نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

شطّ النّهر. فعرف طالوت الموافق من المخالف.

وأعلم أنّ مثل الدّنيا مثل هذا النّهر ، فمن لم يقنع بالكفاف لا يشبع إلّا بتراب القبر.

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « القليل - الّذين لم يشربوا ، ولم يغترفوا - ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا » (١) .

﴿فَلَمَّا جاوَزَهُ﴾ أي عبر النّهر ﴿هُوَ﴾ أي طالوت ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ رأوا قوة جالوت وكثرة جنوده ، خافوا و﴿قالُوا﴾ عن الصادق عليه‌السلام ، في رواية : « قال الّذين شربوا منه » (٢) : ﴿لا طاقَةَ﴾ ولا قوّة ﴿لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ وبمحاربتهم.

قيل : كانوا مائة ألف مقاتل ، كلّهم شاكي السّلاح (٣) ، وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم ، وكان من أشدّ النّاس وأقواهم ، وكان يهزم الجيوش وحده.

﴿قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ﴾ ويتيقّنون بالمعاد ولقاء كرامة الله وثوابه ، ولم يلههم حبّ الدّنيا ولذّاتها ، للمرعوبين من كثرة عدّة العدوّ وشوكتهم : اثبتوا في القتال ولا تنظروا كثرة العدوّ فإنّه ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ وفرقة ﴿قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ﴾ وهزمت ﴿فِئَةٍ﴾ وجماعة ﴿كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾ وإرادته ونصرته ﴿وَاللهُ﴾ بتأييده ومعونته ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ في طاعته وقتال عدوّه ، فلا عبرة بكثرة العدوّ ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ(٤) .

﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا

وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ

 اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ

 لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)

﴿وَلَمَّا بَرَزُوا﴾ في ميدان الحرب ﴿لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ وتهيّأوا لقتالهم مع ما رأوا من قلّة عددهم وضعفهم ، وكثرة عدوّهم وشوكتهم ، تضرّعوا إلى الله في طلب الإعانة والنّصرة ﴿قالُوا(٥)﴿رَبَّنا﴾ ويا من بيده تدبير امورنا على وفق صلاحنا ﴿أَفْرِغْ﴾ واصبب ﴿عَلَيْنا صَبْراً﴾ في منازلتهم ، وأعطنا

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٨٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٨٣.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٣٨٨ ، ورجل شاكي السلاح : تام السلاح كامل الاستعداد.

(٤) آل عمران : ٣ / ١٦٠.

(٥) في النسخة : بقولهم.

٥٠١

قوّة تحمّل البلايا والمكاره والآلام في مقاتلتهم ﴿وَثَبِّتْ أَقْدامَنا﴾ في مزاولة النّزال ، ومعركة القتال ﴿وَانْصُرْنا﴾ بإعانتك وتأييدك ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ الّذين لا يليقون لرحمتك ورأفتك. فحقّق الله ظنّهم ، وأجاب لهم دعوتهم ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ وفرّقوا جمعهم وكسروا شوكتهم ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ ونصره.

قصّة قتل جالوت وانهزام عسكره

عن القمّي ، عن الرضا عليه‌السلام : « فأوحى الله إلى نبيّهم : أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى عليه‌السلام ، وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب ، اسمه داود بن آسي ، وكان آسي راعيا ، وكان له عشرة بنين أصغرهم داود. فلمّا بعث طالوت إلى بني إسرائيل وجمعهم لحرب جالوت ، بعث إلى آسي أن احضر وأحضر ولدك ، فلمّا حضروا دعا واحدا واحدا من ولده ، فألبسه الدّرع - درع موسى - فمنهم من طالت عليه ، ومنهم من قصرت عنه ، فقال لآسي : هل خلّفت من ولدك أحدا ؟ قال : نعم ، أصغرهم تركته في الغنم راعيا. فبعث إليه [ ابنه ] فجاء به ، فلمّا دعي أقبل ومعه مقلاع (١) . قال : فنادته ثلاث صخرات في طريقه ، فقالت : يا داود خذنا ، فأخذها في مخلاته (٢) ، وكان شديد البطش قويا في بدنه شجاعا ، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى ، فاستوت عليه » (٣) .

وفي رواية العيّاشي : « أنّ داود لمّا دخل العسكر ، سمعهم يتعظمون أمر جالوت ، فقال لهم : ما تعظّمون من أمره ، فو الله لئن عاينته لأقتلنّه. فحدّثوا بخبره حتّى ادخل على طالوت ، فقال : يا فتى ، وما عندك من القوّة ، وما جرّبت من نفسك ؟ قال : كان الأسد يعدو على الشّاة من غنمي فادركه ، فآخذ برأسه فافّك لحييه (٤) منها ، فآخذها من فيه. قال : فقال : ادع إليّ بدرع سابغة (٥) ، قال : فأتي بدرع ، فقذفها في عنقه فتملّأ (٦) منها. قال : فقال طالوت : والله لعسى الله أن يقتله به ، قال : فلمّا أن أصبحوا ورجعوا إلى طالوت ، والتقى النّاس ... » (٧) .

وفي رواية القمّي : « ووقف داود بحذاء جالوت ، وكان جالوت على الفيل ، وعلى رأسه التّاج ، وفي جبهته ياقوتة يلمع نورها ، وجنوده بين يديه ، فأخذ داود من تلك الحجارة حجرا فرمى به [ في ] ميمنة جالوت ، فمرّ في الهواء ووقع عليهم فانهزموا ، وأخذ حجرا آخر فرمى به [ في ] ميسرة جالوت فانهزموا ، ورمى جالوت بحجر (٨) فصكّ الياقوته في جبهته ، ووصل إلى دماغه ، ووقع إلى الأرض

__________________

(١) المقلاع : ما يرمى به الحجر.

(٢) المخلاة : ما يوضع فيه العلف ويعلق في عنق الدابة.

(٣) تفسير القمي ١ : ٨٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٥.

(٤) اللّحيان : العظمان اللذان فيهما الأسنان.

(٥) سابغة : أي واسعة.

(٦) أي امتلأت به ، واستوت عليه فكانت بقدر حجمه.

(٧) تفسير العياشي ١ : ١٣٤ / ٤٤٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٦ ..

(٨) زاد في المصدر : ثالث.

٥٠٢

ميتا » (١) .

روي عن ابن عبّاس : أنّ داود كان راعيا ، وله سبعة إخوة مع طالوت ، فلمّا أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشا ، أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصافّ (٢) ، وبدر جالوت الجبّار - وكان من قوم عاد - إلى البراز ، فلم يخرج إليه أحد ، فقال : يا بني إسرائيل ، لو كنتم على حقّ لبارزني بعضكم. فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأغلف (٣) ؟ فسكتوا ، فذهب إلى ناحية من الصّف ليس فيها إخوته ، فمرّ به طالوت وهو يحرّض النّاس ؛ فقال له داود : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأغلف ؟ فقال طالوت : انكحه ابنتي واعطيه نصف ملكي ، فقال داود : فأنا خارج إليه ، وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذّئب والأسد في المرعى ، وكان طالوت عارفا بجلادته. فلمّا همّ داود بأن يخرج إلى جالوت مرّ بثلاثة أحجار ، فقلن : يا داود ، خذنا معك ، ففينا ميتة جالوت. ثمّ لمّا خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره ، ونفذ الحجر فيه (٤)﴿وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ﴾ وقتل بعده ناسا كثيرا ، فهزم الله جنود جالوت.

وفي رواية العيّاشي : « وقال النّاس : قتل داود جالوت ، وملك النّاس حتّى لم يكن يسمع لطالوت ذكر ، واجتمعت بنو إسرائيل على داود » (٥) الخبر.

وفي رواية ابن عبّاس : فحسده طالوت ، فأخرجه من مملكته ، ولم يف له بوعده ، ثمّ ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل (٦) .

﴿وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ﴾ والسلطنة على عامّة بني إسرائيل ، فاستملك جميع أراضيهم ، ولم يتجمّعوا قبل داود على ملك واحد ﴿وَ﴾ آتاه ﴿الْحِكْمَةَ﴾ قيل : هي النّبوة ، ولم يجتمع الملك والنبوّة في بني إسرائيل قبله إلّا له ، بل كان الملك في سبط يهودا ، والنّبوة في سبط لاوي. وفي رواية : وأنزل الله عليه الزّبور (٧) .

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٨٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٦.

(٢) المصافّ : جمع مصفّ ، وهو موقف الحرب ؛ حيث يقف ويصطف المقاتلون صفوفا متقابلة مع العدو.

(٣) الأغلف : الذي لم يختن.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ١٨٨.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٥٥ / ٥٤٩ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٧.

(٦) تفسير الرازي ٦ : ١٨٨.

(٧ و٤) . تفسير العياشي ١ : ٢٥٥ / ٥٤٩.

٥٠٣

﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ﴾ وفي رواية : علّمه صنعة الحديد ، وليّنه له (١) . وقيل : منطق الطّير والنّمل. وقيل : الحكم والقضاء. وقيل : الألحان (٢) . ولا يبعد أن يكون المراد هو الجميع.

ثمّ بعد بيان منّته على بني إسرائيل بدفع جالوت وجنوده عنهم ونعمه عليهم ، بيّن أنّ هذه النّعمة عامّة لجميع أهل العالم بقوله : ﴿وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ﴾ الكفّار ﴿بِبَعْضٍ﴾ المؤمنين.

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أي يدفع الهلاك بالبرّ عن الفاجر » (٣) الخبر. ولعلّ المراد أنّ الله يدفع البلاء ببركة الأخيار عن الفجّار ، فيسلم ويعيش أهل الفسق والفجور بسبب وجود عباده الصّالحين ، ولولاهم لمنعت السّماوات والأرض بركاتها.

ويحتمل أن يكون المراد : لو لا دفع الله النّاس بعضهم عن المنكرات ؛ بنهي بعضهم ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ بمن فيها ﴿وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ﴾ جميعا ، فيدفع بفضله هذا النّحو من الدفع حتى لا يعمّهم الفساد ، فيمتنع الكافر بكفره قليلا ، ويربح المؤمن بكسبه جزيلا.

﴿تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)

﴿تِلْكَ﴾ القصص العجيبة الخارقة للعادة ﴿آياتُ اللهِ﴾ ودلائل صنعه ، وتوحيده ، وحكمته ﴿نَتْلُوها عَلَيْكَ﴾ وحيا ، أو ننزّلها إليك بتوسّط جبرئيل حال كونها مقرونة ﴿بِالْحَقِ﴾ المطابق للواقع ، لا يعتريه شكّ ولا ريب ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فاتل تلك الآيات على النّاس ليعتبروا ويهتدوا ، وإن أصرّوا على الكفر ، فإنّما عليك البلاغ المبين ، وفيه إشعار بأنّه غنيّ عن الاعتبار بتلك الآيات ، فإنّ الشّهود والعيان مغن عن الدّليل والبرهان ، وإنّما عليه تلاوتها على النّاس ؛ لأنّ وظيفته الرّسالة.

﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ

 وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ

 الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ

 وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)

__________________

(٢) مجمع البيان ٢ : ٦٢١ ، تفسير روح البيان ١ : ٣٩١ ، تفسير الرازي ٦ : ١٨٩.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٦٢١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٧.

٥٠٤

ثمّ ذكر الله تعالى اختلاف امم الأنبياء ، ووقوع القتال بينهم ، مع أنّ الأنبياء كانوا في كمال العظمة وعلوّ المقام تسلية لقلب حبيبه ، بقوله : ﴿تِلْكَ﴾ جماعة ﴿الرُّسُلُ﴾ الّذين أرسلناهم لإصلاح الأرض ، ودفع الفساد ، وهداية العباد ﴿فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ﴾ في المقامات المعنويّة ، ومرتبة الرسالة ﴿عَلى بَعْضٍ﴾ آخر ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ﴾ وشافهه بالمخاطبة كخاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج وغيرها ، وكموسى بن عمران ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ﴾ كثيرة ، لا يقاس بغيره.

في أفضلية خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين

ولعلّ الفرق بين التّفضيل المذكور في الصدر ، والرفع المذكور هنا ، أنّ الأوّل لبيان أفضليّة بعض الرّسل على بعض ، وتفاوت مراتب بعضهم بالقياس إلى [ بعض ] آخر ، وهنا لبيان الرّفعة المطلقة من غير إضافة ونسبة إلى بعض آخر ، كما أنّ رفعة السّلطان رفعة مطلقة بالنّسبة إلى الفقير ، ولا يقال : إنّ السّلطان أرفع قدرا من الفقير الصّعلوك ، فإن رتبة الفقير ليس بقابل أن تقع [ في ] طرف النّسبة لرتبة السّلطان ، بخلاف رتبة السلطان بالنّسبة إلى سلطان آخر.

وهذه المرتبة من الرّفعة لخاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث إنّه اوتي ما لم يؤت أحد من المرسلين ، ولو أنّ إبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام كانوا في زمانه عليه‌السلام لم يسعهم إلّا الايمان به واتّباع دينه.

عن ( العيون ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما خلق الله خلقا أفضل منّي ، ولا أكرم عليه منّي » .

قال عليّ عليه‌السلام : « فقلت : يا رسول الله أنت أفضل أم جبرئيل ؟ »

فقال : « إنّ الله فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين ، وفضّلني على جميع النّبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي ، وللأئمّة من بعدك ، وإنّ الملائكة لخدّامنا ، وخدّام محبّينا » (١) .

عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اعطيت خمسا ، لم يعطهنّ أحد قبلي ولا فخر : بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبيّ قبلي يبعث إلى قومه ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، ونصرت بالرّعب أمامي مسيرة شهر ، واحلّت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي ، واعطيت الشّفاعة فادّخرتها لامّتي ، فهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا » (٢) .

وروى البيهقي في ( فضائل الصّحابة ) على ما نقله الفخر الرّازي مع نهاية عصبيّته : أنّه ظهر عليّ عليه‌السلام من بعيد ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هذا سيّد العرب » فقالت عائشة : أ لست أنت سيّد العرب ؟ فقال : « أنا سيّد

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٦٢ / ٢٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٨.

(٢) تفسير الرازي ٦ : ١٩٨.

٥٠٥

العالمين » (١) .

وقال بعض العلماء : إنّ كلّ أمير تكون مؤنته على قدر رعيّته ، وسعة مملكته. فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية ، ومن ملك المشرق والمغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير القرية ، فكذلك كلّ رسول بعث إلى قومه ، اعطي من كنوز التّوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمّل من الرّسالة ، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض ، إنّما يعطى من كنوز الرّوحانيّة بقدر ذلك الموضع ، والمرسل إلى كلّ أهل المشرق والمغرب إنسهم وجهنّم ، لا بدّ وأن يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بامور أهل الشّرق والغرب.

وإذا كان كذلك ، كانت نسبة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى نبوّة سائر الأنبياء ، كنسبة ملك كلّ المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة (٢) ، فلا جرم بلغ في العلم والحكمة والمعرفة إلى حدّ لم يبلغه أحد من البشر ، قال تعالى : ﴿فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى(٣) وفي الفصاحة - إلى أن قال : « اوتيت جوامع الكلم » وصار كتابه مهيمنا على سائر الكتب ، وصارت امّته خير الأمم (٤).

ثمّ خصّ الله تعالى عيسى بن مريم بالذكر ، بقوله : ﴿وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ الآيات ﴿الْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات كإحياء الطّير المسوّى من الطّين بالنّفخ فيه ، وإحياء الموتى وغير ذلك ، مع كون معجزات موسى عليه‌السلام أكثر لتوبيخ اليهود على عدم الإيمان به ، مع وفور معجزاته ﴿وَأَيَّدْناهُ﴾ وأعنّاه ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ قيل : إنّ القدس هو الله ، وروحه جبرئيل.

والإضافة تشريفيّة ، فإنّ الله أعانه بجبرئيل في أوّل أمره ، حيث قال : ﴿فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا(٥) وفي وسطه حيث علّمه العلوم ، وفي آخره حيث إنّه رفعه إلى السّماء (٦) .

وهؤلاء النّبيّون مع علوّ شأنهم وإتيانهم المعجزات الباهرات ، اختلفت اممهم في الكفر والإيمان حتى تقاتلوا ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ وأراد - إرادة تكوينيّة - توافقهم على الحقّ ، وتسالمهم عليه ، وترك مقاتلتهم ، لاتّفقوا على الإيمان بالقهر والجبر ﴿مَا اقْتَتَلَ﴾ اممهم ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ وغبّ (٧) وفاتهم ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ﴾ من قبل رسلهم ، الآيات ﴿الْبَيِّناتِ﴾ وشاهدوا المعجزات ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٦ : ١٩٨.

(٢) زاد في تفسير الرازي : ولمّا كان كذلك لا جرم اعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله.

(٣) النجم : ٥٣ / ١٠.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ١٩٨.

(٥) التحريم : ٦٦ / ١٢.

(٦) تفسير الرازي ٦ : ٢٠٣.

(٧) أي بعدها.

٥٠٦

ووضحت لهم دلائل الحقّ الموجبة لاتّفاقهم واجتماعهم على الإيمان بهم ، والموادّة بينهم.

﴿وَلكِنِ﴾ مع ذلك - حيث لم يشأ الله قهرهم على التّوافق في الإيمان لكونه خلاف الحكممة ، وأتمّ النّظام - ﴿اخْتَلَفُوا﴾ بأهوائهم الزّائغة اختلافا شديدا فاحشا ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ﴾ بالرّسل وما جاءوا به ، وأطاع ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ بهم ، وعصى ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ بعد وقوع الاختلاف بينهم ، عدم اقتتالهم ﴿مَا اقْتَتَلُوا﴾ بأن لم يتحرّك منهم عضو للقتال ، ولم يحدث في قلوبهم داع إليه ﴿وَلكِنَّ اللهَ﴾ بقدرته الكاملة ﴿يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ من الخذلان والعصمة عدلا وفضلا.

عن ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام : « في هذه الآية دلالة على أنّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اختلفوا من بعده ، فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر » (١) .

عن العيّاشي : سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الجمل : كبّر القوم وكبّرنا ، وهلّل القوم وهلّلنا ، وصلّى القوم وصلّينا ، فعلام نقاتلهم ؟ فتلا هذه الآية ، ثمّ قال : « نحن الّذين من بعدهم » ، وقال : « فنحن الّذين آمنّا ، وهم الّذين كفروا » (٢) .

وفي رواية ، قال : « فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى بالله عزوجل وبالنّبيّ والكتاب وبالحقّ ، فنحن الّذين آمنوا ، وهم الّذين كفروا ، وشاء الله تعالى قتالهم بإرادته ومشيئته » (٣) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ

 وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)

ثمّ لمّا كان في الآية السّابقة إشعار بلزوم القتال بين المؤمنين والكافرين ، ومن الواضح أنّه متوقّف على صرف المال ، أردفه بالأمر بإنفاقه ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا﴾ في الجهاد ، وسائر سبل الخير ، شيئا ﴿مِمَّا رَزَقْناكُمْ﴾ وتفضّلنا به عليكم إحسانا وكرما.

وفيه دلالة على أنّ كل ما بأيدي النّاس من الأموال ، من مواهب الله وإنعامه عليهم وليس لهم شيء منها ، وعلى هذا لا ينبغي أن يصعب على احد إنفاقه ، بل عليه أن ينفقه بسهولة وبلا منّة ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ﴾ يوم فاقة جميع النّاس ، وغاية استئصالهم ، وهو يوم القيامة ، حيث إنّه ﴿يَوْمٌ لا بَيْعٌ﴾ و[ لا ]

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢٧٠ / ٣٩٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٨.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٦ / ٥٥٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٨.

(٣) أمالي الطوسي : ١٩٨ / ٣٣٧ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٨.

٥٠٧

تجارة يكتسب بها ﴿فِيهِ﴾ مال يفيد أحدا ، ويكون فداء لنفس ﴿وَلا خُلَّةٌ﴾ وصداقة فيه بين النّاس ، بل الأخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ ﴿وَلا شَفاعَةٌ﴾ نافعة إذ الشّفعاء لا يشفعون إلّا لمن ارتضى.

والحاصل : أنّه لمّا كانت أسباب جلب المنافع في الدّنيا منحصرة بالمعاوضات ، وعمدتها البيع ، وبالموادّة بالصّلات والهدايا ، وبالمعاونة للغير ، وعمدتها الشّفاعة ، والإنسان منقطع عن جميعها في الآخرة ، فعليه أن يكتسب نفع الآخرة في الدّنيا بالإنفاق والعمل الصّالح.

ويحتمل أن يكون المراد من الإنفاق بذل جميع ما كان واجدا له بعطاء الله من النّفس في الجهاد ، والقوى في الطاعات ، والعلم في هداية الخلق ، والمال لفقراء المؤمنين ، والجاه في قضاء حوائج العباد ، وغير ذلك ممّا يمكن صرفه في تحصيل مرضاة الله.

﴿وَالْكافِرُونَ﴾ بترك الطّاعة وعدم الإنفاق ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ على أنفسهم ولبلوغهم في هذا الوصف غايته ، كأنّ المتصّف بهذا الوصف صار منحصرا بهم ، لا يشركهم فيه غيرهم.

وقيل : المراد من الكافرين المؤمنون التّاركون للزّكاة ، والتعبير عنهم بالكافرين للإشعار بأنّ ترك الزّكاة بمنزلة الكفر بالله. وقال بعض : الحمد لله الذي قال : ﴿وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ولم يقل الظّالمون هم الكافرون (١) .

﴿اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما

 فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ

وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا

يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر جملة من الأحكام والقصص ، عاد إلى بيان التّوحيد وصفاته الكاملة الجلاليّة ، ليحصل للقلوب نور ونشاط ، وللصدور انشراح وانبساط ، بقوله : ﴿اللهُ﴾ وفي ذكر اسم الجلاليّة ، ليحصل للقلوب نور ونشاط ، وللصدور انشراح وانبساط ، بقوله : ﴿اللهُ﴾ وفي ذكر اسم الجلالة أوّلا إشارة إلى التّوحيد الذّاتي ، لإشعار ذكره بانفراده بأنّ الموجود القابل للذّكر هو الذّات المقدّسة ، وما سواه عدم محض وليس صرف ، كما قال : ﴿قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ(٢) الآية.

ثمّ أشار إلى التّوحيد الصّفاتي بقوله : ﴿لا إِلهَ﴾ ولا معبود يستحقّ بذاته عبوديّة جميع الموجودات

__________________

(١) تفسير الرازي ٦ : ٢٠٧.

(٢) الأنعام : ٦ / ٩١.

٥٠٨

﴿إِلَّا هُوَ﴾ وحده ، لا شريك له في الالوهيّة ، وفيه تنزيهه من جميع النّقائص.

ثمّ بعد إثبات الصفات الجلاليّة إجمالا ، أثبت له الصّفات الجماليّة بذكر الصّفة الجامعة لها ، وهي ﴿الْحَيُ﴾ قيل في معناه : الدّائم ، الباقي ، الفعّال ، المريد. وقيل : إنّه المدرك بذاته ، والقادر بإرادته.

و﴿الْقَيُّومُ﴾ وهو المتقوّم بذاته ، المقوّم لكلّ ما عداه في ماهيّته ووجوده ، والعالم بتدبير جميع الخلق وحفظهم ، فيدلّ هذا الوصف على كون ذاته المقدّسة قديمة ، أزليّة ، دائمة ، غنيّة ، قادرة ، عالمة.

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « لمّا كان يوم بدر قاتلت ، ثمّ جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنظر ماذا يصنع - قال - فجئت وهو ساجد ، يقول : يا حيّ يا قيّوم ؛ لا يزيد على ذلك ، ثمّ رجعت إلى القتالّ ، ثمّ جئت وهو يقول ذلك ، فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه ، وكان لا يزيد على ذلك ، إلى أن فتح الله له » (١) . وقال بعض : إنّه الاسم الأعظم (٢) .

روي عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : أعظم أسماء الله الحيّ القيّوم (٣) .

ونقل أنّ عيسى عليه‌السلام إذا أراد أن يحيي الموتى يقول : يا حيّ يا قيوم (٤) .

وقيل : دعاء من خاف الغرق في البحر : يا حيّ يا قيّوم (٥) .

ثمّ قرّر تعالى صفة القيموميّة بذكر لازمها ، بقوله : ﴿لا تَأْخُذُهُ﴾ ولا تعتريه ﴿سِنَةٌ﴾ وفتور ، أو نعاس ﴿وَلا نَوْمٌ﴾ قيل : هو كناية عن عدم غفلته عن تدبير الخلق (٦) ، كما أنّه يقال لمن غفل عن شيء وضيعه : إنّك وسنان نائم.

ثمّ أكّد قيمومته ، واحتجّ على تفرّده بالتّدبير بأنّ ﴿لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ إذ هو خالق جميع الممكنات ومبدعها ، فكلّها ملكه وتحت قدرته وسلطانه ، ليس لغيره في عوالم الوجود تصرّف ولا حكم ولا نفوذ إرادة.

ثمّ لمّا كانت قريش يعبدون الأصنام بزعم أنّها شفعاء عند الله ، عظّم كبرياءه ، وأثبت توحّده في العبادة ، وأنكر عليهم اعتقاد كونهم شفعاء بقوله : ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ في شيء من الأشياء وأمر من الامور ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ وإجازته ورضاه ، ومن الواضح أنّه لا إذن إلّا لمن له كرامة لديه ، ومقام محمود عنده ، كالنبيّ وخلفائه وصلحاء امتّه ، دون الأصنام والكفّار.

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٣.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤٠٠.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ٣.

(٤ و٥) . تفسير الرازي ٦ : ١٧٦ .. تفسير روح البيان ١ : ٤٠٠.

(٦) تفسير الرازي ٧ : ٦.

٥٠٩

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « أتاني آت [ من عند ربي ] فخيّرني بين أن يدخل نصف امّتي الجنّة وبين الشّفاعة ، فاخترت الشّفاعة » (١) .

ثمّ بيّن سعة علمه ، وقصور غيره عن معرفة شيء بغير إفاضة منه بقوله : ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ قيل : المراد ما كان قبلهم في الوجود ، ومن قوله : ﴿وَما خَلْفَهُمْ﴾ ما لم يكن بعد.

وهو مرويّ عن الرّضا عليه‌السلام (٢) ، وقيل : ﴿ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي الآخرة ؛ لأنّهم يقدمون عليها ﴿وَما خَلْفَهُمْ﴾ أي الدّنيا ؛ لأنّهم يخلفونها وراء ظهورهم (٣) .

﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ ولا يطّلعون على جزء من معلوماته ﴿إِلَّا بِما شاءَ﴾ أن يعلمه غيره ، ويطّلع عليه.

عن القمّي رحمه‌الله : إلّا بما يوحي إليهم (٤) . وفيه دلالة واضحة على أنّ جميع العلوم بإفاضته تعالى ، ولو لا إفاضته لم يعلم أحد شيئا حتى نفسه.

ثمّ أوضح سبحانه سعة ملكه ، وعظمة سلطانه ، وكمال إحاطته وعلمه بقوله : ﴿وَسِعَ﴾ وأحاط ﴿كُرْسِيُّهُ﴾ وهو اسم للسّماء ، الذي دون العرش ، وفوق سائر الموجودات ﴿السَّماواتِ﴾ وما فيها ﴿وَالْأَرْضَ﴾ وما عليها. فعليه يكون الكرسيّ محيطا بجميع الموجودات سوى العرش ، وإنّما سمّيت تلك السّماء باسم الكرسيّ تشبيها له بمقرّ سلطنته.

وعن العيّاشي ، عنه عليه‌السلام : أنّه سئل : إنّ السّماوات والأرض وسعن الكرسيّ ، أم الكرسّي وسع السّماوات والأرض ؟ فقال : « إنّ كلّ شيء في الكرسيّ » (٥) .

وعن القمّي رحمه‌الله : أنّ عليّا عليه‌السلام سئل عن هذه الآية ، فقال : « السّماوات والأرض وما فيهما في جوف الكرسيّ ، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله » (٦) .

وفي الحديث النّبويّ : « ليس (٧) السّماوات السّبع ، والأرضون السّبع مع (٨) الكرسيّ إلّا كحلقة ملقاة في فلاة ، وفضل العرش على الكرسيّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة » (٩) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٠٢.

(٢) تفسير القمي ١ : ٨٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٩.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ١٠.

(٤) تفسير القمي ١ : ٨٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٥٩.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٥٨ / ٥٥٨ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٠.

(٦) تفسير القمي ١ : ٨٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٠.

(٧) في تفسير روح البيان : ما.

(٨) في تفسير روح البيان : من.

(٩) تفسير روح البيان ١ : ٤٠٤.

٥١٠

عن ( التّوحيد ) : عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن العرش والكرسيّ ما هما ؟ فقال : « العرش في وجه هو جملة الخلق ، والكرسيّ وعاؤه. وفي وجه [ آخر ] العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه ، والكرسيّ هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه ورسله » (١) .

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله : ﴿وَلا يَؤُدُهُ﴾ ولا يشقّ عليه إقامة السّماوات والأرض و﴿حِفْظُهُما﴾ عن الخلل والفساد.

ثمّ بيّن كمال تعاليه وعظمته بعد ذكر تلك الصّفات بقوله : ﴿وَهُوَ الْعَلِيُ﴾ بذاته عن الأنداد ، وبصفاته عن الأشياء ، وهو المتعالي بالقدر والشأن عن جميع ما سواه ، وهو ﴿الْعَظِيمُ﴾ بالمهابة والقهر والكبرياء ، ترتعد من خشيته جميع الأشياء.

في بيان وجه فضيلة آية الكرسي على غيرها من الآيات

ثمّ لمّا كانت الآية الكريمة حاوية لجميع المعارف الإلهيّة ، متضمّنة لامّهات مسائل العلوم الرّبّانية - لكونها ناطقة بوجوده تعالى وتفرّده ، ووجوب ذاته وحياته ، وكمال صفاته ، وتنزّهه عن التحيّز والحلول والتّغيير والفتور ، وكونه موجدا لجميع الكائنات قائما بتدبيرها ، وكونه مالك الملك والملكوت ، ومبدع الاصول والفروع ، ذا البطش الشّديد ، لا يشفع عنده إلّا لمن أذن له ، عالما بجميع الأشياء جليّها وخفيّها ، واسع الملك والقدرة ، ولا يشقّ عليه شاقّ ، ولا يشغله شأن عن شأن ، متعاليا عمّا تناله الأوهام ، عظيما لا تدركه العقول والأفهام - كانت لها فضيلة فائقة ، وعظمة كاملة على سائر الآيات.

كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ أعظم آية في القرآن آية الكرسيّ ، من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيّئاته إلى الغد من تلك السّاعة » (٢) .

وروى كثير من العامّة ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه تذاكر الصّحابة أفضل ما في القرآن ، فقال عليّ عليه‌السلام : « أين أنتم من آية الكرسيّ ؟ » .

ثمّ قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ ، سيّد البشر آدم ، وسيّد العرب محمّد ولا فخر » إلى أن قال : « وسيّد الكلام القرآن ، وسيّد القرآن البقرة ، وسيّد البقرة آية الكرسيّ » (٣) .

وفي رواية اخرى ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا عليّ ، علّمها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها » (٤) .

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٩ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٠.

(٢) تفسير أبي السعود ١ : ٢٤٩.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ٣.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٤٠٦.

٥١١

﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ

 فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)

ثمّ أنّه بعد ما بيّن الله تعالى اصول المعارف الحقّة - من تفرّده بذاته وتعاليه بالشؤون الجليلة الجميلة التي تحكم بها العقول السّليمة ، وجملة من الأحكام التي توافق العادات والحكم الكاملة ، وكان فيها الدّلالة الواضحة على صحّة دين الإسلام ، بحيث لم يكن لأحد مجال الشّكّ والتّرديد فيه - بيّن أنّه لا عذر في الإقامة على الشّرك وعدم قبول الإسلام بقوله : ﴿لا إِكْراهَ فِي﴾ قبول ﴿الدِّينِ﴾ القويم الذي جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا مصداق لمفهومه ، حيث إنّه بالأدلّة العقليّة والآيات الباهرة ﴿قَدْ تَبَيَّنَ﴾ واتّضح ﴿الرُّشْدُ﴾ وسبيل الحقّ ، وهو ملّة التّوحيد ودين الإسلام ، وتميّز ﴿مِنَ الْغَيِ﴾ وطريق الضّلال ، وهو مذهب الوثنيّة ، وسائر الأديان الباطلة.

إن قيل : في تشريع الجهاد إكراه الكفّار ، فكيف ينفى مصداقه ؟

قلنا : ليس الإكراه إلزام الغير بما لا يرى فيه صلاحا وخيرا ، وبعد وضوح الحقّ يكون الامتناع عن قبوله عنادا ولجاجا ، فيكون قتل المعاند الجاحد عقوبة له كسائر الحدود المشروحة لا إكراها على قبول الدّين ، فالإسلام للكافر توبة من تلك المعصية.

قيل : إنّ الآية نزلت في المجوس ، وأهل الكتاب فإنّهم لا يكرهون على الإسلام ، بل تقبل منهم الجزية.

وفيه : أنّه لا يندفع به الإشكال ، لوضوح صدق الإكراه عند الإلزام بأحد الأمرين تخييرا ، مع أنّ الإكراه على الإسلام يتحقّق بتوعّد المكره وتخييره بين القتل وبذل المال مع الصّغار.

روي أنّه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان ، قد تنصّرا قبل مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قدما المدينة فألزمهما أبوهما ، وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت ، فخلّاهما (١) .

أقول : هذا محمول على ما قبل تشريع الجزية على أهل الكتاب ، ويمكن أن يراد بالدّين التّشيّع والولاية.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ٢٤٩.

٥١٢

﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ ويعرض عن كلّ معبود غير الله ، وكل مطغ عن طاعة الله من الشّياطين والأصنام ومردة الجنّ والإنس وأئمّة الضّلال.

وعن القمّي : هم الذين غصبوا آل محمّد حقّهم (١) .

﴿وَيُؤْمِنْ بِاللهِ﴾ إيمانا خالصا صادقا. ومن العلوم أنّ الإيمان الحقيقي به سبحانه مستلزم للإيمان بكتبه ورسله وحججه وأحكامه ، والعمل بها ، وفي تقديم الكفر بالطّاغوت على الإيمان بالله إشعار بتقدّم التّخليه على التّحلية والتبرّي على التولّي ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ﴾ وبالغ في الأخذ ﴿بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى﴾ والحلقة الوكيدة التي ﴿لَا انْفِصامَ﴾ ولا انقطاع ﴿لَها﴾ أبدا.

وكما أنّ المتمسّك بالحلقة الوكيدة ، والحبل المحكم مأمون من التّردّي في البئر ، أو الغرق في البحر ، كذلك الملازم للعقائد الحقّة من التّوحيد والرّسالة والولاية مأمون من التّردّي في جبّ الهوى وبحر الفتن ، وأمواج الشّهوات في الدّنيا ، وفي نار جهنّم في الآخرة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، فليتمسّك بولاية أخي ووصيّي عليّ بن أبي طالب ، فإنّه لا يهلك من أحبّه [ وتولّاه ] ، ولا ينجو من أبغضه وعاداه » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هي مودّتنا أهل البيت » (٣) .

ثمّ وعد الله المؤمنين وأوعد الكافرين بقوله : ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ لمقال المؤمن والكافر من إظهار الإيمان والكفر ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في ضمائرهم وقلوبهم من العقائد الحقّة والباطلة ، والنّيّات الحسنة والسّيّئة ، ومن حبّ الله وبغضه ، وولاية رسوله وأوليائه ومعاداتهم ، فيجزي كلّا على وفق قوله وعقد قلبه وعمله. وفيه غاية التّرغيب إلى الإيمان والطّاعة ، والتّرهيب من الكفر والمعصية.

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه ، قال في تفسيره : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّ إسلام أهل الكتاب من اليهود الّذين كانوا حول المدينة ، وكان يسأل الله ذلك سرّا وعلانية. فمعنى قوله : ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يريد : لدعائك يا محمّد بحرصك عليه واجتهادك (٤) .

﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٨٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦١.

(٢) معاني الأخبار : ٣٦٨ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٢.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٢.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ١٧.

٥١٣

الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ

 هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)

ثمّ بالغ سبحانه في التّرغيب والتّرهيب بقوله : ﴿اللهُ﴾ تعالى بلطفه وإحسانه ﴿وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ومدبّر امور الّذين أراد إيمانهم. أو المراد محبّ الّذين التزموا بالإيمان وناصرهم.

ومن تدبيره لامورهم ، أو من ثمرات حبّه إيّاهم أنّه : ﴿يُخْرِجُهُمْ﴾ بتوفيقه وتكميل عقولهم ﴿مِنَ الظُّلُماتِ﴾ ظلمة الضّلال والجهل والمعاصي ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الذي يعمّ نور الإيمان والإيقان ، والطّاعة والعلم.

عن الصادق ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال : « المؤمن يتقلّب في خمسة من النّور : مدخله نور ، ومخرجه نور ، وعلمه نور ، وكلامه نور ، ومنظره يوم القيامة إلى النّور » (١) .

وقال بعض : إنّ المؤمنين ثلاث طوائف : عوامّهم ، وخواصّهم ، وخواصّ الخواصّ منهم. فالعوامّ يخرجهم الله من ظلمات الكفر والضّلالة إلى نور الإيمان والهداية ، والخواصّ يخرجهم من ظلمات الصّفات النّفسانيّة والجسمانيّة إلى نور الرّوحانيّة الربّانيّة ، وخواصّ الخواصّ يخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور الفناء في الله ، وكلّها من شؤون ربوبيّته وولايته لهم (٢) .

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وخبثت فطرتهم ، وسبق في علمه تعالى ضلالتهم ، فيكلهم الله إلى أنفسهم ، فعند ذلك ﴿أَوْلِياؤُهُمُ﴾ ومدبّر امورهم ﴿الطَّاغُوتُ﴾ من الشّياطين ورؤساء الضلال.

عن الباقر عليه‌السلام : « أولياؤهم الطّواغيت » (٣) .

وعن القمّي رحمه‌الله : هم الظّالمون لآل محمّد ﴿أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ وهم الّذين تبعوا من غصبهم (٤) .

ومن شؤون ولايتهم لإهل الكفر أنّهم ﴿يُخْرِجُونَهُمْ﴾ بوساوسهم وتسويلاتهم وسائر وسائل الإضلال ﴿مِنَ النُّورِ﴾ الذي هو الإيمان والعقائد الحقّة ﴿إِلَى الظُّلُماتِ﴾ الثلاث المذكورة.

قيل : إنّ القضيّة الاولى نزلت في قوم من أهل الكتاب آمنوا بالنبيّ ، والاخرى في قوم ارتدّوا عن الإسلام.

عن الصادق عليه‌السلام : « النّور آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والظّلمات عدوّهم » (٥) .

__________________

(١) الخصال : ٢٧٧ / ٢٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٢.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤٠٩.

(٣) الكافي ٨ : ٢٨٩ / ٤٣٦ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٢.

(٤) تفسير القمي ١ : ٨٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٢.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٦٠ / ٥٦٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٢.

٥١٤

وعن ابن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام اخالط النّاس ، فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّونكم ، ويتولّون فلانا وفلانا ، لهم أمانة وصدق ووفاء ، وأقوام يتولّونكم ليست لهم تلك الأمانة ولا الوفاء والصدق !

قال : فاستوى أبو عبد الله عليه‌السلام جالسا ، فأقبل عليّ كالمغضب (١) . ثمّ قال : « لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله ، ولا عتب على من دان الله بولاية إمام عادل من الله » .

قلت : لا دين لاولئك ، ولا عتب على هؤلاء ؟ قال : « نعم ، لا دين لاولئك ، ولا عتب على هؤلاء » .

ثمّ قال - : « ألا تسمع لقول الله عزوجل : ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾ يعني ظلمات الذّنوب إلى نور التّوبة والمغفرة بولايتهم كلّ إمام عادل من الله عزوجل ، وقال : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ﴾ إنّما عنى بهذا أنّهم كانوا على نور الإسلام ، فلمّا أن تولّوا كلّ إمام جائر ليس من الله ، خرجوا بولايتهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر ، فأوجب الله تعالى لهم النّار مع الكفّار » (٢) .

وزاد العيّاشي بعد قوله : إلى الظلمات ، قال : قلت : أ ليس الله عنى بهذا الكافر (٣) حين قال : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال : فقال : « وأي نور للكافر وهو كافر به (٤) فاخرج منه إلى الظّلمات ؟ ! إنّما عنى بهذا ... » (٥) إلى آخر الحديث.

﴿أُولئِكَ﴾ الكافرون بالله ورسله ، أو بولاية ولاة الحقّ ﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾ وملازموها ﴿هُمْ﴾ خاصّة ﴿فِيها خالِدُونَ﴾ ماكثون أبدا.

وفي رواية : « فأعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام هم الخالدون في النّار ، وإن كانوا في أديانهم على غاية الورع والزهد والعبادة » (٦) .

قيل : إنّه تعالى لم يقل بعد قوله : ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾ أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون تعظيما لشأن المؤمنين وإشعارا بأنّ البيان (٧) لا يفي بما أعدّ لهم من الثّواب (٨).

__________________

(١) في الكافي وتفسير الصافي : كالغضبان.

(٢) الكافي ١ : ٣٠٧ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٢.

(٣) في تفسير العياشي : بها الكفار.

(٤) أي بالاسلام.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٥٩ / ٥٦٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٣.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٢٦١ / ٥٦٦ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٣.

(٧) زاد في تفسير روح البيان : اللفظي.

(٨) تفسير روح البيان ١ : ٤٠٩ ، وفيه : أعدّ لهم في دار الثواب.

٥١٥

ثمّ اعلم أنّ الأشاعرة استدلّوا بقوله : ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾ على أنّ الإيمان بخلق الله من غير تأثير لإرادة العبد وقدرته. والمعتزلة استدلّوا بقوله : ﴿يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ﴾ على أنّ الكفر والعصيان مستندان إلى الخلق استقلالا ، من غير دخل الله تعالى فيهما ، وكلاهما في غاية الفساد لوضوح استناد الإيمان والكفر إلى إرادة العبد وقدرته وانتهائهما بالتّسبيب إلى إرادة الله.

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ

الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ

 مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي

 هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ

 بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ

 إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها

لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)

ثمّ أنّه تعالى استشهد على ولايته للمؤمنين ، وولاية الطّاغوت للكافرين بقصّة محاجّة إبراهيم وملك زمانه حيث قال مخاطبا لنبيّه : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ قد مرّ سابقا أنّ في هذا التّعبير إشعارا بإحاطته صلوات الله عليه في عالم الأشباح بجميع وقائع هذا العالم ، وحضوره عندها.

في محاجّة نمرود إبراهيم

وقيل : إنّ المعنى : ألم ينته علمك الذي يضاهي الرؤية والعيان ، الحاصل بسبب إخبارنا ، الموجب لكمال الإيقان ﴿إِلَى﴾ نمرود بن كنعان ﴿الَّذِي حَاجَ﴾ وجادل وخاصم ﴿إِبْراهِيمَ﴾ لادّعائه الرّبوبيّة لنفسه ﴿فِي﴾ شأن ﴿رَبِّهِ﴾ وفي التّعريض لعنوان الرّبوبيّة مع إضافته إليه عليه‌السلام تشريف له ، وإيذان بتأييده بالحجّة. وكانت مخاصمة نمرود لأجل ﴿أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ﴾ والسّلطنة الواسعة العظيمة فاغترّ بها وبطر حتى ادّعى الرّبوبيّة.

عن مجاهد : أنّه لم يملك الدّنيا إلّا أربعة : مسلمان وكافران ، فالمسلمان : سليمان وذو القرنين ،

٥١٦

والكافران : نمرود وبخت نصّر ، وهو شدّاد بن عاد الذي بنى إرم في بعض صحاري عدن (١) .

وعن البرقي ، مرفوعا ، ما يقرب منه ، إلى قوله : وبخت نصّر (٢) .

ونقل : أنّ نمرود أوّل من وضع التّاج وتجبّر ، ودعا النّاس إلى عبادته (٣) .

وقيل : أنّ المراد أنّه حاجّ إبراهيم عليه‌السلام شكر الله لأجل أن آتاه الملك ، على طريقة العكس ، كقولك : عاديتني لأنّي أحسنت إليك.

قيل : إنّ المحاجّة كانت بعد كسر إبراهيم عليه‌السلام الأصنام ، وقبل إلقائه في النّار.

روي من طرق العامّة أنّه عليه‌السلام لمّا كسر الأصنام سجنه نمرود ، ثمّ أخرجه ليحرقه ، فقال : من ربّك الذي تدعونا إليه ؟ (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه كان بعد إلقائه في النّار (٥) .

ثمّ شرح الله المحاجّة بقوله : ﴿إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ﴾ بعد سؤال نمرود عن ربّه : ﴿رَبِّيَ﴾ القادر ﴿الَّذِي يُحْيِي﴾ الميت ﴿وَيُمِيتُ﴾ الحيّ ، فاستدلّ بفعله الذي لا يشاركه فيه أحد من الخلق. وتقديم الإحياء لكون القدرة فيه أظهر.

فعارضه نمرود و﴿قالَ﴾ لغاية بلادته ، أو للتّمويه والتّلبيس على النّاس : ﴿أَنَا﴾ أيضا ﴿أُحْيِي﴾ الميت ﴿وَأُمِيتُ﴾ الحيّ.

روي أنّه دعا برجلين قد حبسهما ، فقتل أحدهما ، وأطلق الآخر ، فقال : قد أحييت هذا وأمتّ هذا (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ إبراهيم عليه‌السلام قال له : أحي من قتلته إن كنت صادقا » (٧) .

ثمّ أعرض عن جواب معارضته الفاسدة ، لكون بطلانها من الظّهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد ، وأتى بحجّة لا يقدر الأحمق على معارضتها بمثل هذا التمويه ﴿قالَ إِبْراهِيمُعليه‌السلام : إنّ كنت قادرا على مثل مقدورات الله ﴿فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ﴾ إلى المغرب قسرا ، بمشيئته وقدرته ، لوضوح أنّ الحركة ليست من لوازم ذات الجسم ، وإلّا لم يوجد جسم منفكّا عن الحركة ، وهو خلاف الحسّ والوجدان ، فلا بدّ أن يكون محرّك جرم الشّمس مع كمال عظمته هو خالقها ، وليس إلّا الله

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤١٠.

(٢) الخصال : ٢٥٥ / ١٣٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٣.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٤١٠ ، وفيه : وتجبّر ، وادعى الربوبية.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٤١٠.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٦٣٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٣.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ٤١٠.

(٧) مجمع البيان ١ : ٦٣٦ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٣.

٥١٧

الذي هو خالق سائر الموجودات ، فهو بقدرته يسيّرها وبحكمته يحرّكها إلى المغرب. فإن كنت تدّعي الالوهيّة الملازمة للقدرة الكاملة ﴿فَأْتِ﴾ وسيّر ﴿بِها مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ إلى المشرق.

﴿فَبُهِتَ﴾ وتحيّر الملك ﴿الَّذِي كَفَرَ﴾ في الجواب ، وصار كالمدهوش ، لم يجد للردّ مقالا ، وللمعارضة مجالا ؛ لبداهة أنّه ليس للبشر التصرّف في الفلكيّات ، سيّما مثل هذا التّصرّف ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ ولا يوفّق للرّشد إلى صراط الحقّ وطريق الجنّة ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم باختيار الكفر والضّلال ؛ لخبث طينتهم ، وسوء سريرتهم ، فاستحقّوا الخذلان والنّكال.

قصّة النبي الذي مرّ على قرية

ثمّ أنّه تعالى - بعد إقامة البرهان على التّوحيد ؛ بذكر محاجّة إبراهيم عليه‌السلام - أخذ في إقامة البرهان على إمكان المعاد بذكر قصّة متضمّنة لوقوع نظيره الذي هو أقوى البراهين على إمكانه ، بقوله : ﴿أَوْ﴾ رأيت ك النبيّ الذي ﴿مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ﴾ بيت المقدس. وهل اطلّعت على لطف ربّك باحد مثل لطفه بذلك النبيّ ؟ حيث إنّ الله هداه إلى المعرفة الكاملة بالمعاد ، وكيفيّة البعث وإحياء الرّمم ، حتى بلغ من مرتبة علم اليقين إلى درجة عين اليقين ، وذلك من شؤون ولايته للمؤمنين.

روي أنّ بني إسرائيل لمّا بالغوا في تعاطي الفساد سلّط الله عليهم بخت نصّر ، فسار إليهم في ستّمائة ألف راية ، حتّى وطئ الشّام ، وخرّب بيت المقدس ، وجعل بني إسرائيل أثلاثا : ثلثا منهم قتلهم ، وثلثا منهم أقرّهم بالشّام ، وثلثا منهم سباهم. وكانوا مائة ألف غلام يافع وغير يافع ، فقسّمهم بين الملوك الّذين كانوا معه ، فأصاب كلّ ملك منهم أربعة غلمة ، وكان عزير من جملتهم (١).

وعن ابن عبّاس : أنّه كان من علمائهم (٢) ، وجاء بهم إلى بابل ، فلمّا نجّاه الله منهم بعد حين مرّ بحماره على بلدة بيت المقدّس ، فرآها ﴿وَهِيَ خاوِيَةٌ﴾ وساقطة بحيطانها ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ وسقوفها ، خالية من أهلها. فلمّا رأى العزير الأجساد البالية ﴿قالَ﴾ - استعظاما لقدرة الله ، واعترافا بقصور فهمه عن كيفيّة الإحياء ، أو تلهّفا على القرية وأهلها ، وتشوقا إلى عمارتها مع استشعار اليأس عنها ، لا شكّا وإنكارا - : ﴿أَنَّى يُحْيِي هذِهِ﴾ العظام ، أو هذه القرية ، وكيف يبعثها ﴿اللهُ﴾ أو يعمّرها ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ وبلائها ، أو بعد خرابها وعفو آثارها.

عن ابن عبّاس رحمه‌الله : أنّ عزيرا دخل يوما تلك القرية ، ونزل تحت شجرة وهو على حمار ، فربط

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤١٢.

(٢) تفسير الرازي ٧ : ٣١.

٥١٨

حماره ، وطاف في القرية ، فلم ير فيها أحدا ، فعجب من ذلك ، وقال : ﴿أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ لا على سبيل الشكّ في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التّين والعنب ، وشرب من عصير العنب ، ونام (١)﴿فَأَماتَهُ اللهُ﴾ وقبض روحه في منامه ، وأبقاه على الموت ﴿مِائَةَ عامٍ

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حديث : « فبعث الله عزيرا نبيّا إلى أهل القرى التي أمات الله عزوجل [ أهلها ] ، ثمّ بعثهم ، وكانوا من قرى شتّى ، فهربوا فرقا من الموت فنزلوا في جوار عزير ، وكانوا مؤمنين ، وكان [ عزيز ] يختلف إليهم ويسمع كلامهم وإيمانهم فأحبّهم على ذلك وآخاهم عليه ، فغاب [ عنهم ] يوما واحدا ، ثمّ أتاهم فوجدهم صرعى موتى ، فحزن عليهم وقال : ﴿أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ تعجّبا من (٢) حيث أصابهم ، وقد ماتوا أجمعين في يوم واحد ، فأماته الله » (٣) الحديث.

وفي رواية ذكر فيها تسلّط بخت نصّر على بني إسرائيل ، وقتله إيّاهم ، وسبيه ذراريهم ، واصطفى من السّبي دانيال وعزيرا ، وهما صغيران ، وكان دانيال أسيرا في يده سبعين (٤) سنة - إلى أن قال - : « وفوّض بخت نصّر إليه امور ممالكه ، والقضاء بين النّاس ، ولم يلبث إلّا قليلا حتّى مات ، وافضي الأمر بعده إلى عزير ، فكانوا يجتمعون إليه ويستأنسون به ، ويأخذون عنه معالم دينهم ، فغيّب الله عنهم شخصه مائة عام ، ثمّ بعثه » (٥) . والظاهر أنّ المراد بالغيبة الموت.

وفي رواية القمّي والعيّاشي : عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ المارّ على القرية هو أرميا » (٦) . وعليه بعض المفسّرين من العامّة ، ثمّ أنّهم اختلفوا فقال بعضهم : إنّه أرميا بن حلقام (٧) ، وبعضهم قالوا : إنّ أرميا هو الخضر بعينه (٨) والأشهر الأقوى هو الأوّل.

وعن ( المجمع ) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل ، وله خمسون سنة ، فأماته الله مائة عام » (٩) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٧ : ٣١.

(٢) في كمال الدين وتفسير الصافي : منه.

(٣) كمال الدين : ٢٦٦ / ٢٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٨.

(٤) في كمال الدين وتفسير الصافي : تسعين.

(٥) كمال الدين : ١٥٧ و١٥٨ / ١٧ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٩.

(٦) تفسير القمي ١ : ٨٦ ، تفسير العياشي ١ : ٢٦٢ / ٥٧٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٤.

(٧) في تفسير أبي السعود : أرميا بن حلقيا.

(٨) تفسير أبي السعود ١ : ٢٥٢.

(٩) مجمع البيان ١ : ٦٤١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٩.

٥١٩

وفي رواية : أعمى الله تعالى عنه عيون المخلوقات فلم يره أحد ، فلمّا مضى من موته سبعون سنة وجّه الله عزّ وعلا ملكا عظيما من ملوك فارس ، يقال له : يوشك إلى بيت المقدس ليعمّره ، ومعه ألف قهرمان (١) ، ومع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل ، فجعلوا يعمّرونه ، وأهلك الله بخت نصّر ببعوضة دخلت في دماغه ، ونجّى الله من بقي من بني إسرائيل ، وردّهم إلى بيت المقدس ، فتراجع من تفرّق منهم ، فعمّروه ثلاثين [ سنة ] ، فلمّا تمّت المائة من موت عزير أحياه الله (٢) ، وذلك قوله : ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ والتّعبير عن الإحياء بالبعث للدّلالة على السّرعة ، وسهولته على الله ، مع كونه بعد الموت في مدّة طويلة.

وفي رواية القمّي : عن الصادق عليه‌السلام أنّه لمّا سلّط الله بخت نصّر على بني إسرائيل هرب أرميا ، ودخل في عين وغاب فيها ، وبقي ميّتا مائة سنة ، ثمّ أحياه [ الله تعالى ] وأوّل ما أحيا منه عينيه في مثل غرقيء (٣) البيض ، فنظر (٤) ثمّ ﴿قالَ﴾ الله وحيا ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ وبقيت ميّتا.

وفي رواية ابن عبّاس رحمه‌الله : ونودي من السّماء : يا عزير كم لبثت بعد الموت ؟ (٥) قيل : كان السّؤال لأجل أن يظهر له عجزه عن الإحاطة بشؤون الرّبوبيّة ، وليعلم بالبرهان أنّ إحياءه كان بعد مدّة طويلة حتى تنحسم مادّة استبعاده بالمرّة (٦) .

﴿قالَ﴾ عزير أو أرميا - على وجه الحسبان والتّخمين - : ﴿لَبِثْتُ يَوْماً﴾ ثمّ نظر إلى ضوء الشّمس باقيا في رؤوس الجدران كما روي ، فقال : ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ وقيل : إنّه قال : يوما أو بعض يوم ، اقتصارا لمدّة لبثه (٧) .

ثمّ ﴿قالَ﴾ الله ما لبثت المدّة اليسيرة ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ قيل : فائدة إماتته مائة عام وإعلامه بها - مع كفاية الإحياء بعد موت ساعة لثبوت المطلوب ، وهو القدرة على الإحياء بعد الموت - أنّ الإحياء بعد مثل هذه المدّة الطويلة أدلّ على القدرة ؛ لأنّ إحياء العظام الرّميم أبعد في العقول ، كما هو واضح.

ثمّ كأنّه قال الله : إن شئت أن يزيد عرفانك بكمال قدرتي ﴿فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ﴾ من التّين والعنب اللذين يفسدان من غاية اللّطافة في اليوم واللّيلة ﴿وَشَرابِكَ﴾ من العصير أو اللّبن ، مع أنّهما يتغيّران

__________________

(١) القهرمان : أمين الملك ووكيله الخاص.

(٢) تفسير أبي السعود ١ : ٢٥٣.

(٣) الغرقيء : القشرة الرقيقة الملتزقة ببياض البيض.

(٤) تفسير القمي ١ : ٩٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٧.

(٥) تفسير الرازي ٧ : ٣١.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ٤١٣.

(٧) تفسير روح البيان ١ : ٤١٣.

٥٢٠