نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه إلّا الله وأنبياؤه (١) والرّاسخون في العلم ، وإنّما فعل [ الله ] ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل - من المستولين على ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله - من علم الكتاب ما لم يجعله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار بمن ولّاه أمرهم ، فاستكبروا عن طاعته تعزّزا وافتراء على الله عزوجل ، واغترارا بكثرة من ظاهرهم ، وعاونهم ، وعاند الله جلّ اسمه ورسوله » (٢) .

وروى الفخر الرّازي عن ابن عبّاس أنّه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يسع أحدا جهله ، وتفسير تعلمه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله (٣) .

عن ( الكافي ) : عن الصّادق عليه‌السلام : « نحن الرّاسخون في العلم ، ونحن نعلم تأويله » (٤) .

وفي رواية : « فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الرّاسخين في العلم ، قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التّنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه » (٥) .

ثمّ وصف سبحانه وتعالى الرّاسخين في العلم بأنّهم - مع علمهم بالتّأويل ، وفهمهم حقيقة المتشابه كالمحكم - ﴿يَقُولُونَ﴾ بألسنتهم طبقا لما في قلوبهم : ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ وصدّقنا بحقيقة المراد منه ، فإنّه ﴿كُلٌ﴾ من الآيات المتشابهات ، أو منها ومن المحكمات ، حقّ نازل ﴿مِنْ عِنْدِ رَبِّنا

ويمكن أن يكون حكاية هذا القول عنهم ، لتعليم المؤمنين الّذين لا يعلمون التّأويل أن يقولوا مثله ، ولا يشكّوا - لعدم فهم المراد من المتشابه - في أنّه من عند الله ، ولا يخوضوا في تفسيره بالظنون والاستحسانات ، بل عليهم أن يؤمنوا به ، ويسلّموا له ، ويفوّضوا علمه إلى الله تعالى ، وإلى خزّان علمه ومهابط وحيه.

ذكر قول بعض العامة ورده

قيل : إنّ ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ مبتدأ ، وقوله : ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ خبره ، وإنّ المتشابه هو ما استأثر الله بعلمه وبمعرفة الحكمة فيه ، كعدد الزّبانيّة ، وعدّة بقاء الدّنيا ، ووقت قيام السّاعة ، إلى غير ذلك (٦) .

وهذا القول في غاية الفساد ، إذ يلزمه أن يكون الرّسول جاهلا بكثير من الآيات ، وغير مطّلع بالمراد ممّا انزل إليه ، مع أنّ القرآن نزل لينتفع النّاس به ، ولو ببيان حملته وأوعية علمه ، فلو كان فيه ما لا

__________________

(١) في الاحتجاج : وامناؤه.

(٢) الاحتجاج : ٢٥٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٥.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ١٧٨.

(٤) الكافي ١ : ١٦٦ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٥.

(٥) الكافي ١ : ١٦٦ / ٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٥.

(٦) تفسير روح البيان ٢ : ٥.

٥٨١

يعلمه إلّا الله لكان تنزيله لغوا ، لعدم انتفاع أحد به ، تعالى عن ذلك.

﴿وَما يَذَّكَّرُ﴾ ولا يفهم حقيقة تأويل المتشابهات ، وحكمة نزولها حقّ التّذكّر والتّفهّم أحد ﴿إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ وأصحاب العقول السّليمة من غلبة الشّهوات ، وذوو الأفهام المستقيمة الخالصة عن شوائب الأهواء الزائغات.

ومن الواضح أنّ هذا المدح الفائق ، والثّناء الرّائق ، لا يليق إلّا بمن يصيب الحقّ ، ويهتدي إلى حقيقة المراد ، ويصل إلى أصل المقصود من كلام الملك العلّام ، بجودة الذّهن ، وإصابة النّظر ، وتنوّر الفكر ، وتجرّد العقل عن غواشي الحسّ والأوهام.

﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)

 رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)

ثمّ لمّا كان جميع الخيرات والكمالات حدوثا وبقاء بإفاضة الله ولطفه وتوفيقه ، كان على المؤمن اللّبيب أن لا يغترّ بوجدان خير ، ولا يطمئنّ ببقاء كمال ودوام فضيلة ، بل عليه أن يتضرّع إلى الله ، ويسأل إدامته منه تعالى.

فلذا مدح الله الرّاسخين في العلم بأنّهم الّذين يقولون ، تضرّعا واستكانة : ﴿رَبَّنا﴾ ويا من بلطفه تكميل نفوسنا ، وتوفيق هدايتنا ﴿لا تُزِغْ﴾ ولا تمل ﴿قُلُوبَنا﴾ عن نهج الحقّ ، في تأويل المتشابهات وغيره ، إلى الباطل والضّلال ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا﴾ إلى الحقّ والصّواب ، في العقائد والأعمال والتّأويل والتّفسير.

وقيل : إنّ المراد : لا تبتلنا ببلاء تزيغ منه قلوبنا.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن ، إن شاء أقامه على الحقّ ، وإن شاء أزاغه عنه » (١) .

والظّاهر أنّ كلمة ( الإصبعين ) كناية عن رضا الله وغضبه ، أو عن الملك المرشد والشّيطان المغوي ، أو عن التّوفيق والخذلان.

ثمّ أنّهم - بعد سؤال أن لا يسلب الله عنهم ما ألبسهم من الكمال ، ولا يستردّ ما أعطاهم من العلم

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٩.

٥٨٢

وتوفيق الرّشد إلى الحقّ - سألوا زيادة الرّحمة والعلم والتّوفيق بقولهم : ﴿وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ﴾ ومن خزائن جودك ﴿رَحْمَةً﴾ نفوز بها إلى أعلى درجات قربك ورضوانك ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ للخيرات ، المعطي المعطي للسّؤلات. والتّذييل به للإشعار بأنّ هذا المسؤول في جنب عطاياه الكثيرة ، في غاية القلّة.

عن الكاظم عليه‌السلام ، في حديث : « يا هشام ، إنّ الله تعالى قد حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا : ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ حين علموا أنّ القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها ، إنّه من لم يخف الله (١) لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدّقا ، وسرّه لعلانيته موافقا ؛ لأنّ الله تعالى لم يدلّ على الباطن الخفيّ من العقل إلّا بظاهر منه ، وناطق عنه » (٢) .

عن العيّاشي ، عن الصّادق عليه‌السلام : « أكثروا من أن تقولوا : ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا﴾ ولا تأمنوا الزّيغ » (٣) . وفي الآية دلالة على أنّ الهداية والضّلال بتوفيق الله وخذلانه.

ثمّ لبيان شدّة افتقارهم إلى التّحفّظ عن الزّيغ وشمول الرّحمة ، عرضوا على ربّهم كمال اطمئنانهم وقوّة يقينهم بالمعاد والحشر في القيامة ، للجزاء على العقائد والأعمال ، بقولهم : ﴿رَبَّنا إِنَّكَ﴾ وعدت العباد في كتابك الحقّ ، وبلسان نبيّك الصّادق ، أنّك ﴿جامِعُ النَّاسِ﴾ بعد الموت ، وحاشرهم ﴿لِيَوْمٍ﴾ عظيم ، حتّى تحاسب فيه أعمال العباد ، وتثيب فيه المؤمن المطيع ، وتعاقب فيه الكافر والعاصي ، و﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لنا ، ولكلّ عاقل بصير من حيث وقوعه وعظمته وشدّة أهواله ، وإنّ من زاغ قلبه ليبتلى بعذاب أليم دائم ، ومن أعطيته التّوفيق والهداية وشملته الرّحمة ، ينال السّعادة والكرامة والنّعم الباقية كما وعدت ﴿إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ﴾ وذكر اسم الجلالة لبيان مباينة خلف الوعد لالوهيّته المستلزمة للحكمة والغنى والتنزّه عن كلّ نقص.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ

__________________

(١) في الكافي : إنه لم يخف الله من.

(٢) الكافي ١ : ١٤ / ١٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٦.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٩٤ / ٦٤٩ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٧.

٥٨٣

هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)

ثمّ - لمّا علم أنّ هذا الإيمان همّهم في طلب الهداية إلى الحقّ في الدّنيا ، ونيل الرّحمة ، والفوز بالسّعادة في الآخرة ، لا في المال والأولاد والحطام الفانية ، بخلاف الكفّار وأهل الزّيغ المتّبعين للمتشابهات ، كما نقل أنّ بعض الوفد (١) بعد اعترافه بأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله هو النبيّ الموعود المنتظر ، قال : إن آمنّا به أخذ منّا أموالنا وذهب جاهنا عند الملوك - بيّن الله حال الكفّار في الآخرة ، وهدّدهم بشديد عقابه ، وأنّ أموالهم لا تنجيهم منه بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من نصارى نجران ، وسائر صنوف المعاندين للحقّ ، تنقطع عنهم وسائل النّجاة من العذاب في الآخرة ، حيث إنّه ﴿لَنْ تُغْنِيَ﴾ ولا تجزي أبدا ﴿عَنْهُمْ﴾ في الآخرة ، أو فيها وفي الدّنيا ﴿أَمْوالُهُمْ﴾ التي جمعوها واكتسبوها في الدّنيا ، بقصد جلب المنافع ودفع المضارّ عن أنفسهم بها ﴿وَلا أَوْلادُهُمْ﴾ الّذين يعوّلون عليهم في الخطوب ، ويتناصرون بهم في دفع الكروب ﴿مِنَ﴾ عذاب ﴿اللهِ﴾ أو من عند الله ﴿شَيْئاً﴾ قليلا من الإغناء ، أو من العذاب.

وتخصيص الأموال والأولاد من وسائل الدّفاع والنّجاة بالذّكر ، لكونهما من أهمّها وأقواها ، وتقديم ذكر الأموال لأنّها أوّل عدّة يفزع إليها عند الملمّات.

﴿وَأُولئِكَ﴾ البعيدون عن رحمة الله ، بعد قطع امنيات الخلاص ﴿هُمْ﴾ خاصّة ﴿وَقُودُ النَّارِ﴾ فتشتعل نار جهنّم فيهم كاشتعالها في الحطب والحشائش. وهذا أوضح بيان لكمال ملابستهم بالنّار ، ولسوء حالهم ، وتهويل شأنهم.

﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ

 شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ

 الْمِهادُ (١٢)

ثمّ بيّن الله تعالى أنّ عادة هؤلاء الكفّار وشأنهم ؛ في التّمادي في الكفر ، وتكذيب الرّسول ، والتّمرّد عن الحقّ ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ ومثل شأنهم ﴿وَ﴾ شأن ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من العتاة والمردة ومعاملتهم معك كمعاملتهم مع موسى عليه‌السلام وسائر الأنبياء العظام عليهم‌السلام.

__________________

(١) وفد نصارى نجران المتقدّم ذكره في أول السورة.

٥٨٤

ثمّ كأنّه قيل : كيف كان شأنهم وحالهم مع الأنبياء ؟ فأجاب سبحانه : بأنّهم ﴿كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ وجحدوا المعجزات التي أظهروها ، وأعرضوا عن البراهين العقليّة التي أقاموها ، فنسبوا المعجزات الباهرات إلى السّحر ، والبراهين السّاطعات إلى أساطير الأوّلين وتلفيقات المجانين ﴿فَأَخَذَهُمُ اللهُ﴾ وعذّبهم ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ الموبقة في الدّنيا بأنواع العذاب ؛ من الغرق والخسف والصّيحة وغيرها ﴿وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ وذكر اسم الجلالة وتكراره لإظهار الرّوعة وتربية المهابة.

ثمّ أكّد سبحانه تهديد الكفّار والمردة - لازدياد الرّعب في قلوبهم - بتوعيدهم بعذاب الدّنيا ؛ من القتل والتشريد ، مع عذاب الآخرة ، بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ، وبما انزل إليك ؛ من اليهود والنّصارى وعبدة الأوثان : إنّكم أيّها الطّغاة ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ عن قريب ، وتقهرون بأيدي المسلمين وسيوفهم في الدّنيا ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾ من قبوركم ، وتساقون في الآخرة ﴿إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ﴾ والفراش ، وساء المقرّ الذي هيّأتموه لأنفسكم من النّار.

روي أنّها نزلت قبل وقعة بدر ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لمشركي قريش يوم بدر : « إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنّم ، وبئس المهاد » (١) .

وعن ابن عبّاس : أنّ يهود المدينة لمّا شاهدوا وقعة بدر ، قالوا : والله هذا هو النبيّ الأمّيّ الذي بشّرنا به موسى في التوراة ، ونعته بأنّه لا تردّ له راية ، وهمّوا باتّباعه ، فقال بعضهم : لا تعجلوا حتّى ننظر إلى وقعة اخرى له. فلمّا كان يوم أحد شكّوا - وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إلى مدّة فنقضوه - وانطلق كعب بن أشرف في ستّين راكبا إلى أهل مكّة ، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت [ الآية ](٢) .

وروي عن بعض العامّة ، ونسب أيضا إلى روايات أصحابنا : أنّه لمّا أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشا ببدر ، وقدم المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع ، فقال : « يا معشر اليهود ، أحذروا من الله بمثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، وقد عرفتم أنّي نبيّ مرسل » فقالوا : يا محمّد لا يغرّنّك أنّك لقيت قوما أغمارا (٣) لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة ، أما والله لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن النّاس ، فنزلت [ الآية ](٤) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ١١.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١١.

(٣) الأغمار : جمع غمر ، وهو من لم يجرّب الأمور ، ولا علم له بها.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٧٠٦.

٥٨٥

في إخبار القرآن بالغيب ووهم ودفع

وعلى أيّ تقدير ، فهذه الآية دالّة على إخبار الله بغلبة المسلمين على اليهود وسائر المشركين ، قبل وقوعها ، عن جزم ويقين ، مع وجود الأمارات العاديّة - من ضعف المسلمين ، وشوكة الكفّار - على خلافه.

ثمّ صدّق الله الوعد بقتل بني قريظة ، وإجلاء بني النّضير ، وفتح خيبر ، ووضع الجزية على من بقي منهم ، وخذلان المشركين ومغلوبيّتهم وطردهم وتشريدهم مع كثرة شوكتهم. فلا شبهة أنّ هذا الإخبار - كإخبار عيسى عليه‌السلام بما يأكلون وما يدّخرون - من آيات النّبوّة ، وصدق النبيّ في دعواه.

إن قيل : لعلّ وقوع ما أخبر به كان من الاتّفاقيّات ، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة.

قلنا : من المتفّق عليه بين العقلاء أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أعقل أهل عصره ، لو لم يكن أعقل عقلاء العالم ، ولا ريب أنّ العاقل إذا أدّعى أمرا كالنّبوّة ، وكان ظهور كذبه في خبر مبطلا لدعواه ، يمتنع أن يخبر عن الجزم واليقين بأمر يكون في نفسه احتمال خلافه ، وقد أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بغلبته على الكفّار عن جزم ويقين ، مع تراكم الأمارات العاديّة على خلافها ، وعدم إمكان الجزم إلّا بالوحي.

فإن قيل : لعلّ الجزم به حصل له بطريق الجفر والحساب ، أو علم النّجوم ، أو الكهانة.

قلنا : مضافا إلى أنّ هذا الاعتراض وارد على إخبار عيسى عليه‌السلام - وغيره من الأنبياء - بالمغيّبات ، فما كان دافعا لهم في إخبارهم كان دافعا له في إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه لا شبهة أنّ تحصيل هذه العلوم محتاج في العادة إلى التّعلّم من أهلها ، والحضور عندهم ، ومن المسلّم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان امّيّا لم يحضر عند عالم ، ولم يتعلّم من أحد ، ولم يراجع كتابا ، فلا بدّ من اليقين بكون إخباره بالمغيّبات بالوحي.

﴿قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ

مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي

 الْأَبْصارِ (١٣)

ثمّ استشهد سبحانه على صدق هذا الإخبار الذي كان معدودا من المحالات ، وتحقّق وقوعه فيما بعد بتأييده تعالى ونصره ، لا بكثرة العدد والعدّة ، بقضيّة بدر التي أشار إليها إجمالا بقوله : ﴿قَدْ كانَ لَكُمْ﴾ أيّها اليهود في وقعة بدر ﴿آيَةٌ﴾ عظيمة ، ودلالة واضحة على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق الإخبار بغلبة المسلمين ، وهي ما وقع ﴿فِي﴾ شأن ﴿فِئَتَيْنِ﴾ وفرقتين متبارزتين ، حين ﴿الْتَقَتا﴾ وتراءتا في

٥٨٦

وادي بدر ؛ إحداهما ﴿فِئَةٌ﴾ مؤمنة ، قليلة العدّة والعدد ، وهم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه ، وكانت تلك الفئة ﴿تُقاتِلُ﴾ وتجاهد ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطاعته ، وطلبا لمرضاته ، ﴿وَ﴾ فئة ﴿أُخْرى﴾ منهما ﴿كافِرَةٌ﴾ بالله ورسوله ، وهي طائفة قريش ، وفيها صناديدهم وشجعانهم ، حيث صمّموا على قتال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه حين سمعوا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قصد عيرهم.

وإنّما لم يوصف قتال الفئة الكافرة بكونه في سبيل الطّاغوت ؛ لوضوح أنّ قتالهم كان على ضدّ قتال الفئة المؤمنة ، ولعدم الاعتداد بقتالهم ، وللإشعار بأنّهم لم يكونوا قاصدين له لما اعتراهم من الرّعب.

روي أنّ المشركين كانوا تسعمائة وخمسين رجلا مقاتلا ، وكان رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم أبو سفيان بن حرب وأبو جهل ، وقادوا مائة فرس ، وكان فيهم سبعمائة بعير ، وأهل الخيل كانوا كلّهم دارعين ، وكان في الرجّالة دروع سوى ذلك ، ومن أصناف الأسلحة عدد لا يحصى.

وكان المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ؛ سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار ، وكان صاحب راية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمهاجرين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة الخزرجي ، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان ، أحدهما للمقداد بن عمرو والآخر لمرثد بن أبي مرثد ، وست أدرع وثمانية سيوف (١) .

فلمّا تراءت الفئتان كان المشركون إذا نظروا إلى المسلمين ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ مع كونهم قريبا من ثلثهم ﴿مِثْلَيْهِمْ﴾ وضعف عددهم - أي ستمائة ونيفا وعشرين ، بناء على إرجاع ضمير ( مثليهم ) إلى المسلمين ، ويحتمل رجوعه إلى المشركين ، فيكون عدد المسلمين في نظرهم ألفا وتسعمائة (٢) - رؤية ظاهرة لكونها ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ لا يحتمل الالتباس فيها ، كما يحتمل في سائر المعاينات ، وقيل : إنّ المراد رؤية المعاينة ، من غير محاسبة.

قيل : إنّ الله تعالى قلّل المسلمين أوّلا في أعين المشركين ، حين التقت الفئتان ، ليتجرّأوا على قتال المسلمين ، وقلّل المشركين في أعين المسلمين ، لئلّا يتخاذلوا في قتالهم ﴿لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً(٣) كما في سورة الأنفال ، فلمّا تبارزوا للقتال ، واشتبكت الحرب ، كثّر الله المسلمين في أعين

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ١٨٩ ، تفسير أبي السعود ٢ : ١٣.

(٢) في النسخة : ألفا وست مائة.

(٣) الأنفال : ٨ / ٤٢.

٥٨٧

المشركين ، ليخذلهم بالرّعب ، فكان التّقليل والتّكثير في حالين مختلفين ، وكان أبلغ في القدرة وإظهار الآية (١) .

روي عن سعد بن أوس أنّه قال : أسر المشركون رجلا من المسلمين ، فسألوه : كم كنتم ؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر. قالوا : ما كنّا نراكم إلّا تضعفون علينا (٢) .

ويحتمل أن يكون المراد أنّ الله قلّل المشركين في آعين المسلمين حتّى رأوا أنفسهم مثلي المشركين ، ويمكن كون تكثير المسلمين في نظرهم أو في نظر المشركين بدخول الملائكة فيهم ، أو بالتّصرّف في القوّة الواهمة.

في بيان معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقعة بدر

ثمّ اعلم أنّه كانت في تلك الواقعة آيات كثيرة ، ومعجزات عديدة ظاهرة.

منها : إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بنصرتهم على قريش قبل الواقعة.

ومنها : التّقليل والتّكثير اللّذان حكاهما الله تعالى في هذه الآية وفي سورة الأنفال.

ومنها : إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل القتال بأنّ هنا مصرع فلان ، وهنا مصرع فلان ، فلمّا أنقضت الوقعة رأوا ما وقع مطابقا لما أخبر به.

ومنها : تأييد الله تعالى المسلمين بألف من الملائكة مردفين (٣) روي أنّه كان سيماء الملائكة أنّه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض (٤) .

﴿وَاللهُ يُؤَيِّدُ﴾ ويقوّي ﴿بِنَصْرِهِ﴾ وعونه ، بلا توسيط الأسباب العاديّة ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ نصره من عباده ، كما أيّد أصحاب بدر بالملائكة ، وأيّد الرّسول والمؤمنين على الكفّار بالحجج البالغة ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من إراءة الجمع القليل كثيرا ﴿لَعِبْرَةً﴾ عظيمة وموعظة وهداية ظاهرة كائنة ﴿لِأُولِي الْأَبْصارِ﴾ الصّحيحة ، وذوي البصائر النّافذة ، والعقول السّليمة.

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ

وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا

وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٨.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١٣ ، تفسير روح البيان ٢ : ٨.

(٣) كما في سورة الأنفال : ٨ / ٩.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ١٩٠.

٥٨٨

ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان آية التّوحيد والنّبوّة الظّاهرة في قضيّة بدر والتّنبيه على لزوم اعتبار ذوي الأبصار بها - بيّن علّة عمى القلوب وعدم تأثّرها بها بقوله : ﴿زُيِّنَ﴾ وحسّن بوساوس الشّيطان واقتضاء الطّبيعة ﴿لِلنَّاسِ﴾ نوعا ﴿حُبُّ الشَّهَواتِ﴾ وتعلّق القلوب بالنّفسانيّات والمستلذّات.

وفي التّعبير عنها بالشّهوات دون المشتهيات إيذان بأنّهم من شدّة حبّها ، كأنّهم يحبّون شهوتها ، وإشعار بغاية رذالتها ، لوضوح أنّ الشّهوة من صفات البهائم.

وتزيّن حبّها بحسبانهم أنّ حبّها مقتضى العقل وكمال النّفس ، ولذا يلومون المعرض عنها وينسبونه إلى السّفه ، مع وضوح أنّ حبّها لا يكون إلّا من ضعف العقل وغلبة الحيوانيّة وفقد البصيرة بحقائقها.

ثمّ فصّل سبحانه عمد المشتهيات بأنّها ﴿مِنَ﴾ قبيل جنس ﴿النِّساءِ﴾ اللّاتي لعرافتهنّ في معنى الشّهوة عددن من حبائل الشّيطان ، وقدّمن في الذّكر.

ثمّ اردفن بقوله : ﴿وَالْبَنِينَ﴾ الّذين هم من أعظم الفتن ، كما قيل : أولادنا فتنة ، إن عاشوا فتنونا ، وإن ماتوا أحزنونا (١) .

وتخصيص البنين بالذّكر من بين الأولاد ، لكون حبّهم - من جهة السّرور والتّكثّر - أكثر من حبّ البنات ، بل كان العرب يكرهونهنّ ، كما قال تعالى : ﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(٢) .

والافتتان بهم يشغل القلب بهم عن ذكر الله ، والاهتمام بحفظ خاطرهم بالتّعرّض لمعصيته ، والحرص على جمع الأموال لهم من الحلال أو الحرام ، ولذا عقّب ذكرهم بقوله : ﴿وَالْقَناطِيرِ﴾ وهو جمع قنطار.

روي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : « أنّه (٣) ملء مسك ثور من الذّهب » (٤) ، وقيل : مائة ألف دينار. وقيل : ثمانون ألف. وقيل : سبعون ألف : وقيل : أربعون ألف مثقال من الذّهب. وقيل : ألف ومائتا مثقال. وقيل : ألفا دينار (٥) . وقيل : ألف. وقيل : أثنا عشر ألف درهم (٦) . وعلى أي تقدير هي كناية عن المال الكثير.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ١٠.

(٢) النحل : ١٦ / ٥٨.

(٣) أي القنطار.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٧١٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٨.

(٥) تفسير أبي السعود ٢ : ١٤.

(٦) تفسير الرازي ٧ : ١٩٦.

٥٨٩

﴿الْمُقَنْطَرَةِ﴾ مأخوذة من القنطار ، قيل : جيء بها للتّأكيد. وقيل : معناه : الكثيرة ، المنضّدة بعضها على بعض. وقيل : المضروبة المنقوشة ، حال كونها ﴿مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ

وعلّة حبّهما كونهما ثمن سائر الأشياء ، فمالكهما كمالك جميع الأشياء ، ولذا قدّمهما سبحانه بالذّكر على قوله : ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ والافراس المرسلة من كثرتها ، للرّعي ﴿وَالْأَنْعامِ﴾ الثّلاثة من الإبل والبقر والغنم ، بأصنافها ﴿وَالْحَرْثِ﴾ من الغرس والزّرع.

وحبّ هذه الأشياء وإن كان ممّا يقوم به نظام العالم ويتمّ عيش بني آدم ، إلّا أنّها لمّا كانت في الأغلب ملهية عن ذكر الله وشاغله عن طاعته ، ذمّها سبحانه بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من المشتهيّات ﴿مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ الدّنيّة الفانية ، وملذّاتها اليسيرة الزائلة.

فلا ينبغي للعاقل المؤمن أن يتوجّه إليها ، ويتعلّق قلبه بها ، ويصرف همّه فيها ، بل عليه أن يتوجّه بكلّه إلى الله والدّار الآخرة ، ويجعل حبّ هذه الامور تابعا لحبّ الله ، وتحصيلها وصلة إلى طاعة الله ومرضاته ؛ لوضوح أنّ جميع هذه النّعم مقدّمات للأعمال الصّالحة ، ووسائل لتحصيل الدّرجات الاخرويّة.

في أنّ المؤمن يحبّ الدنيا لتحصيل الآخرة بها

فالمؤمن اللّبيب يحبّ المال ويكتسبه للإنفاق في سبيل الله ، والإرفاق بعباده ؛ ويحرث لأن يوفّق لأداء الزكاة ، ويتّجر للتّوسعة على العيال والصّدقة على الفقراء ، ويتزوّج لتحصين الفرج من الحرام وحفظ الإيمان وتكثير النّسل وتثقيل الأرض بالولد الموحّد الصّالح ، ويأكل ويشرب للتّقوّي على الطّاعة ، والقيام بوظائف العبوديّة.

والحاصل : أنّ المؤمن يحبّ الدّنيا وما فيها لغرض تحصيل الآخرة ، ولذا فسّر قوله تعالى : ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً(١) بالمرأة الصّالحة وسعة الرّزق. فاتّضح أنّ حبّ الدّنيا لحبّ الله وطلب مرضاته ، ليس الحبّ المذموم ، بل هو ممدوح غايته ، لكونه عين حبّ الله وحبّ طاعته ومرضاته ، فإنّ من يتحمّل شرب الدّواء المرّ للبرء من المرض وطلب السّلامة منه ، لا يعدّ محبّا للدّواء ، بل هو محبّ للبرء من المرض ، وطالب له.

والحاصل : أنّ المؤمن الكامل لا ينال من الدّنيا إلّا لنيل الآخرة ، والقرب من الله ، ومع قطع النّظر عن ذلك يكون مبغضا لها ومعرضا عنها ، وتكون عنده أهون من عراق (٢) خنزير في يد مجذوم ، وأضرّ من

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٢٠١.

(٢) العراق : العظم اكل لحمه.

٥٩٠

السّمّ ، فكيف يلتذّ المؤمن بلذائذ الدّنيا ، ويشتاق إليها ، وهو يعلم أنّه مفارقها ، وتبقى عليه تبعاتها ؟ التي أقلّها أن يقال له في الآخرة : ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها(١) .

﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ والمرجع من الجنّة ونعمها الباقية.

﴿قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

 الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)

ثمّ بعد الإشارة الإجماليّة الى فضيلة نعم الآخرة على نعم الدّنيا ، ذكر سبحانه اصول نعم الآخرة تفصيلا بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لامّتك : ﴿أَ أُنَبِّئُكُمْ﴾ وهل اخبركم ﴿بِخَيْرٍ﴾ وأحسن ﴿مِنْ ذلِكُمْ﴾ المشتهيات الدّنيويّة ؟

ثمّ لمّا كان السّؤال مقتضيا للجواب ، فكأنّه قيل في الجواب : نعم أنبئنا وأخبرنا ، فقال : ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الله ، وخافوا عقابه في مخالفة أحكامه وعصيان تكاليفه ، وأعرضوا من الدّنيا ، وأقبلوا إلى الآخرة ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ اللّطيف بهم تفضّلا منه عليهم ﴿جَنَّاتٌ﴾ متعدّده لكلّ واحد منهم. وقيل : إنّ التعدّد بلحاظ تعدّد الأشخاص.

ثمّ وصف نضارتها بأن لها أشجارا ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، أو الأربعة المعهودة ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ، غير خائفين من الخروج منها ، وزوال نعمها.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « شبر من الجنّة خير من الدّنيا وما فيها » (٢) .

ثمّ لمّا كان من تمام النّعمة الزّوجة الصّالحة الموافقة الأنيسة ، بشّر الله المؤمنين بها بقوله : ﴿وَ﴾ لهم ﴿أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ منزّهة ، طهّرهنّ الله من دنس الحيض والنّفاس والكثافات (٣) الجسمانيّة ، ونزّههنّ من العيوب والأخلاق السّيّئة ؛ كالحسد والغضب والطمع والنّظر إلى غير أزواجهنّ.

ثمّ بشّرهم بعد النّعم الجسمانيّة بأعلى النّعم الرّوحانيّة بقوله : ﴿وَرِضْوانٌ﴾ عظيم لا يوصف ببيان ، كائن ﴿مِنَ اللهِ﴾ من تجلّي أنوار جلاله تعالى ، الذي هو أقصى الآمال ، وأعلى الحظوظ ، ومنتهى الكرامة للمؤمن ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ﴾ المتّقين ، فيثيبهم على حسب درجاتهم ، ويجازيهم على قدر زهدهم في الدّنيا ، وإقبالهم إلى الله ، وقيامهم بوظائف العبوديّة.

__________________

(١) الأحقاف : ٤٦ / ٢٠.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١٠.

(٣) يريد بها الأوساخ.

٥٩١

﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ

وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)

ثمّ عرّف الله سبحانه عباده المتّقين ، المعدّ لهم هذه الكرامات ، ومدحهم أوّلا باليقين بالمبدأ والمعاد ، والخوف والخشية بقوله : ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ بلسان قالهم وحالهم : ﴿رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا﴾ بوحدانيّتك ، ونبوّة نبيّك ، وصدق كتابك ، ودار ثوابك وعقابك ﴿فَاغْفِرْ لَنا﴾ بحرمة الإيمان ﴿ذُنُوبَنا﴾ وإسرافنا على أنفسنا ، واستر خطايانا يوم كشف السّرائر ﴿وَقِنا عَذابَ النَّارِ﴾ واحفظنا منه. وفيه دلالة على أنّ أهمّ حوائج المؤمن في الدّنيا غفران الذّنوب والنّجاة من العذاب.

ثمّ بعد ما مدحهم الله بالإيمان والخوف ، مجّدهم بكمال الأخلاق النّفسانيّة ثانيا بقوله : ﴿الصَّابِرِينَ﴾ على تحمّل مشاقّ الطّاعات ، من أداء الواجبات ، واجتناب المحرّمات ، الحابسين أنفسهم عن الجزع ممّا ينزل بهم من المحن والشّدائد والبليّات. وفي ذكر صفة الصّبر - من الصّفات الكماليّة النّفسانيّة والاقتصار عليها - دلالة على أنّها أكمل الصّفات ، وكونها جامعة لسائر الكمالات.

ثمّ وصفهم ثالثا بحسن القول والفعل بقوله : ﴿وَالصَّادِقِينَ﴾ في أقوالهم وأفعالهم ونيّاتهم ، على ما قيل من أنّ الصّدق ، كما يكون في القول بمطابقته للواقع ، يكون في الفعل بالجدّ بإتمامه وعدم الانصراف عنه ، ويكون في النّيّة بإنفاذ الإرادة وإمضاء العزم ﴿وَالْقانِتِينَ﴾ المواظبين على الطّاعات المداومين على العبادات ﴿وَالْمُنْفِقِينَ﴾ ما زاد عن كفافهم من الأموال في القربات ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ

عن ( المجمع ) : عن الصادق عليه‌السلام : « المصلّين وقت السّحر » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « من قال في وتره إذا أوتر : أستغفر الله وأتوب إليه ، سبعين مرّة ، وهو قائم ، فواظب على ذلك حتى تمضي له سنة ، كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار ، ووجبت له المغفرة من الله » (٢) .

في أنّ أفضل أوقات الدعاء وقت السحر

وفي رواية : « من استغفر سبعين مرّة (٣) ، فهو من أهل هذه الآية » (٤) .

وفي تخصيص الاستغفار بالأسحار إشعار بأنّها أفضل أوقات الدّعاء والعبادة ، لأنّ

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٧١٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٩.

(٢) الخصال : ٥٨١ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٩.

(٣) في مجمع البيان : استغفر الله سبعين مرة في وقت السحر.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٧١٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٩.

٥٩٢

النّفس فيها مصفّاة والعبادة أشقّ.

وعن مجاهد : في قول يعقوب عليه‌السلام : ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي(١) أخّره إلى وقت السّحر ، فإنّ الدّعاء فيه مستجاب. وقال : إنّ الله لا يشغله صوت عن صوت ، لكنّ الدّعاء في السّحر دعوة في الخلوة ، وهي أبعد من الرّياء والسّمعة فكانت أقرب إلى الإجابة (٢) .

﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ

 الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)

ثمّ اعلم أنّه تعالى بعد جعل ذاته المقدّسة أوّلا في المحاجّة مع النّصارى ، مدّعيا لتوحيده الذّاتي والصّفاتي - وإقامة البراهين العقليّة القطعيّة عليه ، والحكم بكفر جاحديه ، وتهديدهم بالعقوبة الدّنيويّة والأخرويّة ، وتنبيه النّاس بعلّة اختيار الكفر ، من تزيين مشتهيات الدّنيا في نظرهم ، وأمر نبيّه ببشارة الموحّدين بالثّواب العظيم ، ومدحهم بالصّفات الحميدة الفائقة جعل ثانيا نبيّه مدّعيا.

ثمّ أقام الشّهود الذين (٣) لا يمكن ردّهم ، على صدق دعواه ، تاييدا للبرهان بها بقوله : ﴿شَهِدَ اللهُ﴾ عن علمه الحضوري ، وأخبر في كتابه التّكويني بدلالة كلماته التّامة - التي هي صنائعه البديعة ، واتّساق نظامها الأتمّ - على ﴿أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ ولا خالق ولا معبود سواه ، ﴿وَ﴾ شهدت ﴿الْمَلائِكَةُ﴾ بلسان الحال والمقال ، وبدلالة الأفعال ، لمعاينتهم عظمته وقدرته ، ﴿وَ﴾ شهد ﴿أُولُوا الْعِلْمِ﴾ من عباده ، عن العلم البرهاني والعياني ، بما شهد به سبحانه.

روي عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ أولي العلم هم الأنبياء والأوصياء » (٤) .

ثمّ لمّا كان المعتبر عدالة الشّاهد ، وعدم جوره في الشّهادة ، أثنى سبحانه على نفسه في المقام بكونه ﴿قائِماً بِالْقِسْطِ﴾ وعاملا بالعدل في جميع الامور ، من قسمة الأرزاق ، والإثابة ، والتّعذيب. ومن عدله أمر عباده بالعدل والتّسوية ، وعدم رضاه بالظّلم والجور. وفيه بيان كماله تعالى في أفعاله ، إثر بيان كماله في ذاته.

وفي الرّواية السّابقة ، عن الباقر عليه‌السلام بعد تفسير ﴿أُولُوا الْعِلْمِ﴾ بالأنبياء والأوصياء ، قال : « وهم قيام

__________________

(١) يوسف : ١٢ / ٩٨.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١١.

(٣) في النسخة : التي.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٢٩٦ / ٦٥٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٩.

٥٩٣

بالقسط » (١) .

والظّاهر أنّ المراد أنّ الأنبياء والأوصياء ، لمّا كانوا مظاهر صفاته تعالى ، كان ظهور صفة قيامه تعالى بالقسط في قيامهم به ، فكان قيامه تعالى بالقسط عين قيامهم به ، ويمكن كون ( قائما ) حالا لاولي العلم وأفراده بلحاظ كلّ واحد منهم.

ثمّ كرّر سبحانه ذكر التّوحيد المشهود به بقوله : ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ تأكيدا له ، واهتماما به ، وتقريرا لقيامه بالقسط ، حيث إنّ الالوهيّة لا تجامع الظّلم والجور ، وتوطئة للشّهادة على كمال قدرته وعلمه بقوله : ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ حتّى يعلم أنّه المنعوت بهما دون غيره.

وتقدّم صفة العزيز لتقدّم العلم بقدرته على العلم بحكمته. وفيه تهديد بالانتقام ممّن لا يوحّده بما لا يقدر عليه غيره ، وبالحكم بما يريد في خلقه.

قيل : نزلت الآية حين جاء رجلان من أحبار الشّام ، فقالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت محمّد ؟ قال : « نعم » فقالا : أنت أحمد ؟ قال : « أنا محمّد وأحمد » قالا : أخبرنا عن أعظم الشّهادة في كتاب الله ، فأخبرهما (٢) .

عن ابن عبّاس : خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة ، فشهد لنفسه قبل خلق الخلق ، حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ، ولا برّ ولا بحر ، فقال : ﴿شَهِدَ اللهُ ...﴾ الآية (٣) .

روي عن سعيد بن جبير أنّه كان حول البيت ثلاثمائة وستّون صنما ، فلمّا نزلت هذه الآية الكريمة خرّوا سجّدا (٤) .

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « يجاء بصاحبها (٥) يوم القيامة ، فيقول الله عزوجل : إنّ لعبدي هذا عندي عهدا ، وأنا أحقّ من وفى بالعهد ، ادخلوا عبدي الجنّة » (٦) .

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما

جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيد ذاته بالبراهين العقليّة وشهادة الشّهود العدول ، أشار إلى النّتيجة

__________________

(١) وايضا.

(٢ و٣) . تفسير روح البيان ٢ : ١٢.

(٤) تفسير أبي السعود ٢ : ١٧.

(٥) أي صاحب الشهادة.

(٦) تفسير أبي السعود ٢ : ١٧.

٥٩٤

بقوله : ﴿إِنَّ الدِّينَ﴾ الحقّ المرضيّ ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ من لدن آدم إلى قيام السّاعة هو ﴿الْإِسْلامُ﴾ والانقياد له ، والالتزام بالتّوحيد الخالص عن شوب الشّرك ، المستلزم للاعتقاد بالمعاد والإيمان بالرّسل والشّرائع ، بالضّرورة من العقل ودلالة الأدلّة القاطعة ، بحيث لا مجال للشّكّ فيه.

ففيه دلالة على أنّ أصل الدّين في جميع الأزمنة واحد ، وإنّما الفرق في بعض الفروع والأحكام. ومع ذلك اختلف النّاس فيه ، وأنكروا التّوحيد وتديّنوا بالشّرك ﴿وَمَا اخْتَلَفَ﴾ فيه اليهود والنّصارى ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ من التّوراة والإنجيل ، وما اختاروا الشّرك بقولهم : عزير ابن الله ، أو المسيح ابن الله ، أو ثالث ثلاثة ، في حال من الأحوال ، أو وقت من الأوقات ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ بالتّوحيد ، وصحّة دين الإسلام ، ونبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولم يكن اختلافهم لخفاء الحقّ والشّبهة فيه ، بل كان ﴿بَغْياً﴾ وحسدا كائنا فيما ﴿بَيْنَهُمْ﴾ حيث إنّ الاختلاف بعد وضوح الحقّ غايته ، لا يمكن تحقّقه الّا لأجل الأخلاق الذّميمة ، وحبّ الدّنيا والرّئاسة. وفيه غاية التّشنيع ، ودلالة على ترامي حالهم في الكفر والضّلالة.

ثمّ هدّد الجاحدين بقوله : ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ﴾ الدّالّات على الحقّ ، ويعرض عن الحجج السّاطعة على الصّواب ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ يحاسبه ويجازيه بأشدّ العقاب من غير بطء ومهلة ، حيث إنّه ﴿سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ يحاسب جميع الخلائق في أقلّ من لمحة.

﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

 وَالْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ

بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد ظهور لجاج الكفّار وعنادهم ، بحيث لا تنفعهم الحجج ، قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ﴾ في التّوحيد ، وجادلوك في الحقّ ، وعارضوك في النّبوّة ﴿فَقُلْ﴾ في جوابهم ، معرضا عنهم : إنّي ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾ وأخلصت قلبي ونفسي وشراشر (١) وجودي ﴿لِلَّهِ﴾ وحده لا اشرك في انقيادي [ إليه ] غيره. ﴿وَ﴾ أسلم له أيضا ﴿مَنِ اتَّبَعَنِ﴾ وآمن بي واهتدى بهداي ﴿وَقُلْ﴾ بعد ذلك ﴿لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ من اليهود والنّصارى ﴿وَالْأُمِّيِّينَ﴾ الّذين لا علم لهم ولا كتاب ، من مشركي

__________________

(١) الشّراشر : معظم الشيء وجملته.

٥٩٥

العرب ، تقريرا : ﴿أَ أَسْلَمْتُمْ﴾ بعد وضوح الحقّ ، وتمام الحجّة ، وظهور المعجزات الباهرة ، كما أسلم أتباعي ، أم أقمتم بعد لجاجا وعنادا على كفركم ؟ وفيه تعييرهم على اللّجاج بقلّة الإنصاف ، وتوبيخهم بالبلادة والجهل ، وتهييجهم على الانقياد والتبعية.

﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا﴾ لله ، والتزموا بالتّوحيد ، واعترفوا بنبوّتك وصحّة دينك ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ إلى الحقّ ، وسلكوا الصّراط المستقيم ، وفازوا بالنّجاة من العذاب ، وأصابوا جميع الخيرات ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن قبول قولك ، وأعرضوا عن الإسلام والإيمان بك ، فليس لك مسؤولية ، وما عليك من تبعة ﴿فَإِنَّما﴾ الواجب ﴿عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾ والدّعوة ، وإقامة الحجّة ، وإيضاح الحقّ ، وقد أدّيت ما عليك بما لا مزيد عليه ، وبالغت في تبليغك بلا توان ولا فتور ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ﴾ ومطّلع على فطرتهم ، وسجيّتهم ، وسوء أخلاقهم ، وقبائح أعمالهم. وفيه غاية التّهديد.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قرأ هذه الآية على أهل الكتاب ، قالوا : أسلمنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لليهود : « أتشهدون أنّ عيسى كلمة الله وعبده ورسوله ؟ » فقالوا : معاذ الله.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله للنّصارى : « أتشهدون أنّ عيسى عبد الله ورسوله ؟ » فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدا ، وذلك قوله : ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا(١) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ

 يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ

 أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)

ثمّ اعلم أنّه تعالى بعد تهديد المصرّين على الكفر ، المعرضين عن الإسلام - بنحو الإجمال - هدّدهم بعد بيان خبث ذاتهم ، وشناعة أعمالهم تفصيلا بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ﴾ توحيد ﴿اللهِ﴾ ويجحدون الحقّ ودلائله ، وينكرون نبوّة نبيّه ومعجزاته ﴿وَيَقْتُلُونَ﴾ لعنادهم الحقّ ﴿النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ﴾ يتصوّر ، ومن غير استحقاق في نظرهم ، كما قتلهم أسلافهم.

وروي أنّ نسبة القتل إلى الّذين في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتبار رضاهم بفعل أوائلهم.

﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ ويدعون إلى الحقّ والعدل ﴿مِنَ النَّاسِ

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ١٩ ، تفسير روح البيان ٢ : ١٤.

٥٩٦

عن أبي عبيدة [ بن ] الجرّاح : قال : قلت يا رسول الله ، أيّ النّاس أشدّ عذابا يوم القيامة ؟ قال : « رجل قتل نبيّا أو رجلا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر » ثمّ قرأها ، ثمّ قال : « يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أوّل النّهار ، في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثني عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوهم جميعا من آخر النّهار في ذلك اليوم ، وهو الذي ذكره الله » (١) .

قيل : إنّ تكرير الفعل للإشعار بالتّفاوت بين القتلين من الفظاعة ، أو باختلافهما في الوقت.

ثمّ لمّا كان اشتياق هؤلاء إلى الفحشاء والمنكر بمنزلة اشتياقهم إلى العذاب ، عبّر عن إنذارهم بالعذاب بالتّبشير بقوله : ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ يا نبيّ الرّحمة ﴿بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾ في الآخرة.

﴿أُولئِكَ﴾ البعيدون عن رحمة الله ، المبتلون بأسوأ الأحوال ، هم ﴿الَّذِينَ حَبِطَتْ﴾ وبطلت ﴿أَعْمالُهُمْ﴾ الخيريّة وأفعالهم الحسنة في الدّارين ، فلا يترتّب عليها الأثر المرغوب منها ، من المدح والثّناء والعزّ والرّفاه والبركة والسّلامة ﴿فِي الدُّنْيا﴾ - بل يذمّون عليها ويلعنون بها ويقتلون ويغار عليهم (٢) ويسبون ويسترقّون - ﴿وَ﴾ لا في ﴿الْآخِرَةِ﴾ من الخلاص من النّار ، والفوز بالجنّة ، بل يحرمون منها ، ويساقون إلى جهنّم وأشدّ العذاب ﴿وَما لَهُمْ﴾ حينئذ ﴿مِنْ ناصِرِينَ﴾ ينصرونهم على الله ، أو يشفعون لهم عنده ، أو يدفعون عنهم عذابه.

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ

 ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)

ثمّ أنّه تعالى - لتوضيح غاية خبث ذاتهم ، وشدّة لجاجهم ، ودفع العجب من نهاية تمرّدهم عن الإيمان بخاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله وبكتابه المشتمل على الإعجاز - ذكر تمرّد علمائهم عن أحكام التّوراة التي كانوا معترفين بكونها الحقّ المنزل من الله ؛ بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ يا محمّد ﴿إِلَى﴾ ما يعجبك من صنيع أحبار اليهود ﴿الَّذِينَ أُوتُوا﴾ من جانب الله ﴿نَصِيباً﴾ وافرا ، وحظّا متكاثرا ﴿مِنَ﴾ العلوم التي في ﴿الْكِتابِ﴾ الذي علموا أنّه حقّ منزل من الله تعالى ، وهو التّوراة ، وأعترفوا بصحّة جميع ما فيه. وقد أخبر الله فيه ببعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاته ونعوته وحقّانيّة دينه.

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٢١٤ ، وفيه : اليوم فهم الّذين ذكرهم الله تعالى.

(٢) في النسخة : ويغارون.

٥٩٧

ثمّ كأنّه قيل : ماذا يصنعون من العجائب حين ينظر إليهم ؟ فأجاب سبحانه : ﴿يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ﴾ الذي اوتوا نصيبا منه ، وآمنوا به ﴿لِيَحْكُمَ﴾ ذلك الكتاب بأوضح بيان ( فيما ) وقع الاختلاف فيه ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وبين النبيّ والمسلمين.

﴿ثُمَ﴾ يقع منهم ما هو في غاية المباينة من إيمانهم بالكتاب ، وهو أنّه ﴿يَتَوَلَّى﴾ عن تلك الدّعوة ولا يجيبها ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ بعد علمهم بوجوب الرّجوع إليه ، والالتزام بما فيه ﴿وَهُمْ﴾ في هذا الحال ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن ذلك الكتاب وأحكامه بقلوبهم.

وقيل : إنّ المراد : أنّ ديدنهم الإعراض عن الحقّ ، والإصرار على الباطل.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل مدارس اليهود ، فدعاهم إلى الإيمان ، فقال له رئيسهم نعيم بن عمرو : وعلى أيّ دين أنت ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « على ملّة إبراهيم » قال : إنّ إبراهيم كان يهوديّا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ بيننا وبينكم التّوراة فهاتوها » ، فأبوا ، فنزلت (١) [ الآية ] .

وعن الكلبي : أنّها نزلت في الرّجم : فجر رجل وامرأة من أهل خيبر ، وكانا في شرف منهم ، وكان في كتابهم الرّجم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجاء رخصة عنده ، فحكم عليهم بالرّجم ، فقالوا : جرت علينا ، ليس عليهما الرّجم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بيني وبينكم التّوراة » قالوا : قد أنصفتنا ، قال : « فمن أعلمكم بالتوراة ؟ » قالوا : ابن صوريا ، فأرسلوا إليه ، فدعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشيء من التّوراة فيه الرّجم دلّه على ذلك ابن سلّام ، فقال له : « اقرأ » فلمّا أتى على آية الرّجم وضع كفّه عليها ، وقام ابن سلّام فرفع إصبعه عنها ، ثمّ قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى اليهود : إنّ المحصن والمحصنة إذا زنيا ، وقامت عليهما البيّنة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى تربص حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باليهوديين فرجما ، فغضب اليهود لذلك ، فرجعوا كفّارا ، فأنزل الله هذه الآية (٢) .

﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا

 يَفْتَرُونَ (٢٤)

ثمّ بيّن الله سبحانه علّة تولّيهم عن الكتاب ، وجرأتهم على الله بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ التّولّي عن إجابة الدّعوة ، والإعراض بالقلب عن الكتاب ، كان ﴿بِأَنَّهُمْ قالُوا﴾ اختلافا من عند أنفسهم ، وافتراء على الله

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ١٥.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١٥.

٥٩٨

﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ في الآخرة بسبب الكفر والمعصية أبدا ﴿إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ﴾ قلائل. روي أنّهم كانوا يقولون : مدّة عذابنا سبعة أيّام ، وقيل : هي أربعون يوما ، مقدار عبادة بني إسرائيل العجل (١) .

فهوّن عليهم الذّنوب والخطوب رسوخ اعتقادهم على ذلك ﴿وَغَرَّهُمْ﴾ وخدعهم ﴿فِي﴾ مخالفة ﴿دِينِهِمْ﴾ وأحكامهم ﴿ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ على الله من قولهم : أنّه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذّب أولاده إلّا تحلّة قسم (٢) .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : زعمت اليهود أنّهم وجدوا في التّوراة : أنّ ما بين طرفي جهنّم أربعون سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزّقّوم ، وإنّما نعذّب حتّى نأتي إلى شجرة الزّقّوم ، فتذهب جهنّم وتهلك ، وأصل الجحيم سقر ، وفيها شجرة الزّقّوم ، فإذا اقتحموا من باب جهنّم وتبادروا في العذاب حتّى انتهوا إلى شجرة الزّقّوم وملأوا البطون قال لهم خازن سقر : زعمتم أنّ النّار لن تمسّكم إلّا أيّاما معدودات ، قد خلت أربعون سنة وأنتم في الأبد (٣) .

أقول : فيه دلالة على أن المراد من الأيّام المعدودات أربعون سنة وعبّر عنها بها تقليلا لها.

﴿فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا

 يُظْلَمُونَ (٢٥)

ثمّ أبطل الله سبحانه ما غرّهم باستعظام عذابهم ، وتهويل ما يحيق بهم بقوله : ﴿فَكَيْفَ﴾ يكون حالهم ﴿إِذا﴾ أخرجناهم من قبورهم و﴿جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ﴾ عظيم شديد الأهوال يكون وقوعه ممّا ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لعاقل.

روي أنّ أوّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفر راية اليهود ، فيفضحهم الله عزوجل على رؤوس الأشهاد ، ثمّ يأمر بهم إلى النّار (٤) .

﴿وَ﴾ في ذلك اليوم ﴿وُفِّيَتْ﴾ واعطيت من غير نقص ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النّفوس جزاء ﴿ما كَسَبَتْ﴾ وحصّلت من عمل خير أو شرّ ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ بتنقيص الثواب ، أو زيادة العقاب. وفيه دلالة على أنّ الثّواب والعقاب يكونان بالاستحقاق.

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٢١٨.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١٦.

(٣) نفس المصدر.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ١٦.

٥٩٩

وأستدلّ بعض العامّة به على أنّ العبادة لا تحبط (١) . وفيه : أنّ إيفاء جزاء المعصية يكون بحبط ثواب العبادة ، كما أنّ إيفاء ثواب العبادة يكون بالعفو عن عقوبة المعصية.

﴿قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ

 مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ

 فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ

الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)

ثمّ - لمّا كان من أباطيل اليهود قولهم : بأنّه لا بدّ أن تكون النّبوّة والملك فيهم ، وأنّهم أحقّ بهما لكونهم من بيوت الأنبياء ، ومن أهل العلم والكتاب ، ولا يجوز أن يكونا في العرب لكونهم أمّيّين - أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يثنيه بالقدرة الكاملة والفضل الشّامل الدّالّين على بطلان قولهم ، بقوله : ﴿قُلِ﴾ يا محمّد ﴿اللهُمَ﴾ يا ﴿مالِكَ الْمُلْكِ﴾ ملكا حقيقيا إشراقيّا ويا سلطان عالم الوجود ، لا شريك لك فيه ولا معادل ، تتصرّف فيه كيف تشاء ، إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وفضلا ومنعا وتعذيبا وإثابة ، وتدبّره كيف تريد ؛ ومن تدبيرك وسلطانك أنّك ﴿تُؤْتِي﴾ وتهب ﴿الْمُلْكِ﴾ والسّلطنة أو النّبوّة ﴿مَنْ تَشاءُ﴾ أن تملّكه وتشرّفه بفضلك ﴿وَتَنْزِعُ﴾ وتسلب ﴿الْمُلْكِ﴾ والسّلطنة الدّنيويّة والدّينيّة ، وهي النبوة ﴿مِمَّنْ تَشاءُ﴾ أن تنزعها عنه ، وتنقلها إلى قوم آخرين. وفيه إشعار بأنّ السّلطنة الحقيقيّة مختصّة به تعالى ، وسلطنة غيره بطريق المجاز.

﴿وَتُعِزُّ﴾ في الدّنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما ﴿مَنْ تَشاءُ﴾ أن تعزّه في الدّنيا بمنصب النّبوّة ، والمطاعية المطلقة ، والفضائل الكريمة ، والهداية والتّوفيق ، والنصر والغلبة ، وفي الآخرة بالجنّة العاليه ، والمقامات الرّفيعة ، والنّعم الدّائمة ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ﴾ ذلّة في الدّنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما ، بالخذلان والبعد عن الرّحمة ، والكفر والضّلال والأخلاق الرّذيلة ، والفقر والمسكنة واللّعنة الدّائمة ﴿بِيَدِكَ﴾ وقدرتك خاصّة دون غيرك ﴿الْخَيْرُ﴾ كلّه ، قبضا وبسطا ، على حسب مشيّئتك وحكمتك ، وعلى ما تقتضيه قابليّة القوابل ، واستعداد الممكنات.

وإنّما خصّ الخير بالذّكر - مع أنّ جميع الامور بيده حتّى الشّرّ - لكون الكلام في ما يسوقه سبحانه

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٢١٩ - ٢٢٠.

٦٠٠