نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

إلى المؤمنين ، من النّبوّة والهداية والكتاب ، أو لأنّ كلّ ما هو من قبل الله تعالى ، من النّافع والضّار ، عين الخير والصّلاح ، وموافق للحكمة والنّظام الأتمّ ، أو لأنّ الشّرور من قبل الماهيّات والخيرات ، من قبل الوجود المفاض منه تعالى ، أو لمراعاة الأدب ، لوضوح منافاته لخطابه : بأنّ الشّرّ منك.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا خطّ الخندق عام الأحزاب ، وقطع لكلّ عشيرة (١) من أهل المدينة أربعين ذراعا ، وجميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف ، فأخذوا يحفرونه ، خرج من بطن الخندق صخرة كالفيل العظيم ، لم تعمل فيها المعاول ، فوجّهوا سلمان رضى الله عنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره.

فجاء صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ المعول من سلمان ، فضربها ضربة صدعتها مقدار ثلثها ، وبرق منها برقا أضاء ما بين لا بتيها (٢) ، كأنّه مصباح في (٣) بيت مظلم ، فكبّر وكبّر معه المسلمون ، وقال : « أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنّها أنياب الكلاب » ، ثمّ ضرب الثّانية ، فقال : « أضاءت [ لي ] منها قصور الحمر في أرض الرّوم » ثمّ ضرب الثّالثة ، فقال : « أضاءت لي قصور صنعاء ، وأخبرني جبرئيل عليه‌السلام أنّ امّتي ظاهرة على الامم كلّها ؛ فابشروا » .

فقال المنافقون : ألا تعجبون ؟ يمنّيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنّه يبصر (٤) قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وأنّها تفتح لكم ، وأنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق (٥) ، لا تستطيعون أن تبرزوا ، فنزلت [ الآية ](٦) .

ثمّ قرّر سبحانه سعة قدرته ، وأكّدها بقوله : ﴿إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وغيرها من الامور الممكنة ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يتصوّر فيك عجز ولا قصور.

﴿تُولِجُ﴾ وتدخل ﴿اللَّيْلَ فِي النَّهارِ﴾ بتعقيبه إيّاه ، أو تنقيص الأوّل وزيادة الثّاني ، حتّى يصير النّهار خمس عشر ساعة ، واللّيل تسع ساعات (٧) ويمكن أن يكون تأويله ، إدخال ظلمة الكفر في نور الفطرة ﴿وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ﴾ بالتّعقيب ، أو الزّيادة والنّقصان ، بعكس الأوّل. ويمكن أن يكون من بطونه (٨)

__________________

(١) في تفسير روح البيان : عشرة.

(٢) أي لابتي المدينة ، مثنى لابة ، وهي الحرّة ، أي الأرض ذات الحجارة السّود ، والمدينة تقع بين لابتين.

(٣) زاد في تفسير روح البيان : جوف.

(٤) زاد في تفسير روح البيان : من يثرب.

(٥) أي الخوف.

(٦) تفسير روح البيان ٢ : ١٨.

(٧) في النسخة : آيات.

(٨) أي من بطون تفسير هذه الآية ، بمعنى التأويل.

٦٠١

إدخال نور الإيمان أو نور الموجود في ظلمة الماهيّة.

﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَ﴾ وتخلقه ﴿مِنَ﴾ الجسم ﴿الْمَيِّتِ﴾ ومن مادّة لا حياة لها من تراب ، أو نطفة ، أو بيضة. أو المراد : تخلق العالم من الجاهل ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ﴾ كالنّطفة والتّراب وغيرهما ﴿مِنَ﴾ المبدأ ﴿الْحَيَ﴾ كالإنسان وغيره من الحيوانات.

وعن ( المعاني ) : عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ المؤمن إذا مات لم يكن ميّتا ، وأنّ الميّت هو الكافر » ، ثمّ فسّر الآية : بأنّ المؤمن يخرج من الكافر ، والكافر من المؤمن (١) .

﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ﴾ أن ترزقه ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ وتعب ، أو بغير تقتير.

عن أبي العبّاس المقري ، قال : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه : بمعنى التّعب ، قال تعالى : ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ،﴾ وبمعنى العدد ، قال تعالى : ﴿إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ(٢) ، وبمعنى المطالبة ، قال تعالى : ﴿فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ(٣) .

﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ

مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ

الْمَصِيرُ (٢٨)

ثمّ بعد ما بيّن الله سبحانه أنّ الملك والعزّة والخير والرّزق كلّه بيد الله ، نهى المؤمنين عن موالاة الكفّار بطمع الخير والعزّة والمال بقوله : ﴿لا يَتَّخِذِ﴾ ولا يختار ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ لقرابة ، أو صداقة جاهليّة ، أو جوار أو غيرها من الأسباب ﴿الْكافِرِينَ﴾ الّذين هم أعداء الله ، وأعداء دينهم ﴿أَوْلِياءَ﴾ وأحبّاء لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الّذين هم أولياء الله وأحبّاؤه ، وبدلا منهم ، مع كونهم للأخوّة الحقيقيّة المعنويّة أحقّاء بالموالاة ، والكفّار أحقّاء بالمعاداة للمباينة الدّينيّة.

فليس للمؤمن أن يؤثر ولاية أعداء الله والمباينين له في الدّين على ولاية أحبّائه واخوّتهم الدّينيّة ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ﴾ الفعل الشّنيع من اتّخاذ أعداء الله أولياء ﴿فَلَيْسَ مِنَ﴾ ولاية ﴿اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ يصحّ أن يطلق عليه اسم الولاية ، ويكون خارجا عنها ومنسلخا منها رأسا ، لكمال التّنافي بين ولاية

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٩٠ / ١٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠١.

(٢) الزمر : ٣٩ / ١٠.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ١٨ ، والآية من سورة ص : ٣٨ / ٣٩.

٦٠٢

المتعاديين.

فلا يجوز أن تتولّوا الكفّار ظاهرا وباطنا في حال من الأحوال ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا﴾ وتخافوا ﴿مِنْهُمْ﴾ وتتحذّروا من شرّهم وضرّهم ﴿تُقاةً﴾ باطنيّة وحذرا واقعيّا ، فلا بأس بإظهار موالاتهم مع اطمئنان النّفس بعدواتهم وبغضهم ، حتّى يزول مقتضى التّقيّة ، فيجب عند ذلك معاداتهم ظاهرا وباطنا.

في وجوب التقية

عن ( الاحتجاج ) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في حديث : « وآمرك أن تستعمل التّقيّة في دينك ، فإنّ الله يقول : ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ الآية - إلى أن قال - : وإيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك ، وأن تترك التّقيّة التي أمرتك بها ، فإنّك شائط بدمك (١) ودماء إخوانك ، معرّض لنعمك ونعمهم للزّوال ، تذلّهم في أيدي أعداء دين الله ، وقد أمرك الله بإعزازهم » (٢) .

وعن العيّاشي : عن الصادق عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا إيمان لمن لا تقيّة له » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « التّقيّة ترس الله بينه وبين خلقه » (٤) .

وفي رواية : « التّقيّة ديني ودين آبائي » (٥) .

ثمّ أردف الله سبحانه النّهي بالتّهديد بقوله : ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ ويخوّفكم من سطوته ، كي لا تعصوه فتستحقّوا عقابه.

ثمّ أكّد التّهديد والتّحذير بقوله : ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ والمنقلب لعامّة الخلق ، فلا يخرج أحد عن سلطانه و[ من ] تحت قدرته. وفي تكرير اسم الجلالة إدخال الرّوعة وتربية المهابة.

﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما

فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)

ثمّ لمّا أذن سبحانه وتعالى في التّقيّة ، وإظهار الموالاة لهم ، وكان مدارها الخوف القلبي - وهو أمر باطنيّ لا يطّلع عليه أحد ، وقد يجعل مندوحة للمعاشرة والمودّة في الظّاهر ، مع عدم تحقّق خوف منهم في الباطن ، بل الموالاة الباطنيّة صارت منشأ للموالاة الظّاهريّة ، ولكن عند اعتراض المؤمنين

__________________

(١) شاط دمه : أي ذهب هدرا.

(٢) الاحتجاج : ٢٣٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٢.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٩٧ / ٦٦٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٢.

(٤) الكافي ٢ : ١٧٥ / ١٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٢.

(٥) جامع الأخبار : ٢٥٣ / ٦٥٧.

٦٠٣

الصّادقين عليهم ، يعتذرون لهم بالخوف - أمر الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعلام المنافقين المحتالين في موالاتهم بسعة علمه تعالى بالسّرائر كالظّواهر ، بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد : ﴿إِنْ تُخْفُوا﴾ أيّها المنافقون ﴿ما فِي صُدُورِكُمْ﴾ وضمائركم من نيّات السّوء وموالاة الكفّار ﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾ وتظهروه للنّاس ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ ويطّلع عليه.

فإنّه لا سرّ إلّا وهو عنده تعالى علانيّة ، ولا باطن إلّا وهو عنده ظاهر ، وكيف يخفى عليه سرائركم ﴿وَ﴾ هو ﴿يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ من الخفايا والدّقائق ، فإنّ وجود جميع ما فيها بإفاضته وتدبيره ، فإذا كانت إحاطته بهذه المرتبة من الكمال ، يجب على العباد أن يحذروا من مخالفته في الباطن والسّرّ أيضا ؛ لأنّه يعلمها ويعاقب عليها ﴿وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من العقوبة وغيرها ﴿قَدِيرٌ﴾ وفيه غاية التّهديد والوعيد.

﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ

بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ

تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ

رَحِيمٌ (٣١)

ثمّ بيّن الله تعالى صفة اليوم الذي يكون مصير الخلق فيه إليه ، ويجب على النّاس الحذر منه تعالى فيه ، بقوله : ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النّفوس المكلّفة ﴿ما عَمِلَتْ﴾ في الدّنيا ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ وصالح ﴿مُحْضَراً﴾ عندها ، أحضره الله بصورته المثاليّة التي تكون لذلك العمل في عالم المثل والصّور ، لما حقّق في محلّه من أنّ لكلّ شيء في هذا العالم - ولو كان من الأعراض - صورة جوهريّة في عالم الصّور والمثل المعلّقة ، كما هو مستفاد من كثير من الأخبار. أو المراد إحضاره بوجوده الكتبي في صحيفة الأعمال ، أو بجزائه وآثاره.

﴿وَ﴾ كذا تجد ﴿ما عَمِلَتْ﴾ النّفس ﴿مِنْ﴾ عمل ﴿سُوءٍ﴾ وقبيح محضرا عندها بصورته الجوهريّة أو بجزائه ، فتضجر وتستوحش منه ، بحيث ﴿تَوَدُّ﴾ قيل : كأنّه يقال : حال النّفس التي عملت الخير معلوم أنها في سرور وأمن ، فما حال النّفس الشّرّيرة التي عملت السّوء ؟ فقال تعالى : تودّ وتتمنّى تلك النّفس ، حين ترى السّوء ﴿لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً﴾ وبونا ﴿بَعِيداً﴾ من سوء المنظر ووخامة

٦٠٤

الآثار.

وقيل : معنى الآية : تودّ وتتمنّى كلّ نفس ، يوم تجد صحائف أعمالها ، أو جزاء أعمالها ، من الخير والشّرّ حاضرة ، لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا (١) .

وقيل : المعنى : اذكروا يوم تجد كلّ نفس و( تودّ ) حال من الضّمير في ( عملت ) أو خبر ل ( ما عملت من سوء ) .

ثمّ بالغ سبحانه في التّحذير وأكّده بتكرار قوله : ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ فاحذروا سخطه وبأسه.

ثمّ لتربيته الخوف والرّجاء في القلوب أردف الوعيد بالوعد ، وأعلن برأفته ، بقوله : ﴿وَاللهُ رَؤُفٌ﴾ سريع الرّضا ، وكثير الرّحمة ﴿بِالْعِبادِ﴾ المؤمنين.

ويحتمل كون التّذييل به ، لبيان علّة التّحذير ، وهي الرأفة العظيمة منه بهم ، حيث يكون تحذيره كتحذير الوالد الشّفيق ولده عمّا يوبقه ويضرّه.

في أن حبّ الله مستلزم لحبّ محبوباته

ثمّ لمّا قالت اليهود والنّصارى : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، أمر الله رسوله بردّهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم : ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ كما تقولون ، فلازم حبّه طاعته والانقياد له ، وطلب القرب منه بالقيام بمرضاته ، حيث إنّ الحبّ هو ميل النّفس إلى شيء ، لإحرازها كمالا وحسنا فيه ، بحيث يحملها إلى ما يقرّبها إليه.

فإن علمتم أنّ ذاته المقدّسة مستجمعة لجميع الكمالات ، بل لا كمال لأحد إلّا هو منه وبإفاضته ، فعليكم أيّها المدّعون لمحبّته أن تطلبوا رضاه وقربه بطاعته.

ثمّ لمّا تبيّن لكم أنّي رسوله إليكم ، وأنّه ما من شيء يقرّبكم إليه إلّا [ و] أنا آمركم به ، وما من شيء يبعدكم عنه إلّا وأنا ناهيكم عنه ، إذن ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ في ما أدعوكم إليه ، وآمركم به من الإقرار برسالتي ، والعمل بأحكامي ، فإذا فعلتم ذلك ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ ويرضى عنكم ، ويقرّبكم إليه.

وهذا أجزل الاجور وأعظم المثوبات ، لوضوح أنّ أقصى آمال المحبّ كونه محبوبا عند حبيبه ، ولا يتحقّق إلّا بإتيان محبوباته ، وحبّ أحبّائه.

ومن الواضح أنّ أحبّ النّاس إلى الله رسوله وخلفاؤه ، ولذا قال الصادق عليه‌السلام : « هل الدّين إلّا الحبّ » (٢) ، ومن أحبّ الرّسول وأوليائه وخلفائه ، أطاعهم وأوفق رضاهم.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٢١.

(٢) الخصال : ٢١ / ٧٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٣.

٦٠٥

وفي ( الكافي ) : عنه عليه‌السلام ، في حديث : « من سرّه أن يعلم أنّ الله يحبّه ، فليعمل بطاعة الله وليتّبعنا ، ألم تسمع قول الله عزوجل لنبيّه : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ والله لا يطيع الله عبد [ أبدا ] إلّا أدخل الله عليه في طاعته اتّباعنا ، ولا والله لا يتّبعنا عبد أبدا إلّا أحبّه (١) الله ، ولا والله لا يدّع أحد اتّباعنا أبدا إلّا أبغضن عدوّنا (٢) ، ولا والله لا يبغضنا أحد أبدا إلّا عصى الله ، ومن مات عاصيا لله أخزاه الله ، وأكبّه على وجهه في النّار » (٣) .

ثمّ أشار سبحانه إلى أدنى ثمرات حبّه له ، بقوله : ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ ويستر بعفوه سيّئاتكم ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ للمعاصي ، وستّار للقبائح ﴿رَحِيمٌ﴾ لمن تحبّب إليه بطاعته واتّباع رسله وخلفائه.

قيل : نزلت حين دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كعب بن أشرف ومن تابعه إلى الإيمان ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحبّاؤه.

وقيل : نزلت في وفد نجران ، لمّا قالوا : إنّا نعبد المسيح حبّا لله (٤) .

وقيل : نزلت في أقوام زعموا على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم يحبّون الله ، فامروا أن يجعلوا قولهم مطابقا لعملهم (٥) .

وعن ابن عبّاس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يعبدون الأصنام ، وقد علّقوا عليها بيض النّعام ، وجعلوا في آذانها الشّنوف (٦) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا معشر قريش ، قد خالفتم ملّة إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام » فقالت قريش : إنّما نعبدها حبّا لله ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فقال تعالى لنبيّه : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ وتعبدون الأصنام لتقرّبكم إلى الله ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ أي اتّبعوا شريعتي وسنّتي ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ فأنا رسوله إليكم ، وحجّته عليكم (٧) .

﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)

ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت آية ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ،﴾ [ قال ] عبد الله بن أبي : إنّ محمّدا يجعل

__________________

(١) في النسخة : لمحبّة.

(٢) في الكافي والصافي : لا يدع أحد اتباعنا أبدا إلّا أبغضنا.

(٣) الكافي ٨ : ١٤ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٤.

(٤) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٥.

(٥) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٥.

(٦) الشنوف : جمع شنف ، وهو القرط من الدّر أو الذهب والفضّة وكل ما يعلّق في شحمة الاذن أو فوقها من الزينة.

(٧) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٥.

٦٠٦

طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبّه كما أحبّت النّصارى عيسى ، فنزلت (١)﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، ردّا لشبهة المنافقين : ﴿أَطِيعُوا اللهَ﴾ لكونه بالذّات مستحقا للطّاعة ، ﴿وَ﴾ أطيعوا ﴿الرَّسُولَ﴾ لكونه رسولا ومبلّغا عن الله ، لا لأهليّة نفسه ، كما تقول النّصارى في عيسى ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن طاعة الله في أحكامه التي جاء بها رسوله ، فقد كفروا بنعمه ، واستوجبوا سخطه ﴿فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ﴾ به وبنعمه ، بل يبغضهم ويعذّبهم بأشدّ العذاب.

ففيه دلالة على أنّ وجوب طاعة النبيّ ، لكونها من شؤون وجوب طاعة الله ، فمن أدّعى محبّة الله ، وخالف أوامر نبيّه ونواهيه ، فهو كاذب في دعواه.

﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً

بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)

ثمّ أنّه لمّا بيّن سبحانه أنّ محبّته لا تنفكّ عن طاعة الرّسل ، بيّن علوّ درجاتهم ، وشرف مناصبهم ، تحريصا عليها ؛ بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى﴾ واختار من جميع خلقه ﴿آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ﴾ وأشراف ولده ، وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من ذرّيّتهما ، ولا شبهة أنّ أشرفهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وذرّيّته الطّيّبة.

عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه تلا هذه الآية ، فقال : « نحن منهم ، ونحن بقيّة تلك العترة » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « قال محمّد بن أشعث بن قيس الكندي عليه اللّعنة للحسين عليه‌السلام : يا حسين بن فاطمة أيّة حرمة لك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليست لغيرك ؟ فتلا الحسين عليه‌السلام هذه الآية ، ثمّ قال : والله إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن آل إبراهيم ، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمّد عليهم‌السلام » (٣) .

وفي ( العيون ) ، في حديث : فقال المأمون : هل فضّل الله العترة على سائر النّاس ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « إن الله تعالى أبان فضل العترة على سائر النّاس في محكم كتابه » .

فقال المأمون : أين ذلك من كتاب الله ؟ فقال له الرّضا عليه‌السلام : « في قوله تعالى : ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ١٩.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٩٩ / ٦٦٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٥.

(٣) أمالي الصدوق : ٢٢١ / ٢٣٩.

٦٠٧

وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ﴾ الآية » (١) . وقد فسر آل إبراهيم بآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

﴿وَآلَ عِمْرانَ﴾ قيل : هم موسى ، وهارون ؛ ابنا عمران بن يصهر بن فاهث (٢) بن لاوي بن يعقوب ، وأولادهما النبيّون.

وقيل : عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان ، وإنّ ماثان كان من نسل سليمان بن داود ، وكان ينتهي بسبعة وعشرين أبا إلى يهودا بن يعقوب. وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة (٣) .

وفي رواية : هو آل إبراهيم وآل محمّد على العالمين ، فوضعوا اسما مكان اسم (٤) .

وعن ( المجمع ) : وآل محمّد على العالمين (٥) .

وعن القمّي رحمه‌الله ، قال : قال العالم عليه‌السلام : « نزل آل إبراهيم (٦) ، وآل عمران ، وآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على العالمين » (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « آل محمّد كانت فمحوها » (٨) .

وفي تخصيص آل عمران أو آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالذّكر مع دخولهم في آل إبراهيم ، إظهار لكمال الاعتناء بشأنهم وشرفهم.

فهؤلاء الّذين أنعم الله عليهم بالنّفس القدسيّة ، والملكات الجميلة الرّوحانيّة ، والفضائل الجسمانيّة ، فضّلهم الله بمنصب الرّسالة ﴿عَلَى الْعالَمِينَ﴾ وجميع الخلق أجمعين من أوّل الدّنيا إلى يوم الدّين من الملائكة والجنّ والانس وسائر موجودات عالم الملك والملكوت ، حال كون جميع المصطفين ﴿ذُرِّيَّةً﴾ واحدة مسلسلة منشعبة ﴿بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الّذين اصطفاهم الله ؛ بعضهم من نسل بعض » (٩) .

وعن ( العياشي ) : عنه عليه‌السلام ، قيل : ما الحجّة في كتاب الله أنّ آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هم أهل بيته ؟ قال : « قول الله عزوجل : ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ﴾ وآل محمّد على العالمين ) هكذا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٠ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٥.

(٢) في تفسير البيضاوي : قاهث.

(٣) تفسير البيضاوي ١ : ١٥٦.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٢٩٩ / ٦٧٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٥.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٧٣٥ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٥.

(٦) ( آل إبراهيم ) ليس في المصدر.

(٧) تفسير القمي ١ : ١٠٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٥.

(٨) تفسير العياشي ١ : ٣٠١ / ٦٧٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٥.

(٩) مجمع البيان ٢ : ٧٣٥ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٦.

٦٠٨

نزلت ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ولا تكون الذّرّيّة من القوم إلّا نسلهم من أصلابهم » (١) .

والظاهر أنّ السائل احتمل أن يكون المراد بالآل جميع المؤمنين ، كما عليه بعض المفسرين من العامّة ، مستشهدين له بقوله تعالى : ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ(٢) .

﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ لأقوال النّاس ﴿عَلِيمٌ﴾ بضمائرهم وأخلاقهم ، وملكاتهم وأعمالهم ، فيختار منهم من هو أحسن قولا ، وأصلح عملا ، وأزكى قلبا ، وأخلص نيّة ، وأقوى بصيرة ، كما قال تعالى : ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ(٣) .

في أن الأنبياء مخالفون لغيرهم في القوى الروحانية والجسمانية

نقل الفخر الرّازي في تفسيره عن الحليمي كلاما يعجبني أن أذكره بطوله ، لاشتماله على ذكر معجزات عديدة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفضيلة فائقة لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

قال الحليمي : إنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا بدّ أنّ يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانيّة ، والقوى الرّوحانيّة. أمّا القوى الجسمانيّة ، فهي إمّا مدركة وإمّا محرّكة. أمّا المدركة فهي إمّا الحواسّ الظاهريّة ، وإمّا الحواسّ الباطنيّة. أمّا الحواسّ الظاهريّة ؛ فهي خمسة :

أحدها : القوّة الباصرة ، ولقد كان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مخصوصا بكمال هذه الصّفة ، ويدلّ عليه وجهان ؛ الأوّل : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « زويت (٤) لي الأرض فاريت مشارقها ومغاربها » ، والثّاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أقيموا صفوفكم وتراصّوا ، فإنّي أراكم من وراء ظهري » . ونظير هذه [ القوة ] ما حصل لإبراهيم ، وهو قوله تعالى : ﴿وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(٥) ذكروا في تفسيره : أنّه تعالى قوّى بصره حتّى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل.

قال الحليمي : إنّ (٦) البصراء يتفاوتون ، فروي أنّ زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيّام ، فلا يبعد أن يكون بصر النبيّ أقوى من بصرها.

وثانيها : القوّة السامعة ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله أقوى النّاس في هذه القوّة ، ويدل عليه وجهان ؛ أحدهما : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أطّت (٧) السّماء وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك ساجد لله تعالى » فسمع أطيط السّماء والثاني : أنّه سمع دويّا ، وذكر أنّه هوي صخرة قذفت في جهنّم ، فلم تبلغ قعرها إلى

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٠١ / ٦٧٥ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٦.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ٢٢ ، والآية من سورة المؤمن : ٤٠ / ٤٦.

(٣) الأنعام : ٦ / ١٢٤.

(٤) زوى الشيء : قبضه وجمعه.

(٥) الأنعام : ٦ / ٧٥.

(٦) في المصدر : وهذا غير مستبعد لأنّ.

(٧) أطّ الشيء : صوّت.

٦٠٩

الآن.

قال الحليمي : ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا ، فانّهم زعموا أن فيثاغورس راض نفسه حتّى سمع حفيف الملك (١) . ونظير هذه القوّة لسليمان عليه‌السلام في قصّة النّمل : ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ(٢) فالله تعالى أسمع سليمان كلام النّملة ووأقفه على معناه. وهذا داخل أيضا في باب تقوية الفهم ، وكان حاصلا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حين تكلّم مع الذّئب ومع البعير.

وثالثها : تقوية قوّة الشّمّ ، كما في حقّ يعقوب عليه‌السلام ، فإنّ يوسف لمّا أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه ، فلمّا فصلت العير قال يعقوب : إنّي أجد ريح يوسف ، لو لا أن تفنّدون. فأحسّ بها من مسيرة أيّام.

ورابعها : تقوية قوّة الذّوق ، كما في حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال : « إنّ هذا الذراع يخبرني أنّه مسموم » .

وخامسها : تقوية القوة اللّامسة ، كما في حقّ الخليل ، حيث جعل الله تعالى النّار بردا وسلاما عليه ، وكيف يستبعد هذا ، ويشاهد مثله في السّمندل (٣) والنّعامة ؟ ! .

وأما الحواسّ الباطنة ، فمنها قوّة الحفظ ، قال تعالى : ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى(٤) ومنها : قوّة الذّكاء ، قال عليّ عليه‌السلام : « علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، واستنبطت من كلّ باب ألف باب » . فإذا كان هذا حال الوليّ ، فكيف حال النبيّ ؟

وأمّا القوى المحركة ، فمثل : عروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المعراج ، وعروج عيسى حيّا إلى السّماء ، ورفع ادريس وإلياس ، على ما وردت به الأخبار ، وقال تعالى : ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ(٥) .

وأمّا القوى الرّحانيّة العقليّة فلا بدّ أن تكون في غاية الكمال ، ونهاية الصّفاء.

اعلم أنّ تمام الكلام في هذا الباب أنّ النّفس القدسيّة النّبويّة مخالفة بماهيّتها لسائر النّفوس ، ومن لوازم تلك النّفس الكمال في الذّكاء والفطنة والحرية ، والاستعلاء والتّرفّع عن الجسمانيّات

__________________

(١) في المصدر : خفيف الفلك.

(٢) النمل : ٢٧ / ١٨.

(٣) السّمندل : طائر بالهند لا يحترق بالنار فيما زعموا ، ونسيج من ريش بعض الطيور لا يحترق.

(٤) الأعلى : ٨٧ / ٦.

(٥) النمل : ٢٧ / ٤٠.

٦١٠

والشهوات ، فإذا كانت الرّوح في غاية الصّفاء والشّرف ، وكان البدن في غاية النّقاء والطّهارة ، كانت هذه القوى المحرّكة والمدركة في غاية الكمال ؛ لأنّها جارية مجرى الأنوار الفائضة من جوهر الرّوح ، الواصلة إلى البدن ، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال ، كانت الآثار في غاية القوّة والشّرف والصّفاء.

ثمّ أنّ الله تعالى بعد ما اصطفى آدم بالقوّة الكاملة ، وضع كمال القوّة الرّوحانيّة في شعبة معيّنة من أولاد آدم عليه‌السلام هم شيث وأولاده إلى إدريس ، ثمّ إلى نوح ، ثمّ إلى إبراهيم ، ثمّ حصل من إبراهيم شعبتان : إسماعيل وإسحاق ، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الرّوح القدسيّة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين : يعقوب وعيص (١) ، فوضع النّبوّة في نسل يعقوب ، ووضع الملك في نسل عيص (٢) ، واستمرّ ذلك إلى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا ظهر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نقل نور النّبوّة ونور الملك إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبقيا - أعني الدّين والملك - لأتباعه إلى يوم القيامة ، ومن تأمّل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة ، انتهى (٣) .

وفيه مواضع للنّظر والتّخطئة ، والعجب أنّه التزم بانتقال نور النّبوّة والملك في نسل المصطفين إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يلتزم به في ذرّيّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بل جعله لأتباعه.

﴿إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ

 السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما

وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها

مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها

 زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ

 هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)

ثمّ ذكر سبحانه [و] تعالى قضيّة ولادة مريم وعيسى - استشهادا بها على اصطفائه آل عمران ، وردّا على النّصارى القائلين بالوهيّة عيسى ، أو أنّه ثالث ثلاثة ، أو أنّه ابن الله - بقوله : ﴿إِذْ قالَتِ﴾ قيل : الظّرف متعلّق ب ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ والمعنى : والله سميع للدّعاء ، عليم بالضّراعة ، حين دعت وتضرّعت

__________________

(١ و٢) . في المصدر : عيصو.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ٢١.

٦١١

حنّة بنت فاقوذ ﴿امْرَأَتُ عِمْرانَ﴾ ابن ماثان ، امّ مريم.

في قضية ولادة مريم وعيسى

عن عكرمة : أنّها كانت عاقرا لا تلد ، وكانت تغبط النّساء بالأولاد (١) .

وعن محمّد بن إسحاق : أنّها ما كان يحصل لها ولد حتّى شاخت ، وكانت يوما في ظلّ شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا له ، فتحرّكت نفسها للولد ، فدعت ربّها أن يهب لها ولدا ، فحملت بمريم ، وهلك عمران ، فلمّا عرفت حملها جعلته لله بقولها : ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي﴾ من الولد ﴿مُحَرَّراً﴾ وعاهدتك أن أجعله خادما للمسجد ، أو لمن يدرس الكتاب ، أو مخلصا للعبادة ، أو عتيقا من أمر الدّنيا لطاعة الله.

قيل : كان الأمر في دين بني إسرائيل أنّ الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه ، كان يجب عليه خدمة الأبوين ، فكانوا بالنّذر يتركون ذلك النّوع من الانتفاع ، ويجعلونه محرّرا لخدمة المسجد ، وطاعة الله. (٢)

وقيل : كان المحرّر يجعل في الكنيسة ، يقوم بخدمتها حتّى يبلغ الحلم ، ثمّ يخيّر بين الذّهاب والمقام ، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار. ولم يكن نبيّ إلّا ومن نسله محرّر في بيت المقدس ، ولم يكن التّحرير جائزا إلّا في الغلمان. (٣)

قيل : إنّ تحرير حنّة كان بإلهام الله (٤) ثمّ أنّها لإظهار أنّ هذا النّذر كان لطلب مرضاة الله وتقرّبا إليه ، قالت : ﴿فَتَقَبَّلْ﴾ هذا التّحرير ، وتلقّه ﴿مِنِّي﴾ بالرّضا ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لدعائي ﴿الْعَلِيمُ﴾ بخلوص نيّتي وحقيقة ضراعتي ، وفي تخصيص الوصفين به تعالى إظهار لقوّة يقينها ، وإشعار باختصاص دعائها به تعالى ، وانقطاع رجائها من غيره.

ثمّ أنّه كان في ظنّها أنّ النّسمة التي في بطنها غلام ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْها﴾ ورأت أنّها انثى ، ولم تكن الجارية صالحة للتّحرير ؛ لخدمة المسجد ، وملازمته ، لما يصيبها من الحيض والأذى ﴿قالَتْ﴾ تحزّنا وتحسّرا على خيبة رجائها ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها﴾ حال كونها ﴿أُنْثى

ثمّ لمّا كانت جاهلة بقدرها وشأنها ، قال سبحانه تعظيما لها وإظهارا لجلالتها : ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ﴾ من غيره ﴿بِما وَضَعَتْ﴾ حنّة ، وبما علق بها من عظائم الامور.

وقرئ ( وضعت ) على الخطاب ، والمعنى أنّك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة ، ومالها من علوّ الشأن

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ٢٥.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ٢٥.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ٢٥.

(٤) تفسير الرازي ٨ : ٢٥.

٦١٢

وسموّ المقام. وفي قراءة ( وضعت ) على المتكلّم ، على أنّه من كلامها ، تسلية لنفسها ، وهو مرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) .

ثمّ أنّه تعالى زاد في تبيين عظمة موضعها ورفعه منزلتها ومقامها بقوله : ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ﴾ الذي كانت تطلبه ، وتتمنّى أنّه يكون كواحد من سدنة المسجد ﴿كَالْأُنْثى﴾ التي وهبتها لها ، في الفضيلة والشّرف والكرامة عندي.

عن ( الكافي ) و( القمي ) : عن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الله أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكرا سويّا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذني ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل ، فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك - وهي امّ مريم - فلمّا حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما ، فلمّا وضعتها قالت : [ ربّ ] إنّي وضعتها انثى وليس الذّكر كالانثى ، [ أي ] لا تكون البنت رسولا ، يقول الله تعالى : ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ﴾ فلمّا وهب لمريم عيسى ، كان هو الذي بشّر به عمران ووعده إيّاه » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ المحرّر يكون في الكنيسة لا يخرج منها ، فلمّا وضعتها [ انثى ] قالت : ربّ إنّي وضعتها انثى (٣) وليس الذّكر كالانثى ، إنّ الانثى تحيض ، فتخرج من المسجد » (٤) .

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : « وليس الذّكر كالانثى في الخدمة » (٥) .

ومقتضى هذه الرّوايات أنّ الجملة المعترضة في الآية قوله : ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ﴾ فقط ، وأنّ قوله : ﴿لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى﴾ من كلام حنّة ، وهو المعطوف عليه لقوله : ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ

قيل : إنّ مريم بالعبرانيّة بمعنى : العابدة أو خادمة الرّبّ ، وإنّ إظهار تسليتها بهذا الاسم لإظهار بقائها على نيّة وقفها لعبادة ربّها ؛ غير راجعة عنها ، فكأنّها قالت : إنّ هذه الانثى ، وإن لم تكن خليقة لوقفها لخدمة المسجد وسدانة بيت المقدس ، فلتكن من العابدات فيه.

وفي تصدّيها للتّسمية إشعار بموت عمران قبل ولادة مريم ؛ لأنّ مقتضى العادة أنّ الأب يتولّى تسمية الولد إذا كان حيّا (٦) .

ثمّ لمّا كانت حنّة عالمة بأنّ الشّيطان يطمع في إغواء كلّ مولود خصوصا النّساء ، قالت : ﴿وَإِنِّي

__________________

(١) جوامع الجامع : ٥٧.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٠١ ، الكافي ١ : ٤٤٩ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٧.

(٣) زاد في العياشي : والله أعلم بما وضعت.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٣٠٢ / ٦٧٧ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٧.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٣٠٢ / ٦٧٨ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٧.

(٦) تفسير روح البيان ٢ : ٢٧.

٦١٣

أُعِيذُها بِكَ﴾ واجيرها بلطفك والجئها بحفظك ، ﴿وَ﴾ كذا ﴿ذُرِّيَّتَها﴾ ونسلها ﴿مِنَ﴾ كيد ﴿الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ المطرود من كل خير.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد ، فيستهل صارخا (١) ، إلامريم وابنها » (٢) .

قيل : لما قالت حنة هذه الكلمات ، وتضرعت إلى الله في قبول مريم لعبادته ، وحفظها من إغواء الشيطان ، لفتها في خرقة ، وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار ، أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في مسجد الحرام ، وقالت : خذوا هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها ؛ لأنها كانت بنت إمامهم ، وكان بنو ماثان رؤس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فقالوا : لا حتى نقرع عليها ، فانطلقوا - وكانوا سبعا وعشرين - إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم ثلاث مرات في النهر. وقيل : نهر الأردن. ففي كل مرة ارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم ، فسلموها إلى زكريا.

قيل : هو معنى قوله : ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها﴾ ومليكها ، ومكمّل نفسها بكمالات لائقة بها ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ فكأنّه أخذها ربّها من امّها وسلّمها لزكريّا. (٣)

قيل : إنّ الحكم في تلك الشّريعة أنّه لم يكن التّحرير جائزا ، إلّا في غلام عاقل قادر على خدمة المسجد ، ومن حسن القبول أنّ الله بعد تضرّع حنّة ، قبل تحرير بنتها حال صغرها ، وعدم قدرتها على خدمة المسجد (٤) وفي لفظ التّقبّل إشعار بشدّة الاعتناء بقبولها.

﴿وَأَنْبَتَها﴾ ربّها ﴿نَباتاً حَسَناً﴾ وربّاها تربية صالحة كاملة ، وهيّأ لها جميع ما يصلحها.

قيل : إنّها تكلّمت في صباها كما تكلّم المسيح ، ولم تلتقم ثديا قطّ ، وكانت تنمو في اليوم مثل ما ينمو المولود في عام ﴿وَكَفَّلَها﴾ الله ﴿زَكَرِيَّا﴾ وجعله ضامنا لمصالحها ، وقائما بتدبير امورها.

وفي عدّة روايات من طرق أصحابنا أنّه عليه‌السلام كان زوج اختها ، لا زوج خالتها.

وروي أنّها لمّا صارت شابّة ، بنى زكريّا لها غرفة ، وفي رواية : محرابا في المسجد ، والظّاهر أنّ المحراب والغرفة واحد ، ولا يصعد إليها إلّا بسلّم ، ولا يدخل عليها غيره ، وإذا خرج أغلق عليها سبعة

__________________

(١) زاد في تفسير الرازي : من مسّ الشّيطان.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ٢٨.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ٢٨.

(٤) تفسير الرازي ٨ : ٢٨.

٦١٤

أبواب (١) .

ومع ذلك ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً﴾ روي أنّه كان يأتيها رزقها من الجنّة ، وأنّه كان يجد عندها فاكهة الشّتاء في الصّيف ، وفاكهة الصّيف في الشّتاء (٢) ، فتعجّب زكريّا و﴿قالَ﴾ لها : ﴿يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا﴾ الرّزق ، ومن أين جاءك ، ومن أتاك به ، والأبواب مغلقة عليك ؟ ﴿قالَتْ﴾ مريم في جوابه : ﴿هُوَ﴾ نازل عليّ ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فلا تعجب ولا تستبعد ﴿إِنَّ اللهَ﴾ بفضله وجوده ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ﴾ أن يرزقه ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ وتقدير لكثرته ، أو بغير استحقاق ، قيل : إنّ الذّيل (٣) من كلامه عزوجل.

في نزول مائدة الجنة لفاطمة عليها‌السلام كما نزلت لمريم

ثمّ أنّه روى أبو السّعود والبيضاوي في تفسيرهما أنّ فاطمة الزّهراء عليها‌السلام أهدت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رغيفين وبضعة لحم ، فرجع بها إليها ، فقال : « هلمّي يا بنيّة » فكشفت عن الطّبق ، فإذا هو مملوء خبزا ولحما ، وقال لها : « أنّى لك هذا ؟ » قالت : ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل » ، ثمّ جمع عليّا والحسن والحسين عليهم‌السلام وجميع أهل بيته ، فأكلوا وشبعوا ، وبقي الطّعام كما هو ، فأوسعت على جيرانها (٤) .

وعن العيّاشي : عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « إنّ فاطمة عليها‌السلام ضمنت لعليّ عليه‌السلام عمل البيت والعجن والخبز وقمّ البيت (٥) ، وضمن لها عليّ عليه‌السلام ما كان خلف الباب [ من ] نقل الحطب ، وأن يجيء بالطّعام. فقال لها يوما : يا فاطمة ، هل عندك شيء ؟ قالت : لا ، والذي عظّم حقّك ، ما كان عندنا منذ ثلاثة أيّام شيء نقريك (٦) به ، قال : أ فلا أخبرتني ؟ قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهاني أن أسألك شيئا ، فقال : لا تسألي ابن عمّك شيئا ، إن جاءك بشيء عفوا وإلّا فلا تسألية.

قال : فخرج عليّ عليه‌السلام فلقي رجلا فاستقرض منه دينارا ، ثمّ أقبل به وقد أمسى ، فلقي المقداد بن الأسود فقال للمقداد : ما أخرجك في هذه السّاعة ؟ قال : الجوع ، والذي عظّم حقّك يا أمير المؤمنين ، قال [ عليه‌السلام ] : فهو أخرجني ، وقد استقرضت دينارا ، وساوثرك به ؛ فدفعه إليه ، فأقبل فوجد رسول

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ٣٠ ، تفسير روح البيان ٢ : ٢٩.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٢٩.

(٣) الذيل هو قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ).

(٤) تفسير أبي السعود ٢ : ٣٠ ، تفسير البيضاوي ١ : ١٥٨.

(٥) أي كنسه.

(٦) من القرى ، وهو ما يقدّم إلى الضيف من طعام وشراب.

٦١٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا وفاطمة عليها‌السلام تصلّي ، وبينهما شيء مغطّى ، فلمّا فرغت اجترّت (١) ذلك [ الشيء ] ، فإذا جفنة من خبز ولحم ، قال : يا فاطمة ، أنّى لك هذا ؟ قالت : ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا احدّثك بمثلك ومثلها ؟ قال : بلى ، قال : مثل زكريّا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا ﴿قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ فأكلوا منها شهرا ، وهي الجفنة التي يأكل منها القائم ، وهي عندنا » (٢) .

﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى

 مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)

ثمّ لمّا رأى زكريّا كرامة مريم عند الله ، ومنزلتها لديه ، تمنّى أن يكون له من أيشاع زوجته ولد مثل ولد حنّة في الجلالة والكرامة ، وهو عند مريم ﴿هُنالِكَ﴾ وفي مكانه ذلك ﴿دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ وكان دعاؤه أن ﴿قالَ رَبِّ هَبْ لِي﴾ وأعطني ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ ومن محض قدرتك ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ وولدا صالحا مباركا تقيّا مرضيّا ، تستطاب أخلاقه وأفعاله ، كما وهبت لحنّة ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ﴾ ومجيبه ﴿فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي﴾ لربّه ﴿فِي الْمِحْرابِ﴾ الذي كان مكان مريم في المسجد : ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ﴾ يا زكريّا بولد ذكر يكون مسمّى ﴿بِيَحْيى

قيل : إنّه سمّي به ؛ لأنّه يحيا به رحم امّه ، حيث كانت عجوزا عاقرا ، أو تحيا [ به ] القلوب ويحيا به أهل الجنّة والنّار في الآخرة ؛ لإنّه هو الذي يذبح الموت حين يجاء به بصورة الكبش الأملح في المحشر.

في أن يحيى أول من صدّق بنبوة عيسى عليه‌السلام

ومن كمالات ذلك الولد أنّه يكون ﴿مُصَدِّقاً﴾ برسالة عيسى الملقّب ﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ

روي أنّه كان أوّل تصديق يحيى بعيسى أنّه كان لا يصعد إلى مريم في صومعتها غير زكريّا ، وهو يصعد إليها بسلّم ، فإذا نزل أقفل عليها ، ثمّ فتح لها من فوق الباب كوّة صغيرة يدخل عليها منها الرّيح ، فلمّا وجد مريم وقد حبلت ، ساءه ذلك وقال في نفسه : ما كان يصعد إلى هذه أحد غيري

__________________

(١) في تفسير الصافي : اختبرت ، واجترّته : أي جذبته نحوها.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٠٣ / ٦٨١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٠٨.

٦١٦

وقد حبلت ! والآن افتضح في بني إسرائيل لا يشكّون أنّي أحبلتها ، فجاء إلى امرأته وقال لها ذلك ، فقالت : يا زكريّا ، لا تخف ، فإنّ الله لا يصنع بك إلّا خيرا ، فآتني مريم حتّى انظر إليها وأسألها عن حالها.

فجاء بها زكريّا إلى امرأته ، فكفى الله مريم مؤنة الجواب عن السؤال. ولمّا دخلت إلى اختها ، وهي الكبرى ومريم الصّغرى ، لم تقم إليها امرأة زكريّا فأذن الله تعالى ليحيى ، وهو في بطن امّه ، فنخس (١) بيده في بطنها وأزعجها ، وناداها : يا أمّت ، تدخل إليك سيّدة نساء العالمين ، مشتملة على سيّد رجال العالمين فلا تقومي [ إليها ] ! فانزعجت وقامت إليها ، وسجد يحيى وهو في بطن امّه لعيسى بن مريم ، فذلك كان أوّل تصديقه له ، فلذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحسن والحسين : « إنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، إلّا ما كان من ابني الخالة عيسى ويحيى » (٢) .

﴿وَسَيِّداً﴾ فائقا على قومه ، وعلى سائر النّاس في أنّه لم يهمّ بمعصية.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من نبيّ إلّا وقد عصى أو همّ بمعصية ، غير يحيى فإنّه لم يعص ، ولم يهمّ » (٣) .

والمراد بالمعصية ، على تقدير صحّة الرّواية ، هو ترك الأولى.

وعن تفسير الإمام [ العسكري عليه‌السلام ] : في تفسير ( السيّد ) قال : « رئيسا في طاعة الله على أهل طاعته » (٤) .

وعن ابن عبّاس : السيّد : الحليم. وقيل : الفقيه : العالم ، وقيل : المتقدّم المرجوع إليه (٥) .

﴿وَحَصُوراً﴾ مبالغا في حبس نفسه عن مشتهياتها مع القدرة عليها.

روي أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللّعب ، فقال : ما للّعب خلقت (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام في تفسير ( الحصور ) : « هو الذي لا يأتي النّساء » (٧) .

﴿وَنَبِيًّا﴾ صالحا معدودا ﴿مِنَ﴾ الأنبياء ﴿الصَّالِحِينَ﴾ أو ناشئا منهم ؛ لأنّه كان من أصلاب الأنبياء والصّلحاء.

__________________

(١) نخس الدابة : طعن مؤخرها بعود أو نحوه.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٦٠.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ٣٧.

(٤) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٦٠ / ٣٧٤.

(٥) تفسير الرازي ٨ : ٣٦.

(٦) تفسير أبي السعود ٢ : ٣٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣١٠.

(٧) مجمع البيان ٢ : ٧٤٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣١٠.

٦١٧

قيل : إنّ توصيفه بكونه من الصّالحين ، مع أنّ جميع الأنبياء صلحاء ، مشعر بأنّ صلاحه كان أتمّ من صلاح سائر الأنبياء ، فيكون المعنى : أنّه من الصّالحين من بين سائر الأنبياء. وفي الصّلاح ينتظم الخير كلّه.

وعن تفسير الإمام عليه‌السلام : « ما ألحق الله صبيانا برجال كاملي العقول إلّا هؤلاء الأربعة : عيسى بن مريم ، ويحيى بن زكريّا ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام » (١) .

﴿قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ

 يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ

رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)

ثمّ لمّا كان قول جبرئيل عن الله ، وحكاية لقوله ، خاطب زكريّا ربّه و﴿قالَ﴾ استبعادا عاديّا ، أو تعجّبا ، أو استفهاما وسرورا بالولد : ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ﴾ وكيف يحصل ﴿لِي﴾ بحسب العادة ﴿غُلامٌ﴾ وولد ذكر ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ في السّنّ ، وأدركني الهرم ؟

قيل : كان له ستّون سنة. وقيل : خمس وستّون. وقيل : سبعون. وقيل : خمس وسبعون. وقيل : خمس وثمانون. وقيل : اثنتان وتسعون. وقيل : تسع وتسعون. وقيل : مائة وعشرون.

وفيه إشعار بأنّ كبر السّنّ ، من حيث إنّه طلائع الموت ، طالب للإنسان.

ثمّ بعد ذكر قصور نفسه ، ذكر قصور زوجته بقوله : ﴿وَامْرَأَتِي عاقِرٌ﴾ لم تلد أبدا ، والكبر والعقم منافيان للولادة غاية المنافاة.

قيل : كان لزوجته مع عقمها ، ثمان وتسعون سنة (٢) .

﴿قالَ﴾ الله تعالى ، أو الملك : ﴿كَذلِكَ﴾ الفعل العجيب من خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر ﴿اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقة للعادة.

ثمّ نقل أنّه جاء الشّيطان زكريّا عند سماعة البشارة ، فقال : إنّ هذا الصّوت من الشّيطان ، وقد سخر منك ، فلذا اشتبه الأمر على زكريا (٣) و﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ علامة دالّة على أنّ تلك البشارة من

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٥٩ / ٣٧٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣١٠.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ٣٩.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ٣٩.

٦١٨

الوحي وكلام الملائكة ، لا من إلقاء الشّيطان.

وقيل : إنّ المراد : اجعل لي علامة تدلّ على تحقّق مسؤولي ، ووقوع الحبل والعلوق ؛ لأنّه أمر خفيّ ، حتّى أتلقّى تلك النّعمة الجليلة بالشّكر من حين حصولها (١) .

وقيل : إنّ سؤال الآية كان بعد البشارة بثلاثة أشهر. وقيل : بثلاث سنين. وهذا الاختلاف مبنيّ على الاختلاف في التّفاوت بين سنّ يحيى وعيسى أنّه ستّة أشهر أو ثلاث سنين.

ثمّ عقيب سؤال الآية بلا فصل ﴿قالَ﴾ الله تعالى ، أو الملك : ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ ولا تقدر على النّطق بغير الذّكر والتّسبيح والشّكر ﴿ثَلاثَةَ أَيَّامٍ﴾ متواليات بلياليها ﴿إِلَّا رَمْزاً﴾ وإشارة بيد ، أو رأس ، أو غيرهما.

قيل : إنّما جعل عجزه عن الكلام الدّنيوي آية ليخلص أوقاته بالذّكر والشّكر قضاء لحقّ هذه النّعمة العظيمة (٢) .

عن العيّاشي : عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ولدا (٣) ونادته الملائكة بما نادته به ، أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصّوت من الله ، فأوحى إليه أنّ آية ذلك أنّ يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيّام ، فلمّا أمسك لسانه ولم يتكلّم ، علم أنّه لا يقدر على ذلك إلّا الله » (٤) .

عن العيّاشي : عن أحدهما عليهما‌السلام : « أنّه كان يؤمئ برأسه » (٥) .

وقيل : إنّ المراد من التّكلّم : كلّ ما أدّى المراد ولو كان غير اللّفظ ، وعلى هذا يكون الاستثناء متّصلا.

وقيل : إنّه عليه‌السلام عوقب بذلك من حيث سؤال الآية بعد بشارة الملائكة ، فأخذ الله لسانه ، وصيّره بحيث لا يقدر على الكلام (٦) .

﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ في حبس لسانك ذكرا ﴿كَثِيراً﴾ أداء لشكر النّعمة ﴿وَسَبِّحْ﴾ ربّك ﴿بِالْعَشِيِ﴾ وهو من الزّوال إلى الغروب ﴿وَالْإِبْكارِ﴾ وهو من طلوع الفجر إلى الضّحى. وقيل : إنّ المراد بالتّسبيح هو الصّلاة (٧) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٣١.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٣١.

(٣) في المصدر : ذكرا.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٣٠٥ / ٦٨٣ ، تفسير الصافي ١ : ٣١١.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٣٠٥ / ٦٨٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣١١.

(٦) تفسير الرازي ٨ : ٤١.

(٧) تفسير الرازي ٨ : ٤٢ ، تفسير أبي السعود ٢ : ٣٤.

٦١٩

﴿وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ

الْعالَمِينَ (٤٢)

ثمّ عاد سبحانه إلى قصّة اصطفاء مريم ، عطفا على قوله : ﴿إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ(١) بقوله : ﴿وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ﴾ وفي العدول عن ( نادت ) إلى ( قالت ) إشعار بأنّ مريم رأت جبرئيل ، فخاطبها وشافهها بقوله : ﴿يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ﴾ أوّلا بأن تقبّلك من امّك لخدمة المسجد بقبول حسن ، وأنبتك نباتا حسنا ، وربّاك في حجر زكريّا ، ورزقك من فواكه الجنّة ، وأكرمك بكرامات سنيّة.

عن الباقر عليه‌السلام : « معنى الآية : اصطفاك من ذرّيّة الأنبياء » (٢) .

﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من رجس الكفر ، ودنس المعاصي ، ورذائل الأخلاق الرّوحانيّة ، وذمائم الصّفات النّفسانيّة ، والشّهوات الحيوانيّة ، ومسيس الرّجال ، والأنجاس الجسمانيّة من الحيض والنّفاس وغيرهما من الأذى.

وعن الباقر عليه‌السلام : « طهّرك من السّفاح » (٣) .

﴿وَاصْطَفاكِ﴾ آخرا وفضّلك ﴿عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ﴾ بأن وهب لك عيسى من غير أب - كما عن الباقر عليه‌السلام ما يقرب منه (٤) - وشرّفك بصحبته وخدمته إيّاك ، وجعلك وابنك آية للعالمين.

في نقل كلام الفخر الرازي وردّه

قال الفخر الرّازي : روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « حسبك من نساء العالمين أربع : مريم ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ، وفاطمة عليهنّ السّلام » .

ثمّ قال : فقيل : هذا الحديث دلّ على أنّ هؤلاء الأربع أفضل من سائر النساء ، وهذه الآية دلّت على أنّ مريم عليها‌السلام أفضل من الكلّ ، وقول من قال : المراد أنّها مصطفاة على عالمي زمانها ، فهذا ترك للظّاهر (٥) .

أقول : بل هو عمل بنصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في الرّواية التي تكون من المسلّمات بين الفريقين ، من قوله : « الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة [ نساء ] بني إسرائيل » (٦) فإنّه صريح في أنّ سيادتها مختصّة بنساء بني إسرائيل. وقد دلّت الرّوايات الكثيرة من طرق أصحابنا على أنّ فاطمة عليها‌السلام أفضل من الكلّ.

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ٣٥.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٧٤٦ ، تفسير الصافي ١ : ٣١١.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٧٤٦ ، تفسير الصافي ١ : ٣١١.

(٤) نفس المصدر.

(٥) تفسير الرازي ٨ : ٤٣.

(٦) البداية والنهاية ٦ : ١١٥ ، الدر المنثور ٢ : ١٨٦.

٦٢٠