نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

في بعض يوم واحد ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ ولم يتغيّر في السّنين المتطاولة.

روي أنّه رأى تينة وعنبة كما جنى ، وعصيره كما عصر (١) ، ثمّ لمّا رأى ذلك ، وكان مجال توهّم الاستدلال به على قصر مدّة موته ، دفع الله ذلك التّوهّم بإقامة دليل قاطع على طول مدّة موته بقوله : ﴿وَانْظُرْ إِلى﴾ عظام ﴿حِمارِكَ﴾ كيف صار رميما ، ليتبيّن لك موتك في المدّة المديدة ، وإنّما فعلنا ما رأيت من الإماتة وإحياء الرّمم ، وحفظ التّين والعصير من التّغيير والفساد ، لتشاهد كمال قدرتنا وتزداد يقينا بالمعاد ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً﴾ نافعة ﴿لِلنَّاسِ﴾ جميعا ، حيث يزدادون بقضيّتك معرفة ويقينا.

ثمّ لمّا أمره أوّلا بالنّظر إلى الحمار البالي ؛ لتبيين طول مدّة موته ، أمره ثانيا بالنّظر إلى عظام نفسه ، أو عظام حماره بقوله : ﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ﴾ المتفرّقة الرّميمة ﴿كَيْفَ نُنْشِزُها﴾ ونرفع بعضها إلى بعض ، ونردّها إلى أماكنها من الجسد ﴿ثُمَّ نَكْسُوها﴾ ونلبسها ﴿لَحْماً﴾ ونسترها به ؛ ليشاهد به كيفيّة الإحياء في نفسه ، أو في غيره ، بعد ما شاهدها في نفسه.

في رواية عن القمّي ، عن الصادق عليه‌السلام : « فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطّرة تجتمع إليه ، وإلى اللّحم الذي قد أكلته السّباع ، يتالف إلى العظام من هاهنا وهاهنا ويلتزق بها ، حتى قام وقام حماره » (٢) .

وفي رواية اخرى : ونظر إلى عظامه كيف تلتئم وتلبس اللّحم ، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل ، فاستوى قاعدا (٣)﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ كمال قدرة الله بما عاين من إحياء الرّمم ﴿قالَ أَعْلَمُ﴾ الآن بالشّهود ﴿أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ ممّا أمكن وأراد ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يستعصي عليه أمر.

قصّة عزير النبيّ

روي أنّه ركب حماره وأتى محلّته ، فأنكره النّاس ، وأنكر النّاس ، وأنكر المنازل ، فانطلق على وهم منه حتّى أتى منزله ، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير ، فقال لها عزير : يا هذه ، هذا منزل عزير ؟ قالت : نعم. وأين ذكرى عزير وقد فقدناه منذ كذا وكذا ! فبكت بكاء شديدا ، قال : فإنّي عزير ، قالت : سبحان الله أنّى يكون ذلك ؟ قال : قد أماتني الله مائة عام ، ثمّ بعثني.

قالت : أنّ عزيرا كان مستجاب الدّعوة ، فادع الله بردّ بصري حتى أراك ، فدعا ربّه ، ومسح بين عينيها ففتحتا ، فأخذ بيدها ، فقال : قومي بإذن الله ، فقامت صحيحة كأنّها انشطت من عقال (٤) ، فنظرت إليه ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤١٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٧.

(٣) الاحتجاج : ٣٤٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٨.

(٤) أنشطت من عقال : أي اطلقت من قيدها.

٥٢١

فقالت : أشهد أنّك عزير. فانطلقت إلى محلّة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ، وكان في المجلس ابن العزير ، قد بلغ مائة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ ، فنادت : هذا عزير قد جاءكم ، فكذّبوها ، فقالت : انظروا ؛ فإنّي بدعائه رجعت إلى هذه الحالة ، فنهض النّاس ، فأقبلوا إليه ، فقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه مثل هذا الهلال ، فكشف فإذا هو كذلك ، وقد كان قتل بخت نصّر ببيت المقدس من قرّاء التّوراة أربعين ألف رجل ، ولم يكن بينهم يومئذ نسخة من التّوراة ، ولا أحد يعرف التّوراة ، فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخرم منها حرفا - أي ينقص ويقطع - فقال رجل من أولاد المسبيّين ، ممّن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصّر : حدّثني أبي ، عن جدّي أنّه دفن التّوراة يوم سبينا في خابية في كرم ، فإن أريتموني كرم جدّي أخرجتها لكم ، فذهبوا إلى كرم جدّه ففتّشوه فوجدوها ، وعارضوها (١) بما أملى عليهم عزير عن ظهر القلب ، فما اختلفا في حرف واحد ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله (٢) .

وعن ( المجمع ) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ عزيرا خرج من أهله ، وامرأته حامل ، وله خمسون سنة ، فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه ، فرجع إلى أهله ابن خمسين ، وله ابن له مائة سنة ، فكان ابنه أكبر منه ، فذلك من آيات الله » (٣) .

اعلم أنّ الروايات في هذه القضيّة ، وإن كانت مختلفة من جهات عديدة ، إلّا أنّه لا يهمّنا الجمع بينها بالتّكليف ، لعدم حجّيّتها ، وعدم ترتّب أثر عليها ، وأنّها كانت تدلّ على قدرة الله وصحّة المعاد الجسماني.

﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ

 لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ

 مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)

ثمّ أنّه تعالى - لازدياد يقين المؤمنين بالمعاد حتّى يخرجوا من ظلمات الجهل أو ضعف اليقين إلى نور حقّ اليقين - أردف قصّة عزير بقصّة تضاهيها عن إبراهيم عليه‌السلام ، وكان دليلا آخر على ولايته تعالى

__________________

(١) عارضوها : أي قابلوها.

(٢) تفسير أبي السعود ١ : ٢٥٥ ، تفسير روح البيان ١ : ٤١٤.

(٣) مجمع البيان ١ : ٦٤١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٩.

٥٢٢

للمؤمنين ، وكأنّه تعالى قال : ﴿وَ﴾ ألم تر ، أو ﴿وَ﴾ اذكر ﴿إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ﴾ استدعاء واستعطافا : ﴿رَبِّ أَرِنِي﴾ بلطفك على أنّك ﴿كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى﴾ وبصّرني كيفيّة الإحياء وهيئته بعد العلم بأصله إجمالا.

قيل : إنّه تعالى ذكر اسم إبراهيم هنا لإظهاره العبوديّة ، وحفظه للأدب ، حيث أثنى على الله أوّلا بتوصيفه بالرّبوبيّة ، بخلاف النبيّ الذي مرّ على القرية ، ولذلك جعل الله الإماتة والإحياء في قصّة إبراهيم عليه‌السلام في الطّيور ، وفي قصّة النبيّ في نفسه. ويمكن أن يكون وجه ذكر اسمه عليه‌السلام عظمة شأنه وكرامته عند الله ، زيادة على عزير وعلى من هو أعظم منه.

وفي قول إبراهيم : ( ربّي ) إشعار بأنّ من كمال الدّعاء وموجبات سرعة الإجابة ، الثّناء على الله قبل الدّعاء.

وعن جمع من المفسّرين أنّ إبراهيم رأى جيفة مطروحة في شطّ البحر ، فإذا مدّ البحر أكل [ منها ] دوابّ البحر ، وإذا جزر جاءت السّباع فأكلت ، وإذا ذهبت السّباع جاءت الطّيور فأكلت وطارت. فقال إبراهيم : ربّ أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السّباع والطّيور ودوابّ البحر (١) .

﴿قالَ﴾ الله وحيا : ألم تعلم ﴿أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ﴾ بأنّي قادر على الإحياء كيف أشاء ؟ ! ﴿قالَ﴾ إبراهيم : ﴿بَلى﴾ آمنت وأيقنت ﴿وَلكِنْ﴾ سألت هذا ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ وينضمّ علمي بالبرهان ؛ بالشّهود والعيان.

قيل : إنّ سؤال الله تعالى مع علمه بقوّة يقين إبراهيم ؛ ليعلم النّاس أنّه عليه‌السلام لم يكن على شكّ ، وللإشعار بأنّ على المؤمن أن يكون في طلب زيادة اليقين والارتقاء إلى درجة الشّهود.

عن العيّاشي : سئل الرضا عليه‌السلام أكان في قلب إبراهيم شكّ ؟ قال : « لا ، كان على يقين ، (٢) ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه » . (٣)

وقيل : إنّه عليه‌السلام بعد مناظرته مع نمرود لمّا قال : ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ(٤) فأطلق محبوسا (٥) وقتل رجلا ، قال [ إبراهيم ] : ليس هذا بإحياء وإماتة ، وعند ذلك قال : ﴿رَبِّ أَرِنِي

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٣٨.

(٢) ( كان على يقين ) ليس في المصدر.

(٣) تفسير العيّاشي ١ : ٢٦٦ / ٥٧٦ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٠.

(٤) البقرة : ٢ / ٢٥٨.

(٥) أي نمرود.

٥٢٣

كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى﴾ لتنكشف هذه المسألة عند نمرود (١) .

وقيل : إنّ نمرود قال له : قل لربّك حتى يحيي وإلّا قتلتك ، فسأل الله ذلك. وقوله : ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ أي بنجاتي من القتل ، أو ليطمئنّ قلبي بقوّة حجّتي وبرهاني. (٢)

عن ابن عبّاس ، وسعيد بن جبير : أنّ الله أوحى إليه : أنّي متّخذ بشرا خليلا ، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه‌السلام وقال : إلهي ما علامة ذلك ؟ فقال : علامته أن يحيا الميّت بدعائه. فلمّا عظم مقام إبراهيم عليه‌السلام في درجات العبوديّة ، وأداء الرّسالة ، خطر بباله : إنّي لعلّي أكون ذلك الخليل. فسأل إحياء الميّت ، فقال الله : ﴿أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ بأنّي خليل لك (٣)

فإذن ﴿قالَ﴾ الله مستجيبا لدعائه : إن أردت ذلك ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ قيل : إنّما خصّ الطّير ؛ لأنّه أقرب إلى الإنسان ، وأجمع لخواص الحيوان (٤)﴿فَصُرْهُنَ﴾ واضممهنّ ﴿إِلَيْكَ﴾ كي تتأمّلها وتعرف أشكالها مفصّلة حتى لا يلتبس عليك أحد منها بعد الإحياء.

عن الرضا عليه‌السلام : « فأخذ إبراهيم عليه‌السلام نسرا وبطّا وطاووسا وديكا » (٥) .

وفي رواية ، بدل البطّ : الغراب (٦) . وفي اخرى : الهدهد (٧) . وفي ثالثة ، بدل النّسر : الحمامة (٨) . وفي رابعة : النّعامة (٩) . وفي خامسة : الصّرد (١٠) .

عن الصادق عليه‌السلام : « فذبحهنّ وعزل رؤوسهنّ ، ثمّ نحز (١١) أبدانهن في المنحاز بريشهنّ ولحومهنّ وعظامهنّ حتى اختلطت » (١٢) .

وعنه عليه‌السلام ، في حديث : « أنّ إبراهيم دعا بمهراس فدقّ فيه الطّير جميعا ، وحبس الرؤوس عنده » (١٣) .

وفي رواية ( الكافي ) : « فقطعهنّ واخلطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السّباع التي أكل

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٣٨.  (٢) تفسير الرازي ٧ : ٣٨.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ٣٨.

(٤) تفسير أبي السعود ١ : ٢٥٦ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٢.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٨ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧١.

(٦) تفسير الرازي ٧ : ٤٠.

(٧) تفسير العياشي ١ : ٢٦٧ / ٥٧٩ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٢.

(٨) تفسير الرازي ٧ : ٤٠.

(٩) تفسير العياشي ١ : ٢٦٥ / ٥٧٥.

(١٠) تفسير العياشي ١ : ٢٦٩ / ٥٨١ ، والصّرد : طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات.

(١١) النّحز : الدق والسحق والهرس بأداة كالهاون والمهراس.

(١٢) الخصال : ٢٦٥ / ١٤٦ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧١.

(١٣) تفسير العياشي ١ : ٢٦٦ / ٥٧٧ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧١.

٥٢٤

بعضها بعضا » (١) .

﴿ثُمَ﴾ غبّ (٢) اختلاطهنّ ﴿اجْعَلْ﴾ وضع ﴿عَلى كُلِّ جَبَلٍ﴾ من الجبال التي حولك - عن الصادق عليه‌السلام : « أنّها عشرة » (٣) . وقيل : كانت سبعة ، وقيل : أربعة (٤) - ﴿مِنْهُنَّ جُزْءاً﴾ من الأجزاء المختلطة ﴿ثُمَّ ادْعُهُنَ﴾ بأسمائهنّ إليك ، وقل لهنّ : تعالين بإذن الله ، فإذا دعوتهنّ ﴿يَأْتِينَكَ﴾ ويسعين إليك ﴿سَعْياً﴾ سريعا طيرانا ، أو مشيا.

عن الرضا عليه‌السلام : « جعل مناقيرهنّ بين أصابعه ، ثمّ دعاهنّ باسمائهنّ ، ووضع عنده حبّا وماء ، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان ، وجاء كلّ بدن حتى انضمّ إلى رقبته ورأسه ، فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ فطرن ، ثمّ جئن وشربن من ذلك الماء ، والتقطن من ذلك الحبّ وقلن : يا نبيّ الله أحييتنا أحياك الله ، فقال إبراهيم عليه‌السلام : بل الله يحيي ويميت ، وهو على كلّ شيء قدير » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، - في حديث ذكر فيه أخذ إبراهيم الطّيور الأربعة ، وخلط أجزائهنّ ، وجعلها على عشرة أجبل - قال : « هذا تفسيره في الظّاهر ، وتفسيره في الباطن : خذ أربعة ممّن يحتمل الكلام فاستودعهم علمك ، ثمّ ابعثهم في أطراف الأرضين حججا (٦) ، وإذا أردت أن يأتوك دعوتهم بالاسم الأكبر يأتونك سعيا بإذن الله » الخبر (٧) ، هذا أحد بطون الآية.

وقيل : إنّ منها أنّ إبراهيم عليه‌السلام سأل من الله حياة قلبه ؛ فأشار إليه بذبح الطّيور : الطّاووس كناية عن الزّينة ، والغراب عن الأمل ، والدّيك عن الشّهوة ، والبطّ عن الحرص. فأشار إلى أنّه ما لم يذبح نفسه بالمجاهدة ، ولم يقلع هذه الرّذائل عن النّفس ، لم يحي قلبه بالمشاهدة (٨) .

﴿وَاعْلَمْ﴾ بالشّهود بعد البرهان ﴿أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ غالب على أمره ، قادر على إنفاذ إرادته ﴿حَكِيمٌ﴾ في أفعاله ، لا يصدر عنه من العاديّات وخوارقها إلّا ما فيه الصّلاح التّام.

﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣٠٥ / ٤٧٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٠.

(٢) أي بعد.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٦٥ / ٥٧٤.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ٤٢ ، تفسير أبي السعود ١ : ٢٥٧.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٨ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧١.

(٦) زاد في الخصال : لك على النّاس.

(٧) الخصال : ٢٦٥ / ١٤٦ ، تفسير الصافي : ٢٧١.

(٨) تفسير روح البيان ١ : ٤١٦.

٥٢٥

سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)

ثمّ بعد ما بيّن الله تعالى من اصول العلم بالمبدأ والمعاد ، والاستدلال بالوقائع المسلّمة بين أهل الكتاب على صحّتهما ، شرع في بيان جملة من الشّرائع والأحكام ، ولمّا كان من أشقّها التّكليف ببذل المال والإنفاق على الفقراء وفي سائر وجوه الخير ، بدأ بترغيب العباد فيه بقوله : ﴿مَثَلُ﴾ نفقة المؤمنين ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ ويصرفون ﴿أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطريق الخير ، ووجوه البرّ ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ وقيل : إنّ المراد مثل المنفقين كمثل باذر حبّة صحيحة ، زرعت في أرض عامرة مغلّة (١) ، فعند ذلك ﴿أَنْبَتَتْ﴾ وأخرجت تلك الحبّة سبعة سوق ، لكلّ ساق سنبلة ، فيكون المجموع ﴿سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ كما يشاهد في الذّرة والدّخن ، مع أنّه تمثيل لتصوير مضاعفة الثّواب ، ويكفي فيه كونه معقولا وإن لم يكن له مصداق في الوجود ، مع أنّه يحتمل أنّ زرع الحنطة كان سنبله في بدو الخلقة أو في بعض الأراضي المغلّة كذلك.

﴿وَاللهُ يُضاعِفُ﴾ ثواب المنفق زائدا على تلك المضاعفة إلى ما شاء الله ﴿لِمَنْ يَشاءُ﴾ أن يضاعف له بفضله ، وعلى حسب حال المنفق والإنفاق ، من إخلاصه وتعبه وخصاصته ومصرف إنفاقه ، ككونه في الجهاد ، أو على الوالدين ، أو العلماء ، أو ذراري الرّسول ، فإنّه يتفاوت ثواب الأعمال بتفاوت الجهات والخصوصيّات.

عن الصادق عليه‌السلام : « هذا لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « إذا أحسن العبد عمله ضاعف الله عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف » (٣) .

وفيهما دلالة على أنّ تلك المضاعفة جارية في جميع الأعمال والعبادات.

﴿وَاللهُ واسِعٌ﴾ جودا وفضلا لا يضيق عليه إعطاء الزّيادة كائنا ما كان

﴿عَلِيمٌ﴾ به ، وبنيّة المنفق وخلوصه ومقدار إنفاقه.

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ

 أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)

__________________

(١) المغلّة : الأرض المنتجة للغلات.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٢.

(٣) ثواب الأعمال : ١٦٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٢.

٥٢٦

ثمّ بيّن الله تعالى ما يعتبر في صحّة الإنفاق بقوله : ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من جهاد أو غيره من وجوه الخير ﴿ثُمَ﴾ بعد التّوفيق بهذا العمل الصّالح النّافع ﴿لا يُتْبِعُونَ﴾ ولا يعقبون ﴿ما أَنْفَقُوا مَنًّا﴾ وإظهار حقّ على المنفق عليه ، وحسن اصطناع به ﴿وَلا أَذىً﴾ وإساءة بكلام أو فعل فيسوؤه ، كأن يقول للفقير : تأذّينا منك ، أو : لا نستريح من شرّك وزحمتك ، أو يتطاول عليه ، وأمثال ذلك. وتقديم ذكر المنّ لكونه أكثر وقوعا من الأذى ، وذكر كلمة ( ثمّ ) لإظهار مباينة الإنفاق لهما ، وكمال البعد بينه وبينهما.

عن الصادق عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أسدى إلى مؤمن معروفا ، ثمّ آذاه بالكلام ، أو منّ عليه ، فقد أبطل الله صدقته » (١) .

فتحصّل من الآية المباركة والرواية الشّريفة أنّ الصّدقة ، بل كلّ معروف ، كزرع المؤمن ، والمنّ والأذى آفتاه ، فعلى المؤمنين أن يحفظوا زرعهم من الآفة ، فإذا حفظوه منها كان ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ وثوابهم الموعود ، في الآية السّابقة ، المذخور ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ومليكهم اللّطيف بهم ﴿وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من نقص الأجر ، والابتلاء بالعذاب ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما خلّفوه من الدّنيا ، وما فاتهم من مطلوب.

روى العامّة أنّها نزلت في عثمان حين جهّز جيش العسرة في غزوة تبوك ، بألف بعير بأقتابها وأحلاسها ، وألف دينار (٢) . وفي عبد الرّحمن بن عوف حيث تصدّق بأربعة آلاف درهم على رواية ، أو دينار على اخرى ، أو بنصف ماله على ثالثة (٣) .

وعلى هذا يحتمل أن يكون في ذكر المنّ والأذى التّعريض عليهما ، والإشارة إلى منّهما على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين بصدقتهما ، كما يستفاد ممّا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ما من النّاس أحد أمنّ علينا في صحبته وذات يديه من ابن أبي قحافة » (٤) . أنّه منّ بإسلامه وصحبته على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان من مصاديق قوله تعالى : ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا(٥) .

في ردّ ما روته العامّة في قضية أبي بكر

وقد أوّل بعض العامّة المنّ في الحديث بكثرة إنعامه بماله. وفيه : أنّه ما نقل من أحد

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٩١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٢.

(٢) الأحلاس جمع حلس : وهو كلّ ما على ظهر الدابة تحت الرّحل والقتب والسّرج.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ٤٥ ، تفسير أبي السعود ١ : ٢٥٨ ، تفسير روح البيان ١ : ٤١٩.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ٤٦.

(٥) الحجرات : ٤٩ / ١٧.

٥٢٧

أنّه كان قبل البعثة وبعدها غنيّا ذا ثروة ، مع وضوح كون أمير المؤمنين عليه‌السلام أمنّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله منه ، حيث إنّه عليه‌السلام بذل في محبّته نفسه وماله. وكيف كان أبو بكر كثير الإنعام مع بخله بصدقة درهم لنجوى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ! ولذلك ترك مكالمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونجواه عشرة أيّام.

والحاصل : أنّه لا دلالة في الآية إلّا على اشتراط أجر الصّدقة بخلوّها عن المنّ والأذى ، وانّهما مبطلان لها ومحبطان لأجرها ، وكونها عند الاقتران بهما حسرة ووبالا ، ولا صراحة بل لا ظهور لها في المدح ، وإنّما الصّراحة فيما نزل في صدقة أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله تعالى : ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(١) .

رواية عامية في فضيلة الحسن بن علي عليهما‌السلام

وروى بعض العامّة - في شأن نزول الآية - أنّ الحسن بن علي عليهما‌السلام اشتهى طعاما ، فباع قميص فاطمة عليها‌السلام بستّة دراهم ، فسأله سائل فأعطاها ، ثمّ لقي رجلا يبيع ناقة ، فاشتراها بأجل وباعها من آخر ، فأراد أن يدفع الثّمن إلى بائعها فلم يجده. فحكى القضيّة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أمّا السائل فرضوان ، وأمّا البائع فميكائيل ، وأمّا المشتري فجبرائيل ، قوله تعالى : ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ...﴾ الآية (٢) .

أقول : الرواية قرينة على سوق الآية في غاية المدح.

﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)

ثمّ أكّد سبحانه اشتراط قبول الصّدقة بعدم اقترانها بالمنّ والأذى بقوله : ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ وردّ جميل عند عدم الإنفاق ، كأن يقول للفقير : أنا منفعل منك ، ومعتذر إليك والله يرزقك ، ويوسّع عليك ، حتى يسرّ قلبه ويطيب خاطره ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ وستر لإلحاف السّائل في المسألة ، وعفو عن تعدّيه في القول وبذاءة لسانه ، وصفح عن إساءته ﴿خَيْرٌ﴾ لكم عند ربّكم ، وأنفع ﴿مِنْ صَدَقَةٍ﴾ تحسبونها خيرا ، إذا كان ﴿يَتْبَعُها أَذىً﴾ وإساءة ؛ لأنّ في الكلام الجميل مسرّة قلب الفقير بلا ضرر عليه ، بخلاف الإعطاء مع المنّ والأذى ، فإنّ فيه ضررا بما يكون تحمّله أشقّ عليه من تحمّل مرارة الفقر ﴿وَاللهُ غَنِيٌ﴾ عمّن ينفق على الفقراء الذين هم عياله ، وعن إنفاقكم ، حيث إنّه بفضله ورحمته يرزقهم من حيث لا يحتسبون ، بل أنتم محتاجون إلى الإنفاق حتّى يكون ذخرا لكم ، وهو ﴿حَلِيمٌ﴾ غير عجول

__________________

(١) الإنسان : ٧٦ / ٨.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤١٩.

٥٢٨

بعقوبة المانّ والمؤذي في صدقته ، وفيه من السّخط والوعيد لهم ما لا يخفى.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ

النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ

 وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

الْكافِرِينَ (٢٦٤)

ثمّ أكّد سبحانه اشتراط صحّة الإنفاق وحسنه بعدم الإتباع بالمنّ والأذى ، بالنّهي الصّريح ، والتّنصيص بالبطلان بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ﴾ ولا تحبطوا أجرها وثوابها الموعود لكم ﴿بِالْمَنِّ وَالْأَذى﴾ وفي التوجّه من الغيبة إلى الخطاب ، وتوصيف المخاطبين بالإيمان غاية التّهيّج وكمال التّرغيب إلى العمل بموجب النّهي اهتماما به.

ثمّ للمبالغة في توضيح البطلان ضرب الله مثلا معقولا ، وهو ما أفاد من أنّ إبطال المانّ والمؤذي إنفاقهما ﴿كَالَّذِي﴾ أي مثل إبطال المنافق الذي ﴿يُنْفِقُ مالَهُ﴾ في وجوه البرّ وسبل الخير ، حال كونه مريدا بإنفاقه ﴿رِئاءَ النَّاسِ﴾ ونفاقهم ، غير قاصد لوجه الله والتّقرّب إليه ؛ لأنّه لا يصدّق بقلبه ﴿وَلا يُؤْمِنُ﴾ في ضميره ﴿بِاللهِ﴾ حتى يكون في طلب رضاه ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ودار الجزاء ، حتى يهتمّ في تحصيل الثّواب والنّجاة من العقاب. فبطلان هذا المنافق لكفره وفساد نيّته أظهر من الشّمس ، فكذلك بطلان عمل المانّ والمؤذي.

عن العيّاشي : عنهما عليهما‌السلام : « نزلت في عثمان ، وجرت في معاوية وأتباعهما » (١) .

ثمّ مع وضوح حبط الصّدقات بالرّياء ، بالغ سبحانه في توضيح خسران المرائي ، بضرب مثل محسوس له بقوله : ﴿فَمَثَلُهُ﴾ وحاله المعجب في إبطاله إنفاقه بالرّياء ﴿كَمَثَلِ صَفْوانٍ﴾ وحجر صلب أملس كان ﴿عَلَيْهِ تُرابٌ﴾ يسير ﴿فَأَصابَهُ﴾ وانصبّ عليه ﴿وابِلٌ﴾ ومطر شديد عظيم القطر ، فغسل كلّ ما على الحجر من التّراب ﴿فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ أملس ليس عليه شيء من الغبار.

ثمّ بيّن وجه شباهة اولئك المبطلين لإنفاقهم بقوله : ﴿لا يَقْدِرُونَ﴾ اولئك الخاسرون بسبب المنّ والايذاء والرّياء ﴿عَلى﴾ ثواب ﴿شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا﴾ وعملوا ولا يستطيعون [ على ] الانتفاع بما فعلوا ؛

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٧١ / ٥٨٦ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٣.

٥٢٩

لحبط أعمالهم وضياعها ، وعدم استحقاقهم الأجر عليها.

فالكافر المنافق كالحجر الأملس ، وإنفاقه كالتّراب على الحجر ، والكفر والرّياء كالمطر الشّديد ، وكذلك المنفق والمؤذي كالحجر ، والمنّ والأذى كالمطر الشّديد يذهبان بما للإنفاق من الأجر والثّواب.

ثمّ أشار سبحانه إلى سبب هذا الخسران بقوله : ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ ولا يوفّق لسلوك طريق الخير والرّشاد ﴿الْقَوْمَ الْكافِرِينَ

وفيه تعريض على المانّ المؤذي في إنفاقه ، وإشعار بأنّ الخصال المزبورة من خصال الكفّار ، والمؤمن منزّه عنها ، أو إيماء على أنّ المانّ المؤذي والمرائي يموتون كفّارا ، ويحشرون كفارا.

نقل عن بعض أن مثل من يقصد بالطّاعة الرّياء والسّمعة ، كمثل رجل خرج إلى السّوق وملأ كيسه حصى ، فيقول النّاس : ما أملأ كيس هذا الرّجل ! ولا منفعة له سوى مقالة النّاس ، فلو أراد أن يشتري به شيئا لا يعطى به شيئا.

نقل أنّ بعضا بالغوا في إخفاء الصّدقة ، وكانوا يطلبون فقيرا أعمى لا يعلم من المتصدّق ، أو كانوا يربطون في ثوب الفقير وهو نائم ، أو كانوا يلقونها في طريق الفقير ليأخذها (١) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر » قالوا : يا رسول الله ، وما الشّرك الأصغر ؟ قال : « الرّياء ، يقول الله لهم حين يجازي العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون لهم ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟ » (٢) .

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ

 جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)

ثمّ أنّه سبحانه بعد ذكر المثل لإنفاق المانّ والمؤذي والمرائي ، ذكر مثلا لإنفاق المؤمن المخلص في إنفاقه وكثرة ثوابه بقوله : ﴿وَمَثَلُ﴾ إنفاق المؤمنين ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ﴾ في وجوه الخير قاصدين بإنفاقهم ﴿ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ﴾ وطلب ثوابه ﴿وَتَثْبِيتاً﴾ لبعض ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وجعلا

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٢٣.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤٢٣.

٥٣٠

لمقدار منها مستقرّا على الإيمان ، وترسخا لليقين في قلوبهم.

قيل : إنّ العلائق الدّنيويّة تعلّق القلب بين الدنيا والآخرة وبين الإيمان والكفر ، فما لم يقطع المؤمن جميع العلائق الدّنيويّة من قلبه لا يستقرّ قلبه على الإيمان ويتمحّض للآخرة ، ولا شكّ أنّ من العلائق حبّ المال ، ومنها حبّ الحياة ، ومنها حبّ الأهل والأولاد ، فكلّما قطع علاقة منها حصل له بعض الثّبات ، أو حصل لبعض نفسه الاستقرار على الإيمان ، ولبعض قلبه التّوجّه إلى الحقّ.

أقول : لا ريب أنّ المواظبة على العبادات والرّياضات النّفسانيّة تورث القلب نورا وضياء تزول به ظلمة الشّكوك والشّبهات ن ويزداد به اليقين فيها حتى تكون المعارف والعقائد الحقّة راسخة فيها فتكون كلّ عبادة من العبادات موجبا لزيادة مرتبة من اليقين ، وثبات بعض القلب على الإيمان.

فالإنفاق لهذين الغرضين يكون مثله في كثرة النّفع والثّواب ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ﴾ واقعة ﴿بِرَبْوَةٍ﴾ ونظير بستان كائن في مكان مرتفع مصون من أن يفسده البرد للطافة الهواء وهبوب الرّياح.

قيل : إنّ الأشجار الواقعة في الرّبوة تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا ، وأمّا الأراضي المنخفضة فقلّما تسلم ثمارها من البرد ، لكثافة هوائها بركود الرّياح (١) .

وقيل : إنّ المراد من الربوة الأرض اللّيّنة الجيّدة ، بحيث إذا نزل عليها المطر انتفخت ونمت ، فإذا كانت الأرض كذلك يكثر ريعها ، وتكمل ثمارها وأشجارها (٢) ، بخلاف الأراضي المرتفعة ، فإنّها يقل انتفاعها من الأنهار ، وتكثر فيها الرّياح المضرّة.

وعلى أي تقدير يفرض أنّ تلك الجنّة العالية ﴿أَصابَها﴾ ونزل عليها ﴿وابِلٌ﴾ مطر نافع عظيم القطر ﴿فَآتَتْ﴾ تلك الجنّة صاحبها حينئذ ﴿أُكُلَها﴾ وثمارها ﴿ضِعْفَيْنِ﴾ قيل : يعني مثلي ما كان يعهد من هذا البستان من الثّمر (٣) .

عن ابن عبّاس : حملت في سنة من الرّيع ما يحمل غيرها في سنتين. وقيل : الضّعف : مثلي الشيء ، وضعفيه : أربعة أمثاله (٤) .

﴿فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ﴾ ومطر صغير القطر ، يكفيها لمضاعفة ثمرها ، لكرامة منبتها ، وجودة

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٢٥.

(٢) وكذا.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٤٢٥.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٤٢٥.

٥٣١

محلّها ، وبرودة هوائها.

قيل : إنّ المطر الخفيف ورطوبة الهواء إذا داما يفيدان فائدة المطر العظيم.

وقيل : إنّ المراد أنّ الطلّ يكفي لأن يكون لها ثمر ، إن كان ثمرها دون الضّعف ، وعلى أي تقدير لا تبقى بلا ثمر.

عن العيّاشي : عن الباقر عليه‌السلام : « أنّها نزلت في عليّ صلوات الله عليه » (١) .

﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الإنفاقات وسائر العبادات ﴿بَصِيرٌ﴾ ومطّلع كالناظر إليه ، لا يمكن أن تخفى عنه قليلة وكثيرة ؛ فيجازي بأضعاف الجزاء وأحسنه.

﴿أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ

فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ

 نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)

ثمّ أنّه تعالى للمبالغة في توضيح بطلان صدقات المانّ والمؤذي وحسرتهما على حبطها ، مع كمال الحاجة إليها ، ضرب مثلا آخر بقوله : ﴿أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ﴾ أيّها المؤمنون العقلاء ﴿أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾ وبستان تكون أكثر أشجارها ﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ﴾ هما أنفع الأشجار وأشرفها ، ومع ذلك ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ فإذن تكون في غاية الحسن والنّظارة والنّفع ، ثمّ مع هذين الجنسين من الأشجار الجامعة لفنون المنافع يكون ﴿لَهُ فِيها﴾ رزق وافر ، وحظّ متكاثر ﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ الأخر.

وتخصيص النّخل والعنب - مع دخولهما في عموم الثّمرات - وتقديمهما ، لكونهما الأصل والرّكن فيها ، وأكرم الأشجار وأنفعها.

ثمّ بعد بيان صفة الجنّة ، وكمال نفعها بحيث لا يتصوّر أحسن وأنفع منها ، بيّن شدّة حاجة صاحبها إليها ، وإلى منافعها بقوله : ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿أَصابَهُ الْكِبَرُ﴾ والهرم والضّعف الذي هو مقتضي لشدّة الحاجة إلى منافعها ، والعجز عن تدارك أسباب المعاش من غيرها ﴿وَلَهُ﴾ مع ذلك الهرم والضّعف ﴿ذُرِّيَّةٌ﴾ وأولاد ﴿ضُعَفاءُ﴾ عجزة عن تحصيل القوت الذي يسدّون به الرّمق ، لأجل الصّغر والضّعف ، فكلّهم صاروا كلّا على والدهم الضّعيف ، وحياتهم ومعاشهم على هذا الفرض منوطان

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٧٢ / ٥٨٩.

٥٣٢

بثمار تلك الجنّة ومنافعها ، بحيث لو لم تكن لوقعوا جميعا في المخمصة والهلاك ﴿فَأَصابَها إِعْصارٌ﴾ وريح عاصفة شديدة تستدير في الأرض ، ثمّ تنعكس منها ساطعة إلى السّماء كهيئة العمود. قيل : يسمّيها العرب الزّوبعة (١) ، والعجم ( گردباد ) .

ومن الواضح أنّ هذه الرّيح بنفسها قالعة للأشجار ومعدمة للجنّة ، ومع ذلك كانت ﴿فِيهِ نارٌ﴾ شديدة محرقة ﴿فَاحْتَرَقَتْ﴾ بها الجنّة وأشجارها ، وذهبت ثمارها ، وخرّبت ومحت آثارها.

فانظر كيف يبقى صاحب هذه الجنّة متحيّرا ، حيث إنّه لا يجد ما يعود على نفسه وعياله ، ولا يقوى أن يغرس مثلها ولا يعينه أحد من ذرّيّته ، إذن لكونهم في غاية العجز والضّعف ، فليس لهم إلّا الهلاك.

كذلك من ينفق ماله ، أو يفعل الأعمال الحسنة ، ثمّ يحبط أجرها بالمنّ والأذى والرّياء وغيرها من الآفات ، لا ينتفع بها يوم القيامة مع شدّة الحاجة إليها ، فكما لا يودّ أحد أن يكون له شأن تلك الجنّة ، كذلك لا يودّ أن يحبط أجر أعماله وصدقاته ، لكون حسرته وأسفه أشدّ من صاحب الجنّة.

﴿كَذلِكَ﴾ التّبيين الواضح لسوء عاقبة المنّ والأذى والرّياء في الصّدقات والعبادات ﴿يُبَيِّنُ اللهُ﴾ ويوضّح ﴿لَكُمُ الْآياتِ﴾ الدّالّة على ولايته للمؤمنين ، والدّلائل المثبتة للشّرع المتين ، والعبارات المبيّنة لحكم أحكام الدّين ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ فيها ، ولكي تتدبروها ، وتعتبروا بها ، وتلتزموا باتّباعها.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ

 الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن شرائط صحّة الإنفاق ، من حيث نيّة المنفق وأخلاقه وسلوكه مع الفقير ، بيّن شرط صحّته أو كماله ، من حيث نفس المال ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا﴾ وتصدّقوا في سبيل الله ﴿مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾ بالتّجارة من الأموال ، ومن جياد ما استفدتم من الارباح.

روي أنّها نزلت في قوم لهم مال من ربا الجاهليّة ، وكانوا يتصدّقون منه ، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالصّدقة بالحلال (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « كان القوم قد كسبوا مكاسب [ سوء ] في الجاهليّة ، فلمّا أسلموا أرادوا أن

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٦٠.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٦٥٥.

٥٣٣

يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها ، فأبى الله تبارك وتعالى إلّا أن يخرجوا من طيّب (١) ما كسبوا » (٢).

وروي أنّ الله طيّب ، ولا يقبل إلّا الطيّب (٣) ، وعلى هذا تكون الآية في بيان شرط صحّة الإنفاق.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصّدقة » (٤) . وعليه تكون بيانا لشرط كماله. ويحتمل أن يكون المراد من الطّيّب القدر المشترك بين الحلال والجيّد.

وقيل : إنّ شرط الحلّيّة مستفاد من الأمر حيث إنّ الإنفاق من الحرام لا يؤمر به ، ومن قوله تعالى بعده : ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ والخبيث هو الرّديء المستخبث ، واعتبار جودة المال يستفاد من قوله : ﴿طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ

اعتراض ودفع

إن قيل : قد ثبت في الشّرع على مذهب الإمامية وجوب أداء الخمس من المال المختلط بالحرام ، إذا لم يعلم مالكه وقدره - وهو مناف لمدلول الآية من اعتبار الحلّية في المال - فإنّ الأمر بأداء الخمس من المال المختلط بالحرام ، أمر بالإنفاق من المال الحرام.

قلنا : يستفاد من تشريع الخمس تحقّق المعاوضة القهريّة من مالك الملوك الذي هو وليّ المؤمنين ، بأن يصير مال الحرام حين الاختلاط ملكا للمتصرّف بعوض الخمس الذي يصرفه في مصارفه.

﴿وَ﴾ أنفقوا ﴿مِمَّا﴾ من طيّبات ما ﴿أَخْرَجْنا﴾ وأنبتنا ﴿لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ من الحبوب والثّمار والمعادن ﴿وَلا تَيَمَّمُوا﴾ ولا تقصدوا حين إرادة الإنفاق ﴿الْخَبِيثَ﴾ من المال ، وهو المال الحرام ، أو المعيوب حال كونهم ﴿مِنْهُ﴾ خاصّة ﴿تُنْفِقُونَ﴾ في سبيل الله ، وتختارون لأنفسكم الحلال والجيّد. وفيه إشعار بأنّه لا بأس بالإنفاق من الرّديء إذا كان كلّ المال رديئا.

وقيل : إنّ قوله : ﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ بتقدير همزة الاستفهام التّوبيخي ، فيكون المعنى : أمن الخبيث تنفقون ؟ ! ﴿وَ﴾ الحال أنّكم ﴿لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ من أخذه عوضا من حقوقكم ، أو في معاملاتكم في وقت من الأوقات ، أو بوجه من الوجوه ﴿إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا﴾ وتسامحوا ﴿فِيهِ﴾ مخافة فوت حقّكم ، أو لاحتياجكم إليه.

__________________

(١) في الكافي : أطيب.

(٢) الكافي ٤ : ٤٨ / ١٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٤.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٧٠٣ / ١٠١٥.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٦٥٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٥.

٥٣٤

وقيل : إنّ المراد أنّه لو اهدي إليكم الرّديء لا تأخذونه إلّا عن استحياء وإغماض.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أمر بالنّخل أن يزكّى ، يجيء أقوام بألوان من التّمر هو من أردأ التّمر ، يؤدّونه من زكاتهم ، تمرة يقال لها الجعرور (١) والمعافارة ، قليلة اللّحاء ، عظيمة النّواة ، وكان بعضهم يجيء بها عن [ التمر ] الجيّد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخرصوا هاتين التّمرتين ، ولا تجيئوا منهما بشيء. وفي ذلك نزل : ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ(٢) الخبر.

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ﴾ عن إنفاقكم ، وأمره به ليس لحاجة إليه ، بل إنّما هو لنفعكم وحاجتكم إليه في تكميل نفوسكم ﴿حَمِيدٌ﴾ قيل : يعني مستحقّ للحمد على نعمه عليكم ، وقيل : إنّ معناه أنّه حامد على إعطاء الجيّد ، ومثيب عليه.

وفي الأمر بالعلم إشعار بأنّ إعطاء الرّديء لا يكون إلّا لأجل الجهل بغنائه تعالى ، ولتوهّم حاجته واضطراره إلى هذا الرّديء ، فيقبله البتّة ، وأما إذا علم أنّ ما يعطيه بمنزلة البذر ، ليحصد حاصله في يوم فقره وفاقته ، فلا بدّ من أن يبالغ في جودته.

﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ

واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)

ثمّ لمّا رغّب سبحانه في الإنفاق بجياد المال ، وكان الشّيطان يمنع عنه بوسوسته ، ويردع عنه بتسويله ، نبّه المؤمنين به ، وبقبح طاعته بقوله : ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ ويوسوس في قلوبكم أنّ عاقبة إنفاقكم عدم المال ، وصفر اليد ، والابتلاء بشدّة الحاجة ﴿وَيَأْمُرُكُمْ﴾ بتسويله ويغريكم ﴿بِالْفَحْشاءِ﴾ والقبائح العقليّة من البخل ومنع الحقوق الواجبة ﴿وَاللهُ يَعِدُكُمْ﴾ في إنفاقكم ﴿مَغْفِرَةً﴾ وسترا كائنا ﴿مِنْهُ﴾ لذنوبكم ﴿وَفَضْلاً﴾ وزيادة في المال والأجر.

عن ابن مسعود : أنّ للشّيطان لمّة (٣) ؛ وهي الإيعاد بالشّرّ ، وللملك لمّة ؛ وهي الوعد بالخير ، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من الله ، ومن وجد الأوّل فليتعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم. ثمّ قرأ هذه الآية (٤) .

﴿وَاللهُ واسِعٌ﴾ ومنبسط فضله على المنفقين في وجوه الخير ﴿عَلِيمٌ﴾ بمقدار إنفاقهم وخلوص

__________________

(١) الجعرور : ضرب من التمر صغار لا ينتفع به.

(٢) الكافي ٤ : ٤٨ / ٩ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٥.

(٣) لمّة الشيطان : هي همّته وخطرته في قلب الإنسان.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ٦٤.

٥٣٥

نيّاتهم ؛ فينجز ما وعده على إنفاقكم ، ولا يضيع أجركم.

﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ

أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)

ثمّ أنّه تعالى - بعد ما نبّه على وعد الشيطان وتسويله ، ووعد الرّحمن وإلهامه - أشار إلى أنّ ترجيح الثانّي على الأوّل متوقّف على العقل السليم والعلم والتّوفيق للعمل بقوله : ﴿يُؤْتِي﴾ الله ﴿الْحِكْمَةَ﴾ قيل : هي العلم ، وتوفيق العمل (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « الحكمة : المعرفة ، والفقه في الدّين ، فمن فقه منكم فهو حكيم ، وما [ من ] أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من فقيه » (٢) .

وعنه عليه‌السلام قال : « طاعة الله ، ومعرفة الإمام » (٣) .

وعنه عليه‌السلام في رواية اخرى : « معرفة الإمام ، واجتناب الكبائر » (٤) .

وقيل : هي القرآن وما فيه من المواعظ وعجائب الأسرار (٥) . ومرجع الجميع إلى المعنى الواحد ، وهو معرفة الله والعلم بالأحكام ، ومن الواضح أنّ طريقهما منحصر بمعرفة النبيّ والإمام ، والعلم بحقيقة القرآن وأسراره.

والتّوفيق للعمل ملازم لهذه المعارف ، فإنّ جميعها هو الحكمة التي تكون فضلا من الله يعطيه ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ ويختاره من النفوس الزّكيّة والذّوات الطّيّبة ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ﴾ من قبل الله ، وبإفاضته وتفضّله ﴿فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً﴾ ونفعا ﴿كَثِيراً﴾ لا يعدله خير في الدّنيا والآخرة.

عن الصادق عليه‌السلام : « الحكمة ضياء المعرفة ، وميراث (٦) التّقوى ، وثمرة الصّدق. وما أنعم الله على عباده بنعمة أنعم وأعظم وأرفع وأبهى من الحكمة » (٧) .

قيل : إنّما سمّى الله الدّنيا بأسرها قليلا حيث قال : ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ(٨) . وسمّى الحكمة خيرا

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٣١.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٧٦ / ٦٠٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٦.

(٣) الكافي ١ : ١٤٢ / ١١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٦.

(٤) الكافي ٢ : ٢١٦ / ٢٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٦.

(٥) تفسير الرازي ٧ : ٦٧.

(٦) في مصباح الشريعة : وميزان.

(٧) مصباح الشريعة : ١٩٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٦ ، وفي مصباح الشريعة : الحكمة للقلب.

(٨) تفسير الرازي ٧ : ٦٧ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ٧٧.

٥٣٦

كثيرا ؛ لأنّ الدّنيا محدودة من جميع الجهات ، والعلم لا نهاية لمراتبه ومدّة بقائه ، فالعلم والحكمة خير من الدّنيا وما فيها.

﴿وَما يَذَّكَّرُ﴾ لتلك الفضيلة ، ولا يتنبّه لهذه المزيّة للحكمة أحد ﴿إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ وذوو العقول السّليمة ، الخالصة عن شوائب الأوهام ، الغالبة على الشّهوات. وهم الحكماء الرّبانيّون والعلماء بالله ، لوضوح أنّ من لا غلبة لعقله على هواه ليس له ذلك التّنبّه والاتّعاظ.

﴿وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ

 أَنْصارٍ (٢٧٠)

ثمّ أنّه تعالى - لشدّة الاهتمام بالانفاق الذي هو أحسن الأعمال وأنفعها - أكّد أمره به بالوعد بالثّواب العظيم ، والتّحذير عن تركه بالعقاب الشّديد ، بقوله : ﴿وَما أَنْفَقْتُمْ﴾ في سبيل الله ﴿مِنْ نَفَقَةٍ﴾ وبأيّ شيء تصدّقتم من قليل أو كثير ، في حقّ أو باطل ، في سرّ أو علانية ﴿أَوْ نَذَرْتُمْ﴾ والتزمتم على أنفسكم ﴿مِنْ نَذْرٍ﴾ والتزام معلّق أو مطلق ، في طاعة كنذر أمير المؤمنين وفاطمة عليهما‌السلام صيام ثلاثة أيّام لشفاء ولدهما ، أو معصية كنذر نسوة من قبيلة بني أود أن تنحر كلّ واحدة منهن عشر قلائص (١) إن قتل الحسين عليه‌السلام ، على ما نقله ابن أبي الحديد (٢)﴿فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ﴾ فيثيب على مستحسنها ، ويعاقب على قبيحها. وفيه - مع كمال اختصاره - وعد عظيم ووعيد شديد.

ثمّ أكّد الوعيد بقوله : ﴿وَما لِلظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بترك الإنفاق الواجب ، أو إبطاله بالرّياء والسّمعة أو المنّ والأذى ، أو بالصّرف في تشييد الكفر وتضعيف الحقّ ، أو بنذره في المعصية ﴿مِنْ أَنْصارٍ﴾ وأعوان مدافعين عنهم بأس الله وعذابه ، فلا شفاعة ولا مدافعة. وإيراد ( الأنصار ) بصيغة الجمع لمقابلة الجمع وهو ( الظالمين ) وعطف النّذر على الإنفاق ، لغلبة استلزامه إيّاه.

﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)

__________________

(١) القلائص : جمع قلوص ، والقلوص من الإبل : الفتية من حين تركب إلى التاسعة من عمرها.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ٦١.

٥٣٧

ثمّ بيّن سبحانه مراتب رجحان الصّدقات من حيث الإعلان والإسرار ، وتفاوتهما في الأجر بقوله : ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ وتظهروا ﴿الصَّدَقاتِ﴾ المفروضة والمندوبة ، كما هو ظاهر عموم اللّفظ ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾ أي شيء ممدوح ، ذلك الإبداء عند الله إن سلم من السّمعة والرّياء.

﴿وَإِنْ تُخْفُوها﴾ من النّاس ﴿وَتُؤْتُوهَا﴾ الذين علمتموهم ﴿الْفُقَراءَ﴾ وغير المالكين مؤنة سنتهم ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وأحسن وأفضل عند الله من الإبداء ، حيث إنّ الإعطاء في الخفاء أبعد من الرّياء ، وأحفظ لعرض الفقراء.

قيل : وجه التّصريح عند الإخفاء بالإيتاء للفقراء - مع أنّه واجب في الإبداء أيضا - أنّ الإخفاء مظنّة الالتباس ، فإنّ الغنيّ ربّما يدّعي الفقر ويقبل الصّدقة سرّا ، ولا يفعل ذلك عند النّاس (١) .

﴿وَيُكَفِّرُ﴾ الله ويستر ﴿عَنْكُمْ﴾ بعفوه بعضا ﴿مِنْ سَيِّئاتِكُمْ﴾ وشيئا من ذنوبكم ، وقيل : إنّ ( من ) زائدة ، والمعنى : يمحو عنكم جميع ذنوبكم (٢) . فجعل الله ستر الذّنوب جزاء لستر الصّدقات.

﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الصّدقات وسائر العبادات ، ولو كان في السّرّ والخفية ﴿خَبِيرٌ﴾ ومطّلع ، فمن يطلب بها مرضاة الله يحصل مطلوبه بإتيانها في السّرّ ، إذ لا تخفى على الله خافية.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « صدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ ، وتدفع (٣) الخطيئة ، كما يطفئ الماء النّار ، وتدفع سبعين بابا من البلاء » (٤) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سبعة يظلّهم الله بظلّة يوم لا ظلّ إلّا ظلّه - إلى أن قال - : ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم يمينه ما أنفق بشماله » (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، في قوله عزوجل : ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ قال : « يعني الزّكاة المفروضة » قال : قلت : ﴿وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ﴾ قال : « يعني النّافلة » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، في قوله : ﴿تُخْفُوها﴾ قال : « هي سوى الزّكاة ، إنّ الزّكاة علانيّة خير له » (٧) .

وعنه عليه‌السلام : « فإنّ كلّ ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره [ وكلّ ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه ] ولو أنّ رجلا حمل زكاته على عاتقه ، فقسّمها علانيّة ، كان ذلك حسنا جميلا » (٨) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٣٢ و٤٣٣.

(٢) تفسير الرازي ٧ : ٧٦.  (٣) في مجمع البيان : وتطفئ.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٣٨٥. طبعة شركة المعارف الإسلامية.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٦٦٣. (٦) الكافي ٤ : ٦٠ / ١.

(٧) الكافي ٣ : ٥٠٢ / ١٧ ، وفيه : علانية غير سرّ.

(٨) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٦.

٥٣٨

وعن ابن عبّاس رحمه‌الله : صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة وعشرين ضعفا (١) .

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ

وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا

 تُظْلَمُونَ (٢٧٢)

ثمّ أنّه قيل : لمّا كثر المسلمون (٢) نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الإنفاق على المشركين حتّى تحملهم الحاجة على الدّخول في الإسلام ، فنزلت (٣)﴿لَيْسَ﴾ بالواجب ﴿عَلَيْكَ هُداهُمْ﴾ وإرشادهم جبرا ، وإدخالهم في دين الإسلام اضطرارا ، بل إنّما عليك البلاغ والإرشاد بالبيان والدّعوة إلى الحقّ ، والمجادلة بالتي هي أحسن والوعظ والنّصح ﴿وَلكِنَّ اللهَ﴾ بتوفيقه وتأييده ﴿يَهْدِي﴾ ويوصل إلى الحقّ ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ هدايته وإيصاله إليه من النّفوس الزّكيّة والذّوات المستعدّة القابلة التّابعة للعقل.

وروي أنّ نتيلة امّ أسماء بنت أبي بكر جاءت إلى ابنتها تسألها ، وكذلك جدّتها - وهما مشركتان - فقالت : لا اعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك ، فنزلت [ الآية ] فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تتصدّق عليهما (٤) .

وقيل : كان اناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنّضير ، وكانوا لا يتصدّقون عليهم ، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئا (٥) .

وقيل : جيء بها على طريق تلوين الخطاب ، وتوجيهه إلى شخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للمبالغة في إقبال المؤمنين على الامتثال.

ثمّ صرّح بتأكّد رجحانه وكثرة الثواب عليه لعموم المؤمنين بقوله : ﴿وَما تُنْفِقُوا﴾ وأي شيء تتصدّقوا أيّها المسلمون ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ ومال ، كان المنفق عليه كافرا أو مسلما ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ نفعه وثوابه ، لا لغيركم ، ولا يضرّكم كفر الفقير.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ٢٦٤ ، تفسير روح البيان ١ : ٤٣٣.

(٢) في تفسير أبي السعود وتفسير روح البيان : كثر فقراء المسلمين.

(٣) تفسير أبي السعود ١ : ٢٦٤ ، تفسير روح البيان ١ : ٤٣٤.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ٧٦.

(٥) تفسير الرازي ٧ : ٧٦.

٥٣٩

﴿وَما تُنْفِقُونَ﴾ ولا تتصدّقون على المشركين - ولو كانوا من أرحامكم وأقاربكم - لعلّة من العلل ، أو وجه من الوجوه ﴿إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ﴾ وطلبا لمرضاته ، لا لتأييدهم في كفرهم ، ولا للرّكون إليهم في باطلهم ، فإنّ الله عالم بما في قلوبكم من الإخلاص ، وقصد صلة الرّحم ، وسدّ خلّة المضطرّ. وأمّا تلبّسهم بالكفر فليس بمانع عن الإنفاق ، إلّا إذا كان من الصّدقات المفرضة كالزّكاة والفطرة ، أو كان في الإنفاق عليهم تقوية الباطل وتضعيف الحقّ ، ففي الصورتين لا يجوز الإنفاق على غير أهل الحقّ.

ثمّ بالنّظر إلى العداوة الدّينيّة بين المسلمين والكفّار الرّادعة للمسلمين عن الإنفاق عليهم ، وقوّة توهّم مرجوحيّة الإنفاق عليهم في نظر المسلمين ، أكّد الله سبحانه فضله وكثرة ثوابه بقوله : ﴿وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ ومال على المسلم أو الكافر ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أجره المضاعف ، ويوفّر لكم ثوابه ، مضافا إلى ما يخلفه كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اللهمّ اجعل للمنفق خلفا ، وللممسك تلفا » (١) .

﴿وَأَنْتُمْ﴾ أيّها المنفقون لوجه الله ﴿لا تُظْلَمُونَ﴾ في حقّكم ، ولا تنقصون من أجركم ، فلا ينبغي التّسامح فيه.

قال بعض : لو كان الفقير شرّ خلق الله ، لكان لك ثواب نفقتك (٢) .

﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ

الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما

 تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن تعميم استحباب الصّدقة للمؤمن والكافر ، بيّن أولويّة المؤمنين الخلّص ؛ بالإنفاق ، وأفضليّة التّصدّق عليهم بقوله : ﴿لِلْفُقَراءِ﴾ من المؤمنين الخلّص ، اجعلوا صدقاتكم ، وهم ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾ وحبسوا عن تحصيل المعاش ، لاستغراق أوقاتهم بالعبادات من الجهاد ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ونصرة الدّين ، ومنهم العلماء المروّجون للشّرع ، والمشتغلون بتحصيل العلوم الدّينيّة ، فإنّهم ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾ لكثرة اشتغالهم بالعبادات والمهّام الإسلاميّة ﴿ضَرْباً﴾ وسيرا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ للتّجارة ، وطلب المعيشة.

ذكر أصحاب الصّفة وأوصافهم

قيل : نزلت في فقراء المهاجرين ، وكانوا نحوا من أربعمائة ، لم يكن لهم مسكن

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ٢٦٥.

(٢) الكشاف ١ : ٣١٧ ، تفسير الرازي ٧ : ٧٨.

٥٤٠