر الكتب ، ولذا وقع فيها التحريف والتغيير ، وسقطت عن الحجّيّة والاعتبار كسائر الأديان ، فلو قلنا بوقوع التحريف في القرآن - ولو من جهة الترتيب - لنافى الضمان منه تعالى ، وارتفع بمزيّته على الكتابين وفضيلته من هذه الجهة من البين.

إن قيل : حفظه تعالى النسخة التي جمعها وكتبها أمير المؤمنين عليه‌السلام وأودعها عند أوصيائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين وبقاؤها عند خاتمهم إلى الآن ، وإلى آخر الزمان ، كاف في الوفاء بالعهد وأداء الضّمان.

قلنا : ليست هذه الدرجة من الحفظ مزيّة وفضيلة له ، لكونها مشتركة بين القرآن وسائر الكتب السّماويّة ، حيث إنّ من المقطوع أنّه كانت نسخة واحدة غير محرّفة من سائر الكتب محفوظة عند الأنبياء والأوصياء ، ولعلّها من مواريثهم الموجودة الآن عند خاتم الوصيّين ووارث علوم الأنبياء المرسلين عجّل الله فرجه ، فلا يكون وجود هذه النسخة الصحيحة غير المحرّفة منها الذي يكون كوجودها في اللوح المحفوظ مزيّة وفضيلة للكتاب الكريم.

قال فى ( كشف الغطاء ) (١) في كتاب القرآن ، المبحث الثامن في نقصه : لا ريب أنّه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الدّيّان ، كما دلّ عليه صريح القرآن ، وإجماع العلماء في كلّ زمان ، ولا عبرة بالنادر ، وما ورد من أخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها ، إلى أن قال : فلا بدّ من تأويلها بأحد وجوه (٢) .

وعن الشيخ البهائي رحمه‌الله في تغيير القرآن ، قال : والصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك ، زيادة كان أو نقصانا ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ(٣) وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم

__________________

(١) للشيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء المتوفّى سنة ١٢٢٨ ه‍ .

(٢) كشف الغطاء : ٢٩٨.

(٣) الحجر : ١٥ / ٩.

٦٧

أمير المؤمنين عليه‌السلام منه في بعض المواضع ، مثل قوله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ - في علي - (١) وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء (٢) .

وعن الشيخ عليّ بن عبد العالي رحمه‌الله أنّه صنّف في نفي النّقيصة في القرآن رسالة مستقلّة ، وذكر كلام الصدوق المتقدّم ، ثمّ اعترض بما يدلّ على النقيصة في الأحاديث ، فأجاب عنها بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدّليل من الكتاب والسنّة المتواترة أو الإجماع ، ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه ، وجب طرحه (٣) .

وبالجملة : أخبار التحريف مع مخالفتها للكتاب الكريم ، ووهن سند كثير منها ، وإعراض أعيان الأصحاب عنها ، ومخالفتها لحكم العقل والعادة والاعتبار ، غير قابلة لأن يعتدّ بها عاقل ، فضلا عن فاضل ، بل نقل كثير من الأصحاب الإجماع على خلافها كما ظهر من كاشف الغطاء ، والشيخ البهائي وغيرهما قدس الله أسرارهم.

وعن القاضي نور الله رحمه‌الله في كتاب ( مصائب النواصب ) : ما نسب إلى الشيعة الإماميّة من وقوع التغيير في القرآن ، ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة ، إنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم (٤) .

وعن المفيد قدس‌سره أنّه قال : قال جماعة من أهل الإماميّة إنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله (٥) .

وعن المقدّس البغدادي قدس الله روحه في ( شرح الوافية ) (٦) : وإنّما الكلام في النقيصة ، والمعروف بين أصحابنا - حتّى حكي عليه الاجماع - عدم النقيصة أيضا (٧) ، انتهى.

مع أنّ ما ذكر في الروايات من الساقطات كآية رجم الشيخ والشيخة وأمثالها ، وكلمة ( من خلفه ورقيب ) من قوله : ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ(٨) وغير ذلك ، بعيد من فصاحة الكتاب العزيز وأسلوبه ، بل يدفعها السنّة المتواترة من خبر الثّقلين.

__________________

(١) المائدة : ٥ / ٦٧.

(٢ و٣) . آلاء الرحمن ١ : ٦٥.

(٤) آلاء الرحمن ١ : ٦٤.

(٥) أوائل المقالات : ٨١.

(٦) الوافية في الأصول : للمولى عبد الله بن محمد ، المشهور بالفاضل التوني ، المتوفّى سنة ١٠٧١ ه‍ .

(٧) آلاء الرحمن ١ : ٦٥.

(٨) الرعد : ١٣ / ١١.

٦٨

قال الشيخ رحمه‌الله : وقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رواية لا يدفعها أحد ، أنّه قال : « إنّي مخلّف فيكم الثّقلين ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » قال : وهذا يدلّ على أنّه موجود في كلّ عصر ، لأنّه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسّك بما لا نقدر على التمسّك به ، كما أنّ أهل البيت ومن يجب اتّباع قوله حاصل في كلّ وقت ، وإذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحّته ، فينبغي أن نتشاغل بتفسيره وبيان معانيه ونترك ما سواه (١) .

وحمل كلامه رحمه‌الله على وجوده جميعا عند أهله كما صدر عن الفيض رحمه‌الله خلاف نصّه (٢) ، فإنّ القرآن الذي فيه جميع الأحكام ، حتّى أرش الخدش ، غير مقدور التمسّك به (٣) ، ولا ينتقض بعدم إمكان التمسّك بالعترة في زمان الغيبة ، فإنّ المراد بالتمسّك بهم تولّيهم والأخذ بأقوالهم ، وهذا ممكن لكلّ أحد في كلّ عصر لوجود رواياتهم ، وإن لم يمكن التشرّف بحضرتهم ، واكتساب الفيوضات الخاصّة من زيارتهم ، واقتباس الأنوار ببركة صحبتهم.

فيتبيّن من جميع ما فصّلناه عدم المجال لاحتمال وقوع التحريف في القرآن الشريف بوجه من الوجوه ، فضلا عن القول به من كلّ وجه.

الطّرفة الحادية عشرة

فى عدد سور القرآن ، وبيان الاختلاف فيه

المشهور بين الإمامية رضوان الله عليهم أنّ عدد سور الكتاب العزيز مائة واثنا عشر ، لعدّهم الضّحى والانشراح سورة واحدة ، والفيل وقريش أيضا سورة واحدة ، بل ادّعى بعض الأساطين الإجماع عليه (٤) ، وعليه النصوص المعتبرة عن أهل البيت عليهم‌السلام (٥) .

ونقل جماعة من العامّة أنّ في مصحف أبيّ أنّ سورة الفيل وسورة لإيلاف واحدة (٦) .

ونقل عن طاوس وغيره من مفسّري العامّة ، على ما في ( إتقان السّيوطي ) : أنّ الضّحى وألم نشرح

__________________

(١) تفسير التبيان ١ : ٣.

(٢) راجع تفسير الصافي ١ : ٤٩.

(٣) لعلّه يريد به القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وهو لا يختلف عن الكتاب الذي بين أيدينا إلّا في الترتيب ، حيث إنه عليه‌السلام جمعه على ترتيب النزول ، وقدّم فيه المنسوخ على الناسخ ، وكتب فيه تأويل بعض الآيات وتفسيرها.

(٤) اعتقادات الصدوق : ٩٣.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٩ و٨٢٧.

(٦) تفسير الرازي ٣٢ : ١٠٤.

٦٩

سورة واحدة (١) .

وخالف في ذلك أكثرهم ، وذهبوا إلى أنّ عدد السور مائة وأربع عشرة ، وادّعوا عليه إجماعهم (٢) .

نعم ، قال بعضهم بكونه مائة وثلاث عشرة ، بجعل الأنفال والبراءة واحدة ، لعدم البسملة بينهما ، ولما روي عن مجاهد وسفيان وأبي روق (٣) ، وهو بمكان من الضعف لاشتهار تعدّدهما وتعدّد اسمهما بين المسلمين ، ولرواية المجمع عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة براءة ؛ لأنّ بسم الله للأمان والرّحمة ، ونزلت براءة لرفع الأمان بالسيف » (٤) .

وعن ابن عبّاس ، قالت : سأتت علي بن أبي طالب : لم لم تكتب في براءة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ؟ قال : « لأنّها أمان ، وبراءة نزلت بالسيف » (٥) .

وقال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر ( بسم الله الرحمن الرحيم )ووضعتموها في السبع الطوال ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينزل عليه السور ذات (٦) العدد ... (٧) الخبر ، وقد مرّ تمامه في بعض الطرائف (٨) السابقة (٩) .

وروى الصّدوق رحمه‌الله في ( ثواب الأعمال ) ، والعيّاشي ، عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة الأنفال وسورة البراءة في كلّ شهر لم يدخله نفاق أبدا » (١٠) .

فمن جميع ذلك ، ومن عدم ظهور شبهة في تعدّدهما بين الأصحاب ، مع تعرّضهم لاتّحاد بعض السور كما مرّ ، لا ينبغي الإشكال في تعدّد البراءة والأنفال ، وإنّ ما رواه الطّبرسيّ والعيّاشيّ عليهما الرّحمة عن الصادق عليه‌السلام : « الأنفال وبراءة واحد » (١١) مؤوّل أو مطروح.

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٨.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٥.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٥.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٤.

(٥) مستدرك الحاكم ٢ : ٣٣٠.

(٦) في المستدرك : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات.

(٧) مستدرك الحاكم ٢ : ٣٣٠.

(٨) كذا ، والطرائف جمع طريفة ، أما الطرفة فجمعها طرف.

(٩) تقدم في الطرفة الخامسة.

(١٠) ثواب الأعمال : ١٠٦ ، تفسير العيّاشي ٢ : ٢١٣ / ١٧٦٨.

(١١) مجمع البيان ٥ : ٤ ، تفسير العيّاشيّ ٢ : ٢١٣ / ١٧٧٠.

٧٠

الطّرفة الثانية عشرة

 في بيان معنى السورة ، وأنّ اسم كلّ سورة

 كان بتوقيف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

السّورة : اسم لطائفة من القرآن ذات فاتحة وخاتمة ، مسمّاة باسم خاصّ بتوقيف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأسامي السور في الأحاديث والآثار.

روي عن عكرمة ، قال : كان المشركون يقولون : سورة البقرة ، وسورة العنكبوت ، يستهزئون بها ، فنزل : ﴿إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(١) .

ووجه التسمية بالأسامي المعيّنة المعروفة ظاهر ، فإنّ سورة الحمد سميّت بالفاتحة لافتتاح القرآن بها ، وسورة البقرة لذكر قصّة البقرة فيها ، ولم تذكر في غيرها ، وسورة آل عمران لذكر آل عمران فيها ، وهكذا سائر السّور ، وأمّا وجه تسمية كلّ قطعة معيّنة بالسورة لارتفاع منزلتها وشأنها لأنّها كلام الله.

وتطلق السورة على المنزلة الرفيعة ، وقيل : إنّها مأخوذة من سور البلد لإحاطتها بآياتها ، واجتماعها كاجتماع البيوت بالسور ، ومنه السّوار لإحاطته بالسّاعد.

الطّرفة الثالثة عشرة

في أنّ عدّة سور من القرآن سمّيت بالطوال

 وعدّة منها بالمئين وعدّة بالمثاني

 وعدّة بالمفصّل ووجه التّسمية

كما سمّيت كلّ سورة باسم خاصّ ، سمّيت عدّة سور باسم مخصوص.

عن ( الكافي ) : بإسناده عن سعد الإسكاف ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعطيت السور الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزّبور ، وفضّلت بالمفصّل ثمان وستّون سورة ، وهو مهيمن على سائر الكتب ، فالتوراة لموسى ، والإنجيل لعيسى ، والزبور لداود » (٢) .

ثمّ اعلم أنّه يستفاد من الرواية الشريفة امور :

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ١٨٧ ، والآية من سورة الحجر : ١٥ / ٩٥.

(٢) الكافي ٢ : ٤٣٩ / ١٠.

٧١

الأوّل : أنّ جميع سور القرآن يكون داخلا تحت العناوين الأربعة ، لا تخرج منها سورة.

الثاني : أنّ الطوال مقدّم في الترتيب على المئين ، والمئين على المثاني والمثاني على المفصّل.

الثالث : أنّ الطوال أفضل من المئين ، لكونها بمنزلة التوراة التي هي أفضل من الإنجيل ، والمئين أفضل من المثاني لكونها بمنزلة الإنجيل الذي هو أفضل من الزّبور ، ويمكن استفادة كون المفصّل أفضل من المثاني ، لأنّها ممّا فضّل به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قيل : الطول كصرد. وفي بعض روايات العامّة : الطوال ، قيل : سمّيت به لكثرة طولها ، وسمّي ما بعدها مئين لأنّ كلّ سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها ، وسمّي ما ولي المئين بالمثاني ، لأنّها ثنتها أي كانت بعدها ، فهي لها ثوان والمئون لها أوائل.

وقال الفرّاء : المثاني : هي السور التي آيها أقلّ من مائة ، لأنّها تثنّى أكثر ممّا يثنّى الطّول والمئون.

وقيل : لتثنية الأمثال فيها بالعبر والخبر ، أو لتثنية القصص فيها.

وسمّي ما ولي المثاني من قصار السور بالمفصّل لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة. وقيل :

لقلّة المنسوخ منه ، ولهذا يسمّى بالمحكم أيضا (١) .

في تعيين السور الطوال والمئين والمثاني والمفصّل روي عن سعيد بن جبير ، قال : إنّ الذي تدعونه المفصّل هو المحكم ، وآخره سورة النّاس بلا نزاع (٢) .

ثم لا إشكال في أنّ عدد الطوال سبع ، لرواية واثلة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أعطيت السبع الطوال مكان التوراة » (٣) .

وعن ابن عباس رحمه‌الله : أنّ السّبع الطوال (٤) : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف (٥) . قال الراوي : فذكر السابعة فنسيتها. وفي رواية اخرى عنه : أنّها الكهف (٦) .

وعن مجاهد وسعيد بن جبير : أنّها يونس (٧) .

وقال الفيض رحمه‌الله : الطوال (٨) السبع بعد الفاتحة ، على أن تعدّ الأنفال والبراءة واحدة ، لنزولهما جميعا

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٠.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢١.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢١٨.

(٤) في الإتقان : الطّول.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٠.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٠.

(٧) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٠.

(٨) في تفسير الصافي : الطّول.

٧٢

في المغازي ، وتسميتهما بالقرينتين (١) .

وفيه : أنّه بعد ما ثبت أنّ الأنفال وبراءة سورتان ، كيف يمكن عدّهما واحدة ، إلّا أن يحمل ما روي عن الصادق عليه‌السلام من قوله : « الأنفال وبراءة واحد » (٢) على تنزيلهما منزلة الواحد من هذه الجهة ، مؤيّدا بالإشعار النبويّ على تقدّم السبع الطوال على غيره.

ثمّ قال : والمئين : من بني إسرائيل إلى سبع سور [ سمّيت بها ] لأنّ كلّا منها على نحو مائة آية. والمفصّل : من سورة محمّد إلى آخر القرآن ، سمّيت به لكثرة الفواصل [ بينها ](٣) .

أقول : هذا مبنيّ على عدّ الضحى ، والانشراح ، والفيل ، وقريش ، أربع سور ، وهذا خلاف الأخبار والمعروف بين الأصحاب ، وعليه فلا بدّ أن يعدّ المفصّل من الجاثية حتّى تتمّ ثمان وستّون سورة إلى آخر القرآن على ما في الرواية الشريفة.

ثمّ قال رحمه‌الله : والمثاني بقية السور ، وهي التي تقصر عن المئين ، وتزيد على المفصّل (٤) .

أقول : كان عليه أن يكتفي في تعيين المثاني بذكر بقيّة السور ، إذ بعض المثاني لا تزيد على بعض سور المفصّل على ما حدّه ، لأنّ عدد آيات سورة الرحمن التي جعلها في المفصّل ثمان وسبعون ، وسورة الواقعة ستّ وتسعون ، وليس في المثاني بعد الكهف سورة تكون آياتها بهذا العدد إلّا قليلا كطه ، والأنبياء ، والمؤمنون ، والشّعراء ، والصّافّات.

ونقل عن جرير بن عبد الحميد أنّه قال : تأليف مصحف عبد الله بن مسعود ، الطوال (٥) : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والأنعام ، والأعراف ، والمائدة ، ويونس.

والمئين : براءة ، والنحل ، وهود ، ويوسف ، والكهف ، وبني إسرائيل ، والأنبياء ، وطه ، والمؤمنون ، والشعراء ، والصافّات.

والمثاني : الأحزاب ، والحجّ ، والقصص ، والنّمل ، والنّور ، والأنفال ، ومريم ، والعنكبوت ، والروم ، ويس ، والفرقان ، والحجر ، والرّعد ، وسبأ ، والملائكة ، وإبراهيم ، وص ، والذين كفروا ، ولقمان ، والزمر.

والحواميم : حم المؤمن ، والزخرف ، والسجدة ، وحمعسق ، والأحقاف ، والجاثية ، والدخان.

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ١٨.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٤ ، تفسير العياشي ٢ : ٢١٣ / ١٧٧٠.

(٣) تفسير الصافي ١ : ١٨.

(٤) تفسير الصافي ١ : ١٨.

(٥) في الإتقان : الطّول.

٧٣

والممتحنات (١) : إنّا فتحنا لك ، والحشر ، وتنزيل السّجدة ، والطلاق ، ون والقلم ، والحجرات ، وتبارك ، والتغابن ، والمنافقون ، والجمعة ، والصّفّ ، وقل أوحي ، وإنّا أرسلنا ، والمجادلة ، والممتحنة (٢) .

والمفصّل : من الرّحمن إلى آخر القرآن (٣) .

أقول : الظاهر من هذا الخبر أنّ الممتحنات والحواميم عند ابن مسعود قسمان خارجان من الأقسام الأربعة ، وأنّه كان ترتيب السور في مصحفه على خلاف المصحف الذي بأيدينا ، إلّا أنّه لا اعتبار بهذا النقل.

الطّرفة الرابعة عشرة

 في فوائد تقطيع القرآن سورا ، واختلافها

في الطول والقصر والتوسّط

قال الزمخشريّ : الفائدة في تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة ، وكذلك أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور ، وما أوحاه إلى أنبيائه مسوّرة ، وبوّب المصنّفون في كتبهم أبوابا موشّحة الصدور بالتراجم.

منها : أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا.

ومنها : أنّ القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ، ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على التحصيل منه لو استمرّ على الكتاب بطوله ، ومثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا ، نفّس ذلك منه ونشط للسّير. ومن ثمّ جزّئ القرآن أجزاء وأخماسا.

ومنها : أنّ الحافظ إذا حفظ (٤) السورة اعتقد أنّه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلّة بنفسها ، فيعظم عنده ما حفظه.

ومنه حديث أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا ، ومن ذلك (٥) كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل.

ومنها : أنّ التفصيل بسبب تلاحق الأشكال والنظائر وملائمة بعضها لبعض ، وبذلك تتلاحظ

__________________

(١) ( والممتحنات ) ليست في الإتقان.

(٢) زاد في الإتقان : ويا أيها النبي لم تحرم.

(٣) الإتقان ١ : ٢٢٣.

(٤) في المصدر والإتقان والبرهان : حذق.

(٥) في المصدر : ثمة ، وفي الإتقان والبرهان : ثم.

٧٤

المعاني والنظم ، إلى غير ذلك من الفوائد ، انتهى (١) .

وقيل : إنّ الحكمة في تسوير القرآن سورا تحقيق كون السورة بمجرّدها معجزة وآية من آيات الله ، والإشارة إلى أنّ كلّ سورة نمط مستقلّ ، فسورة يوسف تترجم عن قصّته ، وسورة براءة تترجم عن أحوال المنافقين وأسرارهم ، إلى غير ذلك.

وأمّا حكمة اختلاف السور طولا وقصرا ، التنبيه على أنّ الطّول ليس من شرائط الإعجاز ، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات وهي معجزة إعجاز سورة البقرة.

وأمّا الحكمة في جعلها مختلفة المراتب في الطول والقصر والتوسّط بينهما سهولة التعليم والتعلّم وتدريج الأطفال والمتعلمين من السور القصار إلى ما فوقها حتّى ينتهون إلى الأوساط ومنها يتدرّجون إلى الطوال على اختلاف مراتبها ، وتيسير الله على عباده في حفظ كتابه (٢) وفي قراءة سوره في أضيق الأوقات وأوساطها وطوالها في الصلوات وغيرها ، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح التي لا يعلمها إلّا الله تعالى.

الطّرفة الخامسة عشرة

 في أنّ البسملة جزء من كلّ سورة ،

 بل هي أعظم آياتها

لا شبهة أنّ البسملة آية من آيات القرآن ، وجزء من الفاتحة ، وغيرها من السور عدا براءة ، بل هي أعظم الآيات وأفضلها ، حيث روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم الله الاعظم من ناظر العين إلى بياضها » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « سرقوا أكرم آية من كتاب الله : بسم الله الرحمن الرحيم (٤) الخبر.

والعياشي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : « ما لهم ؟ - يعني العامّة - قاتلهم الله ، عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها [ وهي بسم الله الرحمن الرحيم ] » (٥) إلى غير ذلك من الروايات.

وأمّا كونها جزءا من الفاتحة ، فلما روي في الصحيح عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا

__________________

(١) الكشاف ١ : ٩٧ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٩ ، البرهان في علوم القرآن ١ : ٣٣٤.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٢٨.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٨٩ / ١١٥٩.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٠٠ / ٧٧.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٠٣ / ٨٩.

٧٥

عبد الله عليه‌السلام عن السبع المثاني والقرآن العظيم ، أهي الفاتحة ؟ قال : « نعم » .

قلت : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من السبع المثاني ؟ قال : « نعم (١) ، أفضلهنّ » (٢).

وعن الحسن العسكري ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنّه قال في حديث : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية من فاتحة الكتاب ، وهي سبع آيات تمامها ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(٣) .

وفي ( عيون الأخبار ) قال : قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : أخبرنا عن بسم الله الرحمن الرحيم ، أهي من فاتحة الكتاب ؟ قال.

فقال : « نعم ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرؤها ويعدّها آية منها ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني » (٤) .

وعن أمّ سلمة - بالطريق العامّيّ - : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ * ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ(٥) إلى أن قالت : وعدّ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ آية ، ولم يعدّ : عليهم (٦) .

وعن عليّ عليه‌السلام أنّه سئل عن السبع المثاني ، فقال : ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فقيل له : إنّما هي ستّ آيات ؟ فقال : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ آية » (٧) .

وعن ابن عبّاس ، قال : السبع المثاني فاتحة الكتاب. قيل : فأين السابعة ؟ قال : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(٨) .

وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا قرأتم الحمد ، فاقرأوا ، ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ فإنّها أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبع المثاني ، إحدى ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آياتها » (٩) .

وأمّا كونها كجزء من سائر السور ، فلما روي عن معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا قمت للصلاة ، أقرأ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في فاتحة القرآن ؟ قال : « نعم » . قلت : فإذا قرأت فاتحة القرآن ، أقرأ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مع السّورة ؟ قال : « نعم » (١٠).

__________________

(١) في التهذيب : نعم ، هي.  (٢) التهذيب ٢ : ٢٨٩ / ١١٥٧.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٩ / ١٠.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٠١ / ٥٩.

(٥) الفاتحة : ١ / ١ و٢.

(٦) سنن الدارقطني ١ : ٣٠٧ / ٢١.

(٧) سنن الدارقطني ١ : ٣١٣ / ٤٠ ، السنن الكبرى ٢ : ٤٥.

(٨) السنن الكبرى ٢ : ٤٥.

(٩) سنن الدارقطني ١ : ٣١٢ / ٣٦ ، السنن الكبرى ٢ : ٤٥ ، وفيهما : إحداها ، بدل : إحدى آياتها.

(١٠) الكافي ٣ : ٣١٢ / ١ ، الاستبصار ١ : ٣١١ / ١١٥٥.

٧٦

وعن يحيى بن أبي عمران ، قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام : جعلت فداك ، ما تقول في رجل ابتدأ ب ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ في صلاته وحده في أمّ الكتاب ، فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها ، فقال العباسي : ليس بذلك بأس ؟ فكتب بخطّه : « يعيدها مرّتين على رغم أنفه » يعني العباسي (١) . والظاهر أنّ إيجاب الإعادة لعدم تماميّة السورة ، لا لكون البسملة واجبا مستقلا.

ومن طرق العامّة ، ما روي عن ابن عبّاس قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعرف فصل السورة حتّى تنزل عليه ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ .

وزاد البزّاز : فإذا أنزلت ، عرف أنّ السورة [ قد ] ختمت ، واستقبلت ، أو ابتدئت سورة أخرى (٢) .

وعن ابن عبّاس ، قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتّى تنزل ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ ، فإذا انزلت علموا أنّ السورة قد انقضت (٣) .

وعنه أيضا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ ، علم أنّها سورة (٤) .

وعن ابن عمر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كان إذا جاءني جبرئيل بالوحي ، أوّل ما يلقي عليّ : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) » (٥) .

وعنه أيضا ، قال : « نزلت ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ في كلّ سورة » (٦) .

وعن أنس ، قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم بين أظهرنا ، إذ أغفى إغفاءة ، ثمّ رفع رأسه متبسّما فقال : « أنزلت عليّ آنفا سورة ، فقرأ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ * ﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ(٧) .

ولا يخفى أنّ على ما ذكرنا اتّفقت الإماميّة رضوان الله عليهم أجمعين ، وأمّا العامّة فقد اختلفوا على أقوال شتّى ، منهم من انكر كونها من القرآن ، وإليه أشار ابن عبّاس بقوله : استرق الشيطان من النّاس

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣١٣ / ٢ ، الاستبصار ١ : ٣١١ / ١١٥٦ ، والمراد بأبي جعفر الجواد عليه‌السلام ، والعباس هو هشام بن إبراهيم ، وكان يعارض الرضا والجواد عليهما‌السلام ، وقوله « يعيدها مرّتين » يمكن أن يكون متعلّقا بكتب ، فيكون من تتمة كلام الراوي ، وقال الفيض : « يعيدها » يعني الصلاة أو البسملة ، والأول أظهر ، « مرتين » متعلق بقوله : « فكتب » لا بقوله : « يعيدها » إذ لا وجه لتكرار الإعادة.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٦٨.

(٣) مستدرك الحاكم ١ : ٢٣٢.

(٤) مستدرك الحاكم ١ : ٢٣١.

(٥) سنن الدارقطني ١ : ٣٠٥ / ١٣ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧٠.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧٠.

(٧) صحيح مسلم ١ : ٣٠٠ / ٥٣ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧٠ ، والآيتان من سورة الكوثر : ١٠٨ / ١.

٧٧

أعظم آية من القرآن : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*(١) .

وبقوله : أغفل النّاس آية من كتاب الله لم تنزل على أحد سوى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أن يكون سليمان بن داود ، ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*(٢) .

وفي ذيل كلامه إشارة إلى ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا أخرج من المسجد حتّى أخبرك بآية لم تنزل على نبيّ بعد سليمان غيري » ثمّ قال : « بأيّ شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصّلاة ؟ » قلت : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قال : « هي هي » (٣) .

وما عن الباقر عليه‌السلام : « سرقوا أكرم آية من كتاب الله ، ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*(٤) وينبغي الإتيان بها عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.

ومنهم من قال إنّها آية مستقلّة ليست جزءا من سورة.

ومنهم من قال إنّها جزء من الفاتحة دون غيرها من السور.

واستدلّ من قال منهم بأنّها جزء من جميع السور بأنّه يكفي في إثبات تواتر كونها من جميع السور إثباتها في مصاحف الصّحابة فمن بعدها بخطّ المصحف مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه كأسماء السور ، وآمّين ، وغير ذلك ، فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخطّه من غير تمييز ، لأنّ ذلك يحمل النّاس على اعتقادها قرآنا فيكونون مغرّرين بالمسلمين ، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا ، وهذا ممّا لا يجوز اعتقاده في الصّحابة.

إن قيل : لعلّه اثبتت للفصل بين السور. اجيب : بأنّ هذا فيه تغرير ، ولا يجوز ارتكابه لمجرّد الفصل ، ولو كانت لكتبت بين براءة والأنفال.

الطّرفة السادسة عشرة

في أنّ آيات الكتاب العزيز

بين محكم ومتشابه وفي تعريف كلّ منها

لا ريب في أنّ آيات الكتاب العزيز قسمان : محكم ومتشابه ، كما قال الله تعالى : ﴿آياتٌ مُحْكَماتٌ

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٦٨.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٦٨.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٦٨.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٠٠ / ٧٧.

٧٨

هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ(١) واختلفت في تعريفهما الروايات وكلمات العلماء.

والحقّ أنّ المراد بالمحكم : هو الكلام الواضح الدّلالة بحيث لا يكون للعرف - ولو بملاحظة القرائن المكتنفة به - تحيّر في استفادة المراد منه ، ولا يحتاج في تعيين المقصود منه إلى الرّجوع إلى العالم أو إلى القرائن المنفصلة والأدلّة العقليّة والنّقليّة الخارجيّة.

والمراد بالمتشابه : هو الكلام المجمل أو المبهم الّذي يشتبه المراد منه على العرف ، بحيث لا يكون له بالوضع أو بالقرائن المتّصلة حقيقة أو حكما ظهور في المراد منه ، بل لا بدّ في الاستفادة منه من الرّجوع إلى العالم الخبير بمراد المتكلّم ، أو إلى الاجتهاد في تحصيل القرائن المنفصلة عن الكلام من حكم العقل المستقلّ ، أو سائر كلمات المتكلّم.

ولعلّه إلى ما ذكرنا يرجع ما عن العيّاشيّ رحمه‌الله عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن المحكم والمتشابه فقال : « المحكم ما يعمل به ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله » (٢) فإنّ الظاهر أنّ المراد من قوله : « ما يعمل به » ، هو الكلام الّذي لا يتوقّف العرف في فهم المراد منه والعمل به ، وهو جميع آيات الأحكام.

كما روي عن ابن عبّاس ، قال : المحكمات : ناسخه ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه ، وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات : منسوخه ، ومقدّمه ، ومؤخّره ، وأمثاله ، وأقسامه ، وما يؤمن به ولا يعمل به (٣) .

وعن مجاهد ، قال : المحكمات : ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضا (٤) .

في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومين من ذريته عليهم‌السلام عالمون بتأويل المتشابه ، وفي تغليط القائلين باختصاص علمه بالله تعالى وعن الرّبيع ، قال : المحكمات : هي أوامره وزواجره (٥) . إلى غير ذلك من التعريفات ، فإنّ جميعها بيان لموارد التنّصيص والظهور ، وهي جميع الأحكام دون غيرها ، فإنّ في غير آيات الأحكام كثيرا ما يكون الإجمال والإهمال.

ثمّ إنّه قد غلط من قال باختصاص العلم بتأويل المتشابهات بالله سبحانه ، وإنّه ممّا استأثر به ذاته المقدّسة ، ولا يعلمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياؤه المعصومون صلوات الله

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ٧.

(٢) تفسير الصافي ١ : ٢٩٥ ، تفسير العيّاشي ١ : ٨٧ / ٣٨ « نحوه » .

(٣) تفسير الطبري ٣ : ١١٥.

(٤) تفسير الطبري ٣ : ١١٥ ، الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٤.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٥ ، وفيه : هي الآمرة الزاجرة.

٧٩

عليهم أجمعين ، فإنّ فائدة الكلام تفهيم الغير ، فلو خلا عن هذه الفائدة ، ولو بالنسبة إلى الواحد ، كان لغوا ، والحكيم تعالى منزّه عنه ، مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتحدّى بكلّ آية من الكتاب العزيز ، ولا يمكن أن يتحدّى بما لا يعرف المراد منه ، ولا يفهم معناه ، مع أنّه تعالى استثنى عن جميع الخلق غير العالمين بتأويل المتشابهات الراسخين في العلم ، وقرنهم بذاته المقدّسة في العلم بتأويلها ، والمراد بالراسخين في العلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياؤه من بعده صلوات الله عليهم كما في رواية. [ عن أحدهما عليهما‌السلام ] قال : « فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الرّاسخين في العلم ، قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه » (١).

وعن أمير المؤمنين - في حديث - قال : « إنّ الله جلّ ذكره بسعة رحمته ورأفته بخلقه ، وعلمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كلامه (٢) ، قسّم كلامه ثلاثة أقسام ؛ وجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ، ولطف حسّه ، وصحّ تميّزه ، ممّن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه إلّا الله وأنبياؤه (٣) والراسخون في العلم » (٤) .

وعن العيّاشيّ : عن الصادق عليه‌السلام - في حديث - قال : « نحن الرّاسخون في العلم ، ونحن نعلم تأويله » (٥) .

وعن ابن عبّاس بطريق عامّي في قوله : ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ(٦) قال : أنا ممّن يعلم تأويله (٧) .

وعن مجاهد ، في قوله : ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ قال : يعلمون تأويله ، و﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ(٨) .

وعن الضحّاك ، قال : الرّاسخون في العلم يعلمون تأويله ، ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه ومنسوخه (٩) ، ولا حلاله ولا (١٠) حرامه ، ولا محكمه عن (١١) متشابهه (١٢) .

وعن النوويّ على ما نقله السيوطيّ عنه ، أنّه قال في ( شرح مسلم ) : إنّه الأصح ؛ لأنّه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته (١٣) .

ثمّ أنّ منشأ غلط أكثر أهل السّنّة في المقام ، توهّم كون الواو في ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ استئنافا

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٦ / ٢. (٢) في الإحتجاج : كتابه.

(٣) في الاحتجاج : وامناؤه. (٤) الاحتجاج : ٢٥٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٥.

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ : ٢٩٣ / ٦٤٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٥.

(٦) آل عمران : ٣ / ٧.

(٧ و٨) . الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٦.

(٩) في الإتقان : من منسوخه.  (١٠ و١١) . في الإتقان : من.

(١٢ و١٣) . الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٦.

٨٠