نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

والحسد وحبّ الجاه يكون من أهل الكفر والعناد على اختلاف مراتبهما.

ويمكن أن يقال كما قيل : إنّ الخلق قبل بعث الرّسل - حتّى آدم عليه‌السلام - كانوا على العقائد العقليّة ، كوحدة الصّانع ، والأحكام العقليّة كوجوب شكره وقبح الظّلم والكذب ، وحسن العدل والاحسان وغير ذلك ، فلمّا نزلت الأحكام الشرعية من العبادات والسياسات على آدم عليه‌السلام وبعث على أولاده انقادوا له ، ثمّ حصل الاختلاف بين قابيل وهابيل ، وابدع الكفر.

ثمّ بعد وفاة آدم عليه‌السلام وبعد برهة من الزّمان نسوا الشّرائع الالهيّة ورجعوا إلى الشرائع العقليّة ، ثمّ بعث الله النبيّين ، ثمّ اختلفوا لأسباب مفصّلة ، وللأخلاق الرّذيلة.

واشير إلى هذا المعنى فيما روي عن الصادق عليه‌السلام قال : « [ كان ] هذا قبل بعث نوح ، كانوا امّة واحدة فبدا لله فأرسل الرّسل قبل نوح » .

قيل : أعلى هدى كانوا أم على ضلال ؟ قال : « بل كانوا ضلّالا ، لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين » (١) .

وفي رواية عنه عليه‌السلام قال : « ذلك أنّه لمّا انقرض آدم وصالح ذرّيّته ، بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذرّيّته ، وذلك أنّ قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل ، فسار فيهم بالتقيّة والكتمان فازدادوا كلّ يوم ضلالا حتّى لحق الوصيّ بجزيرة في البحر يعبد الله ، فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرّسل. ولو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا : قد فرغ من الأمر ، وكذبوا ، إنّما شيء يحكم به الله في كلّ عام [ ثمّ قرأ ] : ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(٢) فيحكم الله تعالى ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء ، أو مطر أو غير ذلك » .

قيل : أفي ضلالة كانوا قبل النبيّين أم على هدى ؟ قال : « لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم الله ، أما تسمع قول إبرهيم عليه‌السلام : ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(٣) ؟ أي ناسيا للميثاق » (٤) الخبر.

في ذكر غيبة القائم عليه‌السلام وعدم استلزامها منع اللطف

وليعلم أنّ غيبة شيث كغيبة القائم المنتظر عليه‌السلام في آخر الزّمان ، ولا يلزم منها منع لطف على الله ، فإنّ تأسيس الدّين وإتمام الحجّة على الخلق كان سببة النبيّ الشارع والأوصياء بعد الأنبياء ، الذين هم ذوو الشرائع كوصيّ خاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله حفّاظ

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢١٥ / ٤١٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٢٤.

(٢) الدخان : ٤٤ / ٤.

(٣) الأنعام : ٦ / ٧٧.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٢١٦ / ٤١٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٢٤.

٤٤١

للشّرع ، فإذا منعوا عن إظهار الحقّ وحقاظته ، واتّقوا من الجبابرة ، لم يكن للنّاس على الله حجّة لكون ذلك بسوء اختيارهم ، مع أنّ بركاتهم في غيبتهم متّصلة إلى الموادّ المستعدّة ، لو توجّهوا إليهم واستمدّوا منهم.

ثمّ توصيفهم [ في كتاب ] الله تعالى بأنّهم مبشّرين ومنذرين دلالة على أنّ الأحكام والشرائع لو لم يقترنا بالتّبشير بالثّواب والأجر والإنذار بالعذاب أو العقاب لكان جعلها لغوا ، حيث إنّه لو لم يكن الطّمع والخوف ، لم يعمل أحد بحكم من الأحكام ، ولا يجري شرع من الشّرائع في الأنام.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لم يقنع في الهداية بإرسال الرّسل ، بل ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ﴾ متلبّسا ﴿بِالْحَقِ﴾ ودلائل الصّدق.

والظاهر أنّ المراد بالكتاب جنسه ، فإنّ المرويّ أنّ عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا ، والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والمذكور منهم في القرآن [ باسم العلم ] ثمانية وعشرون (١) ولم ينزل مع كلّ واحد منهم كتاب ، بل الأنبياء بعد موسى عليه‌السلام كان كتابهم هو التّوراة ، وكانوا حافظين لأحكامها ، وكذلك الأنبياء بعد عيسى عليه‌السلام كان كتابهم الإنجيل ، وكانوا حافظين له ، وإن كان لبعض النّبيّين كداود عليه‌السلام كتاب ولكن لم يكن فيه أحكام.

﴿لِيَحْكُمَ﴾ النّبيّ أو الكتاب المنزل عليه ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ وليكون المرجع عندهم ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ من الحقّ والدّين ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ وانزل إليهم لرفع الاختلاف من بينهم ، فجعلوا الكتاب الذي انزل لرفع الاختلاف وسيلة لشدّة الاختلاف ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ﴾ والدّلائل الواضحات على الحقّ بحيث لم يكن مجال لأن يشتبه عليهم ، وإنّما كان الاختلاف ﴿بَغْياً﴾ وظلما وحسدا ﴿بَيْنَهُمْ﴾ لحرصهم على الدّنيا وزخارفها.

﴿فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ منهم ، وهم امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا﴾ سائر النّاس ﴿فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ وتبيينه وتوفيقه لفهمه وقبوله.

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة ، ونحن أوّل النّاس دخولا في الجنّة يوم القيامة ، بيد أنّهم اوتوا الكتاب من قبلنا واوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه ، فهذا اليوم الذي هدانا الله (٢) ، والنّاس لنا فيه تبع ، وغدا لليهود ، وبعد غد للنّصارى » (٣).

__________________

(١) راجع : تفسير البيضاوي ١ : ١١٥.

(٢) في تفسير الرازي : هدانا له.

(٣) تفسير الرازي ٦ : ١٦.

٤٤٢

قيل : إنّ النّاس اختلفوا في القبلة ، فصلّت اليهود إلى بيت المقدس ، والنّصارى إلى المشرق ، فهدانا الله للكعبة ، واختلفوا في الصّيام ، فهدانا الله لشهر رمضان ، واختلفوا في إبراهيم عليه‌السلام فقالت اليهود : كان يهوديّا ، وقالت النّصارى : كان نصرانيّا. فقلنا : إنّه كان حنيفا مسلما. واختلفوا في عيسى عليه‌السلام فاليهود فرّطوا ، والنّصارى أفرطوا ، وقلنا القول العدل (١) .

﴿وَاللهُ﴾ بلطفه وفضله ﴿يَهْدِي مَنْ يَشاءُ﴾ بحسب الاستعداد والطّينة ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ موصل إلى الحقّ القويم ، فإنّ الهداية والضّلالة لا تكون إلّا بتوفيق الله وخذلانه.

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ

الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ

قَرِيبٌ (٢١٤)

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن أنّ المؤمنين هم المهتدون إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم - ومن الواضح أنّ العقائد الحقّة لا بدّ أن تكون موثرا في القلب بحيث تبعث الجوارح على الأعمال الشّاقّة في جنب الله ، فالفتور في الجوارح عن القيام بالوظائف الإلهيّة لا يكون إلا لضعف اليقين وعدم رسوخ الحقّ في القلب - بيّن أنّ امتحان المهتدين إلى الحقّ الموجب لدخول الجنّة لا يكون إلا بالصّبر على الطّاعة كما صبر السّابقون من أهل الايمان ، بقوله : ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ

قيل : إنّ التّقدير : فصبر الذين هدوا إلى الحق على الشّدائد ، فتسلكون سبيلهم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ من دون تحمّل المشاقّ ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ﴾ ولم ينزل عليكم بعد ﴿مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا﴾ ومضوا ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من المؤمنين ولم تتحملوا مثل ما تحمّلوه من البلايا التي كانت في الشّدّة مثلا.

ثمّ كأنّه قيل : كيف كان مثلهم ؟ فبيّنه تعالى بقوله : ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ﴾ من الخوف والفاقة ﴿وَالضَّرَّاءُ﴾ من القتل والأمراض ، والخروج عن الأهل والمال ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ وازعجوا إزعاجا شديدا لمّا دهمتهم الأهوال والأفزاع ﴿حَتَّى﴾ بلغت الشدّة إلى أن ﴿يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ مع أنّه أصبر النّاس وأعلمهم بتأييد الله ونصره ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ واقتدوا به : ﴿مَتى نَصْرُ اللهِ﴾ وأيّ وقت يكون عونه ؟ قد أبطأ إنجاز وعده وطال زمان الشّدّة والعناء بنا ، وعجز الصّبر عن تحمّل البلاء. فإذا بلغت

__________________

(١) تفسير الرازي ٦ : ١٦.

٤٤٣

بهم المحنة إلى الغاية والضّرّ والبؤس إلى هذه الدّرجة العظيمة ، قيل لهم : ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ

والحاصل : أنّ المؤمنين الذين خلوا ، كانوا في هذه المرتبة من البلاء والمحن ، وصبروا ولم يتغيّر دينهم حتّى أتاهم النّصر والفرج ، فكونوا أيّها المسلمون كذلك.

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « حفّت الجنّة بالمكاره ، وحفّت النّار بالشّهوات » (١) .

وروي عن خبّاب بن الأرتّ ، قال : شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما نلقى من المشركين ، فقال : « إنّ من كان قبلكم من الامم كانوا يعذّبون بأنواع البلاء ، فلم يصرفهم ذلك عن دينهم ، حتّى أنّ الرّجل يوضع على رأسه المنشار فيشقّ فلقتين ، ويمشّط الرّجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من اللّحم والعصب ، وما يصرفه ذلك عن دينه ، وايم الله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنّكم تعجلون » (٢) .

وعن ابن عبّاس : لمّا دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة اشتدّ الضّرر عليهم ، لأنّهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله تطييبا لقلوبهم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ(٣) .

وقيل : إنّها نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن ، وكان كما قال سبحانه : ﴿بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ(٤) .

وقيل : نزلت في حرب احد لمّا قال عبد الله بن ابيّ لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ؟ ولو كان محمّد [ نبيا ] لما سلّط الله عليكم الأسر والقتل ، فأنزل الله هذه الآية (٥) . ويمكن الجمع بينهما بالقول بتكرّر النزول.

﴿يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى

 وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الصّبر على الضّراء من وظائف الإيمان ، وكان الإنفاق في سبيل الله أيضا من وظائف الإيمان ، حكى الله تعالى سؤال المؤمنين عن خصوصيّاته بعد حثّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله :

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢٥١ الخطبة ١٧٦.

(٢) تفسير الرازي ٦ : ٢٠.

(٣) تفسير الرازي ٦ : ١٩.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ١٩ ، والآية من سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٠.

(٥) تفسير الرازي ٦ : ١٩.

٤٤٤

﴿يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ

عن ابن عبّاس : أنّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا هرما ، وهو الذي قتل يوم احد وعنده مال عظيم ، فقال : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها ؟ فنزلت هذه الآية (١) . فأجاب الله عن السؤالين بقوله : ﴿قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ أيّ خير كان ﴿فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ وقد مرّ تفسير جميعها ووجه ترتيبها (٢) .

وعن ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في رجل أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ لي دينارا. فقال : « أنفقه على نفسك » قال : إنّ لي دينارين ، قال : « أنفقهما على أهلك » قال : إنّ لي ثلاثة. قال : « أنفقها على خادمك » . قال : إنّ لي أربعة ؟ قال : « أنفقها على والديك » . قال : إنّ لي خمسة. قال : « أنفقها على قرابتك » . قال : إنّ لي ستّة. قال : « أنفقها في سبيل الله ، وهو أحسنها » (٣) .

وعدم التعرّض في الآية للسائلين وفي الرّقاب لعلّه لدخولها تحت عموم قوله : ﴿وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ فإنّه عامّ لكلّ ما فيه مرضاة الله من العبادات والصّدقات ، وفي قوله : ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ وعد بالثّواب العظيم.

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)

ثمّ أنّه سبحانه بعد التّرغيب في الإنفاق في سبيل الله - الذي هو الجهاد بالأموال - حثّ على الجهاد بالأنفس.

قيل : لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مأذونا في القتال مدّة إقامته في مكّة ، فلمّا هاجر إلى المدينة اذن له في قتال من يقاتله من المشركين ، ثمّ اذن له في قتال عامّتهم ، وفرض الله عليه الجهاد (٤) بقوله : ﴿كُتِبَ﴾ وفرض ﴿عَلَيْكُمُ الْقِتالُ﴾ مع الكفّار ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ غير ملائم لطباعكم البشريّة ، لأنّ فيه الإقدام على بذل المهج وتحمّل المشاقّ ، وخطر الرّوح ، وإن كان المؤمن بعد أمر الله يحبّه ويشتاق إليه على خلاف الطبيعة ، وإطلاق الكره للمبالغة وهو بمعنى المكروه.

__________________

(١) تفسير الرازي ٦ : ٢٣.

(٢) الآية (١٧٧) من هذه السورة.

(٣) تفسير الرازي ٦ : ٢٢.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ٢٦.

٤٤٥

﴿وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً﴾ لما ترون فيه من المشقّة والضّرر على النّفس والمال من غير صلاح ظاهر ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ في الحقيقة ، وصلاحكم في الواقع ، كما أنّ المريض إذا كان جاهلا بنفع شرب الدّواء المرّ النّتن ، لا يتحمّل شربه إلّا بكره وجبر ، بخلاف ما إذا علم بكون شفائه في شربه ، فإنّه يشتاق إليه أكثر من اشتياقه إلى شرب الأشربة الحلوة الطيّبة.

﴿وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً﴾ وتشتاقوا إليه لجهلكم بضرّه وشرّه ، وموافقته لطباعكم ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ يكون فيه فسادكم وهلاككم ، فإنّ الطّفل يشتاق إلى أن يلعب بالحيّة لحسن منظرها ولين لمسها ، وجهله بأنها قاتلة ، وأنّ في قربها هلاكه.

﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ واقع صلاح الأشياء وفسادها ﴿وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ شيئا إلّا بتعليم الله ، فما أمركم به فاعلموا أنّ فيه خيركم وصلاحكم ، ولا تنظروا إلى كونه مكروها لطباعكم أو مفسدة في اعتقادكم ، فعليكم البدار إلى طاعة أوامره ولو كان بإلقاء أنفسكم في المهالك وتحت أظلّة السّيوف.

في دفع توهّم التنافي بين التكاليف الشرعية الشاقة وبين نفي الحرج

فإن قيل : التّكليف بالأعمال الشاقّة والحرجيّة والضّرريّة ينافي قوله سبحانه : ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ(١) وقوله : ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ(٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (٣) .

قلنا : المراد من العسر والحرج والضّرر ، ما يكون بجهات طارئة على متعلّق التّكليف ، لا ما هو في نوع المكلّف به وحقيقته ، مثلا التّكليف بالجهاد والزّكاة يكون في نوعهما الضّرر والحرج ، وهما باللّحاظ الأوّليّة مقتضي لثبوت التّكليف لا رافع له ، ولا يمكن أن يكون مقتضي الشيء مانعا عنه أو رافعا له ، بخلاف العسر والحرج والضّرر الطارئ على التكليف ، كأن يكون المكلّف مريضا أو يكون أداء الزّكاة موجبا - اتّفاقا - لضرر بذل مال آخر في إيصاله إلى الفقير ، فإنّ دليل نفي الحرج والضّرر رافع للتّكليف في هذه الصّورة ولا منافاة.

والحاصل : أنّ مفاد قوله تعالى : ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ أنّ الله تعالى أراد من كلّ عمل أمركم به ، الصنف الذي ليس فيه مشقّة زائدة على ما اقتضته طبيعة ذلك العمل ، ولم يرد منكم الصّنف الذي فيه الضّرر والعسر الزائد بالنسبة إلى أصل الطّبيعة المأمور بها ، مثلا الوضوء بالماء ، مع كون المشقّة العظيمة في تحصيله وإن كان موجبا للطّهارة ولكنّ الله لم يرض بتحمّل تلك المشقّة

__________________

(١) الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٢) البقرة : ٢ / ١٨٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ٧٧٧.

٤٤٦

لعباده إذا كان في التّيمّم بالتّراب مصلحة مقتضية لبدليّته عن الوضوء في تلك الحال ، ففي صورة عدم وجدان الماء لم يكلّفنا الله بتحصيل الماء وتحمّل المشقّة والحرج له ، بل اكتفى بعمل الطّهور السّهل الذي لا مشقّة فيه ، وهو التيمّم بالتّراب.

﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

 وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ

 الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ

 يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا

 وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ

آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ

 رَحِيمٌ (٢١٨)

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر بالقتال وأوجبه ، سأل الكفّار عن حكمه في الأشهر الحرم ، فحكى الله ذلك السؤال توطئة لجوابه بقوله : ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ﴾ عن ﴿قِتالٍ فِيهِ﴾ وقيل : إنّ السائلين هم المسلمون ، وكان السؤال بعد واقعة عبد الله بن جحش الأسدي ، وهو ابن عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

عن ابن عبّاس رحمه‌الله أنّه قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عبد الله بن جحش قبل قتال بدر بشهرين ، وبعد سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة في ثمانية رهط ، وكتب له كتابا وعهدا دفعه إليه وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ، ويقرأه على أصحابه ويعمل بما فيه ، فإذا فيه : « أمّا بعد ، فسر على بركة الله بمن اتّبعك حتّى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخير » .

فقال عبد الله : سمعا وطاعة لأمره ، فقال لأصحابه : من أحبّ منكم الشّهادة فلينطلق معي فإنّي ماض لأمره ، ومن أحبّ التخلّف فليتخلّف ، فمضى حتّى بلغ بطن نخل بين مكّة والطّائف. فمرّ عليهم عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه ، فلمّا رأوا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنّهم قوم عمّار (٢) ، ثمّ أتى واقد بن عبد الله الحنظليّ - وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش - ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله ، وأسروا اثنين وساقوا العير بما فيه حتّى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٥٥١.

(٢) أي قادمون للعمرة.

٤٤٧

فضجّت قريش وقالوا : قد استحلّ محمّد الشّهر الحرام ، شهرا يأمن فيه الخائف ، فيسفك فيه الدّماء ، والمسلمون أيضا قد استبعدوا ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام » .

فقال عبد الله بن جحش : يا رسول الله ، إنّا قتلنا ابن الحضرمي ، ثمّ أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب ، فلا ندري أفي رجب أصبناه أم [ في ] جمادى. فوقّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العير والاسارى فنزلت [ هذه الآية ] ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الغنيمة (١) .

وعن القمّي رحمه‌الله في رواية : فكتبت قريش إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك استحللت الشّهر الحرام ، وسفكت فيه الدّم ، وأخذت المال. وكثر القول في هذا. قال الصحابة : يا رسول الله ، أيحلّ القتل في الشّهر الحرام ؟ فنزلت (٢) .

وعن ابن عبّاس [ أنّه ] قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض ، كلّهنّ في القرآن ، منها ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ(٣) أي عن قتال فيه.

وقيل : سأل الكفّار عن هذا حتّى لو أخبرهم بأنّه حلال فتكوا به وأستحلّوا قتاله فيه (٤) ، فأجابهم الله بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : ﴿قِتالٍ فِيهِ﴾ أيّ قتال كان هو إثم ﴿كَبِيرٌ﴾ وذنب عظيم.

وقيل : إنّ تنكير القتال في الجواب لإظهار أنّ القتال الذي هو إثم كبير ليس قتال عبد الله بن جحش الذي كان لاشتباه الشّهر ، أو لنصرة الإسلام وإذلال الكفر أو للدّفاع ، بل قتال آخر ، وهو القتال الذي فيه هدم الإسلام ، أو سائر الأغراض الفاسدة (٥) . ﴿وَصَدٌّ﴾ مخصوص ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ وهو منع النّاس عن الإيمان بالله ، أو منع المسلمين من أن يهاجروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو منعهم عن العمرة عام الحديبية ، وعلى هذا الاحتمال يكون إخبارا بما وقع بعد مدّة ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي بالله.

وقيل : المراد : الكفر بأنّه مرسل الرّسول وكونه مستحقّا للعبادة وقادرا على البعث (٦) .

﴿وَ﴾ صدّ عن ﴿الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ بناء على أن يكون عطفا على سبيل الله ، أو المراد : والكفر بالمسجد الحرام ، بناء على كونه عطفا على الضّمير المجرور قبله. والمراد من الكفر بالمسجد : منع المسلمين عن الصّلاة فيه وزيارة البيت والطّواف به ﴿وَإِخْراجُ أَهْلِهِ﴾ وهم الرّسول والمؤمنون

__________________

(١) تفسير الرازي ٦ : ٢٩.

(٢) تفسير القمي ١ : ٧٢.

(٣) تفسير الرازي ٦ : ٣٠.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ٣٠.

(٥) تفسير الرازي ٦ : ٣١.

(٦) تفسير الرازي ٦ : ٣٤.

٤٤٨

﴿مِنْهُ﴾ أي من المسجد ، كلّ واحد من هذه الامور إثم من قريش ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ﴾ وفي علمه من قتال سريّة وقتل ابن الحضرميّ في الشّهر الحرام ؛ لأنّ القتال فيه قد يحلّ والكفر بالله لا يحلّ بحال.

قيل : إنّ عدّه المسلمين من أهل المسجد مع كونهم خارجين عن مكّة ، لكونهم قائمين بأداء وظائفه حافظين لحدوده (١) .

﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ والفساد في الأرض ، وقيل : إنّ المراد منها الشّرك بالله وإخراج أهل المسجد (٢)﴿أَكْبَرُ﴾ وزرا ، وأشدّ قبحا ﴿مِنَ الْقَتْلِ﴾ الصادر من المسلمين على سبيل الخطأ ، وبظنّ عدم دخول الشّهر الحرام.

نقل أنّه لمّا نزلت ، كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكّة : إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشّهر الحرام ، فعيّروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة ، ومنعهم المسلمين عن البيت (٣) .

ثمّ بيّن سبحانه ، أنّهم كيف يعيّرونكم على قتل واحد ﴿وَ﴾ هم ﴿لا يَزالُونَ﴾ في جميع الأوقات ﴿يُقاتِلُونَكُمْ﴾ ويديمون على عداوتكم ولا ينفكّون عنها ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ﴾ وكي يصرفوكم ﴿عَنْ دِينِكُمْ﴾ الحقّ إلى دينهم الباطل ﴿إِنِ اسْتَطاعُوا﴾ وأنّى لهم ذلك لتصلّبكم في إيمانكم ، وثباتكم في دينكم ، وفيه تطييب لقلوب المؤمنين.

ثمّ أنّه تعالى بعد استبعاد ارتداد أهل الإيمان ، أخذ في تحذير من يرتدّ بإضلالهم ، بقوله : ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ﴾ وينصرف ﴿مِنْكُمْ﴾ أيّها المسلمون ﴿عَنْ دِينِهِ﴾ الحقّ إلى الباطل ، وعن التّوحيد إلى الشّرك ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ﴾ ولم يتب عن ارتداده ، ولم يرجع إلى الإسلام ، وفيه ترغيب في الرّجوع إلى الاسلام بعد الارتداد وقبل الموت ، ودلالة على قبول توبة المرتدّ ﴿فَأُولئِكَ﴾ المرتدّون البعيدون عن رحمة الله ﴿حَبِطَتْ﴾ وضاعت ﴿أَعْمالُهُمْ﴾ الصالحة التي عملوها حال إسلامهم ، ولا يترتّب عليها نفع وأثر خير ﴿فِي الدُّنْيا﴾ فإنّ للأعمال الخيريّة آثارا وفوائد دنيويّة كحسن الذّكر عند المؤمنين ، وطلب المغفرة له منهم ، وجواز المناكحة ، والموادّة ، وألطاف خاصّة من الله في أعقابه.

روي عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله ليصلح لصلاح (٤) المؤمن ولده وولد ولده ، ويحفظه في دويرته ودويرات حوله ، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله » (٥) الخبر. فبالارتداد تزول تلك الآثار

__________________

(١) تفسير الرازي ٦ : ٣٤.

(٢ و٣) . تفسير روح البيان ١ : ٣٣٥.

(٤) في تفسير العياشي : بصلاح الرجل.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ١٠٦ / ٢٦٨٧.

٤٤٩

والكرامات الدنيويّة ، بل يجب قتله عند الظّفر به.

﴿وَ﴾ في ﴿الْآخِرَةِ﴾ فإنّهم لا يثابون عليها فيفوتهم ثوابها في الدّارين ، وفيه دلالة على اشتراط حبط الأعمال ، وثوابها ، والخلود في النّار ، بالموت على الكفر.

﴿وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ﴾ وملازموها ﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ لا مناص ولا خلاص لهم منها أبدا.

ثمّ روي أنّه قال عبد الله بن جحش : يا رسول الله ، هب أنّه لا عقاب علينا فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجرا وثوابا ؟ فأنزل الله تعالى (١)﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

وقيل : إنّه قال قوم : إنّ أصحاب السّريّة إن سلموا من الإثم فلا أجر لهم ، فنزلت : (٢)﴿وَالَّذِينَ هاجَرُوا﴾ من أوطانهم طلب صحبة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطلب مرضاته - وفي ذكر الأوصاف إيماء إلى عبد الله وأصحابه حيث إنّهم كانوا مؤمنين مهاجرين مجاهدين - ﴿أُولئِكَ يَرْجُونَ﴾ بأعمالهم الصّالحة ﴿رَحْمَتَ اللهِ﴾ وثوابه. والتّعبير بالرّجاء لأنّ المؤمن لا يزال في خوف ورجاء ، ولا يقطع بالفلاح إلّا عند الاحتضار.

﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لزلّات المؤمنين ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم بإجزال الأجر.

﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ

 مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ

 لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ

خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ

لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)

والسؤال الرابع من المسلمين ، ما بيّنه الله بقوله : ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ وعن حكم شرب المسكر ، أحلال شربه أم حرام ؟

قيل : نزلت في الخمر أربع آيات ، نزلت بمكّة آية ﴿وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً(٣) فطفق المسلمون يشربونها ، ثمّ إنّ جمعا من الصّحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر ، فإنّها مذهبة للعقل ؟ فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون ، ثمّ دعا عبد الرحمن بن

__________________

(١) تفسير الرازي ٦ : ٣٩.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٥٥٣ ، تفسير البيضاوي ١ : ١١٨.

(٣) النحل : ١٦ / ٦٧.

٤٥٠

عوف ناسا منهم ، فشربوا وسكروا ، وقام أحدهم فقرأ : قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون ، إلى آخر الخبر (١) .

﴿وَ عن ﴿الْمَيْسِرِ وهو كلّ ما قومر عليه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير الميسر : « كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو [ من ] الميسر » (٢) .

﴿قُلْ فِيهِما وفي أستعمالهما ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ وذنب عظيم.

في ذكر مفاسد شرب الخمر والقمار

روي عن الصادق عليه‌السلام قال : « الخمر رأس كلّ إثم ، ومفتاح كلّ شرّ » (٣) .

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الملائكة لتنفر عند الرّهان ، وتلعن صاحبه ، ما خلا الحافر ، [ والخفّ ] والرّيش ، والنّصل » (٤) الخبر.

واعلم أنّ مفاسد الخمر والميسر أظهر من أن تخفى على ذي مسكة (٥) ، أمّا الخمر فأظهر مفاسدها أنّها مذهبة للعقل.

نقل عن العباس بن مرداس أنّه قيل له في الجاهليّة : لم لا تشرب الخمر فإنّها تزيد في جرأتك ؟

فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ، ولا أرضى أن اصبح سيّد قوم وامسي سفيههم (٦) .

وقال بعض : لو كان العقل يشرى ما كان شيء أنفس منه ، فالعجب لمن يشتري الحمق بماله فيدخله في رأسه فيقيء في جيبه ويسلح في ذيله (٧) .

وأمّا الميسر ، فأظهر مفاسده أنّه مذهب للمال لاه عن ذكر الله ، ومن مفاسدهما أنّ تعاطيهما موقع في العداوة والبغضاء كما قال الله تعالى : ﴿إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ(٨) .

ثمّ ذكر سبحانه مقتضى إباحتها بقوله : ﴿وَ فيهما ﴿مَنافِعُ كثيرة جسمانيّة ومادّية ﴿لِلنَّاسِ

قيل : إنّ من منافع الخمر أنّ النّاس كانوا يتعاملون (٩) بها إذا جلبوها من النّواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة (١٠) في الثّمن ، كانوا يعدّون ذلك فضيلة له فكانت تكثر أرباحهم (١١) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ٢١٨.

(٢) أمالي الطوسي : ٣٣٦ / ٦٨١.

(٣) الكافي ٦ : ٤٠٣ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٢٢٧.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٠ / ٨٨.

(٥) المسكة : العقل. (٦) تفسير الرازي ٦ : ٤٦.

(٧) تفسير روح البيان ١ : ٣٤٠.

(٨) المائدة : ٥ / ٩١.

(٩) في تفسير الرازي : يتغالون ، أي يبيعونها بثمن غال.

(١٠) أي التقليل من الثمن. (١١) تفسير الرازي ٦ : ٤٧.

٤٥١

ومنها : أنّه يقوّي الضّعيف ، ويهضم الطّعام ، ويعين على الباه (١) ، ويسلّي المحزون ، ويشجّع الجبان.

وقيل : إنّ من منافع الميسر التّوسعة على ذوي الحاجة (٢) .

نقل عن الواقدي أنّه قال : كان الواحد منهم ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير ، فيحصل له مال كثير ثمّ يصرفه في المحتاجين ، فيكتسب منه المدح والثّناء (٣) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّ مقتضى الحرمة فيهما آثم وأقوى من مقتضى الإباحة ، بقوله : ﴿وَإِثْمُهُما وضررهما ﴿أَكْبَرُ وأعظم ﴿مِنْ نَفْعِهِما لأنّ ضررهما روحانيّ ونفعهما جسمانيّ ، ولا يعادل أضعاف ما يتصوّر لهما من النّفع لأقلّ قليل من غيرهما.

روي من طرق العامّة أنّ جبرئيل عليه‌السلام قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تعالى شكر لجعفر بن أبي طالب أربع خصال كان عليها في الجاهليّة وهو عليها في الإسلام. فسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جعفرا عن ذلك فقال : يا رسول الله ، لو لا أنّ الله أطلعك عليها لما أخبرتك بها : ما شربت الخمر قطّ ، لأنّي رأيتها تزيل العقل ، وأنا إلى أن أزيد فيه أحوج منّي إلى أن ازيله ، وما عبدت صنما قطّ لأنّي رأيته لا يضرّ ولا ينفع ، الخبر (٤) .

في تنزيه عبد الله وأبي طالب عليهما‌السلام من الشرك وشرب الخمر

أقول : بعد وضوح أنّ عبد الله وأبي طالب عليهما‌السلام كانا أعقل وأكمل منه ، كانا أجلّ وأنزه من أن يعبدا صنما أو يشربا خمرا.

وعن بعض العامّة ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « لو وقعت قطرة من الخمر في بحر ثمّ جفّ فنبت فيه الكلأ لم أرعه » (٥) . وببالي أنّ ما يقرب منه مرويّ بطرق أصحابنا.

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « ما بعث الله عزوجل نبيّا قطّ إلّا و[ في ] علم الله تبارك وتعالى أنّه إذا أكمل [ له ] دينه كان فيه تحريم الخمر ، ولم يزل الخمر حراما ، وإنّما ينقلون من خصلة ثمّ خصلة (٦) ، ولو حمل (٧) ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين » (٨) .

وقال عليه‌السلام : « ما أحد أرفق من الله تعالى ، فمن رفقه تبارك وتعالى أنّه ينقلهم من خصلة إلى خصلة ، ولو حمل عليهم جملة لهلكوا » (٩) .

__________________

(١) في النسخة : البائه.

(٢) تفسير الرازي ٦ : ٤٧.

(٣) وكذا.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٣٣٩.

(٥) تفسير أبي السعود ١ : ٢١٨ ، تفسير روح البيان ١ : ٣٤٠.

(٦) في الكافي : من خصلة إلى خصلة.

(٧) زاد في النسخة : من.

(٨) الكافي ٦ : ٣٩٥ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٢٨.

(٩) الكافي ٦ : ٣٩٥ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٢٢٨.

٤٥٢

وعنهم عليهم‌السلام : « أنّ أوّل ما نزل في تحريم الخمر قول الله تعالى : ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما﴾ فلمّا نزلت هذه الآية أحسّ القوم بتحريمها [ وتحريم الميسر ] وعلموا أنّ الأثم ممّا ينبغي اجتنابه ، ولا يحمل الله عزوجل عليهم من كلّ طريق ، لأنّه قال : ﴿وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ثمّ أنزل الله تعالى آية اخرى : ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فكانت هذه الآية أشدّ وأغلظ في التّحريم ، ثمّ ثلث بآية اخرى فكانت أغلظ من الآية الأولى والثّانية وأشدّ ، فقال تعالى : ﴿إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ(١) فأمر الله تعالى باجتنابهما » الخبر (٢) .

وعن بعض العامّة : لمّا نزلت الآية ، قال عمر : قد انتهينا يا ربّ (٣) .

أقول : فيه دلالة على أنّه كان يشربه.

قيل : حرّمت الخمر في السنّة الثالثة من الهجرة بعد غزوة الأحزاب بأيّام (٤) .

وقيل في وجه تحريم الخمر على هذا التّرتيب : إنّه تعالى علم أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم به كثيرا ، وعلم أنّه لو منعهم دفعة واحدة لشقّ عليهم ، فلا جرم استعمل في التّحريم التّدريج والرفق.

ثمّ لمّا أنزل التّحريم اريقت الخمر (٥) . قال ابن عمر : خرجنا بالحباب إلى الطّريق فمنّا من كسر حبّه ، ومنّا من غسله بالماء والطّين ، ولقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر ، وفاحت منها ريحها ، [ وحرّمت الخمر ] ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرّم الله عليهم شيئا أشدّ من الخمر (٦) .

ثمّ أنّه تعالى حكى السؤال الخامس بقوله : ﴿وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ وأيّ مقدار من أموالهم يبذلون ؟ قيل : إنّ السائل عمرو بن الجموح ، حيث سأل أوّلا عمّا ينفق من الأموال ، وعن مصرفه ، ثمّ سأل عمّا ينفق من حيث المقدار والكمّيّة (٧) ، فأجاب سبحانه بقوله : ﴿قُلِ الْعَفْوَ قيل : إنّه الزائد عمّا

__________________

(١) المائدة : ٥ / ٩٠ و٩١.

(٢) الكافي ٦ : ٤٠٦ / ٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢٢٨.

(٣) تفسير الرازي ٦ : ٤٠ ، تفسير روح البيان ١ : ٣٣٩.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٣٣٩.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٣٣٩.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ٣٣٩.

(٧) تفسير أبي السعود ١ : ٢١٩.

٤٥٣

يحتاج إليه المنفق (١) . وقيل : أن ينفق ما يسهل ويتيسّر (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « العفو : الوسط » (٣) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « خير الصّدقة ما أبقت غنى و[ لا ] يلام على كفاف » (٤) .

وعن جابر بن عبد الله ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب ، فقال : يا رسول الله ، خذها صدقة ، فو الله لا أملك غيرها ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أتاه من بين يديه فقال : « هاتها » مغضبا ، فأخذها منه ثمّ حذفه بها بحيث لو أصابته لاوجعته ، ثمّ قال : « يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ثمّ يجلس يتكفّف النّاس ، إنّما الصّدقة عن ظهر غنى ، خذها فلا حاجة لنا فيها » (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ العفو ما يفضل عن قوت السّنة » (٦) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يحبس لأهله قوت سنة (٧) .

قال بعض الحكماء : الفضيلة بين طرفي الإفراط والتّفريط ، فالإنفاق الكثير

هو التّبذير ، والتّقليل جدّا هو التقتير ، والعدل هو الفضيلة (٨) .

﴿كَذلِكَ التّبيين والتّوضيح لأحكام الإنفاق ﴿يُبَيِّنُ اللهُ ويوضّح ﴿لَكُمُ أيّها المسلمون ﴿الْآياتِ الدّالّة على سائر الأحكام التي تحتاجون إليها ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ولكي تنظروا وتتأمّلوا ﴿فِي اموركم الرّاجعة إلى ﴿الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وتعلموا مصالحكم فيهما ، وتختاروا ما هو أصلح وأنفع لكم.

وقيل : إنّ المراد كبيان الأحكام في كمال الوضوح ، يبيّن الله لكم دلائل المعاد ، لكي تتفكّروا في أنّ أيّهما خير وأبقى فتعملون بما هو أنفع وأصلح لكم (٩) .

والسؤال السادس : ما حكاه الله بقوله : ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ مخالطة ﴿الْيَتامى وحكم التصرّف في أموالهم.

وعن الصادق عليه‌السلام : « لمّا نزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً(١٠) خرج كلّ من كان عنده

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ٦ : ٤٨.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢١٩ / ٤١٨.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ٤٩.

(٥) تفسير الرازي ٦ : ٤٩.

(٦) مجمع البيان ٢ : ٥٥٨.

(٧ و٨) . تفسير الرازي ٦ : ٤٩.

(٩) تفسير أبي السعود ١ : ٢٢٠.

(١٠) النساء : ٤ / ١٠.

٤٥٤

يتيم ، وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في إخراجهم » (١) .

قيل : كان سبب ذلك أنّ النّاس في الجاهليّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى ، وربّما تزوّجوا باليتيمة طمعا في مالها ، ثمّ لمّا نهى الله تعالى عن مقاربة مالهم وحرمة أكله ، وهدّد وشدّد عليه ، ترك المؤمنون (٢) مخالطة اليتامى والمقاربة من أموالهم ، والقيام بامورهم ، فعند ذلك اختلّت مصالح اليتامى وساءت معايشهم (٣) ، فثقل ذلك على النّاس (٤) .

روي : لمّا نزلت الآيات اعتزلوا أموال اليتامى واجتنبوا مخالطتهم في كلّ شيء حتّى كانوا يضعون لليتيم طعاما فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتّى يفسد ، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلا وطعاما وشرابا ، فعظم ذلك على ضعفاء المسلمين ، فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، مالكلنا منازل تسكنها الأيتام ، ولا كلّنا يجد طعاما وشرابا يفردهما لليتيم (٥) . فنزلت ﴿قُلْ يا محمّد ﴿إِصْلاحٌ لَهُمْ﴾ ومداخلتهم على نحو يكون فيها صلاح حالهم وأموالهم ﴿خَيْرٌ لكم ولليتامى من إخراجهم ومجانبتهم.

﴿وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ وتعاشروهم وتتصرّفوا في أموالهم بجهة الإصلاح والاسترباح لهم ﴿فَإِخْوانُكُمْ في الدين.

ومن المعلوم أنّ علاقة الاخوّة الدينيّة أقوى من علاقة الاخوة النّسبيّة ، وحقّ الاخوّة رعاية صلاح الأخ والسّعي في إيصال النّفع إليه وحسن المخالطة والعشرة معه.

﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ لمال اليتامى ، وغيره ﴿مِنَ الْمُصْلِحِ له إذ هو وليّ اليتيم ، فعليه أن يطالب المفسد ويجازيه على إفساده ، ويشكر المصلح ويثيبه على إصلاحه.

عن ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام أنّه قيل له : إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم [ لهم ] ، فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم ، وربّما طعمنا فيه الطّعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم ، فما ترى في ذلك ؟ فقال : « إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس ، وإن كان فيه ضرر فلا » .

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٧٢.

(٢) في تفسير الرازي : القوم.

(٣) في تفسير الرازي : معيشتهم.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ٥٠.

(٥) تفسير الرازي ٦ : ٥١.

٤٥٥

وقال : ﴿بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(١) فأنتم لا يخفى عليكم ، وقد قال الله عزوجل : ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ(٢) .

﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ إعناتكم وإيقاعكم في المشقّة ﴿لَأَعْنَتَكُمْ﴾ وأوقعكم فيها بتحريم المداخلة والمعاشرة عليكم ، ولم يجوّز لكم المخالطة بهم ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ﴾ غالب على أمره لا يعجز من الإعنات ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يفعل إلّا ما فيه حسن وصلاح من غير حرج.

﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ

 أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ

وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ

 وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)

ثمّ أنّه لمّا كان النّكاح مربوطا بإصلاح امور اليتامى كما قال في سورة النساء : ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ(٣) ذكر الله تعالى حكم النّكاح بقوله : ﴿وَلا تَنْكِحُوا﴾ ولا تتزوّجوا النّساء ﴿الْمُشْرِكاتِ﴾ في حال من الحالات ، ووقت من الأوقات ﴿حَتَّى يُؤْمِنَ﴾ بالله.

عن ابن عبّاس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث مرثد بن أبي مرثد - وكان حليفا لبني هاشم - إلى مكّة ليخرج منها أناسا من المسلمين سرّا ، فعند قدومه جاءته امرأة يقال لها : عناق - خليلة له في الجاهليّة ، أعرضت عنه عند الإسلام - فالتمست الخلوة فعرّفها أنّ الاسلام يمنع من ذلك ، ثمّ وعدها أن يستأذن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ يتزوّج بها. فلمّا انصرف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عرفه ما جرى من أمر عناق ، وسأله : هل يحلّ له التزويج بها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (٤) .

وروي أنّها منسوخة بالنّسبة إلى الكتابيّة - التي هي داخلة في المشركات - بقوله تعالى في المائدة : ﴿وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ(٥) وسورة المائدة كلّها ثابتة غير منسوخ منها شيء (٦) ، وباقية على الحرمة في غيرها.

__________________

(١) القيامة : ٧٥ / ١٤.

(٢) الكافي ٥ : ١٢٩ / ٤.

(٣) النساء : ٤ / ٣.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ٥٤.

(٥) المائدة : ٥ / ٥.

(٦) تفسير الرازي ٦ : ٥٨ ، تفسير أبي السعود ١ : ٢٢١ ، تفسير روح البيان ١ : ٣٤٥.

٤٥٦

ثم علّل سبحانه الحكم بقوله : ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾ موحّدة مع ما بها من حسنات الرقّ وفقدانها الشّرف والمال ، لكونها متزيّنة بزينة الإيمان والتّوحيد ﴿خَيْرٌ﴾ لكم بحسب الدّين والدّنيا ﴿مِنْ﴾ امرأة حرّة ﴿مُشْرِكَةٍ﴾ مع مالها من شرف الحريّة ورفعة الشّأن وكثرة المال ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ تلك المشركة بسبب جمالها ومالها ونسبها وشرفها ، حيث إنّ حكمة النّكاح الموادّة بين الزّوج والزّوجة ، وطيب الولادة ، وكلاهما منتفيان في نكاحهنّ لعدم حصول الموادّة بين المؤمن والمشركة كما قال تعالى : ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ(١) ولعدم تحقّق طيب الولادة في نسلهنّ ؛ لأن في خباثة الامّ ونجاسة لبنها أثر عظيم في خباثة الولد كما قال : ﴿الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ(٢) .

ولذا أكّد سبحانه القضيّة بلام الابتداء التي تشبه لام القسم ، ثمّ لعين ما ذكر من الملاك نهى الله تعالى عن إنكاح المشركين بقوله : ﴿وَلا تَنْكِحُوا﴾ ولا تزوّجوا النّساء المؤمنات كنّ حرّات أو إماء ﴿الْمُشْرِكِينَ﴾ سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم ﴿حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ ويصدّقوا بالله ورسوله ويدخلوا في دين الإسلام ، ولا خلاف في هذا الحكم بين المسلمين.

﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾ مع ما به من ذلّ العبوديّة وفقد المال والشّرف وكونه كلّا على مولاه ﴿خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ مع ماله من عزّ الحريّة والثّروة ونفوذ التصرّفات ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ جماله وماله وعزّه وخصاله.

ثمّ بعد النّهي عن مزاوجة الكفّار وبيان عدم الصّلاح فيها ، وأنّ الصّلاح في مواصلة المؤمنين ، بيّن مفسدة عظيمة في مزاوجة الكفّار هي عمدة علل النّهي عنها ، بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المشركون والمشركات ﴿يَدْعُونَ﴾ من يعاشرهم إلى الشّرك والفسق والعصيان الذي يؤدّي ﴿إِلَى النَّارِ﴾ فلا ينبغي للعاقل أن يقاربهم ويواليهم.

نقل أنّ مسلما رأى نصرانيّة سمينة فتمنّى أن يكون [ هو ] نصرانيّا حتّى يتزوّجها بكفر (٣) .

﴿وَاللهُ﴾ برحمته ولطفه ﴿يَدْعُوا﴾ بالنّهي عن مواصلتهم ، وأمركم بالإيمان ومواصلة أهله ﴿إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ﴾ قدّم الجنّة لمقابلة النّار ، وهذه الغاية القصوى لا تحصل لأحد إلّا ﴿بِإِذْنِهِ وتوفيقه.

__________________

(١) المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٢) النور : ٢٤ / ٢٦.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٣٤٦. وفيه : يكفر وهذا من حماقته ...

٤٥٧

ثمّ لمّا كانت هذه الأحكام المحكمات آيات ربوبيته ورحمته لكونها جامعة لصلاح العباد ، قال : ﴿وَيُبَيِّنُ آياتِهِ﴾ ودلائل ربوبيّته ورحمته ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافّة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ بها ، ويتفكّرون فيها ، فيعملون بما هو صلاحهم ونجاحهم.

قيل : إنّ إيراد التذكّر هنا للإشعار بأنّه لوضوحها غير محتاجة إلى التفكّر والتّدبّر (١) .

﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا

 تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ

 التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حكم النّكاح الذي هو غير منفكّ عن المواقعة غالبا ، حكى السّؤال السابع الذي كان عن حكم المواقعة في حال الحيض بقوله : ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ وعن مخالطة النّساء في حال تلوثّهنّ بالدّم الخاصّ الخارج من الرّحم.

قيل : إنّ حكاية الأسئلة الثلاثة مقترنة بواو العطف لكون جميعها في وقت واحد بخلاف ما عداها فإنّهم سألوها في أوقات متفرّقة (٢) .

وقيل : إنّ سبب السؤال أنّ اليهود والمجوس كانوا يتباعدون عن المرأة الحائض بحيث لا يساكنونها ولا يواكلونها ، والنّصارى كانوا بخلاف ذلك حتّى إنّهم لم يبالوا بجماعها ، وأهل الجاهليّة كانت رؤيتهم رؤية اليهود ، فسأل أبو

الدّحداح ونفر من الصّحابة عن الحكم ، فنزلت (٣)﴿قُلْ هُوَ أَذىً﴾ وقذارة مؤذية لمن يقربهنّ ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ﴾ واجتنبوا مجامعتهنّ ﴿فِي الْمَحِيضِ﴾ ومجرى الدّم الخاصّ ، وهو الفرج.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رواية : « أنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود ، له دفع وحرارة » (٤) . الخبر.

وفي حكمه ما يخرج في أيّام العادة ولو كان فاقدا للصّفات ، لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لزينب بنت جحش (٥) : « دعي الصّلاة أيّام أقرائك » (٦) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ٢٢٢ ، تفسير روح البيان ١ : ٣٤٦.

(٢) تفسير الرازي ٦ : ٦٢ ، تفسير أبي السعود ١ : ٢٢٢.

(٣) تفسير الرازي ٦ : ٦٣.

(٤) الكافي ٣ : ٩١ / ١.

(٥) في تفسير الرازي : لفاطمة بنت أبي حبيش.

(٦) تفسير الرازي ٦ : ٦٧.

٤٥٨

قيل : إنّ المسلمين أخذوا بإطلاق الاعتزال (١) فأخرجوهنّ من بيوتهنّ ، فقال جمع من الأعراب : يا رسول الله ، البرد شديد والثّياب قليلة ، فإن آثرناهنّ بالثّياب هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرناها هلكت الحائض. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ، ولم آمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم » فلمّا سمع اليهود ذلك ، قالوا : هذا الرّجل يريد أن لا يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه.

ثمّ جاء عباد بن بشير واسيد بن حضير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبراه بذلك ، وقالا : يا رسول الله ، أفلا ننكحهنّ في المحيض ؟ فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ظننّا أنّه غضب عليهما ، فقاما فجاءته هديّة من لبن ، فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فسقاهما ، فعلمنا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يغضب عليهما (٢) .

ثمّ أنّه ورد في أخبار كثيرة أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام وأكثره عشرة (٣) .

ثمّ بيّن سبحانه غاية وجوب الاعتزال بقوله : ﴿وَلا تَقْرَبُوهُنَ﴾ بالمجامعة في القبل ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ من الحيض وينقطع الدّم عن باطن الفرج ، ويعلم ذلك بالاختبار.

وفي رواية : ( حتّى يطّهّرن ) بالتشديد (٤) ، أي يغتسلن.

عن الصادق عليه‌السلام [ سئل ] : ما لصاحب المرأة الحائض منها ؟ فقال : « كلّ شيء ما عدا القبل بعينه » (٥) .

وعنه عليه‌السلام قال : « ترى هؤلاء المشوّهين في خلقهم ؟ « قال : قلت : نعم. قال : « هؤلاء الذين آباؤهم يأتون نساءهم في الطمث » (٦) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من جامع امرأته وهي حائض فخرج الولد مجذوما أو أبرص فلا يلومنّ إلّا نفسه » (٧) .

﴿فَإِذا تَطَهَّرْنَ﴾ واغتسلن غسل الحيض ، وقيل : إنّ المراد : إذا طهرن ﴿فَأْتُوهُنَ﴾ وجامعوهنّ ، وليكن الإتيان والمجامعة ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ عن ابن عبّاس : من حيث أمركم الله بتجنّبه ، وهو محلّ الحيض ، أعني القبل (٨) .

وقيل : من حيث الطّهر دون الحيض (٩) .

__________________

(١) في تفسير الرازي : أخذ المسلمون بظاهر الآية.

(٢) تفسير الرازي ٦ : ٦٣.

(٣) تفسير الرازي ٦ : ٦٧.

(٤) تفسير الرازي ٦ : ٦٨.

(٥) الكافي ٥ : ٥٣٨ / ١.

(٦) الكافي ٥ : ٥٣٩ / ٥.

(٧) من لا يحضره الفقيه ١ : ٥٣ / ٢٠١.

(٨ و٩) . كنز العرفان ١ : ٤٥ / ٦.

٤٥٩

وعن محمّد بن الحنفيّة : من قبل النّكاح دون الفجور (١) .

وقيل : من الجهة الّتي يحلّ أن يؤتين منها ، ولا تقربوهن من حيث لا يحلّ ، بأن يكنّ محرمات ، أو معتكفات ، أو صائمات (٢) .

في جواز إتيان النساء بعد النقاء وقبل الغسل على كراهة

ثمّ أنّ مقتضى ظهور قوله : ﴿هُوَ أَذىً﴾ في كونه علّة لحرمة الوقاع المستلزمة لدوران الحكم مدارها ، وظهور الأمر باعتزالهنّ في المحيض في حال حصره بحال الحيض ، وظهور قوله : ﴿وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بناء على قراءة التّخفيف في كون غاية النّهي النّقاء من الدّم ؛ هو جواز المواقعة بعد النّقاء وقبل الغسل ، فيعارض ظهور قوله : ﴿فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ﴾ بناء على إرادة الغسل من التّطهير ، حيث إنّ مقتضاه عدم جواز الإتيان قبله ، فلا بدّ من حمل الجملة الشّرطيّة على كونها شرطا للإباحة الخالية عن المرجوحيّة ، أو حمل يطهرن على معنى طهرن كما قيل.

وأمّا الرّوايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام فعدّة منها دالّة على جواز الإتيان بعد النقّاء وقبل الغسل ، كرواية عبد الله بن بكير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا انقطع [ الدم ] ولم تغتسل ، فليأتها زوجها إن شاء » (٣) .

وعدّة منها دالّة على الحرمة كما روي عنه عليه‌السلام قال : سألته عن مرأة حاضت في السّفر ، ثمّ طهرت ولم تجد ماء يوما أو أثنين ، أيحلّ لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل ؟ قال : « لا يصلح حتّى تغتسل » (٤) .

وفي رواية : قلت : فيأتيها زوجها في تلك الحال - أي في السّفر مع عدم وجدان الماء - قال : نعم ، إذا غسلت فرجها وتيمّمت فلا بأس (٥) .

فلا بدّ من حمل النّواهي على الكراهة ، خصوصا مع ظهور لا يصلح فيها ، وشهادة ما روي عن أبي الحسن عليه‌السلام عليها قال : سألته عن الحائض ترى الطّهر ، أيقع عليها زوجها قبل أن تغتسل ؟ قال : « لا بأس ، وبعد الغسل أحبّ إليّ » (٦) . وعلى هذا يتعيّن القول بالكراهة.

﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ حيث إنّ التّوبة تطهير للنّفس من رجس المعاصي ﴿وَيُحِبُ

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٥٦٣.

(٢) الاستبصار ١ : ١٣٥ / ٤٦٤.

(٣) الاستبصار ١ : ١٣٦ / ٤٦٥ ، التهذيب ١ : ١٦٦ / ٤٧٨.

(٤) الكافي ٣ : ٨٢ / ٣.

(٥) التهذيب ١ : ١٦٧ / ٤٨١ ، الاستبصار ١ : ١٣٦ / ٤٦٨.

٤٦٠