نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

وعشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين للمسجد ساكنين في صفّته (١) ؛ وهي مسقّفة ، يتعلّمون القرآن باللّيل ، ويستغرقون أوقاتهم بالتّعلّم والعبادة والجهاد ، ويخرجون في كلّ غزوة وسريّة بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

عن ابن عبّاس ، قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما على أصحاب الصّفّة ، فرأى فقرهم وجهدهم (٣) ، فطيّب قلوبهم فقال : « أبشروا يا أصحاب الصّفّة ، فمن لقيني من امّتي على النّعت الذي أنتم عليه ؛ راضيا بما فيه ، فإنّه من رفقائي » (٤) .

وعن ابن عبّاس رحمه‌الله ، في تفسير الآية قال : هؤلاء قوم (٥) حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله ، فعذرهم الله (٦) .

ثمّ بعد بيان واقع حالهم ، بيّن حال عشرتهم وسلوكهم مع النّاس بقوله : ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ ويظنّهم ﴿الْجاهِلُ﴾ بحالهم وشأنهم غير المختبر لأمرهم كونهم ﴿أَغْنِياءَ مِنَ﴾ أجل غاية ﴿التَّعَفُّفِ﴾ وكفّ النّفس عن مسألة النّاس ، وإظهار الحاجة إليهم. روي أنّهم كانوا يقومون باللّيل للتّهجّد ، ويحطبون بالنّهار للتّعفّف (٧) .

ثمّ كأنّه قيل : فكيف يعرف فقرهم ؟ فقال سبحانه : ﴿تَعْرِفُهُمْ﴾ بالفقر والفاقة ﴿بِسِيماهُمْ﴾ وعلامات الفقر فيهم من صفرة اللّون ، ونحول الجسم ، وضعف القوى ، ورثاثة الثّياب ، وأمثال ذلك.

ثمّ لمّا كان الإنسان لا يكاد يخلوا عن الاضطرار إلى السؤال وطلب الحاجة من الغير ، ولو بالغ في التّعفّف ، وصفهم سبحانه - بعد توصيفهم بالمبالغة في التّعفّف - بأنّهم قوم إذا اضطرّوا إلى سؤال حاجة دنيويّة ﴿لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ﴾ حاجتهم ﴿إِلْحافاً﴾ وإلحاحا.

عن ابن مسعود : أنّ الله يحبّ العفيف المتعفّف ، ويبغض الفاحش البذيء.

وقيل : السائل الملحف : الذي إن اعطي كثيرا أفرط في المدح ، وإن اعطي قليلا أفرط في الذّمّ (٨) .

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يفتح أحد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يستعفف يعفّه الله ، لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب فيبيعه بمدّ من تمر ، خير له من أن يسأل

__________________

(١) الصّفّة : المكان المظلّل في مسجد المدينة ، حيث كان يأوي إليه فقراء المهاجرين ويرعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم أصاب الصفّة.

(٢) تفسير الرازي ٧ : ٧٩.

(٣) في تفسير الرازي : وجدهم.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ٧٩ ، وفيه : من رفاقي.

(٥) زاد في تفسير الرازي : من المهاجرين.

(٦) تفسير الرازي ٧ : ٨٠. (٧) تفسير الرازي ٧ : ٨١.

(٨) تفسير الرازي ٧ : ٨١.

٥٤١

النّاس » (١) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله « لأن يأخذ أحدكم حبله ، فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره ، فيكفّ بها وجهه ، خير له من أن يسأل النّاس أشياءهم ؛ أعطوه أو منعوه » .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف ، ويبغض البذيء السّائل الملحف » (٢) .

وقيل : إنّ المراد من الآية نفي السؤال والإلحاف جميعا ، أي لا يسألون النّاس أصلا فيكون إلحافا (٣) .

ثمّ حثّ سبحانه على مطلق الإنفاق ، سيّما على الموصوفين بتلك الصّفات ، بأبلغ بيان وأخصره وأوجزه بقوله : ﴿وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ ومال ، أو من كلّ ما وجدتموه ، ممّا ينتفع به الغير ؛ علما أو جاها أو مالا ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ فيجازيكم به أحسن الجزاء.

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا

خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ

الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ

 اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى

 اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا

 وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)

ثمّ بيّن شمول حسن الإنفاق لجميع الأوقات والأحوال بقوله : ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ﴾ في أيّ وقت من الأوقات كان ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ﴾ وفي أيّ حال من الأحوال كان ﴿سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ لا يخصّون إنفاقهم بوقت دون وقت ، وبحال دون حال. ولعلّ وجه تقديم اللّيل والسّرّ ، مزيّتهما على النّهار والعلانيّة ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ وثوابهم الموعود المدّخر ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ومليكهم اللّطيف بهم ﴿وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من مكروه آت ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ من محبوب فات.

ذكر فضيلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّ عليّا عليه‌السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم ؛ فتصدّق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرّا ، وبدرهم علانيّة. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما حملك على هذا »

__________________

(١) وكذا.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤٣٥.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٤٣٥.

٥٤٢

فقال عليه‌السلام : « استوجب ما وعدني ربّي » فقال صلوات الله عليه : « لك ذلك » فأنزل الله هذه الآية (١) .

وعن العيّاشي والطّبرسي : عن الصادقين (٢) عليهما‌السلام ، ما يقرب منه (٣) .

ومن عجائب الرّوايات ما عن الزّمخشري ، وبعض العامّة : أنّها نزلت في أبي بكر حين تصدّق بأربعين ألف دينار ؛ عشرة آلاف في اللّيل ، وعشرة آلاف في النّهار ، وعشرة آلاف في السّرّ ، وعشرة آلاف في العلانيّة (٤) . فإنّه لم ينقل أنّ أبا بكر كان في زمان شركه غنيّا ، بل المنقول أنّه وأباه كانا في مكّة من الفقراء ، وليت شعرى ، من أين وجد في المدينة تلك الثّروة العظيمة ؟

وعن بعض العامّة : أنّه لمّا نزل قوله تعالى ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ بعث عبد الرّحمن بن عوف إلى أصحاب الصّفّة بدنانير ، وبعث عليّ عليه‌السلام بوسق (٥) من تمر ليلا ، فكان أحبّ الصّدقتين إلى الله صدقته (٦) . ويمكن القول بوقوع كلتا الصّدقتين من أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وعن الفقيه : أنّها نزلت في النفقة على الخيل (٧) .

وعن أبي هريرة ، أنّه إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية (٨) .

والحقّ أنّها نزلت في شأن أمير المؤمنين عليه‌السلام لاتّفاق روايات الخاصّة والعامّة عليه ، فلا يعبأ بغيرها.

بيان معنى الرّبا وأقسامه

ثمّ لمّا كان بين النّفقة والرّبا مناسبة التّضادّ - حيث إنّ الإنفاق موجب لتنقيص المال مع رجحانه والأمر به ، والرّبا موجب لازدياد المال مع مبغوضيّته والنّهي عنه - عقّب سبحانه بيان أحكام النّفقات ببيان جملة من أحكام الرّبا بقوله : ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا﴾ ويتعاملون في متّحدي الجنس بزيادة ويأخذونها. قيل : عبّر عن التّصرّف بالأكل ؛ لأنّه المقصود الأعظم منه ، ولشيوعه في المطعومات.

قال الفاضل المقداد رحمه‌الله : كان الرّجل في الجاهليّة إذا حلّ له دين على غيره وطالبه ، يقول له الغريم : زدني في الأجل [ حتى ] أزيدك في المال (٩) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٨٣.

(٢) في تفسير العياشي : عن أبي إسحاق.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٧٧ / ٦٠٧ ، مجمع البيان ٢ : ٦٦٧.

(٤) الكشاف ١ : ٣١٩ ، تفسير الرازي ٧ : ٨٣ ، تفسير روح البيان ١ : ٤٣٥.

(٥) الوسق : مكيلة معلومة ، وهي ستون صاعا ، والصاع خمسة أرطال وثلث.

(٦) تفسير الرازي ٧ : ٨٣.

(٧) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٨٨ / ٨٥٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٨.

(٨) تفسير الرازي ٧ : ٨٣.

(٩) كنز العرفان ٢ : ٣٥.

٥٤٣

أقول : الرّبا في الشّرع قسمان : ربا المعاوضة ، وربا القرض.

أمّا الأوّل : فهو معاوضة جنس بجنسه - إذا كانا مكيلين أو موزونين - مع الزّيادة في أحد العوضين.

فيعتبر في الرّبا المعاملي أمران : اتّحاد الثّمن والمثمّن في الجنس ، وكونه مكيلا أو موزونا. فإذا تحقّق الشّرطان تعتبر المساواة ، وتحرم الزّيادة ، بلا خلاف نصّا وفتوى ، سواء كانت المعاملة بصيغة البيع أو الصّلح أو غيرهما على الأظهر ، لإطلاق الرّوايات وعموم العلّة.

وأمّا الثاني : فهو إقراض مال - مكيلا كان أو موزونا ، أو غيرهما - مع شرط النّفع بالعين ، أو الصّفة ، أو تمديد أجل الدّين بشرط النّفع.

ولا ريب أنّه بكلا قسميه من الكبائر ، حيث أوعد الله الآكلين له والمتصرّفين فيه بأنّهم ﴿لا يَقُومُونَ﴾ من قبورهم حين بعثهم منها ﴿إِلَّا كَما يَقُومُ﴾ المصروع ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ﴾ ويصرعه ﴿الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ﴾ قيل : إنّ من عذاب أكل الرّبا أنّه يحشر في القيامة مجنونا ، ويكون ذلك سيماهم يعرفون به في المحشر.

وقيل : إنّ التّعبير عن الجنون أو الصّرع بالخبط الحاصل من مسّ الشّيطان ، مبنيّ على زعم العرب من كون الجنون والصّرع حاصلين من مسّ الشّيطان والجنّ.

وقيل : إنّ آكل الرّبا يعظم بطنه في المحشر ، بحيث يقوم ويسقط من ثقله ، وسائر النّاس يوفضون إلى المحشر ، وهو لا يقدر على سرعة المشي ، بل لعظم بطنه وثقله بسبب أكل الرّبا ، ينهض ويسقط كالمصروع (١) ، لا أنّه يصير مصروعا أو مجنونا.

عن القمّي رحمه‌الله و( المجمع ) : عن الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا اسري بي إلى السّماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر لعظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الرّبا ، لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ ، فإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النّار غدوّا وعشيّا ، يقولون : ربّنا متى تقوم السّاعة » الخبر (٢) . وفيه دلالة على وجود عالم الصّور والمثال.

﴿ذلِكَ﴾ العذاب المقرّر للمربين (٣) معلّل ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بنوا على حلّيّة الرّبا ، حتى جعلوه أصلا ، وشبّهوا

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٣٦.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩٣ ، مجمع البيان ٢ : ٦٦٩ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٨.

(٣) المربي : من يأتي الربى.

٥٤٤

البيع به في الحلّيّة و﴿قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ﴾ في الحلّيّة ، وفي الفائدة ﴿مِثْلُ الرِّبا﴾ فكما يجوز بيع سلعة تكون قيمتها درهما بدرهمين ، كذلك يجوز بيع عين الدّرهم بدرهمين ، وكما يجوز بيع ما يساوي درهما بدرهمين إلى شهر ، يجوز بيع درهم أو قرض درهم بدرهمين أو بشرط أداء درهمين إلى شهر لعدم الفرق عقلا. فنظموا الرّبا والبيع في سلك واحد ، لإفضائهما إلى الرّبح ، فخالفوا الله بهذه التسوية الاعتبارية التي لا اعتبار بها.

فردّ الله عليهم بقوله : ﴿وَأَحَلَّ اللهُ﴾ العالم بحقائق الأشياء ، وواقعيّات مصالح الامور ومفاسدها ﴿الْبَيْعُ﴾ لوجوب ملاك حسن ترتيب الأثر فيه ، ومعاملة الصّحة معه ﴿وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ لوجود ملاك القبح فيه ، وترتّب الفساد عليه. فعليكم التسليم والانقياد لقصور عقلكم ، والدّين والأحكام لا يصاب بالعقول القاصرة.

عن ( الكافي ) : « إنّما حرم الله الرّبا لئلّا يمتنع النّاس من اصطناع المعروف » (١) .

أقول : الظّاهر أنّ المراد بالمعروف هنا القرض الحسن والمواساة والإحسان بالإخوان.

﴿فَمَنْ جاءَهُ﴾ وبلغه ﴿مَوْعِظَةٌ﴾ وزجر ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ عن أكل الرّبا لتربيته بالخصال الحسنة ، وصرفه عن الأخلاق السيّئة على حسب وظيفة الرّبوبيّة ﴿فَانْتَهى﴾ عنه واتّعظ بالموعظة الإلهيّة واتّبع النهي وتاب ﴿فَلَهُ﴾ من تلك الزّيادة ﴿ما سَلَفَ﴾ أخذه ، وأخذه قبل العلم بالنّهي.

عن ( الكافي ) و( الفقيه ) : عن الصادق عليه‌السلام : « كلّ ربا أكله النّاس بجهالة ثمّ تابوا ، فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التّوبة » .

وقال : « لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا ، وعرف أنّ في ذلك المال ربا ، ولكن قد اختلط في التّجارة بغيره حلالا (٢) ، كان حلالا طيّبا فليأكله ، وإن عرف منه شيئا معزولا [ أنّه ربا ] فليأخذ رأس ماله وليردّ الرّبا ، وأيّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه [ من ] الرّبا ، فجهل ذلك ثمّ عرفه بعد ، فأراد أن ينزعه ، مضى فله ، ويدعه فيما يستأنف » (٣) .

﴿وَأَمْرُهُ﴾ وشأنه راجع ﴿إِلَى اللهِ﴾ يجازيه في الآخرة بحسب ما علم من صدق نيّته في الانتهاء ، وقيل : يحكم في شأنه في القيامة (٤) . وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٦ / ٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٩.

(٢) في الكافي : حلال.

(٣) الكافي ٥ : ١٤٥ / ٤ ، من لايحضره الفقيه ٣ : ١٧٥ / ٧٨٧ و٧٨٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٩.

(٤) جوامع الجامع : ٥٠.

٥٤٥

﴿وَمَنْ عادَ﴾ إلى معاملة ربويّة ، وأخذ الرّبا مستحلّا له ، بعد علمه بالنّهي ﴿فَأُولئِكَ﴾ المستحلّون ﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾ وملازموها ﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ مقيمون أبدا.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « درهم من الرّبا أعظم عند الله من سبعين زنية بذات محرم ، في بيت الله الحرام » (١) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرّبا خمسة : آكله ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه » (٢) .

ثمّ بعد النّهي عن أكله ، وبيان عقوبته المترتّبة عليه ، بيّن سبحانه عدم نفع دنيوي فيه بقوله : ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا﴾ ويذهب به ، حتّى لا يبقى منه شيء ينتفع به.

قيل : إنّ الله يذهب بركته ، ويهلك المال الذي يدخل فيه ، ولا ينتفع به ولده ، وتبقى على المربي تبعته وعقابه.

﴿وَيُرْبِي﴾ الله ويضاعف ﴿الصَّدَقاتِ﴾ ويزيد في ثوابها في الآخرة ، بل تكون الصّدقة التي هي تنقيص في المال سببا لزيادته ، بخلاف الرّبا الذي هو سبب لتكثير المال ، فإنّه بالمال موجب لتنقيصه ، حيث إنّه يتلف بنفسه ، ويتلف المال الذي يدخل فيه.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما نقص مال عن صدقة » (٣) .

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الملك ينادي كلّ يوم : اللهم يسّر لكلّ منفق خلفا » (٤) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله يقبل الصّدقة ويربّيها ، كما يربّي أحدكم مهره » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام مثله (٦) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما نقصت زكاة من مال قطّ » (٧) .

﴿وَاللهُ لا يُحِبُ﴾ بل يبغض ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾ مصرّ على تحليل المحرّمات ، وكلّ ﴿أَثِيمٍ﴾ منهمك في المعاصي واتّباع الشهوات ، فيعاقبهم في الآخرة بأشدّ العقوبات.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ

عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٦٦ / ٨٢٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٦٧١.

(٣) جوامع الجامع : ٥٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٠.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ٩٥.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٤٣٦ ، تفسير أبي السعود ١ : ٢٦٧ ، والمهر : أول ما ينتج من الخيل والحمر الأهليه وغيرها.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٢٧٩ / ٦١٥.

(٧) تفسير أبي السعود ١ : ٢٦٧ ، تفسير روح البيان ١ : ٤٣٦.

٥٤٦

ثمّ بعد ما بيّن سبحانه إعراضه عن الكفرة العصاة وبغضه إيّاهم ، أعلن بحبّه لأهل الإيمان ، وإقباله برحمته وثوابه إلى المطيعين ومعطي الزّكاة والصّدقات بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ، ورسوله ، وكتابه ، ودينه ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ التي تكون من وظائف الإيمان ﴿وَأَقامُوا الصَّلاةَ﴾ وأتوا بها بحدودها من أجزائها وشرائطها وما يعتبر في صحّتها ﴿وَآتَوُا الزَّكاةَ﴾ وصرفوها في مصارفها المقرّرة وفي تخصيص الصّلاة والزّكاة بالذّكر مع دخولهما في الأعمال الصّالحات ، دلالة على كمال الاهتمام بهما وكونهما من أعظم الواجبات ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ وثوابهم الموعود ، حال كونه مذخورا ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ومالكهم الرّؤوف بهم ﴿وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من لقاء مكروه ، ونقص أجر ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على مفارقة الدّنيا وما فيها ، وتنزّل الدّرجة في الآخرة.

عن ابن عبّاس رحمه‌الله : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة ، ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدّنيا (١) ، وعلى ما فاتهم من النّعم الزّائدة التي حصلت لغيرهم من السّعداء.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ

 تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا

تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ

 لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حلّيّة الرّبا الذي كان قبل النّهي عنه ، بيّن اختصاصها بالرّبا المقبوض من الغريم دون غير المقبوض ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ﴾ واحذروه في مخالفة حكمه وصونوا أنفسكم من عقابه ﴿وَذَرُوا﴾ واتركوا ﴿ما بَقِيَ﴾ عند الغريم ﴿مِنَ الرِّبا﴾ بالكلّيّة ، ولا تطالبوا منه ما لم تقبضوه ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالله واليوم الآخر ، فإنّ لازم الإيمان الالتزام بأحكام الله ، وترك مطالبة بقيّة الّربا. وفيه غاية التّهديد ، لدلالته على أنّ مطالب البقيّة خارج عن الإيمان.

عن الصادق (٢) عليه‌السلام : « أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهليّة ، وبقي له بقايا على ثقيف ، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها - بعد أن أسلم - فنزلت [ الآية ] » (٣) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٩٧.

(٢) في مجمع البيان وتفسير الصافي : عن أبي جعفر الباقر.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٦٧٣ ، تفسير الصافي ١ : ٦٧٣.

٥٤٧

وقيل : كان العبّاس بن عبد المطلب وخالد شريكين في الجاهليّة يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ، ولهما أموال عظيمة [ في الرّبا ] فأنزل الله [ هذه ] الآية ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إنّ كلّ ربا في الجاهليّة موضوع ، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب ، وكلّ دم في الجاهليّة موضوع ، وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب » (١) .

وعن القمّي رحمه‌الله : لمّا نزلت ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا﴾ قام خالد بن الوليد ، فقال : يا رسول الله ربا (٢) أبي في ثقيف ، وقد أوصاني عند موته بأخذه ، فأنزل الله (٣) : ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ ما امرتم به من الاتّقاء ، وترك بقايا الرّبا ، فقد عارضتم الله ، وتجرّأتم عليه ﴿فَأْذَنُوا﴾ واعلموا ﴿بِحَرْبٍ﴾ عظيمة ، وغضب شديد ، وعذاب أليم ، كائن ﴿مِنَ اللهِ﴾ بالنّار ﴿وَ﴾ من ﴿رَسُولِهِ﴾ بالقتال والسّيف.

روي أنّه كان لثقيف مال على بعض قريش ، فطالبوهم عند المحل بالمال والرّبا ، فنزلت الآية ، فقالت ثقيف : لا بدّ لنا بحرب الله ورسوله (٤) .

﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ من أخذ الرّبا بعد ما سمعتموه من النّهي والوعيد ﴿فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ﴾ أن تأخذوها كاملا ﴿لا تَظْلِمُونَ﴾ غرماءكم بأخذ الزّيادة ﴿وَلا تُظْلَمُونَ﴾ أنتم من قبلهم بالتّنقيص والمماطلة.

﴿وَإِنْ كانَ﴾ ووجد في غرمائكم ﴿ذُو عُسْرَةٍ﴾ وغير متمكّن من تهيئة المال - زائدا على المستثنيات المعهودة في الفقه - بسبب التّلف ، أو كساد المتاع ، أو انقطاع تصرّفه عنه مع وجوده ، بظلم ظالم ونحوه ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ وإمهال واجب عليكم ﴿إِلى﴾ زمان حصول ﴿مَيْسَرَةٍ﴾ وقدرة على الأداء ، فلا يجوز مطالبته بالدّين.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « خلّوا سبيل المعسر كما خلّاه الله » (٥) .

روي أنّه لمّا نزلت آية ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ قالت الإخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا : بل نتوب إلى الله ، فإنّه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال ، وطالبوا بني المغيرة بذلك ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، وقالوا : أخّرونا إلى أن ندرك الغلّات ، فأبوا أن يؤخّروهم ، فنزلت

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٦٧٣.

(٢) كذا ، والظاهر رابى بمعنى أعطى ماله بالربا.

(٣) تفسير القمي ١ : ٩٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨١.

(٤) تفسير أبي السعود ١ : ٢٦٧.

(٥) الكافي ٤ : ٣٥ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٢.

٥٤٨

﴿وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ(١) .

وفي التّعبير ب ( ذو عسرة ) دون ( ذا عسرة ) دلالة على عموم الحكم لعموم المديونين ، وعدم اختصاصه بالرّبا.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يحلّ دين رجل مسلم فيؤخّره ، إلّا كان له بكلّ يوم صدقه » (٢) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أنظر معسرا أو وضع له ، أنجاه الله من كرب يوم القيامة » (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر ذات يوم ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على أنبيائه ، ثمّ قال : أيّها النّاس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، ألا ومن أنظر معسرا ، كان له على الله في كلّ يوم صدقة بمثل ماله ، حتى يستوفيه - ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام - : ﴿وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ الخبر (٤) .

عن العيّاشي : عن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه النّظرة التي ذكرها الله عزوجل في كتابه ، لها حدّ يعرف ، إذا صار هذا المعسر لا بدّ له من أن ينظر ، وقد أخذ مال هذا الرّجل وأنفقه على عياله ، وليس له غلّة ينتظر إدراكها ، ولا دين ينتظر محلّة ، ولا مال غائب ينتظر قدومه ؟ قال : « نعم ، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام ، فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين ، إذا كان أنفقه في طاعة الله ، فإن كان أنفقه في معصية الله فلا شيء له على الإمام » قيل : فما لهذا الرّجل الذي أئتمنه ، وهو لا يعلم فيما أنفقه ، في طاعة الله أم في معصيته ؟ قال : « يسعى له في ماله ، فيردّه وهو صاغر » (٥) .

وعن القمّي رحمه‌الله : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من غريم ذهب بغريمه إلى وال من ولاة المسلمين ، واستبان للوالي عسرته ، إلّا برئ هذا المعسر من دينه ، وصار دينه على والي المسلمين فيما في يديه من أموال المسلمين » (٦) .

﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ على المعسرين بإبراء ذمّتهم من الدّين كلّه ، فهو ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وأكبر ثوابا من الإنظار و﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك عملتم به.

عن الصادق عليه‌السلام : « إن كنتم تعلمون أنّه معسر ، فتصدّقوا بما لكم عليه » (٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ١٠٢.

(٢) تفسير الرازي ٧ : ١٠٣.

(٣) مصابيح السنة ٢ : ٣٤١ / ٢١٣١ ، تفسير روح البيان ١ : ٤٣٨.

(٤) الكافي ٤ : ٣٥ / ٤.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٨١ / ٦٢٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٢.

(٦) تفسير القمي ١ : ٩٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٢.

(٧) الكافي ٤ : ٣٦ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٢.

٥٤٩

وعنه عليه‌السلام : « من أراد أن يظلّه الله يوم لا ظلّ إلّا ظله - قالها ثلاثا ، فهابه النّاس أن يسألوه ، فقال - : فلينظر معسرا ، أو ليدع له من حقّه » (١) .

روي أنّه جاء رجل إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له : يا [ أبا ] عبد الله قرض إلى ميسرة. فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : « إلى غلّة تدرك » فقال الرّجل : لا والله. قال : « فإلى تجارة تؤوب » قال : لا والله. قال : « فإلى عقدة (٢) تباع » فقال : لا والله ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « فأنت ممّن جعل الله له من أموالنا حقّا » ثمّ دعا بكيس فيه دراهم ، فأدخل يده فيه ، فناوله منه قبضة (٣) .

﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا

يُظْلَمُونَ (٢٨١)

ثمّ ختم سبحانه أحكام الرّبا والمعسر بالتّوعيد بالعقاب على المخالفة ، والوعد بالثّواب على الطّاعة بقوله : ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً﴾ عظيما ، كثير الأهوال والشّدائد ﴿تُرْجَعُونَ﴾ وتردّون ﴿فِيهِ﴾ قهرا ﴿إِلَى اللهِ﴾ وحكمه ، فيحاسب فيه أعمالكم ﴿ثُمَّ تُوَفَّى﴾ وتعطى كاملا ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من المطيع والعاصي ﴿ما كَسَبَتْ﴾ وحصّلت من جزاء أعمالها في الدّنيا من الطّاعة والعصيان ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ من قبل الله بتنقيص ثواب أو زيادة عقاب. وفيه تأكيد لتوفية الجزاء ، وإشعار بأنّ العذاب - وإن كان مؤبدا ، وفي أعلى مرتبة الشّدة - لا يكون ظلما ، بل هو على حسب الاستحقاق.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : هذه الآية آخر أية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا حجّ نزلت ﴿يَسْتَفْتُونَكَ(٤) وهي آية الكلاله ، ثمّ نزل وهو واقف بعرفة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي(٥) ثمّ نزل ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾ فقال جبرئيل : يا محمّد ، ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة ، وعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها أحدا وثمانين يوما (٦) .

أقول : قيل : أحدا وعشرين ، وقيل : سبعة أيّام ، وقيل : ثلاث ساعات (٧) . ولا ينافي ذلك ما روي من أنّ سورة النّصر آخر ما نزل ؛ لأنّها آخر سورة ، وهذه آخر آية.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٥ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٢.

(٢) العقدة : كلّ ما يمتلكه الإنسان من ضيعة ، أو عقار ، أو متاع ، أو مال ...

(٣) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٢.

(٤) النساء : ٤ / ١٧٦.

(٥) المائدة : ٥ / ٣.

(٦) (٦ و٧) . تفسير الرازي ٧ : ١٠٤.

(٧) (٦ و٧) . تفسير الرازي ٧ : ١٠٤.

٥٥٠

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ

كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي

عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً

أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ

مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ

 أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا

 تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ

 لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ

 عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ

 تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ

كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ

الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ

 قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم دين المعسر من وجوب إنظاره ، واستحباب التّصدّق عليه ، بيّن طريق حفظ الدّين عن التّورى (١) والتّلف بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ﴾ وتعاملتم ﴿بِدَيْنٍ﴾ وبعوض في الذّمّة ، سلما كانت المعاملة أو نسيّة ﴿إِلى أَجَلٍ﴾ وأمد ﴿مُسَمًّى﴾ ومعيّن مشروط في العقد كاليوم والشّهر والسنة ، دون غير المعيّن عند المتعاملين كالحصاد والدّياس (٢) وقدوم الحاج لعدم الخلاف ظاهرا في أنّ التّوقيت بأمثالها مفسد للمعاملة.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّها نزلت في السّلف ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قدم المدينة وهم يسلفون في التّمر السّنتين والثّلاث ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم » (٣) .

قيل : في ذكر الدّين منكرا دلالة على أنّ اشتراط كون الدّين في المعاملة واحدا ، ثمنا كان أو مثمنا ،

__________________

(١) التّورى : أي الهلاك والتلف.

(٢) الدّياس : دوس الحصيد ليخرج الحبّ منه ، وذلك بوطئه بالأرجل أو غيرها.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ١٠٨.

٥٥١

وعليه لا يجوز بيع الدّين بالدّين ؛ لأنّه معاملة بدينين لا بدين ، وهو المعروف بالكالي (١) ، ولا خلاف في بطلانه.

قيل : ما من لذّة ، ولا منفعة ، يوصل إليها بطريق محرّم ، إلّا جعل الله سبحانه للوصول إلى تلك اللّذّة والمنفعة طريقا حلالا ، وسبيلا مشروعا (٢) . ولمّا حرّم الله استفادة الرّبح بطريق الرّبا ، أذن في بيع السّلم والنّسيئة ؛ لوجود جميع المنافع المطلوبة في الرّبا فيهما.

ثمّ بيّن سبحانه طريق الاحتياط في الأجل والكيل والوزن في الدّين بقوله : ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ بجنسه وصفاته ووزنه وأجله ؛ لكون الكتب أوثق وأدفع للنّزاع. ولا شبهة أنّ الأمر هنا ليس للوجوب النّفسي ، بل للإرشاد أو الاستحباب.

عن ( العلل ) : عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الله عزوجل عرض على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم ، قال : فمرّ بآدم اسم داود النبيّ ، فإذا عمره في العالم أربعون سنة ، فقال آدم : يا ربّ ما أقلّ عمر داود وأكثر عمري ! يا ربّ إن أنا زدت (٣) داود ثلاثين سنة ثبت ذلك له ؟ قال : نعم يا آدم ، قال : فانّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة ، فأنفذ ذلك وأثبتها له عندك ، واطرحها من عمري » .

قال أبو جعفر عليه‌السلام : « فأثبت الله عزوجل لداود في عمره ثلاثين سنة ، وكانت له عند الله (٤) مثبتة. فذلك قوله عزوجل : ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ(٥) فمحا الله ما كان عنده مثبتا لآدم ، وأثبت لداود ما لم يكن عنده مثبتا.

قال : فمضى عمر آدم فهبط ملك الموت لقبض روحه ، فقال له آدم : يا ملك الموت إنّه قد بقي من عمري ثلاثون سنة ، فقال له ملك الموت : يا آدم ألم تجعلها لابنك داود النبيّ ، وطرحتها من عمرك حين عرض عليك أسماء الأنبياء من ذرّيّتك ، وعرضت عليك أعمارهم ، وأنت يومئذ بوادي الأحياء (٦) ؟ فقال له آدم : ما أذكر هذا.

قال : فقال له ملك الموت : يا آدم لا تجحد ، أ فلم تسأل الله عزوجل أن يثبتها لداود ويمحوها من عمرك ، فأثبتها لداود في الزّبور ومحاها من عمرك في الذّكر ؟ قال آدم : حتى أعلم ذلك » .

__________________

(١) الكالي : أي المتأخر.

(٢) تفسير الرازي ٧ : ١٠٨.

(٣) في النسخة : ازددت.

(٤) في النسخة : عند ذلك.

(٥) الرعد : ١٣ / ٣٩.

(٦) في المصدر : بوادي الدخياء.

٥٥٢

قال أبو جعفر عليه‌السلام : « وكان آدم صادقا » قال : « لم يذكر ، ولم يجحد ، فمن ذلك اليوم أمر الله تبارك وتعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا إلى أجل ، لأجل نسيانه (١) وجحوده [ ما ] على نفسه » انتهى (٢) .

أقول : مع وضوح مصلحة كتابة الدّين على كلّ ذي مسكة (٣) ، من غير حاجة إلى الاطّلاع على وقوع هذه القضيّة من آدم ، ففي تلك الرواية وجوه من الإشكال :

أحدها : دلالتها على نسيان النبيّ مع ثبوت عصمته منه عقلا.

وثانيها : جحود آدم ما أخبر الملك المعصوم بثبوته ، مع أنّه موجب للقطع به.

وثالثها : أنّ آدم كيف بذل سنين من عمره لداود بسبب اطّلاعه على قصر عمره ، ولم يبذل يوما منه ليحيى وعيسى ، مع أنّهما أفضل وأقصر عمرا من داود.

والحاصل : أنّ الرواية من المشكلات التي يجب ردّ علمها إلى الرّاسخين في العلم صلوات الله عليهم.

ثمّ أنّه تعالى بعدما أمر بكتابة الدّين المؤجّل إجمالا ، بيّن كيفيّتها والصّفة المعتبرة فيمن يتولّاها بقوله : ﴿وَلْيَكْتُبْ﴾ كتاب الدّين ﴿بَيْنَكُمْ﴾ أيّها المتعاملون ﴿كاتِبٌ﴾ كان من كان ، ولكن لا بدّ من كون كتابه ملتبسا ﴿بِالْعَدْلِ﴾ والتّسوية بين الدّائن والمديون ، من غير ميل إلى أحدهما ، بحيث لا يزيد في مقدار الدّين والأجل ولا ينقص ولا يغيّر.

وقيل : إنّ من عدل الكاتب أن لا يجمل ولا يهمل في عبارة الكتاب ، وأن يكتبه على نحو تكون صحّته متّفقا عليها بين العلماء ، حتى لا يتردّد فيها عالم.

وقيل : في ذكر ( بينكم ) إشعار بأنّ للكاتب أن يكتب السّند ، مع حضور المتداينين ، ولا يكتفي بتقرير أحدهما.

فإذا دعا المتعاملان كاتبا ينبغي له إجابتهما ﴿وَلا يَأْبَ كاتِبٌ﴾ من الكتّاب ، ولا يمتنع من ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾ كتاب الدّين ﴿كَما عَلَّمَهُ اللهُ﴾ ومثل ما عرف بفضله تعالى من كتبة الحجج والوثائق ، من إيضاح مداليله وشرائطه ، بلا إغلاق ولا خلل.

__________________

(١) في المصدر : إلى أجل مسمى لنسيان آدم.

(٢) علل الشرائع : ٥٥٣ / ١.

(٣) المسكة : الرأي والعقل.

٥٥٣

وقيل : إنّ المراد من أن لا يأب الكاتب ، من أن ينتفع النّاس بكتابته ، كما نفعه الله بعلمها وعلّمه إيّاها ، فيكون نظير : أحسن كما أحسن الله إليك.

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالكتابة بالعدل ؛ بقوله : ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ الكاتب كتاب الدّين مطابقا لإملاء المديون ، المستفاد من قوله : ﴿وَلْيُمْلِلِ﴾ المطالب ، وليقرّرها على الكاتب المعامل ﴿الَّذِي﴾ ثبت ﴿عَلَيْهِ الْحَقُ﴾ واستقرّ على ذمّته الدّين ؛ لأنّه المقرّ والمشهود عليه ﴿وَلْيَتَّقِ﴾ المديون المملي في إملائه ﴿اللهَ رَبَّهُ

وفي الجمع بين اسم الجلالة والنّعت الجميل مبالغة في التّحذير من الإملاء بنحو يكون فيه ضياع حقّ الدّائن ، لما في المملي من الدّاعي النّفساني إلى تغيير الدّين ، ودفع الضّرر عن نفسه ، وتخفيف ما في ذمّته.

ولذا أكّد الأمر بالاتّقاء بالنّهي عن البخس بقوله : ﴿وَلا يَبْخَسْ﴾ من الدّين ولا ينقص ﴿مِنْهُ شَيْئاً﴾ وإن كان مثقال ذرّة من خردل ﴿فَإِنْ كانَ﴾ العامل ﴿الَّذِي﴾ استقرّ ﴿عَلَيْهِ الْحَقُ﴾ والدّين ﴿سَفِيهاً﴾ ناقص العقل غير مميّز بين المعاملة النّافعة والمضرّة.

عن الصادق عليه‌السلام : « السّفيه : الذي يشتري الدّرهم بأضعافه » (١) .

وقيل : إنّ المراد المبذّر الذي يصرف المال في الأغراض غير العقلائية (٢) .

﴿أَوْ﴾ كان ﴿ضَعِيفاً﴾ لصباوة أو شيخوخة أو هرم بحيث صار مختلّ الحواس.

عن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : « يعني ضعيفا في بدنه ، لا يقدر أن يملّ ، أو ضعيفا في فهمه وعلمه ، لا يقدر أن يملّ ويميّز الألفاظ التي هي عدل عليه وله ، من الألفاظ التي هي جور عليه وعلى حميمه » (٣) .

﴿أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ مقصوده على الكاتب ، لخرس أو جهل.

عن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : « هو بمعنى أن يكون مشغولا في مرمّة (٤) المعاش (٥) ، أو تزوّد المعاد (٦) ، أو لذّة في غير محرم. فإنّ تلك الأشغال التي لا ينبغي لعاقل أن يشرع في غيرها » (٧) .

أقول : الظاهر أنّ المراد مطلق من يتعذّر أو يتعسّر عليه الحضور عند الكاتب ، أو البيان والإملاء

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١٨٢ / ٧٣١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٤.

(٢) في النسخة : العقلانية.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٣٤ / ٣٦٩ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٤.

(٤) مرمّة المعاش : إصلاحه والسعي فيه.

(٥) في المصدر : لمعاش.

(٦) في المصدر : لمعاد.

(٧) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٣٤ / ٣٦٩ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٤.

٥٥٤

عليه ، مع استجماعه شرائط نفوذ الإقرار ، من البلوغ والعقل.

وحينئذ ﴿فَلْيُمْلِلْ﴾ وليقرّر على الكاتب بدلا من المديون ﴿وَلِيُّهُ﴾ ومن إليه أموره شرعا ، من الأب والجدّ للأب ، في السّفيه الذي بلغ فاسد العقل وفي الصبيّ ، ومن الفقيه العادل ، في السّفه والجنون المنفصلين الطّارئين بعد البلوغ - على الأظهر الأشهر - ، ومن عدول المؤمنين عند فقد اولئك الأولياء ، ومن الوكيل والمترجم في غير الأضعاف المذكورة. ولا بدّ من أن يكون إملاؤهم ملتبسا ﴿بِالْعَدْلِ﴾ والتّوسّط من غير نقص ولا زيادة ولا تغيير.

﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ وأحضروا لتحمّل الشّهادة على الدّين وخصوصيّاته ، عند الكتابة ﴿شَهِيدَيْنِ﴾ كائنين ﴿مِنْ رِجالِكُمْ﴾ وأهل دينكم ، من البالغين العاقلين ، فلا تقبل شهادة الصبيّ ، والكافر.

وعلى مذهبنا يعتبر فيهما أن يكونا من أهل الولاية ، فلا تقبل شهادة غيرهم. وإطلاق الشّهيد قبل تحمّل الشّهادة مجاز بعلاقة المشارفة.

وعن بعض الفضلاء : الفرق بين الشاهد والشّهيد : أنّ الشاهد بمعنى الحدوث ، والشّهيد بمعنى الثّبوت ، فإذا تحمّل الشّهادة فهو شاهد باعتبار الحدوث والتّحمّل ، فإذا (١) ثبت تحمّله زمانين أو أكثر فإنّه شهيد (٢) .

﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ﴾ لإعوازهما ، أو لعلّة اخرى ﴿فَرَجُلٌ﴾ واحد ﴿وَامْرَأَتانِ﴾ كاف في الشّهادة ، وإثبات الحقّ ، حيث إنّهم يقومون مقام رجلين ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ

روي في تفسيره عليه‌السلام : « ممّن ترضون دينه وأمانته ، وصلاحه وعفّته ، وتيقظه في ما يشهد به ، وتحصيله وتمييزه ، فما كلّ صالح مميّز ولا محصّل ، ولا كلّ محصّل مميّز صالح ، وإنّ من عباد الله لمن هو أهل لصلاحه وعفّته ، ولو شهد لم تقبل شهادته لقلّة تمييزه » (٣) الخبر. وتخصيص الرّجل وامرأتين بالوصف - مع اعتباره في الشّاهد مطلقا - لقلّة اتّصاف النّساء به.

ثمّ بيّن سبحانه علّة اعتبار التّعدّد في النّساء بقوله : ﴿أَنْ تَضِلَ﴾ وتنسى الشّهادة ﴿إِحْداهُما﴾ ذلك توطئة لبيان العلّة الحقيقيّة ومحقّق لموضوعها ، وهي قوله : ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ النّاسية ﴿إِحْداهُمَا الْأُخْرى﴾ لوضوح أنّه لو لا النّسيان لا يتحقّق التّذكار.

__________________

(١) في كنز العرفان : حدوث تحمله وإذا.

(٢) كنز العرفان ٢ : ٥٠.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٧٢ / ٣٧٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٤.

٥٥٥

وحاصل الآية أنّ اعتبار التّعدّد لأجل أن تذكّر إحداهما الاخرى ، إن ضلّت الاولى ونسيت الشّهادة.

في أنّ المراد من نهي الشهداء عن الإباء ، الإباء عن التحمل ، وإمكان إرادة الأعم

ثمّ أنّه تعالى - كما نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة - نهى الشاهد عن الإباء عن الحضور لتحمّل الشّهادة أو لأدائها ، بقوله : ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ﴾ عن التّحمّل أو أداء الشّهادة ﴿إِذا ما دُعُوا﴾ إلى التّحمّل أو الأداء.

في الصّحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل : ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ﴾ قال : « قيل الشّهادة » (١) .

وعنه عليه‌السلام ، في تفسير الآية ، قال : « لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها ، أن يقول : لا أشهد لكم عليها » (٢) .

وقريب منها أو مثلها عدّة روايات اخر ، الظّاهرة في كون المراد حرمة الإباء عن التّحمّل (٣) . ولا معارض لها ، إلّا ما عن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « تفسير هذه الآية : من كان في عنقه شهادة ، فلا يأب إذا ما دعي لإقامتها » (٤) .

ومن الواضح أنّ هذه الرّواية مع ضعف السّند ، لا تكافئ الرّوايات الكثيرة المعتبرة ، مع إمكان الجمع بالقول بأنّ متعلّق ﴿إِذا ما دُعُوا﴾ أعمّ من التّحمّل والأداء ، ولا يرد عليه ما قاله الفاضل المقداد رحمه‌الله من استلزامه استعمال المشترك في أكثر من معنى (٥) ، لوضوح أنّه على تقدير جعل المقدار الأعمّ من التّحمّل والأداء ، لم يستعمل لفظ الدّعوة في غير معناه الظّاهر ، وتكون الكثرة في المحذوف ، وهو المدعو إليه.

ويمكن أن يكون نظره رحمه‌الله إلى أنّه على تقدير إرادة الأعمّ ، لزم استعمال لفظ الشّهداء في المعنى الحقيقي والمجازي ، حيث إنّ استعماله في من لم يتحمّل بعد ، مجاز بعلاقة المشارفة ، فتأمّل.

ثمّ إنّ النّهي عن الإباء دالّ بالالتزام على الأمر بالإجابة ، فتكون الإجابة واجبة ، ولا بدّ من القول بكون وجوبها كفائيا لمعلوميّة الغرض ، كما أنّ وجوب الكتابة على الكاتب كذلك ، ولا منافاة بين كون أمر المديون بالاستكتاب والاستشهاد إرشاديّا أو ندبيّا ، وبين كون الأمر بالكتابة وتحمّل الشّهادة على

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٠ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٥.

(٢) الكافي ٧ : ٣٧٩ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٥.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٠ / ٣ - ٦.

(٤) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٧٦ / ٣٧٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٥.

(٥) كنز العرفان ٢ : ٥٤.

٥٥٦

الكاتب والشّاهد وجوبيّا مولويّا ، كما لا يخفى.

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب إلى المديونين ونهاهم عن التّواني في الكتابة بقوله : ﴿وَلا تَسْئَمُوا﴾ ولا تملّوا لكثرة مدايناتكم ، أو لقلّة هذا الدّين ، من ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ سواء كان ﴿صَغِيراً﴾ وقليلا كدينار أو درهم ﴿أَوْ كَبِيراً﴾ وكثيرا كمائة أو ألف ، حال كونه مستقرّا في الذّمّة ﴿إِلى أَجَلِهِ﴾ المعيّن ، ووقته المعلوم.

قال بعض : الملالة والكسالة من الشّيطان.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لا يقول المؤمن كسلت » (١) .

ثمّ بيّن سبحانه فوائد الكتب بقوله : ﴿ذلِكُمْ﴾ الكتب ﴿أَقْسَطُ﴾ وأعدل ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي حكمه ، حيث إنّ فيه حفظ الحقّ ﴿وَأَقْوَمُ﴾ وأثبت ﴿لِلشَّهادَةِ﴾ وأعون على إقامتها ﴿وَأَدْنى﴾ وأقرب إلى أن تكونوا موقنين به لا ﴿تَرْتابُوا﴾ ولا تشكّوا فيه من حيث الجنس والمقدار والوصف والأجل ، وسائر ما اعتبر فيه.

فتحصّل من الآية أنّ للكتابة ثلاث فوائد :

الاولى : كونها أقسط باعتبار أنّ المتداينين إذا وجدوا كتابا ، فلا بدّ لهم من العمل ، فلا يقع التّعدّي من أحدهما على الآخر.

والثانية : أنّ الشّاهدين إذا نسوا القضيّة ، تكون الكتابة سببا لحفظها وتذكّرها ، ثمّ أنّه قد يكون المتداينان حاضرين لأداء الحقّ ، ولكن قد يكون في قلبهما ريب ؛ إمّا في أصله ، أو في مقداره ، أو أجله.

والفائدة الثالثة : أن تكون الكتابة موجبة لزوال ريبهما.

قيل : إنّه تعالى بالغ في هذه الآية المباركة في التّأكيد ، والبسط الشّديد في الأمر بكتابة الدّين والإشهاد عليه ، بعد المنع عن تحصيل المال بالرّبا ، مع بنائه تعالى في بيان الأحكام في الكتاب المجيد على الاختصار ، نظرا إلى حفظ المال الحلال عن الضّياع والبوار ، حتى يتمكّن المؤمن من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخطته من طلب المال بالرّبا ، وسائر الوجوه المحرّمة.

ثمّ بيّن سبحانه عدم الرّجحان للكتابة في المعاملة النّقديّة بقوله : ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ﴾ المعاملة ﴿تِجارَةً

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ٢٧١.

٥٥٧

حاضِرَةً﴾ ومعاملة نقديّة ﴿تُدِيرُونَها﴾ وتتعاطونها ﴿بَيْنَكُمْ﴾ يدا بيد ، فإن كانت المعاملة هكذا ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ﴾ وضرر أن لا ﴿تَكْتُبُوها﴾ لبعدها عن النّسيان والتّنازع ﴿وَ﴾ لكن ﴿أَشْهِدُوا﴾ شهيدين ﴿إِذا تَبايَعْتُمْ﴾ مطلقا ، سواء كان البيع نقديّا أو سلما أو نسيئة ، لكونه أحفظ ﴿وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ﴾ يحتمل كون الفعل مبنيّا على الفاعل ، وعلى المفعول ؛ فعلى الأوّل يكون نهيا للكاتب والشّاهد عن الإضرار بالمتداينين ، بترك الإجابة ، أو التّغيير ، أو التّحريف في الكتب والشّهادة. وعلى الثاني يكون نهيا للمتداينين عن الإضرار بهما (١) ، بأن يعجلاهما عن مهمّاتهما ، أو يلزماهما على الخروج عن الحدود الشّرعيّة في الكتابة والشّهادة ، أو لا يعطيا الكاتب جعله ، والشّاهد مؤنة مجيئه.

والثاني هو الأظهر ، لقوله تعالى بعده ، مخاطبا للمتداينين : ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ ما نهيتكم عنه من الإضرار ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ﴾ وخروج عن حدود الشّرع والعقل ، ملتبس ﴿بِكُمْ

ثمّ أكّد الوعيد بقوله : ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ في مخالفة أحكامه التي من جملتها حرمة الإضرار ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ ما فيه صلاح دينكم ودنياكم ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من مصالح الامور ومفاسدها ، وحسن الأشياء وقبحها ﴿عَلِيمٌ﴾ لا تخفى عليه خافية.

وتكرير لفظ الجلالة في الجمل الثّلاث ، لتربيه المهابة وقيل : للتّنبيه على استقلال كلّ منها بمعنى على حياله ، حيث إنّ الاولى حثّ على التّقوى ، والثّانية وعد بالإنعام ، والثّالثة تعظيم لشأنه تعالى.

أقول : في الجملة الثّانية إشعار بحكمة الأمر بالتّقوى ، وإنّه لصلاح راجع إلى العباد لا إليه سبحانه ، وفي الثّالثة دلالة على عدم إمكان الخطأ والاشتباه منه تعالى في ما علمه من الصّلاح والفساد.

ثمّ اعلم أنّ الآية المباركة أطول آية في الكتاب العزيز ، وفيها دلالة على كمال لطفه على عباده ، ونهاية رفقه بهم ، وأنّه تعالى إذا كان حافظا لمصالح دنياهم بهذه المرتبة من الاهتمام ، يكون لمصالح آخرتهم أحفظ بمراتب ، وأنّه لا يرضى بوقوع الظّلم والتّنازع بينهم ، وأنّه يحبّ القيام بحوائجهم ، وإعانتهم على إحقاق حقوقهم.

عن القمّي رحمه‌الله : في [ سورة ] البقرة خمسمائة حكم ، وفي [ هذه ] الآية خمسة عشر حكما (٢) .

في شرعية أخذ الرهن للدين وعدم اختصاصها بالسفر

ثمّ بيّن سبحانه طريقا آخر لحفظ الدّيون ، أوثق من الكتابة ، وهو أخذ الرّهن والوثيقة عليها ، بقوله : ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ راكبين ﴿عَلى سَفَرٍ﴾ ومتلبّسين به ، أو مشرفين عليه

__________________

(١) أي بالكاتب والشاهد.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٦.

٥٥٨

ومتوجّهين إليه ، واحتجتم إلى التّداين ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً﴾ يكتب الدّين بحيث تستوثقون بكتابته ﴿فَرِهانٌ﴾ ووثائق من الأعيان ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ ومسلّمة إليكم ، قائمة مقام الكتابة ، بل أحفظ منها للدّين.

وإنّما شرط السّفر في جواز الرّهن - مع عدم كونه مشروطا به ، بل يجوز في الحضر إجماعا - لكون السّفر مظنّة شدّة الحاجة إليه ، وانحصار طريق الاستيثاق به ، لغلبة إعواز الكاتب فيه. فالكلام خرج على الأعمّ الأغلب ، وليس في الواقع على سبيل الاشتراط.

روي أنّه رهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعا من شعير ، وأخذه لأهله (١) .

في بيان اشتراط صحّة الرهن بالقبض

ثمّ أنّ ظاهر الآية اشتراط صحّه الرّهن بالقبض ، ويعضده ما روي عن الصادق عليه‌السلام : « لا رهن إلّا مقبوضا » (٢) ، وادّعي شهرته بين الأصحاب. والإشكال في دلالة الآية ، وسند الرّواية - بل ودلالتها - ضعيف في الغاية.

ثمّ بيّن سبحانه القسم الثّالث من الدّين ، وهو ما لم يؤخذ عليه كتاب ولا رهن ، بقوله : ﴿فَإِنْ أَمِنَ﴾ الدّائن الذي هو ﴿بَعْضُكُمْ﴾ ومن جملتكم ﴿بَعْضاً﴾ آخر ، وهو المديون ، واطمأنّ قلبه به ، بحيث لا يخاف منه الجحود والإنكار ، حتّى يحتاج إلى الاستيثاق بالكتاب والرّهن ﴿فَلْيُؤَدِّ﴾ المديون ﴿الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ على الدّين إلى الدائن ﴿أَمانَتَهُ﴾ وحقّه. وإطلاق الأمانة عليه ، لمعاملة الدّائن مع المديون ودينه معاملة الأمين والأمانة ، من عدم أخذ الكتاب والرّهن والشّهود عليه ﴿وَلْيَتَّقِ﴾ المديون أن يعصي ﴿اللهَ رَبَّهُ﴾ ومليكه اللّطيف بإنكار هذا الدّين الذي هو بمنزلة الأمانة ، والمماطلة في أدائه.

ثمّ لمّا كانت الشّهادة على الدّين بمنزلة أمانة الدائن عند الشّاهد ، أمر سبحانه بأدائها ونهى عن كتمانها بقوله : ﴿وَلا تَكْتُمُوا﴾ أيّها الشّهود ﴿الشَّهادَةَ﴾ على حقوق النّاس إذا دعيتم لأدائها ﴿وَمَنْ يَكْتُمْها﴾ وأمتنع من أدائها عند الحاجة إليها ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ قيل : إنّ إسناد الإثم إلى القلب ، لا ستلزامه إثم جميع الجوارح ، لكون القلب رئيسها ، فمن كان قلبه آثما كانت جميع جوارحه آثمة.

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « كافر قلبه » (٣) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ٢٧٢.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٨٣ / ٦٣٠ ، التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٧٩ عن الباقر عليه‌السلام ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٥ / ١١٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٦.

٥٥٩

وقيل : كتمان الشّهادة هو أن يضمرها ولا يتكلّم بها ، فلمّا كان (١) مقترفا بالقلب اسند إليه ، لوضوح أنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ، كما يقال : هذا ممّا أبصرته عيني ، وعرفه قلبي (٢) .

وقيل : هذا الإسناد ؛ لئلا يظنّ أنّه من الآثام المتعلّقة باللّسان فقط ، وليعلم أنّ القلب أصل متعلّقة ، ومعدن اقترافه ، واللّسان ترجمان عنه ، ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال الجوارح ، إذ هي لها كالأصل الذي تنشعب منه. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيّئات الإيمان والكفر ، وهما من أفعال القلوب ، فإذا جعل كتمان الشّهادة من آثام القلب ، فقد شهد له بأنّه من معظّمات الذّنوب (٣) .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لقوله تعالى : ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ(٤) وشهادة الزّور ، وكتمان الشّهادة (٥) .

وفي حديث مناهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ونهى عن كتمان الشّهادة ... بقوله : ﴿وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ(٦) .

﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الطّاعة والمعصية ، والخيانة في الأمانة وردّها ، وكتمان الشّهادة وأدائها ﴿عَلِيمٌ﴾ فيجازيكم أوفق الجزاء. وفيه غاية التهديد.

﴿لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ

يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

 قَدِيرٌ (٢٨٤)

ثمّ لزيادة التّرهيب على المخالفة والكتمان ، ذكّر العباد سعة قدرته وإحاطة علمه ، ونبّههم بهما. أما سعة قدرته فبقوله : ﴿لِلَّهِ﴾ بالملكية الحقيقية الإشراقيّة ، لا الاعتباريّة الإضافيّة ﴿ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ جميعا ، لا يخرج موجود من الموجودات - في عوالم الملك والملكوت ، قويّها وضعيفها وعظيمها وحقيرها - من تحت قدرته وسلطانه ، فلا عجز له من عقوبة من عصاه ، وإثابة من أطاعه ، هذا سعة قدرته.

وأمّا إحاطة علمه سبحانه فبقوله : ﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾ تظهروا بالقول أو الفعل ﴿ما فِي أَنْفُسِكُمْ

__________________

(١) أي الكتمان.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٣.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٣.

(٤) المائدة : ٥ / ٧٢.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٣.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٧ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٦.

٥٦٠