نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

وقلوبكم من الإيمان والكفر ، والإرادات الحسنة والسّيّئة ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ وتستروه من كلّ أحد ، من الإرادات والعزمات ، دون الوساوس وخطورات النّفس التي لا عقد ولا عزيمة فيها ، لعدم الوسع في دفعها ﴿يُحاسِبْكُمْ

ويؤاخذكم ﴿بِهِ اللهُ﴾ يوم الحساب.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه أنّه قال : لمّا نزلت [ هذه ] الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف (١) وناس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : يا رسول الله ، كلّفنا من العمل ما لا نطيق ، إنّ أحدنا ليحدّث نفسه بما لا يحبّ أن يثبت في قلبه ، وأنّ له الدّنيا. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا ، قولوا : سمعنا وأطعنا » . وأشتدّ ذلك عليهم ، فمكثوا في ذلك حولا ، فأنزل الله : ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها(٢) فنسخت هذه الآية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم ، ما لم يعملوا ويتكلّموا به » (٣) .

في رد استدلال العامّة بآية المحاسبة على بطلان مذهب الخاصة

أقول : في الاعتراض وفي الجواب من الدّلالة على فساد ضمائر المعترضين ما لا يخفى.

قيل : إنّما قدم الإبداء على الإخفاء ؛ لأنّ المتعلّق بما في أنفسهم هو المحاسبة ، والأصل فيها الأعمال البادية (٤) .

وقال جمع من العامّة : إنّ في الآية ردّ على منكري المحاسبة بما في النّفس ، من الإمامية والمعتزلة (٥) .

وفيه : أنّه إن اريد بما في النّفس الخطورات القلبيّة وحديث النّفس ، فأصحابنا الإمامية متّفقون على عدم المحاسبة به ، وما من ذي مسكة يخالفهم في ذلك. ولا شبهة أنّ عموم الآية - بقرينة حكم العقل بقبح المؤاخذة على ما لا يطاق - مخصوص بغيره.

وإن اريد به (٦) العزم والإرادة ، فانكار المحاسبة ليس ممّا اتّفقت عليه الإمامية ، لذهاب كثير منهم إلى ثبوت المحاسبة به ، والعقاب عليه ، مستدلّين بحكم العقل ، وكثير من الرّوايات. وأمّا ذهاب كثير منهم الى المعفوّ عنه ، فلتقييدهم الآية بطائفة اخرى من الأخبار المعتبرة ، وحملهم إطلاقها على الكفر

__________________

(١) زاد في تفسير الرازي : ومعاذ.

(٢) البقرة : ٢ / ٢٨٦.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ١٢٥.

(٤) تفسير أبي السعود ١ : ٢٧٢.

(٥) تفسير أبي السعود ١ : ٢٧٢ ، تفسير روح البيان ١ : ٤٤٤.

(٦) أي وإن أريد بما في النفس.

٥٦١

والعقائد الباطلة ، أو مع النّيات السّيّئة بالنسبة إلى غير المؤمن.

وعلى هذا يكون قوله تعالى : ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ﴾ وعدا بالمغفرة لمن تاب وآمن ، فلا يواخذ بنيّته المعاصي الجوارحيّة ، ما لم يقترفها ، وقوله : ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ﴾ تعذيبه ، وعيدا لمن مات على الكفر والعقائد الباطلة.

في الاستدلال على العفو عن النيات السيئة المجرّدة عن العمل

وممّا يدلّ على العفو عن نيّات السوء ، وعدم المحاسبة بها ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرّواية السابقة : « إنّ الله تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم ، ما لم يعملوا ، أو يتكلّموا به » (١) .

فإنّه نصّ صريح في عموم العفو للنيّات والارادات المجرّدة عن العمل.

ورواية ابن عبّاس : أنّ الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم ، فالمؤمن يخبره ثمّ يعفو عنه ، وأهل الذّنوب يخبرهم بما أخفوا من التّكذيب والذنب (٢) .

وأمّا ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في ( نهج البلاغة ) من قوله : « وبما في الصّدور تجازى العباد » (٣) .

فالظّاهر أنّ المراد أنّ العباد بنيّاتهم يجازون على أعمالهم ، فمساقه مساق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الأعمال بالنّيّات » (٤) .

وتوضيح المرام أنّ حسن الأعمال والعبادات وقبحها ، دائران مدار القصد والنّيّة ، لوضوح أنّ ضرب اليتيم بقصد التأديب حسن ، وبقصد الإيذاء قبيح ، وكذا الكذب بقصد الإصلاح حسن ، وبغيره قبيح ، والعبادات بقصد الإخلاص تكون حسنا ، وبقصد الرّياء والسّمعة تكون شركا وقبيحا.

فظهر أنّ حسن الأعمال وقبحها بحسب النّيّات التي في الصّدور ، فالاعتراض على الإمامية - تمسّكا بإطلاق الآية المباركة - ناشئ عن عدم فهم السّنّة وعدم التمسّك بالثّقلين اللذين [ هما ] كلّ مبيّن للآخر.

ثمّ قرّر سبحانه تعالى سعة قدرته وأكّدها بقوله : ﴿وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من المحاسبة ، والتّعذيب ، والمغفرة ، وغيرها ممّا يكون في حيّز الإمكان ﴿قَدِيرٌ﴾ ولا قصور في قدرته ، ولا مانع عن نفوذ إرادته.

روى الطّبرسي رحمه‌الله في ( الاحتجاج ) ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في ضمن بيان قصّة المعراج : « فكان

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ١٢٥.

(٢) تفسير الرازي ٧ : ١٢٦.

(٣) نهج البلاغة : ١٠٣ / الخطبة ٧٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٦.

(٤) التهذيب ١ : ٨٣ / ٢١٨.

٥٦٢

قاب قوسين بينهما أو أدنى ، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى ، فكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة : ﴿لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ الآية ، وكانت الآية ممّا (١) عرضت على الأنبياء - من لدن آدم إلى أن بعث ( تبارك اسمه ) محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله - وعلى الامم ، فأبوا أن يقبلوها من ثقلها ، وقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعرضها على امّته فقبلوها » (٢) .

أقول : المراد من الأمّة التي قبلتها أمير المؤمنين عليه‌السلام والأوحدي من أصحابه ، لظهور أنّ الّذين شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ثقل الآية ، فقال لهم : « لعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : ﴿سَمِعْنا وَعَصَيْنا*﴾ ، قولوا : سمعنا وأطعنا » - على ما في الرّواية السّابقة - لم يكونوا ممّن قبلها ؛ لأنّهم لم يقولوا : سمعنا وأطعنا ، بل روي أنّه أشتدّ ذلك [ عليهم ] ، فمكثوا في ذلك حولا (٣) .

﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ

 وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ

 الْمَصِيرُ (٢٨٥)

ثمّ أنّه تعالى - لمّا بيّن التّكاليف الكثيرة ، ثمّ عقّبها بآية المحاسبة - مدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين به بكمال الإيمان والسّمع والطّاعة بقوله : ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ حقّ الإيمان بالمشاهدة والعيان ، لا بالدّليل والبرهان ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ من المعارف والحكم والأسرار وحقائق الأشياء التي يمكن تحمّلها ، المنطوية في القرآن المجيد.

قيل : إنّه تعالى لمّا بيّن في فاتحة السّورة الكريمة ؛ أنّ الكتاب العظيم الذي أنزله على رسوله ، هدى للمتّقين المتّصفين بالصّفات الفاضلة ، ولم يبيّن مصداقا لهم ، عيّن في خاتمتها المتّصفين بها ، وحكم بعنوان الشّهادة لهم بكمال الإيمان وحسن الطّاعة ، وإنّما بدأ تعالى بذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق الغيبة ، مع ذكره هناك بطريق الخطاب ، لما أنّ حقّ الشّهادة الباقية مرّ الدّهور أن لا يخاطب بها المشهود له.

وإيراده بعنوان الرّسالة المنبئة عن كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب كتاب وشرع تمهيدا لقوله : ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ ،﴾ والتّعرّض لعنوان الرّبوبيّة مع إضافته إليه تشريف له ، وتنبيه على أنّ إنزاله إليه تربية وتكميل له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ أتبع مدحه بمدح تابعيه بقوله : ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ المعهودون المعروفون ، الخاصّون الصّدّيقون

__________________

(١) في المصدر : قد.

(٢) الاحتجاج : ٢٢٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٩.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ١٢٥.

٥٦٣

﴿كُلٌ﴾ منهم ببركة هداية ذلك الرّسول المكرّم ﴿آمَنَ بِاللهِ﴾ وبوحدانيّته وبصفاته الجلاليّة والجماليّة ، بحقيقة الإيمان ، وصميم القلب ، كما قال سيّدهم وأميرهم (١) : « لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا » (٢) .

ثمّ أنّه تعالى عند تفصيل العقائد المعتبرة في الإيمان ومدح المؤمنين بها ، قدّم الإيمان بالملائكة والكتب في الذكر على الإيمان بالرّسل بقوله : ﴿وَمَلائِكَتِهِ﴾ من حيث إنّهم عباد مكرمون له ، لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون ، ومن شأنهم التّوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ﴿وَكُتُبِهِ﴾ المنزلة لهداية الخلق وإقامتهم بالقسط ﴿وَرُسُلِهِ﴾ المبعوثين من قبله تعالى ، لتربية النّفوس ، وإتمام الحجّة ، وتبيين الأحكام.

مع أنّ الرّسل أرفع شأنا من الملائكة ، بمقتضى الرّوايات المتضافرة ، بل المؤمنون أكرم عند الله منهم ؛ لأنّ الملائكة وسائط الوحي ، والكتب منشور الله ووحيه ، فترتيب النّظم مقتضي لتقديم المرسل ، ثمّ واسطة الإرسال ، ثمّ الرّسالة والمرسول ، ثمّ المرسل إليه.

وأمّا تغيير الاسلوب بإضافة إيمان الرّسول إلى ما انزل إليه - مع كون الإيمان بالملائكة والكتب والرّسل داخلا فيه بنحو الإجمال ، وذكر التّفصيل في إيمان المؤمنين - فإنّما هو لتعظيم الرّسول وتشريفه ، بحيث ينبغي أن يقال في التّعبير : الملائكة والرّسل آمنوا بالرّسول ، فتعظيمه صلوات الله عليه اقتضى الاكتفاء في بيان ما آمن به بذلك الإجمال الذي يعلم تفصيله من تفصيل ما آمن به المؤمنون بذلك الرّسول.

ثمّ بعد وصف المؤمنين من حيث العقائد والمعارف ، وصفهم من حيث المقال بأنّهم قائلون : نحن ﴿لا نُفَرِّقُ﴾ ولا نميّز ﴿بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ من حيث الإيمان والكفر ، والتّصديق والتّكذيب ، ولا نقول كما قال اليهود : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ﴿وَقالُوا﴾ إظهارا للانقياد لأحكام الله : ربّنا ﴿سَمِعْنا﴾ نداء منادي الإيمان ، وتلاوة آيات القرآن ، وفهمنا ما جاءنا من الحقّ والأحكام ﴿وَأَطَعْنا﴾ أوامرك ونواهيك ، وأجبنا ذلك المنادي بالإيمان والانقياد والطّاعة ، فإذن نسأل ﴿غُفْرانَكَ﴾ خطايانا وذنوبنا يا ﴿رَبَّنا﴾ ومالك أمرنا اللّطيف بنا ، فإنّك مرجعنا في القيامة ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ والمنقلب بعد الموت ، وعند الحشر.

قيل : لمّا نزلت الآية قال جبرئيل للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله قد أثنى عليك وعلى امّتك ، فسل تعط ، فقال

__________________

(١) أي أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ٣٨ ، بحار الأنوار ٦٩ : ٢٠٩.

٥٦٤

[ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ] : « غفرانك ربّنا » (١) .

وفي ندائه بعنوان الرّبوبيّة مضافا إلى أنفسهم مبالغة في التّضرّع ، وجلب العطوفة (٢) . وتقديم ذكر السّمع والطّاعة على سؤال المغفرة ، لكونه أدعى إلى القبول والإجابة ، وفي الإقرار بالمعاد بقوله : ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ بيان لعلّة كمال الحاجة إلى المغفرة.

وفي رواية ( الاحتجاج ) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في قصّة معراج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « فلمّا أن صار إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه ، فقال : ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ،﴾ فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله مجيبا عنه وعن امّته فقال : ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ،﴾ فقال جلّ ذكره : لهم الجنّة والمغفرة على أن فعلوا ذلك ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا إذا فعلت ذلك بنا فغفرانك ربّنا وإليك المصير - يعني المرجع في الآخرة - قال : فأجابه الله جل ثناؤه : قد فعلت ذلك بك » (٣) .

﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا

 إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا

رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا

 فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)

ثمّ بعد ما بيّن الله طاعة المؤمنين وانقيادهم له ، ذكر منّته عليهم بالتّسهيل في الأحكام بقوله : ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً﴾ ولا يلزم على نسمة عملا ﴿إِلَّا وُسْعَها﴾ وما يسهل عليها ، وتسع له قدرتها ؛ بحيث لا يكون عليها فيه ضيق ولا حرج ، فضلا منه ورحمة على هذه الامّة.

عن الصادق عليه‌السلام : « ما امر العباد إلّا دون سعتهم ، وكلّ شيء امر النّاس بأخذه فهم متّسعون [ له ] ، وما لا يتّسعون [ له ] فهو موضوع عنهم ، ولكنّ النّاس لا خير فيهم » (٤) .

ثمّ بعد بيان المنّة عليهم بالتّخفيف والتّسهيل في التّكليف ، رغّب في الطّاعة بقوله : ﴿لَها﴾ ثواب ﴿ما كَسَبَتْ﴾ وعملت من خير وطاعة ، لا لغيرها. ثمّ رهّب عن المخالفة والعصيان بقوله : ﴿وَعَلَيْها﴾ عقاب ﴿مَا اكْتَسَبَتْ﴾ وحصّلت من الشّرّ والضّرّ والمعصية ، لا على غيرها.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٧.

(٢) كذا ، وقياس المصدر : العطف أو العطوف.

(٣) الاحتجاج : ٢٢١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٩.

(٤) التوحيد : ٣٤٧ / ٦.

٥٦٥

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان مقال المؤمنين في مقام الدّعاء والتّضرّع والخوف بقوله : ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا

وفي رواية المعراج : « فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سمع ذلك : أما إذا فعلت [ ذلك ] بي وبامّتي فزدني ، قال : سل ، قال : ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ،﴾ قال الله تعالى : لست اؤاخذ امّتك بالنسيان والخطأ لكرامتك عليّ. وكانت الأمم السّالفة ، إذا نسوا ما ذكّروا به ، فتحت عليهم أبواب العذاب ، وقد رفعت [ ذلك ] عن امّتك. وكانت الأمم السّالفة إذا أخطئوا اؤ اخذهم بالخطأ وعوقبوا عليه ، وقد رفعت [ ذلك ] عن امّتك لكرامتك عليّ » الخبر (١) .

توضيح المراد من رفع الخطأ والنسيان

توضيح الآية والرّواية : أنّ المراد من النّسيان والخطأ العمل الذي صدر عن النّسيان والخطأ في الحكم أو الموضوع ، لوضوح أنّ صفة النّسيان والخطأ ليستا من متعلقات التّكليف ، ولا قابلتين للمؤاخذة عليهما حتى يرفع عنهما ، وما ليس قابلا للوضع ليس قابلا للرّفع.

إن قيل : كما لا يمكن جعل المؤاخذة على نفس الصّفتين ، لا يمكن جعلها على العمل الصّادر عنهما ، فكيف يصحّ الامتنان برفعها عنه ؟

قلت : نعم ، ولكن يمكن جعل المؤاخذة على عدم المبالاة وعدم المحافظة المؤدّيين إلى الخطأ والنّسيان ، لكونهما مستندين إلى الاختيار والتّقصير ، ويصحّ جعل العقوبة عليهما بجعل وجوب الاحتياط وإيجاب التّحفّظ. فمعنى رفع المؤاخذة والعقوبة على العمل الصادر عن الخطأ والنّسيان ، رفع إيجاب التّحفّظ.

وقيل : إنّ المراد من النّسيان ترك العمل ، ومن الخطأ الذّنب.

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّ معناه لا تعاقبنا إن عصيناك جاهلين ، أو متعمّدين (٢) .

﴿رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ﴾ ولا تجعل ﴿عَلَيْنا إِصْراً﴾ وتكليفا شاقّا ثقيلا ﴿كَما حَمَلْتَهُ﴾ وجعلته ﴿عَلَى﴾ الامم ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِنا

ذكر الآصار التي كانت على الامم

وفي الرّواية المعراجيّة السّابقة : « فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم : إذا أعطيتني ذلك فزدني ، فقال الله تعالى : سل ، قال : ﴿رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٢١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٩.

(٢) جوامع الجامع : ٥٢.

٥٦٦

قَبْلِنا﴾ يعني بالإصر الشّدائد التي كانت على من كان قبلنا ، فأجابه الله تعالى [ إلى ] ذلك ، فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن امّتك الآصار التي كانت على الامم السّالفة ، كنت لا أقبل صلاتهم إلّا في بقاع من الأرض المعلومة (١) اخترتها لهم وإن بعدت ، وجعلت الأرض كلّها [ لامّتك ] مسجدا وطهورا ، فهذه من الآصار التي كانت على الامم قبلك ، فرفعتها عن امّتك.

وكانت الامم السّالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم ، وقد جعلت الماء طهورا لامّتك ، فهذه من الآصار التي كانت عليهم ، فرفعتها عن امّتك.

وكانت الامم السّالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس ، فمن قبلت ذلك منه أرسلت إليه نارا فأكلته فرجع مسرورا ، ومن لم أقبل ذلك منه رجع مثبورا ، وقد جلعت قربان امّتك في بطون فقرائها ومساكينها ، فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة ، ومن لم أقبل منه رفعت عنه عقوبات الدّنيا.

إلى أن قال : وكانت الامم السّالفة صلواتها مفروضة عليها فى ظلم اللّيل وأنصاف النهار ، وهي من الشّدائد التي كانت عليهم ، فرفعتها عن امّتك ، وفرضت عليهم صلواتهم في أطراف اللّيل والنّهار ، وفي أوقات نشاطهم.

وكانت الامم السّالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا ، وهي من الآصار التي كانت عليهم ، فرفعتها عن امّتك ، وجعلتها [ خمسا ] في خمسة أوقات » (٢) .

وقيل : إنّ من الآصار : قتل النّفس في التّوبة ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وحرمة أكل الصائم بعد النوم وبعض الطّيّبات عليهم بالذّنوب ، وكتابة ذنب اللّيل على الباب بالصّبح ، وكون الزّكاة ربع ما لهم ، وغير ذلك من الشّدائد. وقد عصم الله عزوجل هذه الامّة من أمثال ذلك ، وأنزل في شأنهم ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ(٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت بالحنيفيّة السّهلة السّمحة » (٤) .

ثمّ كرّر النّداء بقوله : ﴿رَبَّنا﴾ إظهارا لمزيد الضّراعة ﴿وَلا تُحَمِّلْنا﴾ ولا تنزل بذنوبنا وإسرافنا على أنفسنا ﴿ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ ولا صبر لنا عليه ، من البلايا والعقوبات النازلة على الامم السّالفة.

واستدل الأشاعرة به على جواز التّكليف بما لا يطاق.

__________________

(١) في المصدر : بقاع معلومة من الأرض.

(٢) الاحتجاج : ٢٢١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٩.

(٣) الأعراف : ٧ / ١٥٧.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٩.

٥٦٧

وفيه : أنّه لا موقع لاستدعاء عدم تحميل التّكليف بغير المقدور ، بعد سؤال عدم تحميل الإصر الذي هو التّكاليف الشّاقة ، وإجابته منه تعالى.

إن قيل : إنّ المراد بالإصر البلايا والعقوبات.

قلنا : مضافا إلى أنّه خلاف المشهور بين المفسّرين ، وكثير من الروايات ، لا يمكن حمل ما لا يطاق على غير المقدور ؛ لحكم العقل بقبح التّكليف به ، فلا بدّ من حمله على غير المقدور العرفي ، وهو ما يكون فيه حرج ومشقّة.

وفي الرّواية المعراجيّة : « قال : فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أعطيتني ذلك فزدني ، قال : سل : قال : ﴿وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قال تبارك اسمه : قد فعلت ذلك بك وبأمّتك ، وقد رفعت عنهم عظيم بلايا الامم ؛ وذلك حكمي في جميع الامم أن لا اكلّف خلقا فوق طاقتهم » (١) .

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية سؤال المؤمنين أهمّ حوائجهم في الدّنيا ، حكى عنهم سؤال أهمّ حوائجهم في الآخرة بقوله : ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ ذنوبنا ﴿وَاغْفِرْ لَنا﴾ سيّئاتنا ﴿وَارْحَمْنا

والفرق بين العفو والمغفرة والرّحمة ، أنّ العفو : هو التّجاوز عن عقوبة الذّنب. والمغفرة : هي ستر الذّنب أو مطلق السّتر ، ذنبا كان المستور أو نقصا وعيبا ، بحيث لا يطّلع عليه أحد. والرّحمة : هي التعطّف بإعطاء الثّواب ، أو بالأعمّ منه ومن دفع البلاء والمحن والكروب وأهوال القيامة.

ثمّ حكى ختمهم الدّعاء بأهمّ الحوائج بقوله : ﴿أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ وفيه دلالة على أنّ إعلاء كلمة الحقّ والجهاد في سبيل الله ، والغلبة على الكفّار ، والنّصرة على أعداء الدّين بالسّيف والحجّة ، غاية آمال المؤمنين.

ولمّا كان في الأدعية الثّلاثة الاول مقام إظهار غاية الضّراعة ، كان الأنسب توصيفه تعالى بصفة الرّبوبيّة ؛ لإشعارها بكمال ذلّة الدّاعي ، وتأثيرها في سرعة إجابة الدّعاء.

وأمّا في السؤال الرابع ؛ وهو طلب النّصرة على الكفّار ، فلمّا كان مقام الاستعانة والانتصار ، كان المناسب توصيفه تعالى بالمولويّة ، حيث إنّ المولى إن كان بمعنى النّاصر والمعين ، أو بمعنى المالك والسيّد ، فالمناسبة ظاهرة ، حيث إنّ من وظيفة السّيد والمالك أن يكون ناصرا لعبده وحافظا له ، وإن كان بمعنى متولّي الامور فيدخل فيه النّصرة على الأعداء.

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٢٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩١.

٥٦٨

وفي الرّواية المعراجية : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا﴾ قال الله تعالى : قد فعلت ذلك بتائبي امّتك. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ قال الله جلّ اسمه : إنّ امّتك في الأرض كالشّامة البيضاء في الثور الأسود ، هم القادرون ، وهم القاهرون ، يستخدمون ولا يستخدمون لكرامة امّتك (١) عليّ ، وحقّ عليّ أن اظهر دينك على الأديان ، حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلّا دينك ، ويؤدّون إلى أهل دينك الجزية » (٢) .

وروي من طرق العامّة أنّه لمّا اسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السّماء السّادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال : ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى(٣) قال : فراش من ذهب ، قال : فاعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثا : اعطي الصلوات الخمس ، واعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من امّته (٤) .

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قرّبني الله وأدناني إلى سند العرش ، ثمّ ألهمني الله أن قلت : ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ كما فرّقت اليهود والنّصارى » .

قال : فما قالوا ؟ قلت : ﴿« قالُوا  سَمِعْنا وَعَصَيْنا﴾ ، والمؤمنون قالوا : سمعنا وأطعنا » . فقال : صدقت ، فسل تعط ، فقلت : ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا﴾ قال : قد رفعت عنك وعن امّتك الخطأ ، والنّسيان ، وما استكرهوا عليه.

فقلت : ﴿رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا﴾ يعني اليهود. قال : لك ذلك ولامّتك.

قلت : ﴿وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قال : قد فعلت.

قلت : ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ قال : قد فعلت (٥) .

عن معاذ : أنّه كان إذا ختم سورة البقرة يقول : آمّين (٦) .

ثمّ اعلم أنّ مقتضى هذه الرّوايات ؛ أنّ آية ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى قوله ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ،﴾ ومن قوله :

__________________

(١) في المصدر : لكرامتك.

(٢) الاحتجاج : ٢٢٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩١.

(٣) النجم : ٥٣ / ١٦.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٩.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٩.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ٤٥٠.

٥٦٩

﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا﴾ إلى قوله : ﴿فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ من كلام الرّسول في ليلة المعراج ، وإنّما حكاه الله في كتابه ؛ وليس بكلام الله. مع أنّ الإجماع والضّرورة من الدّين حاكمان بأنّ جميع ما بين الدّفّتين كلام الله ، ليس كلام المخلوق ، إلّا أن يقال : أنّ الله تعالى حكى المعاني بكلام نفسه ، والمعصوم حكاها بكلام الله.

ثمّ أنّه تعالى حكى الدّعاء ، ولم يحك الإجابة ؛ لظهورها بقرينة سعة الرّحمة ، وظهور استحقاق الدّاعي للإجابة.

٥٧٠

في تفسير سورة آل عمران

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)

وجه إرداف البقرة بآل عمران

ثمّ أنّه تعالى لمّا ختم السورة المباركة بالدعاء بالنصرة على الكافرين بالسيف والحجّة ، وكان ربعها أو أزيد تقريبا في المحاجّة مع اليهود ، اقتضى حسن النّظم إردافها بسورة آل عمران ، المتضمّنة لإجابة ذلك الدّعاء ، من جهة دلالتها على غلبة النبيّ والمسلمين ؛ بنصرته تعالى ، على النّصارى ، بالحجّة والمباهلة ، وبشارة المؤمنين بغلبتهم على الكفّار ، ونصرته لهم بقوله : ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ(١) ، واشتمالها على خذلان الكفّار في غزوة احد ، وكونها إلى بضع وثمانين آية في المحاجّة مع النّصارى.

قصة وفد نصارى نجران

روي أنّه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفد نجران ، وكانوا ستّين راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ؛ ثلاثة منهم أكابر ، إليهم يؤول أمرهم ، أحدهم أميرهم وصاحب مشورتهم العاقب ، واسمه عبد المسيح ، وثانيهم وزيرهم ومشيرهم السيّد ، واسمه الأيهم ، وثالثهم حبرهم واسقفّهم وصاحب مدارسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل ، وقد كان ملوك الرّوم شرّفوه وموّلوه وأكرموه لما بلغهم من علمه واجتهاده في دينهم ، وبنوا له كنائس ، فلمّا خرجوا من نجران ركب أبو حارثة بغلته ، وكان أخوه كرز بن علقمة إلى جنبه ، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت ، فقال كرز تعسا للأبعد - يريد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله - فقال له أبو حارثة : بل تعست امّك ، فقال كرز : ولم يا أخي ؟ [ فقال أبو حارثة : ] إنّه والله النبيّ الذي كنّا ننتظره.

فقال أخوه كرز : فما يمنعك عنه ، وأنت تعلم هذا ؟ ! قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ١٢.

٥٧١

وأكرمونا ، فلو آمنّا به لأخذوا منّا كلّ هذه الأشياء ، فوقع ذلك في قلب كرز ، وكان يضمره إلى أن أسلم ، فكان يحدّث بذلك.

فأتوا المدينة ، ثمّ دخلوا مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد صلاة العصر ، عليهم ثياب خيّرات ، من جبب وأردية فاخرة ، يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما رأينا وفدا مثلهم. وقد حانت صلاتهم فقاموا ليصلّوا في المسجد ، فقال عليه‌السلام : « دعوهم » فصلّوا إلى المشرق.

ثمّ تكلّم أولئك الثّلاثة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا تارة : عيسى هو الله ؛ لأنّه كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطّين كهيئة الطّير ؛ فينفخ فيه فيطير ، وتارة اخرى : هو ابن الله ؛ إذ لم يكن له أب يعلم ، وتارة اخرى : إنّه ثالث ثلاثة ؛ لقوله تعالى : ( فعلناه ) و( قلنا ) ولو كان واحدا لقال : فعلت وقلت.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أسلموا » . فقالوا : أسلمنا قبلك. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كذبتم ، كيف يصحّ إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولدا ، وتعبدون الصّليب ، وتأكلون الخنزير ؟ »

قالوا : إن لم يكن ولد الله فمن أبوه ؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل الله تعالى في ذلك أوّل سورة آل عمران (١) .

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم وقد مرّ تفسير البسملة ، وتأويل الحروف المقطّعة ، وإنّما بدأ السورة بها لتوجيه الأذهان إلى إصغاء ما بعدها من البراهين القاطعة على التّوحيد ، وإبطال الشّرك.

ولمّا كان مقام الاحتجاج مع النّصارى ، بدأ سبحانه - على قانون الجدل - ببيان التّوحيد الذاتي ، الذي هو المدّعى الأوّل بقوله : ﴿اللهُ حيث إنّه علم للذات الواجب ، المستجمع لجميع الكمالات ، الممتنع تعدّده وتكثّرة ، ثمّ ثنّاه ببيان التّوحيد العبادتي بقوله ، مخبرا عن ذاته بأنّه ﴿لا إِلهَ ولا معبود متصوّر أو موجود ﴿إِلَّا هُوَ

فالجملة الخبريّة دلّت على نفي الوهيّة عيسى ومعبوديّته ، ردّا على النّصارى ، حيث إنّ طائفة منهم كانوا يقولون : عيسى هو الخالق والمعبود لا غيره ، وطائفة اخرى يقولون : هو أحد المعبودين الثّلاثة ، وثالثة يقولون : هو أحد المعبودين لكونه ابن الله.

ثمّ أخذ سبحانه في الاستدلال على وحدانيّة ذاته بقوله مخبرا عنه بأنّه ﴿الْحَيُ﴾ الذي لا يموت

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ١٥٤ ، تفسير روح البيان ٢ : ٢.

٥٧٢

و﴿الْقَيُّومُ﴾ الذي بيده تدبير كلّ شيء ، فإذا حكم العقل بأنّ خالق العالم لا بدّ من أن يكون واجدا لهذين الوصفين ، حكم بفساد القول بكون عيسى إلها ؛ لضرورة حياته بعد موته ، وموته بعد حياته ، وعجزه عن الاستقلال بتدبير نفسه ، فضلا عن تدبير السّماوات والأرض وما فيهما.

وفي الرّواية السّابقة لمّا قالوا : فمن أبوه ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أ لستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه ؟ ! » فقالوا : بلى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أ لستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء ؟ » قالوا : بلى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أ لستم تعلمون أنّ ربّنا قيّوم على كلّ شيء يحفظه ويرزقه ؟ » قالوا : بلى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ » قالوا : لا (١) .

وروي أنّ هذين الاسمين اسم الله الأعظم (٢) .

﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ

 قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ

 وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)

ثمّ استدلّ سبحانه على انحصار استحقاق العبادة فيه ، بنعمه العظام التي أهمّها إنزال الكتب السّماوية لهداية البشر إلى العقائد الحقّة ، والمحسّنات العقليّة ، والمصالح الدّنيويّة ، بقوله مخبرا عن ذاته المقدّسة بأنّه ﴿نَزَّلَ﴾ نجوما وتدريجا ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمّد ؛ لهداية الخلق إلى يوم القيامة ﴿الْكِتابَ﴾ المجيد والقرآن المجيد.

قيل : عبّر سبحانه عنه باسم الجنس للإشعار بتفوّقه في الكمالات الجنسيّة كأنّه الحقيق بهذا الاسم دون غيره من الكتب.

ثمّ استدلّ على كونه منزلا من الله بكونه ملتبسا ﴿بِالْحَقِ﴾ والعدل ، أو بالصّدق في أخباره ، التي من جملتها خبر التّوحيد ، وسائر المعارف ، وما فيه من الوعد والوعيد ، أو مقرونا بدلائل الصّدق ؛ من إعجاز البيان ، والإخبار بالمغيّبات ، والاشتمال على العلوم غير المتناهية ، مع كون من أتى به امّيّا ، حال كونه ﴿مُصَدِّقاً لِما﴾ نزل ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من الكتب السّماويّة ؛ حيث إنّه أخبر جميعها ببعثة نبيّ من ولد إسماعيل ، له نعوت وصفات خاصّة ، وكتاب ناسخ لسائر الكتب.

__________________

(١ و٢) . تفسير أبي السعود ١ : ٣.

٥٧٣

وجميع هذه العلائم المذكورة في الكتب منطبقة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ، فلو لم يكن صادقا في دعوى رسالته وكتابه منزلا من الله ، لكان إخبار الكتب السّماويّة كذبا ، فجميع الكتب المنزلة شواهد صدق القرآن ، وأدلّة كونه منزلا من الله ، فكلّ من آمن بها يلزمه الإيمان به.

ثمّ استدلّ سبحانه بنعمه السّابقة على الامم السّالفة بقوله : ﴿وَأَنْزَلَ﴾ سبحانه دفعة ﴿التَّوْراةَ﴾ على موسى بن عمران ﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾ على عيسى بن مريم ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي الأزمنة السّابقة على نزول القرآن ؛ لأجل أن يكون كلّ واحد منهما ﴿هُدىً﴾ ودليلا مرشدا ﴿لِلنَّاسِ﴾ المكلّفين باتّباعهما إلى الحقّ والرّشاد.

ولا يذهب عليك أنّه ظهر من تفسيرنا الفرق بين التّنزيل والإنزال ، وأنّ التّنزيل متضمّن للكثرة والتّدرّج في النّزول دون الإنزال. ولمّا كان القرآن جامعا بين الجهتين ، باعتبار نزوله دفعة إلى البيت المعمور ، وتدريجا إلى الأرض ، اسند إليه التّنزيل في أوّل الآية.

ثمّ للدلالة على كونه أعظم شأنا ، وأتمّ نعمة من غيره ، أعاد ذكره بقوله : ﴿وَأَنْزَلَ﴾ الكتاب الذي جعله ﴿الْفُرْقانَ﴾ بين الحقّ والباطل ، والمائز بين الضّلال والرّشاد ، والمبيّن لمشتبهات سائر الكتب السّماويّة ، والمهيمن عليها.

عن الصّادق عليه‌السلام : « القرآن جملة الكتاب ، والفرقان المحكم الواجب العمل به » (١) .

وفي رواية : « الفرقان كلّ آية محكمة » (٢) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « سمّي القرآن فرقانا ؛ لأنّه متفرّق الآيات ، والسّور انزلت في غير الألواح وغير الصّحف (٣) ، والتّوراة [ والإنجيل ] والزّبور انزلت كلّها جملة في الألواح والأوراق » (٤) .

أقول : لا منافاة بين هذه الأخبار ، لإمكان إطلاق هذا الوصف عليه بكلا الاعتبارين ، فتحصّل من الآيات أنّ من كان كمال قدرته ، وسعة لطفه ورحمته ، ووفور نعمته بهذه المرتبة ، كان هو المعبود بالاستحقاق دون عيسى وغيره من الخلق.

ثمّ بعد وضوح الحقّ وإبطال الشّرك بالبراهين القاطعة ، أخذ سبحانه في التّهديد على الكفر

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٦١ / ١١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٢.

(٢) جوامع الجامع : ٥٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٢.

(٣) في علل الشرائع : وغيره من الصحف.

(٤) علل الشرائع : ٤٧٠ / ٣٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٢ ، وفيهما : الألواح والورق.

٥٧٤

والشّرك ، وإنكار كلّ حقّ بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وألحدوا ﴿بِآياتِ اللهِ﴾ ودلائل توحيده ، ومعجزات نبيّه ، من القرآن وغيره ، قد هيّأ ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ غاية الشّدّة ، خارج عن حدّ البيان ﴿وَاللهُ عَزِيزٌ﴾ غالب على أمره ، قاهر على خلقه ﴿ذُو انْتِقامٍ﴾ عظيم من أعدائه ، ومنكري توحيده ، ورسالة رسوله ، ودينه.

﴿إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ

فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيد ذاته - الملازم لاستحقاقه العبادة دون غيره ، بسعة علمه ، وكمال إحاطته بجميع ذرّات الكائنات وخفايا أحوالها - بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ﴾ من الأشياء ، وذرّة من الذّرّات ، وحال من أحوالها ، لا ما كان ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ حتّى خطرات القلوب ، ومكنونات الضّمائر ، من التّوحيد والشّرك والإيمان والكفر ، والإرادات الحسنة والسيئة ﴿وَلا﴾ ما كان ﴿فِي السَّماءِ﴾ حتّى ضمائر الملائكة ، ومكتوماتهم.

وفيه مزيد تهديد ، حيث إنّ القدرة الكاملة على العقوبة غير كافية في الرّدع عن المعاصي الخفيّة والعقائد السيّئة ، إلّا إذا علم أنّ المنتقم مطّلع على الخفيّات ، عالم بالسّرائر والمستورات.

والتّعبير عن علمه بعدم خفاء شيء عليه ، للإشعار بأنّ علمه بالأشياء بحضورها عنده ، والإحاطة التّامّة القيموميّة عليها ، لا بالصّور الذّهنيّة ، فلا يشبه علمه علم المخلوقين.

وفي ذكر الأرض والسّماء تأكيد لسعة علمه ، وتصريح بشموله ، ولدفع توهّم اختصاص علمه بخصوص ما في الأرض ، وفي تقديم ذكر الأرض إشعار بكمال الاعتناء بإحاطته بأحوال أهلها.

وفي رواية محاجّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع وفد نجران : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أ لستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء ؟ ! » قالوا : بلى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فهل يعلم عيسى شيئا إلّا ما علّم ؟ » قالوا : لا (١) .

ثمّ أوضح سبحانه كمال قدرته ، وسعة إحاطته بقوله : ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ﴾ ويخلقكم على هيئة خاصّة ، وشكل مخصوص ، وأنتم ﴿فِي﴾ مضائق ﴿الْأَرْحامِ﴾ وظلماتها الثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة المشيمة ، وظلمه الرّحم ﴿كَيْفَ يَشاءُ﴾ لكم من الصّور ، من الذّكورة والانوثة ، والتّمام والنّقص ،

__________________

(١ و٢) . تفسير روح البيان ٢ : ٣.

٥٧٥

والطّول والقصر ، والحسن والقبح.

وفي رواية المحاجّة : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أ لستم تعلمون أنّ ربّنا صوّر عيسى في الرّحم كيف شاء ، وأنّ ربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ؟ » قالوا : بلى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أ لستم تعلمون أنّ عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة ، ووضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثمّ غذّي كما يغذّى الصّبيّ ، ثمّ كان يطعم الطّعام ، ويشرب الشّراب ، ويحدث الحدث ؟ » قالوا : بلى ، قال : « فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا ، فأبوا إلّا جحودا » (١) .

وفي الآيتين أيضا تقرير لصفتي حياته وقيموميّته.

ثمّ أعاد سبحانه ذكر المدّعى وهو التّوحيد - بعد إقامة البرهان عليه تفصيلا ، لإشرابه في القلوب - بقوله : ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ فنزّه ذاته المقدّسة عن أن يكون عيسى مثله وشبيهه في الالوهيّة.

ثمّ أعاد حاصل البرهانين المذكورين ، بقوله : ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب غير المتناهي في قدرته ﴿الْحَكِيمُ﴾ والمتقن في أفعاله ومخلوقاته. فعيسى مقهوره ومغلوبه وبديع صنعه ، لكونه مركبا من المادّة والصّورة ، ومحتاجا إلى المركّب ، ومعرّضا للانحلال والفناء.

وحاصل ما استفيد من الآيتين في الردّ على النّصارى : أنّهم إن تمسّكوا في الوهيّة عيسى بعلمه بالمغيّبات ، حيث كان ينبئهم بما يأكلون وما يدّخرون. ففيه : أنّ علمة كان مقصورا ببعض الامور الجزئيّة ، والعلم اللّائق بمقام الالوهيّة هو العلم المحيط بجميع جزئيّات الكائنات ، وأجزاء الموجودات ، وصفاتها ، وأحوالها ، وإن كان مثقال حبّة من خردل في صخرة في الظّلمات ، وبالضّرورة لم يكن هذا العلم الشّامل ، لعيسى ولا لغيره.

وإن تمسّكوا بقدرته على ما لا يقدر عليه البشر ؛ من إبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطّير وإحياء الموتى ، ففيه : أنّها قدرة ناقصة مفاضة إليه من خالقه ومصوّره ، إذ من الواضح أنّه مصنوع غيره ، صوّره قادر مطلق في رحم امّه من غير أب ، لبداهة أنّه عليه‌السلام لم يخلق امّه ، ولم يصوّر نفسه في رحمها.

في كيفية خلق الجنين في الرحم ومقدّماته

عن ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « إنّ الله تعالى إذا أراد أن يخلق النّطفة ، التي هي ممّا أخذ عليه (٢) الميثاق ، من (٣) صلب آدم ، أو ما يبدو له فيه ، ويجعلها في الرّحم ، حرّك الرّجل للجماع ، وأوحى إلى الرّحم أن افتحي بابك حتّى يلج فيك خلقي وقضائي

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٣.

(٢) في المصدر : عليها.

(٣) في المصدر : في.

٥٧٦

النّافذ وقدري ، فتفتح الرّحم بابها ، فتصل النّطفة إلى الرّحم ، فتردّد فيه أربعين يوما ، ثمّ تصير علقة أربعين يوما ، ثمّ تصير مضغة أربعين يوما ، ثمّ تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة ، ثمّ يبعث الله إليه ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرّحم ، وفيها الرّوح القديمة المنقولة في أصلاب الرّجال وأرحام النساء ، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ، ويشقّان له السّمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى » (١) الخبر.

أقول : الظّاهر أنّ المراد من قوله : ( وما يبدو له ) من يريد خلقه ممّن لم يأخذ عليه الميثاق ، وهم الّذين يموتون قبل البلوغ والتعبير بالبداء لكون الغرض في خلقهم مترتّبا على الغرض من خلق من أخذ عليه الميثاق ، ومتأخّرا عنه في الرّتبة ، فكأنّه حدثت إرادته بعد إرادته.

ومن قوله : ( حرّك الرّجل للجماع ) أنّه أوجد مبادئ هيجان الشّهوة. ومن قوله : ( فأوحى إلى الرّحم ) جعل قوّة الانفتاح فيه ، وتعلّقت الإرادة التّكوينيّة بفتحه. ومن قوله : ( فتردّد فيه ) تغيّر شيئا فشيئا ، ومن حال إلى حال ، حتّى تصير علقة.

ومن قوله : ( الرّوح القديمة ) استعداد صيرورته إنسانا. ومن قوله : ( البقاء ) هو روح البقاء ، وقوّة التّغذية والتنمية. وأنّ المراد من الواو في قوله : ( ويشقّان ) الجمع المطلق ، كما هو مقتضى العطف به ، لا الترتيب ، فلا ينافي تسوية الأعضاء والأحشاء قبل ولوج الرّوح.

إلى أن قال عليه‌السلام : « ثمّ يوحي الله إلى الملكين اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري ، واشترطا لي البداء فيما تكتبان. فيقولان : يا ربّ ما نكتب ؟ قال : فيوحي الله عزوجل إليهما : أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس امّه ، فيرفعان [ رؤوسهما ] ، فإذا اللّوح يقرع جبهة امّه ، فينظران فيه فيجدان في اللّوح صورته وزينته وأجله وميثاقه ، شقيّا أو سعيدا ، وجميع شأنه.

قال : فيملي أحدهما على صاحبه ، فيكتبان جميع ما في اللّوح ، ويشترطان البداء فيما يكتبان ، ثمّ يختمان الكتاب ، ويجعلانه بين عينيه ، ثمّ يقيمانه قائما في بطن امّه. قال : فربّما عتا فانقلب ، ولا يكون ذلك إلّا في كلّ عات أو مارد » (٢) .

وعن الصّادق عليه‌السلام ، في رواية : « أنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقا جمع كلّ صورة ما بينه

__________________

(١) الكافي ٦ : ١٣ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٣.

(٢) الكافي ٦ : ١٤ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٣.

٥٧٧

وبين آدم (١) ، ثمّ خلقه على صورة إحداهنّ (٢) ، فلا يقولنّ أحد لولده : هذا لا يشبهني ولا يشبه أحدا من آبائي » (٣) .

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ

مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ

ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ

مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)

ثمّ أنّه روي أنّ الوفد قالوا : يا محمّد ، أ لست تزعم أنّ عيسى كلمة الله وروح منه ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بلى » قالوا : حسبنا (٤) .

والظّاهر من قولهم : ( حسبنا ) أنّك اعترفت بقولك : ( إنّه كلمة الله ) أنّه ابنه ، وبقولك : ( أنّه روح منه ) بأنّه ثالث ثلاثة.

فنزل في ردّهم قوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ﴾ هذا ﴿الْكِتابَ﴾ المجيد المسمّى بالقرآن ، حال كونه مشتملا على نوعين : نوع ﴿مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ قطعيّات الدّلالة ، ناصّات في المراد ، أو ظاهرات فيه ، بنفسها أو بالقرائن المتّصلة ؛ من اللّفظيّة أو العقليّة أو المقاميّة.

وتلك الآيات ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ﴾ وأصل فيه ، باعتبار وجوب إرجاع سائره إليها ، فقوله : ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(٥) مرجع لقوله : ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ(٦) ، وقوله : ﴿إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ(٧) مرجع لقوله : ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها(٨) ، وقوله : ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي(٩) مرجع لقوله : ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ(١٠) لوضوح أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون جزءا لخالقه ، إلى غير ذلك.

ونوع منه آيات ﴿وَأُخَرُ﴾ هنّ آيات ﴿مُتَشابِهاتٌ﴾ الدّلالة ، محتملات لمعاني متعدّدة ، لا رجحان لبعضها على بعض في استحقاق الإرادة بها ، ولا يتّضح المقصود منها إلّا بالقرائن المنفصلة ، كالمجملات والمبهمات ، أو الظواهر التي يكون مدلولها مخالفا للعقل السّليم ، كقوله : ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ

__________________

(١) في العلل : صورة بينه وبين أبيه إلى آدم.

(٢) في العلل : أحدهم.

(٣) علل الشرائع : ١٠٣ / ١ باب ٩٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٣.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ١٥٥.

(٥) مريم : ١٩ / ٦٤.

(٦) التوبة : ٩ / ٦٧.

(٧) الأعراف : ٧ / ٢٨.

(٨) الإسراء : ١٧ / ١٦.

(٩) الإسراء : ١٧ / ٨٥.

(١٠) النساء : ٤ / ١٧١.

٥٧٨

أَيْدِيهِمْ(١) ، وقوله : ﴿وَجاءَ رَبُّكَ(٢) وقوله : ﴿الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى(٣) لحكم العقل بتنزّه خالق الأجسام والأمكنة عن الجسم والصّورة والمكان والحركة.

في معنى المحكم والمتشابه

عن الصّادق عليه‌السلام أنّه سئل عن المحكم والمتشابه ، فقال : « المحكم : ما يعمل به ، والمتشابه : ما اشتبه على جاهله » (٤) .

والظّاهر أنّ المراد من قوله : ( ما يعمل به ) ما لا يتوقّف العرف في مدلوله ومفاده.

وعن ( الكافي ) : عنه عليه‌السلام ، في تأويله : « أنّ المحكمات أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام ، والمتشابهات فلان وفلان » (٥) .

ثمّ اعلم أنّ تقسيم الكتاب بجعل بعضه محكما وبعضه متشابها ، لا ينافي تسمية كلّه محكما في قوله : ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ(٦) ، وأنّ معناه : أنّه اتقنت مطالبه ، بحيث لا يتوهّم التّناقض فيها ، وحفظت من أن يعتريها الخلل والتّحريف والنّسخ ، ولا توصيف كلّه بالمتشابه في قوله : ﴿كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ(٧) لأنّ معنى المتشابه هنا : المتماثل الآيات في صحّة المعاني ، وجزالة النّظم ، وحقّيّة المدلول.

وقد سبق في الطّرفة السّابعة عشرة بيان فوائد كثيرة وحكم وفيرة في جعل كثير من الآيات القرآنية متشابها ، وعدم جعل جميعها محكمات ، من أراد الاطّلاع عليها فليراجعها ، وعمدة حكمها ابتلاء الخلق ، والتمييز بين الثّابت على الحقّ وأهل الزّيغ.

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ﴾ كان ﴿فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ وميل عن الحقّ إلى اتّباع الهوى ، وانحراف عن الصّراط المستقيم إلى شعب الضّلال ﴿فَيَتَّبِعُونَ﴾ من ذلك الكتاب ﴿ما تَشابَهَ مِنْهُ﴾ ويتمسّكون - لإثبات عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الباطلة - بظاهر آيات مخالف للمحكمات ، أو بمجملات غير ظاهرة الدّلالة ، ويؤوّلونها بالظّنون والاستحسانات ، لا تحرّيا للحقّ وطلبا للصّواب ، بل ﴿ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ﴾ وقصد إلقاء الشّبهات في قلوب ضعفاء العقول والإيمان ، وسعيا في إضلال النّاس عن طريق الحقّ والهدى ﴿وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ وطلبا لتطبيقه على باطلهم ، وإرجاعه إلى ما هو مشتهى أنفسهم من

__________________

(١) الفتح : ٤٨ / ١٠.

(٢) الفجر : ٨٩ / ٢٢.

(٣) طه : ٢٠ / ٥.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٢٩٢ / ٦٤٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٥.

(٥) الكافي ١ : ٣٤٣ / ١٤ ، تفسير العياشي ١ : ٢٩٢ / ٦٤٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٥.

(٦) هود : ١١ / ١.

(٧) الزمر : ٣٩ / ٢٣.

٥٧٩

الخرافات ، وإرجاعه إلى معنى يوافق ما راموه من الكفر ، لحبّ الغلبة على الخصم ، وحفظ الجاه والمال ، كتمسّك الوفد بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ(١) وبقوله : ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ(٢) لإثبات أنّ عيسى ابن الله ، أو ثالث ثلاثة ، مع قصور دلالتهما ومعارضتهما لحكم العقل ومحكم الآيات من قوله : ﴿ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ(٣) وقوله : ﴿لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ(٤) و﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ(٥) .

﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾ وحقيقة المراد من المتشابة أحد ﴿إِلَّا اللهُ﴾ العالم بحقائق الامور ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ الثّابتون المتمكّنون ﴿فِي الْعِلْمِ﴾ المستغرقون في بحر الحكمة والمعرفة ، المقالون بتأييد الله عن العثرة في مزالّ الأقدام ، السّالكون بنور الهداية في ظلمات الأهواء والأوهام ، وهم النبيّ وأوصياؤه الكرام.

في تعريف الراسخين في العلم

عن ( الكافي ) : « الرّاسخون في العلم من لا يختلف في علمه » (٦) .

أقول : الظّاهر أنّ المراد منه من لا يكون علمه عن رأي واجتهاد ، حتى تتغيّر فتواه ويختلف حكمه ، وهم الذين يكون علمهم بإفاضة الله وإلهامه ، كالنبيّ وأوصيائه وخلفائه.

روي أنّه قال أبو عبد الله عليه‌السلام لأبي حنيفة : « أنت فقيه أهل العراق ؟ » قال : نعم ، قال : « فبأيّ شيء تفتي ؟ » قال : بكتاب الله وسنة نبيّه ، قال : « يا أبا حنيفة ، تعرف كتاب الله حقّ معرفته [ و] تعرف النّاسخ من المنسوخ ؟ » قال : نعم ، قال : « يا أبا حنيفة ، لقد أدّعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الّذين انزل عليهم ، ويلك ما هو إلّا عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا ، وما ورّثك الله من كتابه حرفا » (٧) .

في ( الاحتجاج ) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في حديث قال : « إنّ الله جلّ ذكره - لسعة رحمته ، ورأفته بخلقه ، وعلمه بما يحدث المبدّلون ، من تغيير كلامه (٨) - قسّم كلامه ثلاثة أقسام ؛ فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تميزه ، ممّن شرح الله

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ٤٥.

(٢) النساء : ٤ / ١٧١.

(٣) مريم : ١٩ / ٣٥.

(٤) الإسراء : ١٧ / ١١١.

(٥) الأنعام : ٦ / ١٠١.

(٦) الكافي ١ : ١٩٠ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٩٥.

(٧) علل الشرائع : ٨٩ / ٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٢.

(٨) في الاحتجاج : كتابه.

٥٨٠