نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

(بسم الله الرحمن الرحيم) ، ووضعتهما في السبع الطوال ، انتهى (١) .

فدلّت هذه الرواية على أنّ كتّاب الوحي كانوا يكتبون السور والآيات في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مجموعة مرتّبة بأمره.

وعن أبي عبّد الله عليه‌السلام قال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ، القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس ، فخذوه واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التّوراة. فانطلق علي عليه‌السلام فجمعه في ثوب أصفر وختم عليه في بيته ، وقال : لا أرتدي حتى أجمعه قال : كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء ، حتّى جمعه » (٢) .

قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما انزل ، ما اختلف اثنان » (٣) . فإنّ الظاهر منه عدم تأخير أمير المؤمنين عليه‌السلام في امتثال أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه جمعه في حياته.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (٤) ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبيّ بن كعب » (٥) .

وعن قتادة ، قال : سألت أنس بن مالك : من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال : أربعة ، كلّهم من الأنصار : أبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد. قلت : من أبو زيد ؟ قال : أحد عمومتي (٦) .

وعن ابن حجر : قد ذكر ابن أبي داود في من جمع القرآن قيس بن أبي صعصعة (٧) .

وروي عن غيره أنّ أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السّكن ، إلى أن قال : ومات ولم يدع عقبا ، ونحن ورثناه (٨) .

وعن ابن أبي داود : أنّه مات قريبا من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فذهب علمه ولم يؤخذ عنه (٩) .

وقال أبو أحمد العسكريّ : لم يجمع القرآن من الأوس غير سعد بن عبيد (١٠) .

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ : ٢٢١.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٥١.

(٣) تفسير القمي : ٢ : ٤٥١.

(٤) في النسخة : عبيد الله بن عمر بن العاص ، تصحيف ، انظر تهذيب الكمال ١٥ : ٣٥٧.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٤.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٤.

(٧) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٩.

(٨) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٩.

(٩) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٥٠.

(١٠) في النسخة : سعيد بن عبيد ، تصحيف ، انظر الطبقات الكبرى ٢ : ٣٥٥.

٤١

وقال محمّد بن حبيب : سعد بن عبيد أحد من جمع القرآن على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وعن قتادة ، عن أنس قال : افتخر الحيّان : الأوس والخزرج ، فقال الأوس : منّا أربعة : من اهتزّ العرش له : سعد بن معاذ ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين : خزيمة بن ثابت ، ومن غسّلته الملائكة : حنظلة بن أبي عامر ، ومن حمته الدّبر (٢) : عاصم بن ثابت. فقال الخزرج : منّا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم (٣) .

وروي البخاري عن أنس ، قال : مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (٤) .

قال بعض الفحول : قد استنكر جماعة الحصر في الأربعة (٥) .

وقال المازني : لا يلزم من قول أنس : لم يجمعه غيرهم ، أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك ، إلى أن قال : وقد تمسّك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ، ولا متمسّك لهم فيه ، فإنّا لا نسلّم حمله على ظاهره (٦) .

وعن القرطبي : قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء ، وقتل في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببئر معونة مثل هذا العدد. قال : وإنّما خصّ أنس الأربعة بالذكر لشدّة تعلّقه بهم (٧) .

أقول : الظاهر أنّ القرّاء مع حفظهم لجميع القرآن كان عندهم مكتوبا جميعه ، فإذا طعنت الملاحدة على القرآن ، وأنكروا تواتره ، تمسّكا برواية أنس ، فكيف لم يطعنوا ولا يطعنون على من اعتقد أنّ القرآن لم يكن مجموعا في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل كانت آياته وسوره متفرّقة عند النّاس ثمّ تصدّى لجمعه بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر وعمر ، مع عدم علمهما بجميع القرآن حتّى جمعوه - على ما قيل - بشهادة شاهدين ؟

وعن النسائي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : جمعت القرآن فقرأت به كلّ ليلة ، فبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :

__________________

(١) المحبر : ٢٨٦ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٩.

(٢) الدّبر : النّحل ، وعاصم بن ثابت. يسمّى حميّ الدّبر ، وذلك لأنّه لما أصيب يوم الرجيع أراد المشركون أن يأخذوا رأسه ، فبعث الله سبحانه عليه مثل الظّلة من الدّبر فحمته منهم ، وكان قد عاهد الله تعالى ان لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك. أسد الغابة ٣ : ٧٣.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٧.

(٤) صحيح البخاري ٦ : ٣٢١ / ٢٥.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٥.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٥.

(٧) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٥.

٤٢

« إقرأه في شهر » (١) .

وعن محمّد بن كعب القرطبي (٢) ، قال : جمع القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة من الأنصار : معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأبيّ بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو أيوب الأنصاري (٣) .

وعن ابن سيرين ، قال : جمع القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعة لا يختلف فيهم : معاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وأبو زيد ، واختلفوا في رجلين من ثلاثة : أبو الدرداء وعثمان ، وقيل : عثمان وتميم الداري (٤) .

وعن الشّعبي ، قال : جمع القرآن في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ستّة : ابيّ ، وزيد ، ومعاذ ، وأبو الدرداء وسعد بن عبيد ، وأبو زيد ، ومجمّع بن جارية قد أخذه إلّا سورتين أو ثلاثة (٥) .

وعن أبي عبيد في كتاب ( القراءات ) أنّه ذكر القرّاء من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعدّ من المهاجرين : الخلفاء الأربعة ، وطلحة ، وسعد ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وسالما. وعدّ ابن أبي داود من القرّاء : تميم الدّاري ، وعقبة بن عامر (٦) . قال : وممّن جمعه أيضا أبو موسى الأشعري (٧) .

وروى في ( الطبقات ) : أنّ امرأة من الصحابيّات جمعت القرآن. وروى عن امّ ورقة بنت عبد الله بن الحارث : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يزورها ويسمّيها الشهيدة رحمها الله ، وكانت قد جمعت القرآن (٨) .

أقول : العجب كلّ العجب أنّ أحدا من هؤلاء لم يعدّوا في من جمع القرآن على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل روى ابن حجر وغيره من علماء العامّة أنّ عليّا عليه‌السلام جمع القرآن على ترتيب النزول بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٩) .

إن قيل : إنّ المراد من جمع القرآن في الروايات السابقة هو حفظ جميعه لا تدوينه في القراطيس.

قلنا : هذا الاحتمال في غاية البعد ، إذ لا يمكن عادة أن ينحصر في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حفّاظ جميع القرآن في أربعة أو خمسة من الصّحابة مع وضوح اشتياق المؤمنين إلى تلاوة القرآن ، وكمال قوّة

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٨.

(٢) في النسخة : القرطبي.

(٣) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٥٦.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٨.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٨.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٨.

(٧) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٤٩.

(٨) الطبقات الكبرى ٨ : ٤٥٧ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٥٠.

(٩) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٨ ، الصواعق المحرقة : ١٢٨.

٤٣

حفظهم ، وكون تلاوة القرآن وتعلّمه من أهمّ مشاغلهم ، وأفضل عباداتهم ، بل الظاهر أنّ المراد من جمع القرآن هو تدوينه مع ما أفاده النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من تفسير آياته ، وبيان معضلاته ، وكيفيّة قراءته وسائر العلوم الراجعة إليه.

وعلى هذا النحو من الجمع يحمل ما روته العامّة من أنّه لمّا بويع أبو بكر ، وتخلّف عليّ عليه‌السلام عن بيعته ، وجلس في بيته ، بعث إليه أبو بكر ، وقال : ما أبطأك عنّي ، أكرهت إمارتي ؟ قال عليّ عليه‌السلام : ما كرهت إمارتك ، ولكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلّا للصّلاة حتّى أجمع القرآن (١) .

وكذا ما روي في ( الاحتجاج ) عن أبي ذرّ رضى الله عنه أنّه لمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع عليّ عليه‌السلام القرآن ، وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم ، لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا فتحه أبو بكر خرج في أوّل صفحة فتحها فضائح القوم ، فوثب عمر وقال : أردده يا عليّ ، فلا حاجة لنا فيه. فأخذه عليّ عليه‌السلام وانصرف (٢) .

فإنّ خروج فضائح القوم فيما جمعه عليّ عليه‌السلام لذكره شأن نزول الآيات ، فإنّ كثيرا منها نزلت بسبب عصيان أصحابه ، كما روت العامّة أنّه بعد ما أجبر عمر زوجته على المواقعة في ليلة الصّيام حراما ، نزل قوله تعالى : ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ(٣) ، وأنّه بعد ما أبى أبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وجمع من الصحابة عن قبول آية محاسبة ما في النفس ، نزل قوله تعالى : ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها(٤) وأنّه بعد ما شرب جمع من الصحابة الخمر وتكلّم بعضهم في حال السكر بالكفر نزلت آية تحريم الخمر (٥) ، أنّه بعد ما قتل اسامة مسلما ألقى إليه السّلام بطمع الغنيمة نزلت آية : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا(٦) إلى غير ذلك ممّا ذكر في مواقعها.

والحاصل : أنّ الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين عليه‌السلام كان فيه بيان شأن نزول الآيات ، وأسماء الّذين نزلت فيهم وأوقات نزولها ، وتأويل متشابهاتها ، وتعيين ناسخها ومنسوخها ، وذكر عامّها وخاصّها ، وبيان العلوم المرتبطة بها ، وكيفية قراءتها.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٨ ، الصواعق المحرقة : ١٢٨.

(٢) الاحتجاج : ١٥٥.

(٣) الدر المنثور ١ : ٤٧٧ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.

(٤) تفسير الرازي ٧ : ١٢٥ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦.

(٥) أسباب النزول : ٨٧.

(٦) الدر المنثور ٢ : ٦٣٤ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ٩٤.

٤٤

ويؤيّد ذلك أنّه نقل عن ابن سيرين أنّه قال : بلغني أنّه كتبه على تنزيله ، ولو اجيب إلى ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير (١) .

ونقل عنه أيضا أنّه قال : كتب عليّ عليه‌السلام في مصحفه الناسخ والمنسوخ (٢) .

بل يشهد لذلك ما رواه الطبرسيّ في ( الاحتجاج ) في جملة احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام على جماعة من المهاجرين والأنصار أنّ طلحة قال له في جملة مسائله عنه : يا أبا الحسن ، أريد أن أسألك عن مسألة ، رأيتك خرجت بثوب مختوم ، فقلت : « أيّها الناس ، إنّي لم أزل مشتغلا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بغسله وكفنه ودفنه ، ثمّ اشتغلت بكتاب الله حتّى جمعته ، فهذا كتاب الله عندي مجموعا ، لم يسقط عنّي حرف واحد » .

إلى أن قال : فما يمنعك أن تخرج كتاب الله على الناس ، وقد عهد عثمان حين أخذ ما ألّف عمر فجمع له الكتاب ، وحمل النّاس على قراءة واحدة ، فمزّق مصحف أبيّ بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنّار ؟

فقال له علي عليه‌السلام : « يا طلحة ، إنّ كلّ آية أنزلها الله عزوجل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله [ عندي ] بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ يدي [ وتأويل كل آية أنزلها الله على محمّد ، وكلّ حرام وحلال أو حدّ أو حكم أو شيء إليه تحتاج الامّة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ يدي ] حتّى أرش الخدش » (٣) .

قال طلحة : كلّ شيء من صغير وكبير ، أو خاصّ أو عامّ ، كان أو يكون إلى يوم القيامة ، فهو عندك مكتوب ؟ !

قال : « نعم ، وسوى ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ إليّ في مرضه مفتاح ألف باب [ من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب ] ولو أنّ الامّة منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اتّبعوني وأطاعوني ، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » .

إلى أن قال : ثمّ قال طلحة : لا أراك - يا أبا الحسن - أجبتني عمّا سألتك عنه من أمر القرآن ، ألا تظهره للنّاس ؟ قال : « يا طلحة ، عمدا كففت عن جوابك » .

__________________

(١) الاستيعاب - المطبوع بهامش الاصابة ٢ : ٢٥٣.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٤.

(٣) الأرش : دية الجراحات.

٤٥

قال : فأخبرني عمّا كتب عمر وعثمان ، أقرآن كلّه ، أم فيه ما ليس بقرآن ؟ قال : « يا طلحة ، بل قرآن كلّه » . قال : « إن أخذتم بما فيه نجوتم من النّار ودخلتم الجنّة ، فإنّ فيه حجّتنا وبيان حقّنا وفرض طاعتنا » . قال طلحة : حسبي إذا كان قرآنا فحسبي.

قال طلحة : فأخبرني عمّا في يديك من القرآن ، وتأويله ، وعلم الحلال والحرام ، إلى من تدفعه ، ومن صاحبه بعدك ؟ قال عليه‌السلام : « إنّ الذي أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن أدفعه إليه وصيّي وأولى الناس بعدي بالنّاس ابني الحسن ، ثمّ يدفعه ابني الحسن إلى ابني الحسين ، ثم يصير إلى واحد بعد واحد [ من ولد الحسين ] حتى يرد آخرهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حوضه [ هم مع القرآن ] لا يفارقونه والقرآن معهم لا يفارقهم » (١) .

وعن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّه جمع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه غير الأوصياء عليهم‌السلام » (٢) .

وعنه أيضا ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « ما من أحد من النّاس يقول [ إنّه ] جمع القرآن كلّه كما أنزل الله إلّا كذّاب ، وما جمعه وما حفظه كما أنزل الله إلّا عليّ بن أبي طالب والأئمّة من بعده عليهم‌السلام » (٣) .

وممّا يؤيّد ما ذكرنا من كون القرآن مجموعا على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يدلّ عليه ، أنّ اسم الكتاب لا يصحّ إطلاقه عرفا إلّا على المطالب المجتمعة المرتّبة المدوّنة في أوراق منضودة لغرض واحد ، فإذا كانت مطالب متفرّقة غير مدوّنة أو مدوّنة في أوراق متشتّتة ، لا يسمّى كتابا ، ولا شبهة أنّ الله تعالى بعد هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سمّى جميع ما أنزله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابا بقوله في سورة البقرة التي هي أوّل ما نزلت في المدينة : ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ(٤) .

وكذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أطلق على ما انزل عليه لفظ الكتاب على ما في كثير من الروايات المعتبرة ، بل المتواترة ، منها الرواية المتّفق عليها بين الخاصّة والعامّة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي مخلّف فيكم الثّقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي » الخبر (٥) . فإنّه نصّ في أنّه كان في ذلك الوقت

__________________

(١) الاحتجاج : ١٥٣.

(٢) بصائر الدرجات : ٢١٣ / ١.

(٣) بصائر الدرجات : ٢٣ / ٢.

(٤) البقرة : ٢ / ٢.

(٥) معاني الأخبار : ٩٠ / ١ - ٥ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ و١٨٧٤ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٢ / ٣٧٨٦ و: ٦٦٣ / ٣٧٨٨ ، مسند أحمد ٣ : ١٤ ، ١٧ و٤ : ٣٦٧ ، ٣٧١ و٥ : ١٨٢ ، ١٨٩ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٣٢ ، مصابيح السنة ٤ : ١٨٥ / ٤٨٠٠ و: ١٩٠ / ٤٨١٦.

٤٦

آيات وسور مدوّنه مستحقّة لإطلاق اسم الكتاب عليها ، ولا يمكن القول بأنّ هذا الإطلاق كان من باب المشارقة حيث (١) إنّه كان يعلم أنّ بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله يجمع ما انزل عليه ويكون كتابا ، [ لأنّا ] نعلم أنّ التسمية كانت بعد تدوين مقدار من السّور والآيات المنزلة وتحقّق مصداق الكتاب ، ولذا لم يذكر في السور القصار المكيّة التي كانت من أوائل ما نزل لفظ الكتاب.

والحاصل : أنّ لفظ الكتاب بعد ثبوت كونه حقيقة عرفيّة في مطالب مرتّبة مجموعة مدوّنة ظاهر في أنّ كلّ آية تضمّنته كقوله : ﴿ذلِكَ الْكِتابُ﴾ أو ﴿تَنْزِيلُ الْكِتابِ﴾ أو ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ﴾ أو ﴿تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ(٢) نزلت بعد تحقّق مصداقه وتدوين سور وآيات مرتّبة مجموعة في أوراق وصفحات أو أكتاف أو عسب مجتمعة ، ولا يلزم الالتزام بنزول جميع الآيات والسور قبل هذا الإطلاق حتّى يعترض عليه بأنّه خلاف الإجماع والمتواتر من الأخبار من أنّ القرآن نزل متدرّجا إلى قبيل وفاته بأيّام أو ساعات.

نعم ، يلزم القول بتغيير مصداق الكتاب صغرا وكبرا ، بسبب انضمام ما ينزل فيما بعد التدوين إليه تدريجا ، فيرجع الكلام إلى أنّ جميع القرآن في كلّ زمان ، وكتاب الله في كلّ وقت ، كان مقدارا من هذا المجموع الذي بأيدينا ، وبضمّ الآيات شيئا فشيئا بلغ ما بلغ.

فما ذكره المرتضى رضوان الله عليه من أنّ القرآن كان عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله محموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن ، وأن جماعة من الصّحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عدة ختمات (٣) ، حقّ غير مخدوش ، فإنّ المراد جمعه وختمه بمقدار المنزل في وقت الختم والجمع ، فإنّ تمام القرآن كان في وقت الختم ذلك المقدار الذي ختموه ، وليس مراده ختم جميع ما انزل إليه إلى حين وفاته.

وليت شعري ، كيف قال عمر في مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أمره بإحضار الدّواة والكتف : إنّ الرجل ليهجر ، حسبنا كتاب الله ! (٤) مع كون آيات الكتاب متفرّقة بين الأصحاب ، وعدم علم أحد غير أمير المؤمنين عليه‌السلام بجميعها ، وعدم معرفة مثل زيد بن ثابت بها ، حتّى نقل عنه أنه جمعها بشهادة الشهود

__________________

(١) في نسخة : بملاحظة.

(٢) البقرة : ٢ / ٢ ، السجدة : ٣٢ / ٢ ، الزمر : ٣٩ / ٤١ ، يونس : ١٠ / ١.

(٣) مجمع البيان ١ : ٨٤.

(٤) راجع : صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ / ١٦٣٧ ، مسند أحمد ١ : ٢٢٢ ، مسند أبي يعلى ٤ : ٢٩٨ / ٢٤٠٩ ، البداية والنهاية ٥ : ٢٠٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٩٣ ، تاريخ ابن خلدون ٢ : ٤٨٥.

٤٧

إلّا آية من سورة الأحزاب ، فإنّه لم يجدها إلّا عند خزيمة بن ثابت ، فأدخلها في القرآن بشهادته وحده ، ولم يكن غيره مطّلعا عليها !

وكيف لم يعترض أحد على عمر بأنّك لا تدري أين آيات الكتاب وعند من تكون ؟ فعلم أنّ الكتاب كان جميعه معيّنا معلوما مشهورا بين الأصحاب.

[ ثانيا ] : وأمّا حكم العقل فبيانه : أنّه لا شبهة أنّ جمع الآيات كان من أهمّ الواجبات لأنّ فيه حفظ أصلها من الضياع ، وحفظ ترتيبها ونظمها من الاختلال مع أنّ عليها مدار شرع الإسلام ، وأساس الدّين والأحكام ، ولم يكن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين شغل واجب أهمّ منه إلّا الجهاد ، ولم يكن مزاحما به في أغلب الأوقات مع كون أمير المؤمنين عليه‌السلام وكثير من الصحابة الخلّصين غالب الحضور ، وعنده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان جمع القرآن وترتيبه في غاية السّهولة ، فكيف يمكن القول بالتسامح والتساهل والتسويف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام والخلّصين من الصحابة في مدّة عشرين سنة ، وتأخير أمير المؤمنين عليه‌السلام هذا الواجب إلى بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يقع كثير من الآيات معرضا للتغيير والضياع ؟

والحاصل : أنّ جمع الكتاب وترتيب كلّ ما نزل منه في كلّ وقت وتدوينه ونشره ، كان من أوجب الواجبات وأهمّ الامور ، لوضوح أنّه كان من أعظم معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأتمّ الدلائل على صدق النبوّة وأساس الشريعة ، ومأخذ الأحكام الإلهيّة ، ولم يكن مزاحما بأهمّ منه في أغلب الأوقات ، مع أنّا نعلم أنّه كان أغلب أوقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الصادقين مصروفا في العبادات ، وأىّ عبادة كان أهمّ من جمع القرآن الذي كان بجمعه وحفظه حفظ الإسلام مع علمهم بكثرة المنافقين والمعاندين للدّين مع إقدامهم في مشاقّ الامور لحفظ الاسلام.

وكان جمع القرآن عليهم في غاية السّهولة ، خصوصا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ملازمة أمير المؤمنين عليه‌السلام لخدمته في اللّيل والنّهار ، فالمتأمّل المنصف يقطع بوقوع الجمع متدرجا بتدرّج النزول بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، يقطع بجمع كثير من المؤمنين له وتأليف نسخ كثيرة منه ، وعرضها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم تساهل كثير منهم فيه ، حيث لم يكن في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله علم غير علم القرآن ، ولم يكن للصحابة حظّ وعبادة أكثر من تلاوة القرآن.

[ ثالثا ] : وأمّا العادة والاعتبار فبيانه : أنّه كان لعدّة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منصب كتابة الوحي ، فلا بدّ

٤٨

لهم بحسب العادة [ من ] تهيئة لوازم الكتابة من القلم والمداد والأوراق ، أو غير ذلك من الأشياء القابلة للكتابة ، حتّى لا يكون لهم تعطيل في موقع الحاجة والقيام بالوظيفة وحفظ الترتيب وإيراد كلّ سورة أو آية في محلّها وموردها ، حتّى لا يحصل لهم تحيّر وكلفة في الكتابة ، وبعيد غايته أنّهم كانوا يكتبون الآيات في أوراق متفرّقة غير منتظمة ، بحيث إذا أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يضعوا آية كذا في موضع كذا ، كانوا يدوّرون (١) تلك الأوراق ويفتّشون الصحائف المتشتّتة حتّى يجدوا موقعها.

والحاصل : أنّ التأمّل الصادق قاض بأنّ الكتّاب الذين كان منهم أمير المؤمنين عليه‌السلام كانوا قد جمعوا جميع الآيات المنزلة على الترتيب الذي كان يأمرهم به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكونوا غير معتنين بجمعه وترتيبه ، ولا يمكن القول بأنّهم كتبوا الآيات في أشياء متفرّقة من غير ترتيب ونظم إلى أن دعا الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جواره ، وتقمّص أبو بكر خلافته ، وأتّفق قتل كثير من القرّاء باليمامة ، ولم تكن في جميع المدّة نسخة مجموعة من الكتاب العزيز بين المسلمين ، وكان أربعة أو خمسة من الصحابة حافظين لجميع القرآن ، وتالين له عن ظهر القلب ، وغيرهم لم يكونوا مطّلعين إلّا بقليل من آياته ، وكان عند كلّ منهم جزء قليل منه حتّى صمّم أبو بكر وعمر لخوف ذهاب القرآن ، على جمعه وترتيبه وكتابة نسخة منه ، كما رواه بعض العامّة.

روى البخاري عن زيد بن ثابت ، قال : أرسل [ إليّ ] أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطّاب عنده ، فقال أبو بكر : إنّ عمر أتاني فقال : إنّ القتل قد استحرّ (٢) يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، وإنّي أخشى أن يستحرّ بالقرّاء في المواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال عمر : هو والله خير. فلم يزل [ عمر ] يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت الذي رأى عمر.

قال زيد : قال أبو بكر : إنّك [ رجل ] شابّ عاقل لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتتبّع القرآن واجمعه. قال زيد : فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : هو والله خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، فتتبّعت

__________________

(١) كذا ، ومراده يبحثون ، والكلمة عامية عراقية تؤدّي هذا المعنى.

(٢) استحرّ القتل : اشتدّ.

٤٩

القرآن أجمعه من العسب واللخاف (١) وصدور الرجال ، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاريّ لم أجدها مع غيره ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ(٢) حتّى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه الله ، ثمّ عند عمر حياته ، ثمّ عند حفصة بنت عمر (٣) .

وعن اللّيث بن سعد ، قال : أول من جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ، فكان لا يكتب آية إلّا بشهادة عدلين ، وإنّ آخر سورة براءة لم توجد إلّا مع خزيمة بن ثابت ، فقال : اكتبوها ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب. وإنّ عمر أتى بآية الرّجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما بما قضيا من اللّذّة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) (٤) فلم يكتبها لأنّه كان وحده (٥) .

وعن ابن أبي داود ، قال : قدم عمر وقال : من [ كان ] تلقّى شيئا من القرآن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فليأت به. وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتّى يشهد شيهدان (٦) .

وعن [ ابن ] أبي داود : أنّ عمر سأل عن آية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان ، قتل يوم اليمامة. فقال : إنّا لله ، وأمر بجمع القرآن ، فكان أوّل من جمعه (٧) .

أقول : لعمري ، إنّ في هذه الأخبار تضعيف الثقل الأكبر وتوهين نبوّة خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله وتخريب أساس الدّين ، وتلقين الملحدين الحجّة في إنكار تواتر الكتاب المبين ، وليس ببعيد من

__________________

(١) العسب : جمع العسيب ، وهي جريدة النخل المستقيمة ، يكشط خوصها ، واللخاف : جمع اللّخفة : وهي حجر أبيض عريض رقيق.

(٢) التوبة : ٩ / ١٢٨.

(٣) صحيح البخاري ٦ : ٣١٤ / ٨ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٣.

(٤) من الثابت أن القرآن الكريم نقل إلينا بالتواتر ، وقد نقلته الجماعة عن الجماعة وذلك مقطوع به عند جميع أهل الإسلام ، وآية الرجم المزعومة منقولة بالآحاد ، بدليل قوله في آخر الحديث ( فلم يكتبها لانّه كان وحده ) والقرآن لا يثبت إلّا بالتواتر ، وعليه فإن أمثال هذه الروايات لا يؤخذ بها في إثبات القرآن الكريم ، فإن أمكن حملها على أحد وجوه الحمل وإلّا فليضرب بها الجدار.

وقد حمل ابن حزم في ( المحلّى ) آية الرجم على نسخ التلاوة ، أي مما نسخ لفظه وبقي حكمه. هو حمل باطل ، لأنها لو كانت منسوخة التلاوة لما جاء عمر ليكتبها في المصحف. وفي برهان الزركشي ٢ : ٤٣ أن ابن ظفر أنكر في ( الينبوع ) عدّها مما نسخ تلاوة وقال : لأنّ خبر الواحد لا يثبت القرآن. وحملها أبو جعفر النحاس على السنة حيث قال : ليس حكمها حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة ، لكنها سنة ثابتة. راجع : سلامة القرآن من التحريف : ٦٤.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٦.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٥.

(٧) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٤.

٥٠

المستضعفين للثقل الأصغر والمنكرين لإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام والمعرضين عن أهل الذكر والحجج المعصومين.

وليت شعري ، ما ألجأ عمر وأبا بكر إلى التوسّل بزيد بن ثابت الشابّ الحدث في جمع الكتاب الكريم مع عدم علمه بجميع الآيات ، وأمير المؤمنين صلوات الله عليه بين أظهرهم ، وهو باتّفاق الأمّة أعلم الناس بكتاب الله بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ !

وما السبب في اعتمادهم بشهادة شاهدين في كون شيء من كتاب الله إلّا في آيتين من آخر براءة فاكتفوا فيه بشهادة خزيمة ولم يراجعوا إلى عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه في شيء مع أنّه كان عنده جميع القرآن ، وكان أصدق وأوثق من خزيمة وسائر الأمّة ؟

وكيف قال عمر بعد سؤاله عن آية من الكتاب واطّلاعه على كونها عند قتيل اليمامة : إنّا لله ، مع علمه بأنّه لم يفت عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه شيء من الآيات ، وأنّه لم يكن يكتم آيات الكتاب من البرّ والفاجر ؟

الطرفة السادسة

في أنّ القرآن العظيم جمع ثلاث مرات

 أحدها كان بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

قال الحاكم في ( المستدرك ) : جمع القرآن ثلاث مرّات : أحدها بحضرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واستدل بحديث زيد بن ثابت ، قال : كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نؤلّف القرآن من الرقاع (١) .

الثانية : بحضرة أبي بكر - وأستدلّ برواية البخاري عن زيد بن ثابت ، من بلوغ خبر مقتل أهل اليمامة ، وقول عمر : أنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن يوم اليمامة .. إلى آخره (٢) - وقد مرّ ذكره في الطرفة السابقة.

وعن الحارث المحاسبي في كتاب ( فهم السنن ) : كتابة القرآن ليست بمحدثة ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمر بكتابته ، ولكنّه كان مفرّقا في الرّقاع والأكتاف والعسب ، فإنّما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها القرآن منتشر فجمعها جامع ،

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ : ٢٢٩.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ١٣٥ / ١٩٩.

٥١

وربطها بخيط حتّى لا يضيع منها شيء.

قال : فإن قيل : كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال ؟

قيل : لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف ، قد شاهدوا تلاوته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة ، فكان تزوير ما ليس منه مأمونا ، وإنّما [ كان ] الخوف من ذهاب شيء من صحفه.

وقد تقدّم في حديث [ زيد ] أنّه جمع القرآن من العسب واللخاف. وفي رواية : والرقاع ، وفي اخرى : من قطع الأديم ، وفي اخرى : والأكتاف ، وفي اخرى : والأضلاع ، وفي اخرى : والأقتاب (١) .

قال الحاكم : والجمع الثالث هو ترتيب السور في زمن عثمان (٢) .

روى البخاري عن أنس ، أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشّام في فتح إرمينية وآذربيجان مع أهل العراق ، فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال لعثمان : أدرك [ هذه ] الأمّة قبل أن يختلفوا [ في الكتاب ] اختلاف اليهود والنّصارى ، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثمّ نردّها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد ابن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيّين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن ، فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنّما نزل بلسانهم ، ففعلوا ، حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كلّ افق بمصحف ممّا نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق.

قال زيد : ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ، قد كنت أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاريّ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ(٣) .. الآية ، فألحقناها في سورتها في المصحف (٤) .

وقال جمع من العامّة : إنّ جمع عثمان كان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتّى قرأوه بلغاتهم على اتّساع اللغات ، فأدّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض ، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك ، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتّبا لسوره ، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش ، محتجّا بأنّه

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٦.

(٢) مستدرك الحاكم ٢ : ٢٢٩.

(٣) الأحزاب : ٣٣ / ٢٣.

(٤) صحيح البخاري ٦ : ٣١٥ / ٩.

٥٢

نزل بلغتهم (١) .

وقال الحارث المحاسبي : المشهور أنّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشّام في حروف القراءات (٢) .

أقول : الظاهر من بعض الروايات ، وجمع من العلماء ، أنّ الجمع الذي وقع في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشتملا على العلوم المرتبطة بالقرآن ، من بيان شأن نزول الآيات ، ومن التفسيرات والتأويلات المأخوذ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجوه القراءات ، كما نقل عن ابن سيرين أنّه قال : بلغني أنّه كتبه عليّ عليه‌السلام على تنزيله ، ولو أجيب إلى ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير (٣) .

وقال : إنّه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ (٤) .

وقال بعض العامّة : قد كان بعض الصحابة يدخلون في قراءتهم شيئا من التفسير إيضاحا ، لأنّهم محقّقون فيما تلقّوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قرآنا ، فهم آمنون من أن يلبس بعض ذلك ببعض ، وربّما كان يكتبه بعضهم (٥) ، كقراءة ابن عباس : ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ(٦) ثمّ يزيد (٧) ( في مواسم الحجّ ) (٨) .

أقول : ولعلّ قراءة بعض الآيات المنسوبة إلى عبد الله بن مسعود من هذا القبيل ، كقراءته قوله تعالى : ﴿كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ فاختلفوا ﴿فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ(٩) .

ثم إنّه لمّا كان في هذا الجمع فضائح القوم ؛ أسقط أبو بكر شأن نزول الآيات وتفسيرها وتأويلها ، وجمعه ثانيا مع إثبات وجوه القراءات ، ثمّ في زمان عثمان لمّا كثر الاختلاف جمعه ثالثا على قراءة زيد بن ثابت ، وحمل الناس على قراءته ، وأسقط سائر القراءات وأحرق مصاحف الكمّلين من قرّاء الصحابة كعبد الله ابن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما.

ونقل عن ابن مسعود ما يقرب من هذا المضمون : لو كان لي مثل ما لهم لفعلت بصحفهم مثل ما

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢١٠.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢١١.

(٣) الاستيعاب - المطبوع بهامش الاصابة ٢ : ٢٥٣.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٤.

(٥) النشر في القراءات العشر ١ : ٣٢.

(٦) البقرة : ٢ / ١٩٨.

(٧) أي بعد الآية للتفسير والايضاح.

(٨) صحيح البخاري ٦ : ٥٩ / ٤٤.

(٩) البقرة : ٢ / ٢١٣.

٥٣

فعلوا بصحيفتي ، ولقد قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبعين سورة ، وكان زيد بن ثابت في صلب أبيه الكافر - أو قال : - كان يلعب مع الصّبيان (١) .

الطرفة السابعة

في أنّ ترتيب سور القرآن

وآياته كان بأمر الله ووحيه

لا ريب في أنّ لآيات الكتاب العزيزة وسوره ترتيبا مرضيّا عند الله ، ثابتا في اللّوح المحفوظ ، منزّلا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة جبرئيل عليه‌السلام ، لأنّ حسن الترتيب والنظم ممّا له مدخل تامّ في حسن الكتاب ، وفي القرآن المجيد الذي هو أحسن الكتب ، ومطالبه أحسن الحديث ، والعلوم المنطوية فيه أشرف العلوم وأعلاها ، وبيانه في الفصاحة والبلاغة فوق طوق البشر ، لا بدّ من أن يكون ترتيبه على أحسن الوجوه ، ونظمه أحسن النظام ، بل قال بعض العلماء : إنّ حسن نظم آيات القرآن وسوره من وجوه إعجازه ، ومن بدائع اسلوبه ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون نظمه وترتيبه من قبل الله تعالى ، ولا يكون من البشر ، ويؤيد ذلك أنّ الله تعالى أضاف الكتاب الكريم إلى ذاته المقدّسة.

ومن الواضح أنّ الكتاب اسم لمجموع المطالب المرتّبة المنظّمة ، فإذا ألّف أحد الأحاديث النبوية وبوّبها ورتّبها في دفتر ، أو جمع شخص خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام في ديوان ، منضّما ومرتّبا ، لا ينسب ذلك الدفتر والديوان إلى النبيّ ، وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما ، بل يضاف إلى المؤلّف والجامع ، وعلى هذا يدلّ إطلاق كتاب الله في الآيات الكريمة ، والروايات المتواترة على هذه المجموعة المرتّبة المنظّمة ، على أنّ علومها وعباداتها ونظمها وترتيبها وتأليفها من الله تعالى ، لا شريك له فيها من خلقه.

ويدلّ على ذلك ما روي عن عثمان بن أبي العاص ، قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ شخص ببصره ثمّ صوّبه ، ثمّ قال : أتاني جبرئيل ، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى(٢) إلى آخرها (٣) .

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ : ٢٢٨.

(٢) النحل : ١٦ / ٩٠.

(٣) مسند أحمد ٤ : ٢١٨ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢١٢.

٥٤

وما روي من أنّ جبرئيل عليه‌السلام لمّا أتى بآية : ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ(١) قال : ضعها بين آيتي الرّبا والدّين (٢) . وفي رواية : ضعها بعد مائتين وثمانين آية من سورة البقرة (٣) .

وما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أعطيت مكان التوراة السبع الطوال » (٤) ، وغير ذلك من الروايات.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه بعد ما ثبت أنّ جمع الكتاب الكريم كان في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبأمره ، لا بدّ من القول بكون ترتيب جميع آياته وسوره مطابقا للترتيب الذي أوحى الله به إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموافقا لما نزل به جبرئيل عليه‌السلام ، فكلّما نزل من الآيات والسور كان يأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كتّاب الوحي بكتابتها في موضعها الذي يأمر جبرئيل بوضعها في ذلك الموضع ، مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان مأمورا بتبليغ أصل الآيات والسور إلى الأمّة ، كان مأمورا بتبليغ نظمها وترتيبها إليهم ، ولا يمكن منه التقصير في التبليغ وأداء وظيفة الرسّالة ، فكلّ من كان حافظا للآيات والسور ، كان عالما بترتيبها ونظمها ، وكلّ من جمع القرآن في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جمعه على الترتيب المأمور به ، مع أنّ كثيرا من الصحابة كانوا يعرضون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ما حفظوه من القرآن أو جمعوه ، فلو لم يكن على الترتيب المنزل لكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يغيّره.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ كلّ ما كتبه كتّاب الوحي ، وكلّ ما جمعه الصّحابة من القرآن في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا جرم كان موافقا في النظم والترتيب لما كان له من النظم في اللّوح المحفوظ.

ويؤيّد ذلك ما روي عن ابن الزبير ، قال : قلت لعثمان : ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ(٥) قد نسختها الآية الاخرى فلم تكتبها أو (٦) تدعها ؟ قال : يابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكانه (٧) .

وما رواه مسلم ، عن عمر ، قال : ما سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن شيء أكثر ممّا سألته عن الكلالة حتّى طعن بإصبعه في صدري ، وقال : « تكفيك آية الصيف (٨) التي في آخر سورة النساء » (٩) .

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٢٨١.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢١٧.

(٣) تفسير الرازي ٧ : ١٠٤.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢١٨.

(٥) البقرة : ٢ / ٢٤٠.

(٦) في المصدر : ولم.

(٧) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢١٣.

(٨) قال الجزري في شرح الحديث : أي التي نزلت في الصيف ، وهي الآية التي في آخر سورة النساء ، والتي في أولها نزلت في الشتاء. النهاية ٣ : ٦٨.

(٩) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢١٣.

٥٥

وما روته عائشة من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ في الليل سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء (١) .

وقال السيد المرتضى رضوان الله عليه : إنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، أي عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - إلى أن قال : - وإنّ جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور ولا مبثوث (٢) .

أقول : كلّ ذلك يورث القطع بأنّ ترتيب الآيات والسور لم يكن بأهواء الصّحابة وسلائقهم ، بل كان بوحي الله وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الطرفة الثامنة

 في أنّ ترتيب القرآن ليس بترتيب

 النزول بل لمناسبات لطيفة

لا شبهة في أنّ الترتيب المقرّر عند الله ، المنزل على النبيّ بين الآيات والسور لمناسبات لطيفة ، وروابط منيفة ، ونكت بديعة ، وحكم بليغة لا يعلم جميعها إلّا الله والراسخون في العلم ، ولا يدركها إلّا من نوّر الله قلبه ، وخصّ بالانقياد ربّه ، ووهب له فهم القرآن ، وباشر روحه روح الايمان.

قال بعض العلماء : أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط (٣) .

وقال آخر : من تأمّل في لطائف نظم السور (٤) وفي بدائع ترتيبها علم أنّ القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه ، فهو أيضا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته (٥) .

وقال آخر : ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتّى تكون كالكلمة الواحدة متّسقة المعاني ، منتظمة المباني ، علم عظيم (٦) .

هذا ، ولعمري أنّ ما ذكرته بالنظر إلى حكمة الله البالغة ، وعدم إمكان وضعه الشيء في غير موضعه ، وترجيحه أمرا بلا مرجّح ، من أوضح الواضحات وأبين البيّنات ، غنيّ عن الاستدلال والتأييد بأقوال

__________________

(١) مسند أحمد ٦ : ٩٢.

(٢) مجمع البيان ١ : ٨٤.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٦٩.

(٤) في الإتقان : وقال الإمام الرازي في سورة البقرة : ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة.

(٥) الاتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٧٠.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٦٩.

٥٦

الرجال ، والعجب مع ذلك من بعض حيث قال (١) : علم المناسبة علم حسن ، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد ، مرتبط أوّله بآخره ، فإن وقع على أسباب مختلفة ، لم يقع فيه ارتباط ، ومن ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلّا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث ، فضلا عن أحسنه ، فإنّ القرآن نزل في نيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرّعت لأسباب مختلفة ، وما كان كذلك لا يتأتّى ربط بعضه ببعض (٢) ، انتهى.

فإنّ مثل هذا الكلام في ترتيب كلام الله لا ينبغي صدوره من عاقل ، فضلا عن فاضل ، إذ من الواضح أنّ كلّ من ألّف كتابا مشتملا على مطالب متفرّقة وقضايا متشتّتة ، يلاحظ البتّة في ترتيبها مناسبة وارتباطا ، فكيف بالحكيم المتعال !

فإنّ المناسبات بين القضايا المتفرّقة والأحكام المختلفة كثيرة جدّا خصوصا في نظر من كان عالما بحقائق الأشياء وجهات الامور ، نعم فهم غير العلماء الراسخين الربّانيّين قاصر عن درك جميع المناسبات اللّطيفة المنظورة للّطيف الخبير ، ولذا لم يحم حوله المفسّرون ، ولم يخض فيه المتبحّرون.

نعم ، تكلّف قليل من علماء العامّة لبيانها ، وأجالوا الفكر في هذه العرصة مع عدم كونهم من فرسانها ، وأين لهم التمكّن في هذا القصر المشيد ، وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد ؟ حيث إنّهم ما ثقفوا بحبل الله المتين ، وما اتّخذوا سبيلا مع الهداة الرّاسخين.

وإنّي وإن سلكت في هذا الطريق الزليق ، وغصت في هذا البحر العميق ، وخضت كالذي خاضوا ، وأفضت من حيث أفاضوا ، غير أنّي لمعرفتي بقصوري ما غضضت على ما نلت بضرس قاطع ، وما حكمت فيما قلت على أنّه هو الحقّ الواقع ، بل أبديت ما يليق بالظّنّ والاحتمال لئلا يتوهّم في ترتيب الكتاب العزيز ما توهّمه هذا البعض من الأمر المحال.

قال الشيخ وليّ الدين الملّوي : قد وهم من قال : لا يطلب للآي الكريمة مناسبة ، لأنّها على حسب الوقائع المفرّقة ، وفصل الخطاب أنّها على حسب الوقائع تنزيلا ، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا ، فالمصحف على وفق ما في اللّوح المحفوظ مرتّبة سوره كلّها وآياته بالتوقيف كما انزل جملة إلى بيت العزّة ، ومن المعجز البيّن أسلوبه ونظمه الباهر ، والذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أوّل

__________________

(١) هو الشيخ عز الدين بن عبد السّلام.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٧٠.

٥٧

كلّ شيء عن كونها مكمّلة لما قبلها أو مستقلّة ، ثم المستقلّة ما وجه مناسبتها لما قبلها ؟ ففي ذلك علم جمّ ، وهكذا في السور ، يطلب وجه اتّصالها بما قبلها وما سبقت له (١) .

قال بعض العلماء : سورة الفاتحة تضمّنت الإقرار بالربوبيّة والالتجاء إليه في دين الاسلام والصّيانة عن دين اليهوديّة والنّصرانيّة ، وسورة البقرة تضمّنت قواعد الدّين وإقامة الدّليل عليه ، وآل عمران مكمّلة لمقصودها ، فالبقرة بمنزلة إقامة الدّليل على الحكم ، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ، ولهذا ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسّك به النصارى ، وفي البقرة ذكر أنّ الحجّ مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع ، وأوجب الشروع فيه في آل عمران (٢) .

وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر ، كما أنّ خطاب اليهود في البقرة أكثر ؛ لأنّ التوراة أصل والانجيل فرع لها ، والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم ، وكان جهاده للنّصارى في آخر الأمر ، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب ، ولهذا كانت السور المكّيّة فيها الدّين الذي اتّفق عليه الأنبياء ، فخوطب به جميع الناس ، والسور المدنيّة فيها خطاب من أقرّ بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فخوطبوا بيا أيّها الذين آمنوا ، ويا أهل الكتاب ، ويا بني إسرائيل.

وأمّا سورة النساء فتضمّنت أحكام الأسباب التي بين النّاس ، وهي نوعان : مخلوقة لله ومقدورة لهم كالنسب والصّهر ، ولذا افتتحت بقوله : ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها﴾ ثمّ قال : ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ(٣) فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح وبراعة الاستهلال حيث تضمّنت الآية المفتتح بها ، ما أكثر السورة في احكامه ، من نكاح النساء ومحرّماته والمواريث المتعلّقة بالأرحام ، فإنّ ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ، ثمّ خلق زوجته منه ، ثمّ بثّ منهما رجالا كثيرا ونساء كثيرة.

وأمّا المائدة فسورة العقود ، تضمّنت بيان تمام الشرائع ومكمّلات الدّين ، والوفاء بعهود الرّسل ، وما أخذ على الأمّة ، وبها تمّ الدّين ، فهي سورة التّكميل لأنّ فيها تحريم الصّيد على المحرم الذي هو [ من ] تمام الإحرام ، وتحريم الخمر الذي هو [ من ] تمام حفظ العقل والدّين ، وعقوبة المعتدين من

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٧٠.

(٢) في الإتقان : النصارى ، وأوجب الحجّ في آل عمران ، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع ، وأمر باتمامه بعد الشروع فيه.

(٣) النساء : ٤ / ١.

٥٨

السّرّاق والمحاربين ، الذي هو من تمام حفظ الدّماء والأموال ، وإحلال الطيّبات الذي هو من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها ما يختصّ بشريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كالوضوء ، والتيمّم ، والحكم بالقرآن على كلّ ذي دين.

ولهذا أكثر فيها من ذكر الإكمال والإتمام ، وذكر فيها أنّ من ارتدّ عوّض الله بخير منه ، ولا يزال هذا الدين كاملا ، ولهذا ورد أنّها آخر سورة نزلت ، وفيها من إشارات الختم والتمام ، وهذا الترتيب بين هذه السور الاربع المدنيّات [ من ] أحسن الترتيب (١) .

وقال بعض آخر : إذا اعتبرت افتتاح كلّ سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها ، ثمّ هو يخفى تارة ويظهر أخرى ، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد ، فإنّه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء ، كما قال تعالى : ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ(٢) .

وكافتتاح سورة فاطر بالحمد ، فإنّه مناسب لختام ما قبلها من قوله : ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ(٣) كما قال تعالى : ﴿فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ(٤) .

أقول : الغرض من نقل هذه العبائر والوجوه هو التأييد ، وإن قلنا إنّ المدّعى لوضوحه غنيّ عنه.

الطّرفة التّاسعة

 في أسامي الكتاب العزيز

 ووحيه ومناسبة تسميته بالقرآن

قال بعض (٥) : إنّ الله تعالى سمّى كتابه العزيز بخمسة وخمسين اسما (٦) . كالفرقان ، والذكر ، وأحسن الحديث ، وغيرها. والظاهر أنّ جميعها ألقاب وأوصاف له ، إلّا القرآن فإنّ الأقوى والأظهر أن يكون علما له بوضع الله تعالى.

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٨١.

(٢) الزمر : ٣٩ / ٧٥.

(٣) سبأ : ٣٤ / ٥٤.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٨٠ ، والآية من سورة الأنعام : ٦ / ٤٥.

(٥) القائل : هو القاضي أبو المعالي عزيزى بن عبد الملك المعروف بشيذلة ، صاحب كتاب ( البرهان في مشكلات القرآن ) والمتوفّى سنة ٤٩٤. راجع : شذرات الذهب ٣ : ٤٠١ ، كشف الظنون ١ : ٢٤١.

(٦) البرهان في علوم القرآن ١ : ٣٤٣ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ١٧٨.

٥٩

وقد ذكروا في اشتقاقه ، ووجه مناسبته وجوها ، والأظهر الأشهر أن يكون القرآن مهموزا ، من القرء بمعنى الجمع ، ومنه : قرأت الماء في الحوض : أي جمعته ، وعلى هذا يكون وجه مناسبة التّسمية كونه جامعا لثمرات جميع الكتب السالفة المنزلة (١) .

قالوا : إنّ الله جمع جميع الكتب السّماويّة في التوراة والإنجيل ، وجمع جميع ما في التوراة والانجيل في القرآن (٢) .

ويشهد له ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أعطيت السور الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزّبور ، وفضّلت بالمفصّل ثمان وستون (٣) سورة » (٤) .

والأوفى والأنسب كونه جامعا لجميع أنواع العلوم كلّها ، كما قال الله تعالى : ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ(٥) ، وقال تعالى : ﴿ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ(٦) .

وعنه عليه‌السلام : « من فهم القرآن فسّر [ به ] جمل العلم » (٧) .

وقال عليه‌السلام في وصف القرآن : « ظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له تخوم (٨) ، وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار (٩) الحكمة » (١٠) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « [ قد ] ولدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أعلم كتاب الله ، وفيه بدء الخلق ، وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وفيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر الجنّة والنّار ، وخبر ما كان وما هو كائن ، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّي ، إنّ الله تعالى يقول : فيه تبيان كلّ شيء » (١١).

وعن ابن عباس ، قال : لو ضلّ منّا عقال كنّا نجده بالقرآن (١٢) ، إلى غير ذلك من الأخبار.

__________________

(١) الاتقان في علوم القرآن ١ : ١٨٢.

(٢) نحوه في الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٨.

(٣) في تفسير العياشي : سبع وستين.

(٤) الكافي ٢ : ٤٣٩ / ١٠ ، تفسير العياشي ١ : ١٠٧ / ١٠٢.

(٥) النحل : ١٦ / ٨٩.

(٦) الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٧) إحياء علوم الدين ١ : ٣٤٢.

(٨) التخم : منتهى كلّ قرية أو أرض ، يقال : فلان على تخم من الأرض ، والجمع تخوم ، مثل : فلس وفلوس.

(٩) في العياشي : ومنازل.

(١٠) تفسير العياشي ١ : ٧٤ / ١.

(١١) الكافي ١ : ٥٠ / ٨. والآية من سورة النحل : ١٦ / ٨٩.

(١٢) نحوه في الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٣٠ - ٣١.

٦٠