نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

اللّذيذة الدنيويّة والمحسوسات بالحواسّ الظاهريّة.

في بيان دلالة جميع ذرات الموجودات على الصانع ووجوب وجوده وكماله

ثمّ اعلم أنّ الدلالة على وجوده تعالى وكماله في الصّفات غير مختصّ بتلك الآيات المعدودة في الآية ، بل كلّ موجود من الموجودات ، حتّى النّملة والذّرّة من آيات وجوده وكماله.

وأتمّ أنحاء الاستدلال بها وأقصرها أن نقول : إنّا نتصوّر جميع ماله حظّ من الوجود بحيث لا يشذّ منه شيء ، وحينئذ فإمّا أن نحكم بأنّ جميعه واجب قديم ، وإمّا أن نحكم بأنّ جميعه ممكن حادث ، وإمّا أن نحكم بأنّ بعضه واجب وبعضه ممكن. ولا سبيل إلى الأوّل لامتناع تعدّد الواجب القديم ، حيث إنّ التعدّد مستلزم للتّركّب ممّا به الاشتراك وما به الامتياز ، والتركّب مستلزم للحدوث والحاجة.

أمّا الحدوث فلأنّ المركّب متأخّر بالطّبع وجودا عن وجود أجزائه ، وأمّا الحاجة فلأنّه لو لم تكن الأجزاء لم يكن المركّب ، والواجب قديم بالذّات ، مع أنّ قدم الجميع خلاف الحسّ والوجدان ، ولا سبيل إلى الثاني لبداهة أنّ الحادث محتاج إلى العلّة ، والمفروض أنّه لا موجود غير ما فرضناه حتّى يكون علّة له ، وفرض كون جميع الموجودات حادثا مستلزم لعدم كونها معلولة لعلّة ، وهو محال ، فتعيّن الثالث وهو كون بعضه واجبا وبعضه ممكنا.

وقد ثبت امتناع تعدّد الواجب ، فثبت وحدته ، وأنّ ما سواه أثره وصنعه ، فتحصّل من جميع ذلك أنّ جميع العالم مرآة جمال الله وجلاله ، والانسان العاقل هو المشاهد فيها بعين بصيرته ، وإنّما خصّ سبحانه وتعالى الآيات الثّماني بالذكر لظهور عظمها في الأنظار ، وإنّها جامعة بين كونها دلائل على معرفته ونعماه على الخلق أجمعين على أوفر حظّ ونصيب. وإذا كانت الدلائل كذلك ، كانت انجع في القلوب وأشدّ تأثيرا في النّفوس.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا

أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ

اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ

وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما

٣٨١

تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ

 النَّارِ (١٦٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما قرّر توحيد ذاته المقدّسة بالدلائل القاهرة والبراهين الظاهرة ، أردفه بتقبيح الشّرك الذي هو ضدّ التّوحيد ، بقوله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ﴾ ويختار ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه من الأصنام ورؤساء الضّلال والمطاعين الذين لم ينصّبهم الله للطّاعة والاتّباع ﴿أَنْداداً﴾ وأمثالا له في الألوهيّة ، وشركاء له في العبادة والطّاعة ، حال كون المتّخذين للأنداد ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ حبّا كائنا ﴿كَحُبِّ اللهِ﴾ ويسوّون بينهم وبينه في التّعظيم والطّاعة ، بل يتّبعونهم فيما خالف رضاه.

عن ( الكافي ) و( العياشي ) : عن الصادق (١) عليه‌السلام : « هم والله أولياء فلان وفلان [ وفلان ] ، اتّخذوهم أئمّة [ من ] دون الإمام الذي جعله الله للنّاس اماما » (٢) الخبر.

وعن بعض العرفاء : كلّ شيء شغف (٣) قلبك به سوى الله تعالى فقد جعلته ندّا له (٤) .

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وفي رواية : هم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥)﴿أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ من هؤلاء المشركين حيث إنّهم بمعرفتهم عظمة الرّبوبيّة لا يميلون إلى غيره ، ولا يتوجّهون إلى ما سواه ، بخلاف المشركين الذين يعدلون بهوى أنفسهم من صنم إلى صنم.

عن ابن عبّاس : أن المشركين كانوا يعبدون صنما ، فإذا رأوا صنما (٦) أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا إلى عبادة الأحسن ، انتهى (٧) .

وبخلاف أتباع رؤساء الضلالة وأئمّة الكفر فانّهم يميلون مع كلّ ريح ، ويتّبعون كلّ ناعق.

روي أنّه جاء أعرابي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، متى السّاعة ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أعددت لها ؟ » فقال : ما أعددت كثير صلوات ولا صيام ، إلّا أنّي أحبّ الله ورسوله. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المرء مع من أحبّ » . فقال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك (٨) .

وروي أنّ عيسى عليه‌السلام مرّ بثلاثة نفر وقد نحلت أبدانهم وتغيّرت ألوانهم ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم

__________________

(١) في الكافي : عن الباقر.

(٢) الكافي ١ : ٣٠٦ / ١١ ، تفسير العياشي ١ : ١٧٣ / ٢٤٨.

(٣) في تفسير الرازي وتفسير روح البيان : شغلت.

(٤) تفسير الرازي ٤ : ٢٠٤ ، تفسير روح البيان ١ : ٣٩١.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٧٤ / ٢٤٩ ، تفسير الصافي ١ : ١٩١.

(٦) فى تفسير الرازي : شيئا.

(٧) تفسير الرازي ٤ : ٢٠٨.

(٨) تفسير الرازي ٤ : ٢٠٥.

٣٨٢

إلى ما أرى ؟ فقالوا : الخوف من النّار. فقال : [ حقّ ] على الله أن يؤمن الخائف.

ثمّ تركهم إلى ثلاثة آخرين ، فإذا هم أشدّ نحولا وتغيّرا. فقال لهم : ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام ؟ قالوا : الشّوق إلى الجنّة. فقال : حقّ على الله أن يعطيكم ما ترجون.

ثمّ تركهم إلى ثلاثة آخرين ، فإذا هم أشدّ نحولا وتغيّرا ، كأنّ وجوههم المرايا من النّور ، فقال : كيف بلغتم إلى هذه الدّرجة ؟ قالوا : بحبّ الله. فقال عليه‌السلام : أنتم المقرّبون إلى الله يوم القيامة (١) .

ونقل عن بعض الكتب : عبدي أنا وحقّك ، لك محبّ ، فبحقّي عليك ، كن لي محبّا (٢) .

ثمّ شرع الله تعالى في تهديد المشركين بقوله : ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ ويعلم ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم باعتقادهم الشّرك واتّخاذهم الأنداد لله - والأمثال لمحمّد وآله الأبرار ( صلوات الله عليهم ) - من الكفّار والفجّار ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ﴾ ويوم يشاهدون فيه ما اعدّ لهم من العقاب والنّكال ، وعجز أنفسهم عن الدّفاع ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ﴾ على الامور ﴿جَمِيعاً﴾ لا قوّة ولا قدرة لأحد غيره ﴿وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ﴾ عليهم ، فيدخلهم من النّدم والتحسّر ما لا يدخل تحت الوصف ، ويخرج عن حدّ التصوّر.

﴿إِذْ تَبَرَّأَ﴾ الأصنام ورؤساء الضّلال ﴿الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ واطيعوا في الباطل ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ هم وأفنوا أعمارهم في عبادتهم وطاعتهم باعتقاد أنّهم أوكد أسباب نجاتهم في الآخرة ﴿وَ﴾ الحال أنّ المتبوعين ﴿رَأَوُا﴾ وعاينوا ﴿الْعَذابَ﴾ المعدّ لهم على إضلالهم ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ﴾ وزالت عنهم وسائل النّجاة من الشّدائد ، من القرابة والموادّة والمعاهدة والتابعيّة ، فعند ذلك لا يقدرون على خلاص أنفسهم ، فكيف بخلاص أتباعهم ؟ ولهذا يتبرّؤون منهم.

ويحتمل أن تكون الجملتان بيانا لحال الأتباع ، ويكون المعنى : والحال أنّ الأتباع رأوا العذاب وانقطعت عنهم الوسائل ، فتوسّلوا بالرؤساء في نهاية استئصالهم وشدّة الحاجة إليهم ، طمعا في إعانتهم لهم ، وشفاعتهم عنهم. فإذا رأوا تبرّؤ الرؤساء منهم ، يدخلهم نهاية الحسرة وغاية النّدامة ، ﴿وَ﴾ حينئذ ﴿قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ وأطاعوا رؤساء الضّلال ، تمنيّا : ﴿لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً﴾ ورجعة إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ فيها عند ابتلائهم بالشّدائد وحاجتهم إلينا ﴿كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا﴾ في الآخرة.

﴿كَذلِكَ﴾ الإرادة الفظيعة ﴿يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ﴾ حال كونها ﴿حَسَراتٍ﴾ مستولية ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وندامات واردة بهم ، فكأنّهم لا يرون أعمالهم ، بل يرون مكانها الحسرة والنّدامة.

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ٢٠٥.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٢٠٥.

٣٨٣

نقل أنّهم مع ما رأوا من العذاب وتبرّؤ الرؤساء منهم ، ترفع لهم الجنّة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله. ثمّ تقسّم بين المؤمنين (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ﴿كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ﴾ « هو الرّجل يدع المال لا ينفقه في طاعة الله بخلا ، ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة الله أو [ في ] معصية الله ، فإن عمل به في طاعة الله يراه في ميزان غيره فيراه حسرة ، وقد كان المال له ، وإن كان عمل به في معصية الله ، قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية الله » (٢) .

﴿وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ أبدا. روي أنّه يساق أهل النّار إلى النّار ، فلا يبقى منهم عضو إلّا لزمه عذاب ، إمّا حيّة تنهشه ، أو ملك يضربه. فإذا ضربه الملك هوى في النّار مقدار أربعين يوما لا يبلغ قرارها. ثمّ يرفعه اللهب ويضربه الملك فيهوي ، فإذا بدا رأسه ضربه - إلى أن قال - فإذا عطش أحدهم طلب الشّراب فيؤتى بالحميم ، فإذا دنا من وجهه سقط وجهه ، ثمّ يدخل في فيه فتسقط أضراسه ، ثمّ يدخل بطنه فيقطّع أمعاءه وينضج جلده (٣) .

وعن سعيد بن جبير : أنّ الله تعالى يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه [ في الدنيا ] على ربوبيّة الأصنام أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم ، فلا يدخلون لعلمهم أنّ عذاب جهنّم على الدّوام. ثمّ يقول للمؤمنين بين أيدي الكفار : إن كنتم أحبّائي فادخلوا جهنّم فيقتحمون فيها ، وينادي مناد من تحت العرش : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ(٤) .

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ

إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا

تَعْلَمُونَ (١٦٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن قبح الشّرك ، وسوء عاقبته ، وكون المشركين معذّبين بالنّار ، محرومين من نعم الآخرة ، بيّن أنّ نعم الدنيا تعمّهم ولا تختصّ بخصوص المؤمنين ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٧١.

(٢) الكافي ٤ : ٤٢ / ٢ ، تفسير العياشي ١ : ١٧٤ / ٢٥٠ ، تفسير الصافي ١ : ١٩١.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٢٧١.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٢٧١ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ١٦٥.

٣٨٤

وانتفعوا ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ من النعم ، حال كونها ﴿حَلالاً﴾ ومباحا لكم ، ليس من الله عقدة الحظر والحرمة ﴿طَيِّباً﴾ لذيذا أو طاهرا من كلّ شبهة.

﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ ولا تطأوا على عقبه ولا تقتدوا به ، ثمّ علّل النّهي بقوله : ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهر العداوة عند من له بصيرة نافذة ، فلا تتعدّوا عن الحلال إلى ما يدعوكم إليه الشّيطان من الحرام.

عن ابن عبّاس : نزلت الآية في الذين حرّموا على أنفسهم السّوائب والوصائل والبحائر (١) ، وهم قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج (٢) .

ثمّ ذكر الله تفصيل عداوة الشّيطان بقوله : ﴿إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾ ويدعوكم إلى المعصية ﴿وَالْفَحْشاءِ﴾ قيل : هو أقبح أنواع المعاصي ، ولذا يقال للزّنا فاحشة (٣) .

﴿وَأَنْ تَقُولُوا﴾ وتفتروا ﴿عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ أنّ الله قاله وأمر به ، وهو أقبح من الفحشاء ، فيدخل في الآية الصّغائر والكبائر والشّرك والبدعة في الدّين.

عن ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ؛ إيّاك أن تفتي النّاس برأيك ، أو تدين بما لا تعلم » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن حقّ الله على العباد ، قال : « أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون » (٥) .

﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَلَوْ كانَ

آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد إباحة نعمه الطيّبة لجميع خلقه ، التي هي موجبة لتوحيده وعبادته ، ونهيه عن اتّباع الشيطان ، أخذ في ذمّ المشركين الذين هم أخصّ النّاس باتّباعه ، وبيّن نهاية حمقهم ، بقوله : ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ﴾ وعظا ونصحا ﴿اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ﴾ في كتابه وعلى لسان رسوله من العقائد الحقّة والأعمال الحسنة.

__________________

(١) السائبة : الناقة التي كانت تسيّب في الجاهلية لنذر ونحوه ، والوصيلة في الجاهلية : النّاقة التي وصلت بين عشرة أبطن ، والبحيرة : الناقة كانت في الجاهلية إذا ولدت خمسة أبطن شقّوا أذنها.

(٢) تفسير الرازي ٥ : ٢.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٢.

(٤) الكافي ١ : ٣٣ / ٢ ، تفسير الصافي ١ : ١٩٢.

(٥) الكافي ١ : ٣٤ / ٧ ، تفسير الصافي ١ : ١٩٢.

٣٨٥

وفي التّكنية عنهم بضمير الغائب إشعار بالإعراض عنهم لعدم قابليّتهم للمخاطبة لفرط حماقتهم ، فكأنّه تعالى وجّه الخطاب إلى العقلاء ، وقال : انظروا أيّها العقلاء إلى هؤلاء الحمقى السّفهاء ، أنّهم مع قيام البراهين القاطعة على توحيد الله واستحقاقه العبادة ؛ إذا قيل لهم اعملوا بكتاب الله وتديّنوا بتوحيده وخصّوه بالعبادة ﴿قالُوا﴾ لا نتّبع كتاب الله ، ولا نتديّن بدينه ﴿بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا﴾ ووجدنا ﴿عَلَيْهِ آباءَنا﴾ من عبادة الأنداد ، وتحريم الطيّبات ، وارتكاب الفحشاء ؛ لأنّهم كانوا أعلم منّا.

فعارضوا الأدلّة القاطعة بالتّقليد ، فردّ الله عليهم بقوله توبيخا وتقريعا لهم : ﴿أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ ولا يدركون ﴿شَيْئاً﴾ من الدّين الحقّ ﴿وَلا يَهْتَدُونَ﴾ إلى شيء من الصّواب. مع ذلك لا يمكن جواز اتّباعهم في حكم العقل.

قيل : إنّها نزلت في مشركي العرب وكفّار قريش ، امروا باتّباع القرآن وسائر ما أنزل الله تعالى من البيّنات الباهرة ، فجنحوا للتّقليد (١) .

ونقل عن ابن عبّاس : أنّها نزلت في اليهود ، وذلك حين دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإسلام ، فقالوا : نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا (٢) .

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ

عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)

ثمّ أنّه تعالى لتوضيح نهاية حماقة هؤلاء الكفرة لجميع النّاس حتّى لا يبقى لأحد فيها ريب ، شبّههم بالبهائم والأنعام ، بقوله : ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وحالهم العجيبة من عبادتهم الأصنام ، وعدم فهمهم آيات التّوحيد ، وعدم استماعهم لدعوة الرّسل ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ ويصيح ﴿بِما لا يَسْمَعُ﴾ من الدّاعي ، ولا يدرك من كلامه ﴿إِلَّا دُعاءً وَنِداءً﴾ وغير صوت وصياح من غير فهم شيء من معناه.

قيل : إنّ الفرق بين الدّعاء والنّداء ، أنّ الدعاء للقريب ، والنّداء للبعيد (٣) .

عن ( المجمع ) : عن الباقر عليه‌السلام : « أي مثلهم في دعائك إيّاهم إلى الإيمان ، كمثل النّاعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم ، وإنّما تسمع الصّوت » (٤) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٤.

(٢) تفسير الرازي ٥ : ٦.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٤.

(٤) مجمع البيان ١ : ٤٦٣ ، تفسير الصافي ١ : ١٩٣.

٣٨٦

وقيل : إنّ المراد أنّ مثل داعيهم كمثل داعي البهائم (١) . حيث إنّها لا تسمع إلّا الصّوت ولا تدرك المراد من الألفاظ ومداليلها ، فكأنّهم ﴿صُمٌ﴾ لا يسمعون الكلام أصلا ﴿بُكْمٌ﴾ لا يقدرون على إجابة الدّاعي ﴿عُمْيٌ﴾ لا يبصرون الطّريق حتّى يحضروا عند الدّاعي.

وحاصل المراد - والله أعلم - أنّهم لشدّة إعراضهم عن الدلائل والمعجزات ؛ كأنّهم لا يشاهدونها ولا يدركونها بالحواسّ.

ثمّ بيّن أنّ عدم تأثير الدّعوة والبراهين في قلوبهم ، لقلّة إدراكهم ، بقوله : ﴿فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ البرهان ولا يدركون الحقّ بنور العقل.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ

تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد ترخيص عموم النّاس بالانتفاع من النّعم التي خلقها في الأرض ، وجّه الخطاب إلى خصوص المؤمنين ، تشريفا لهم ولطفا بهم ، وخصّهم بالدّعوة إلى طيّبات نعمه والأرشاد إلى شكرها بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا﴾ وتمتّعوا ﴿مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ ومستلذّات ما أنعمنا عليكم ، فانّها مباحة لكم ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ على إنعامها وإحلالها ، واثنوا عليه ، واعملوا بمرضاته ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ وله بالعبوديّة تقرّون ، وبالالهيّة تؤمنون ، وبنعمه تذعنون حيث إنّ عبادته لا تتمّ إلّا بالشكر.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يقول الله تعالى : إنّي والجنّ والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري » (٢) .

في بيان جملة من المأكولات والمشروبات المحرّمة والمحلّلة

عن الحسن (٣) بن عليّ بن شعبة ، عن الصادق عليه‌السلام في حديث : « وأمّا ما يحلّ للإنسان أكله ممّا أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية : صنف منها جميع الحبّ كلّه من الحنطة والشّعير والأرزّ والحمّص وغير ذلك من صنوف الحبّ وصنوف

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ١٩٣.

(٢) تفسير الرازي ٥ : ١٠ ، تفسير أبي السعود ١ : ١٩٠.

(٣) في النسخة : الحسين ، راجع : نوابغ الرواة : ٩٣.

٣٨٧

السّماسم وغيرها ، كلّ شيء من الحبّ ممّا [ يكون ] فيه غذاء الإنسان في بدنه وقوته فحلال أكله. وكلّ شيء [ تكون ] فيه المضرّة على الإنسان في بدنه وقوته فحرام أكله إلّا في حال الضّرورة.

والصنف الثاني : مما أخرجت الأرض من جميع صنوف الثّمار كلّها ممّا يكون فيه غذاء الإنسان ومنفعة له وقوته به فحلال أكله ، وما كان فيه المضرّة على الإنسان في أكله فحرام أكله.

والصّنف الثالث : جميع صنوف البقول والنّبات ، وكلّ شيء تنبت [ الأرض ] من البقول كلّها ممّا فيه [ منافع الإنسان وغذاء له فحلال أكله ، وما كان من صنوف البقول ممّا فيه ] المضرّة على الانسان في أكله نظير بقول السّموم القاتلة ونظير الدّفلى (١) وغير ذلك من صنوف السّمّ القاتل فحرام أكله.

وأمّا ما يحلّ أكلة من لحوم الحيوان فلحوم البقر والغنم والإبل ، وما يحلّ من لحوم الوحش ، وكلّ ما ليس له ناب ولا له مخلب.

وما يحلّ أكله من لحوم الطّير كلّها ما كانت له قانصة فحلال أكله ، وما لم تكن له قانصة فحرام أكله ، ولا بأس بأكل صنوف الجراد.

وأمّا ما يجوز أكله من البيض ، فكلّ ما اختلف طرفاه فحلال أكله ، وما استوى طرفاه فحرام أكله.

وما يجوز أكله من صيد البحر من صنوف السّمك ؛ فما كان له قشور فحلال أكله ، وما لم يكن له قشور فحرام أكله.

وما يجوز من الأشربة من جميع صنوفها ، فما لا يغيّر العقل كثيره فلا بأس بشربه ، وكلّ شيء منها يغيّر العقل كثيره فالقليل منه حرام (٢) .

ثمّ أنّه تعالى بعد تحليله الانتفاع بعموم نعمه ، ذكر بعض أنواعها المحرّمة بقوله : ﴿إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ والانتفاع بما فارقته الرّوح بغير ذكاة بالانتفاعات المقصودة منه ، كأكل لحمه ، ﴿وَ﴾ حرّم ﴿الدَّمَ﴾ المسفوح لا المتخلّف في الذّبيحة بعد ذكاتها ، ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ وتخصيص التّحريم بلحمه مع حرمة بعض الانتفاعات بسائر أجزائه ؛ لأنّ المقصود منه للغالب هو أكل لحمه.

﴿وَ﴾ حرّم ﴿ما أُهِلَ﴾ ورفع الصّوت ﴿بِهِ﴾ عند ذبحه ﴿لِغَيْرِ اللهِ

قيل : إنّ المشركين كانوا إذا ذبحوا لالهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها ويقولون : باسم اللّات

__________________

(١) الدّفلى : نبت مرّ زهره كالورد الأحمر ، يتّخذ للزينة.

(٢) تحف العقول : ٣٣٧.

٣٨٨

والعزّى (١) .

قيل : وجه تخصيص الأنواع الأربعة بالذّكر من بين المحرّمات ؛ لأنّ العرب كانوا يستحلّونها ويقولون : تأكلون ما أمتّم ولا تأكلون ما أماته الله ! وكانوا يشرون الدّم ويأكلونه ، وكانوا يأكلون لحم الخنزير وذبائح الأصنام ، فنهى الله هذه الأشياء الأربعة.

في جواز أكل المحرّمات في المخمصة والضرورة مطلقا

ثمّ منّ عليهم بإباحة أكلها في المخمصة (٢) بقوله : ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ والتجأ إلى أكل شيء من هذه المحرّمات لمجاعة أو إكراه ، حال كونه ﴿غَيْرَ باغٍ﴾ قيل : يعني غير ظالم على مضطرّ آخر بالاستئثار عليه (٣)﴿وَلا عادٍ﴾ ومجاوز في أكله عن حدّ سدّ الرّمق والجوع الشّديد. وروي أنّ الباغي : الظالم ، والعادي الغاصب (٤) .

وعن ( الفقيه ) : عن [ محمد بن علي ] الرّضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام : « سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقيل [ له : يا رسول الله ] إنّا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة ، فمتى تحلّ لنا الميتة ؟ قال : ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا (٥) بقلا فشأنكم بهذا » (٦) .

قال في ( المجمع ) : الاصطباح : أكل الصّبوح وهو الغداء ، والغبوق : أكل العشاء ، وأصلهما الشّرب ثمّ استعملا في الأكل (٧) .

قال عبد العظيم : فقلت له : يا ابن رسول الله ، فما معنى قول الله عزوجل : ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ﴾ قال : « العادي : السّارق : والباغي : الذي يبغي الصّيد بطرا أو لهوا لا ليعود [ به ] على عياله ، ليس

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٧.

(٢) أي المجاعة.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٧ ، تفسير أبي السعود ١ : ١٩١.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٧٦ / ٢٥٧ ، تفسير الصافي ١ : ١٩٤.

(٥) في التهذيب : ( أو تحتفوا ) من احتفى البقل : أخذه بأطراف أصابعه من قصره وقلّته ، كما في المغرب ١ : ١٣١ ، وفي القاموس ٤ : ٣١٨ ، احتفى البقل : اقتلعه من الأرض.

ونقل ابن الأثير عن أبي سعيد الضرير أنّه قال : صوابه ( تحتفوا ) بغير همز ، من أحفى الشعر ، ومن قال : تحتفئوا مهموزا هو من الحفأ ، وهو البردي ، فباطل ، لأنّ البردي ليس من البقول.

ونقل عن أبي عبيد قوله : هو من الحفأ ، مهموز مقصور ، وهو أصل البردي الأبيض الرطب منه ، وقد يؤكل ، يقول ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه. ويروى ( تحتفّوا ) بتشديد الفاء ، من احتففت الشيء : إذا أخذته كله ، كما تحفّ المرأة وجهها من الشعر. النهاية ١ : ٤١١.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢١٧ / ١٠٠٧ ، التهذيب ٩ : ٨٣ / ٣٥٤ ، وفي من لا يحضره الفقيه : فشأنكم بها.

(٧) مجمع البحرين ٢ : ١٠٠٣.

٣٨٩

لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا ، هي حرام عليهما في حال الاضطرار » (١) الخبر.

وعن ( العيّاشيّ ) : عن الصادق عليه‌السلام : « الباغي الصّيد ، والعادي : السارق ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا ، هي حرام عليهما ، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين » (٢) .

وعن ( الكافي ) عنه عليه‌السلام : « الباغي : الذي يخرج على الإمام ، والعادي : الذي يقطع الطّريق ، لا تحلّ لهما الميتة » (٣) .

أقول : ظاهر تلك الرّوايات سوى النّبويّ ، حرمة أكل الميتة على كلّ من اضطرّ في طريق معصية الله وفي السّفر الحرام ، وفيه إشكال لمعارضتها لأدلّة نفي الحرج والضّرر مع كونها آبية عن التقييد والتخصيص ، وعلى أيّ حال ﴿فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في تناول مقدار يحفظ نفسه.

ثمّ لمّا كان فيه مقتضى الحرمة المزاحم بالأهمّ في الرّعاية ، زيل التّرخيص بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ وستّار لجميع المعاصي والقبائح ﴿رَحِيمٌ﴾ بعباده ، لا يرضى بضررهم وعطبهم وهلاكهم.

في حكم حرمة لحم الخنزير والدم والميتة

عن ( العلل ) و( العيون ) : عن الرّضا عليه‌السلام فيما كتب من جواب مسائل : « وحرّم الخنزير لأنّه مشوّه جعله الله عظة للخلق (٤) ودليلا على ما مسخ على خلقته ، ولأنّ غذاءه أقذر الأقذار ، مع علل كثيرة » .

إلى أن قال : « وحرّمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة ، ولما أراد الله أن يجعل التسمية سببا للتّحليل وفرقا بين الحلال والحرام ، وحرّم الله الدّم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان ، ولأنّه يورث الماء الأصفر ، ويبخر الفم ، وينتن الرّيح ، ويسيء الخلق ، ويورث القسوة للقلب وقلّة الرأفة والرّحمة حتّى لا يؤمن أن يقتل ولده ووالده وصاحبه » (٥) الخبر.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما

يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ

عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٧.

(٢) التهذيب ٣ : ٢١٧ / ٥٣٩ ، تفسير العياشي ١ : ١٧٧ / ٢٦٢ « نحوه » ، تفسير الصافي ١ : ١٩٤.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٥ / ١.

(٤) في العلل والعيون : وعبرة وتخويفا.

(٥) علل الشرائع : ٤٨٤ / ٤ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٩٤ / ١.

٣٩٠

أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي

الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)

ثمّ لمّا كان من دلائل صدق النّبيّ موافقة أحكام شريعته للعقول السّليمة والأذهان المستقيمة ، كانت تلك الأحكام دليلا على صدق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوى نبوّته. وعلى أنّه المبشّر به في التّوراة ، ومع ذلك أنكر عليه اليهود وكتموا ما يدلّ على نعوته في كتابهم ، فلذلك هدّدهم على كتمانهم طلبا للزخارف الدنيويّة بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ﴾ ويطلبون بدل كتمانهم نعوت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ وعوضا يسيرا من متاع الدّنيا.

﴿أُولئِكَ﴾ الكاتمون ﴿ما يَأْكُلُونَ﴾ وما يجرون بالمآكل التي (١) يصيبونها من سفلتهم ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ شيئا ﴿إِلَّا النَّارَ﴾ في الآخرة عقوبة على أكلهم الرّشا.

في أنّ للأموال المحرمة صورة برزخية

قيل : إنّ إطلاق النّار على مآكلهم من باب إطلاق المسبّب على السّبب (٢) . ويمكن أن يكون الاطلاق من باب الحقيقة باعتبار أنّ الأموال المحرّمة صورتها البرزخيّة صورة النّار ، ولكن لا يشعرون بحقيقتها وصورتها المعنويّة ، حتّى إذا هبّت عليهم ريح عالم البرزخ والآخرة ، فعند ذلك تشتعل في بطونهم.

ويؤيّده أنّه نقل أنّ عالما حضر في محضر سلطان ظالم فأمر السلطان بإحضار الطّعام ، فأحضروا الأطعمة الطيّبة ، فأمر السّلطان العالم بأكلها ، فأبى العالم ، فأصرّ السّلطان ، فقال العالم : هذه الأطعمة دماء المظلومين. فقال السّلطان مستهزئا به : كيف تكون هذه الأطعمة اللّذيذة دماء ؟ ! فأخذ العالم لقمة منها فعصرها فصبّ الدّم من بين أصابعه ، وعلى ذلك يحمل ما روي من أنّ الشّارب في آنية الذّهب والفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم (٣) .

﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ بكلام فيه لطف وعطوفة (٤) كما يكلّم به أهل الجنّة.

وقيل : إنّ ترك الكلام كناية عن نهاية الإعراض ، حيث إنّ عادة الملوك أنّهم لا يكلّمون من يعرضون عنه عند الغضب ، ويكلّمون من يرضون عنه بالبشر واللّطف (٥) .

﴿وَلا يُزَكِّيهِمْ﴾ ولا يطهّرهم من دنس المعاصي كما يطهّر المؤمنين ، لعدم قابليّة الكافر للتّطهير.

__________________

(١) في النسخة : الذي.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٩.

(٣) تفسير الرازي ٥ : ٢٧.

(٤) كذا ، وقياس المصدر : عطف أو عطوف.

(٥) تفسير الرازي ٥ : ٢٧.

٣٩١

وقيل : إنّ المراد بتزكيتهم المدح والثّناء عليهم ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ وعقوبة موجعة بالنّار.

﴿أُولئِكَ﴾ البعيدون عن العقل والإدراك هم ﴿الَّذِينَ﴾ من شدّة حمقهم وخبث ذاتهم ﴿اشْتَرَوُا﴾ واختاروا لأنفسهم ﴿الضَّلالَةَ﴾ والجهل واستبدلوها ﴿بِالْهُدى﴾ والعلم بالحقّ في الدّنيا ، حيث إنّهم مع حصوله لهم ووضوح صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحّة دين الإسلام عندهم ، ادّعوا الجهل واختاروا الكفر ، فكأنّهم رفعوا اليد عن الهداية الحاصلة ، وأخذوا الضّلالة بدلا منها. وهذا العمل الشّنيع لا يمكن أن يصدر ممّن شمّ رائحة العقل ، ﴿وَ﴾ اشتروا ﴿الْعَذابَ﴾ الأبدي ﴿بِالْمَغْفِرَةِ﴾ والرّحمة الدائمة في الآخرة ، وذلك غاية الخسارة. فإذن ينبغي أن يقال تعجّبا : ﴿فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ !﴾ وما أجرأهم عليها ، وكلمة التعجّب كناية عن استعظام الأمر.

عن ( الكافي ) و( العياشي ) : ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنّه يصيّرهم إلى النّار (١) .

﴿ذلِكَ﴾ العذاب معلّل ﴿بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ﴾ المجيد والقرآن الحميد حال كونه مقرونا ﴿بِالْحَقِ﴾ وشواهد الصّدق ، وهم مع وضوح أمره عندهم اتّفقوا على رفضه وتكذيبه ، واختلفوا في وجهه ، فقال بعض : إنّه سحر ، وبعض : إنّه كهانة ، وبعض : إنّه شعر ، وبعض : إنّه أساطير.

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا﴾ في أقاويلهم ﴿فِي الْكِتابِ﴾ العزيز بالله ﴿لَفِي شِقاقٍ﴾ وعناد ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الصّواب ، أو لفي خلاف بعيد عن الاجتماع على الحقّ.

﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ

 وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي

الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ

الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ

 وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر إصرارهم على الضّلال وثباتهم على معاندة الحقّ ، وكان من ضلالة اليهود والنّصارى أنّهم يكثرون الخوض في أمر تحويل القبلة إلى الكعبة ، وكان كلّ منهم يقول : إنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلتنا ؛ فردّ الله عليهم بقوله : ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ والطّاعة التي تنالون بها رضا الله وغفرانه ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٠٦ / ٢ ، تفسير العياشي ١ : ١٧٨ / ٢٦٣.

٣٩٢

وتستحقّون بها الجنّة ونعيمها ﴿أَنْ تُوَلُّوا﴾ وتصرفوا يا معشر اليهود والنّصارى ﴿وُجُوهَكُمْ﴾ في الصّلاة ﴿قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ وطرفهما.

عن السّجّاد عليه‌السلام : « قالت اليهود : قد صلّينا إلى قبلتنا هذه الصّلاة الكثيرة ، وفينا من يحيي اللّيل صلاة إليها. وقال كلّ واحد من الفريقين : أترى ربّنا يبطل أعمالنا هذه الكثيرة وصلواتنا إلى قبلتنا لأنّا لا نتّبع محمدا على هواه في نفسه ! » (١) الخبر.

ثمّ بعد ذلك أرشدهم إلى ما هو البرّ في حكم العقل والشّرع بقوله : ﴿وَلكِنَّ الْبِرَّ﴾ والخير الّذي ينبغي أن يهتمّ به برّ ﴿مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾ وأقرّ بوحدانيّته.

وقيل : إنّ المراد ، ولكن ذي البرّ والبارّ من آمن بالله (٢) وعرف مبدأه ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ومعاده ﴿وَالْمَلائِكَةِ﴾ كلّهم ، وأنّهم عباد الله لا أولاده وليسوا بذكور ولا إناث ، وهم مكرمون عنده مطيعون لأمره ﴿وَالْكِتابِ﴾ الذي أنزله الله بتوسّط رسله ، ومنه القرآن ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ جميعا ذوي الشّرائع وعيرهم.

هذا من حيث العقائد ، فجمعت الآية الإيمان بالامور الخمسة : الإيمان بالمبدأ ، والمعاد ، وصحّة الشّرائع التي نزلت بتوسّط الملائكة ، والكتب السّماويّة المنزلة إلى الأنبياء [ والايمان بالأنبياء ] ، واليهود قد أخلّوا بجميعها ، حيث قالوا بالتّجسيم (٣) والبخل في المبدأ (٤) ، وأنّه ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ في الآخرة ﴿إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً(٥) وقالوا : إنّ جبرئيل عدونا ونحن نعاديه ، وأنكروا الكتب وكفروا ببعضها ، واقتصروا بالإيمان بالتّوراة ، بل كفروا بكثير ممّا فيها ، وقتلوا كثيرا من الأنبياء مع أنّ البرّ لا يكون إلّا الايمان بالامور الخمسة ، ثمّ تتميمه بالعمل.

ولمّا كانت الأعمال على قسمين : ماليّة وبدنيّة ، وكانت الأعمال الماليّة أشقّ على النّفس من الأعمال البدنيّة ؛ قدّم ذكرها بقوله : ﴿وَآتَى الْمالَ﴾ وأعطاه ﴿عَلى حُبِّهِ﴾ والشّحّ به. وقيل : على حبّ الله (٦) .

وقيل : على حبّ الإيتاء (٧) بأن يكون طيب النّفس بإعطائه ﴿ذَوِي الْقُرْبى﴾ واولي الأرحام صدقة وبرّا وصلة.

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٨٩ / ٣٥٣.

(٢) مجمع البيان ١ : ٤٧٦.

(٣) في النسخة : بالتجسّم.

(٤) يريد قوله تعالى : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) ... [ المائدة : ٥ / ٦٤ ] .

(٥) البقرة : ٢ / ٨٠.

(٦) جوامع الجامع : ٣٢.

(٧) جوامع الجامع : ٣٢.

٣٩٣

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل : أيّ الصّدقة أفضل ؟ قال : « أن تؤتيها وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر » (١) .

وقيل : إنّ المراد بذوي القربى قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا إنّهم يعطون هديّة وبرّا ، لا صدقة (٢) .

﴿وَالْيَتامى﴾ قيل : إنّ المراد بهم يتامى بني هاشم (٣)﴿وَالْمَساكِينَ﴾ الكافّين عن سؤال النّاس ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ وهو المسافر المنقطع به ولا نفقة له ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ الذين ألجاتهم الحاجة إلى أن يتكفّفوا النّاس.

روي أنّ للّسائل حقا وإن جاء على فرس (٤) .

﴿وَفِي﴾ تخليص ﴿الرِّقابِ﴾ عن قيد الرّقّيّة بشرائها وإعتاقها ، أو بإعانتها على أداء مال الكتابة ، وفي ترتيب ذكر الأصناف إشعار بترتيبهم في أولويّة الرّعاية والإحسان.

عن الشّعبي ، قال : إنّ في المال حقّا سوى الزّكاة ، وتلا هذه الآية (٥) . ولا يخفى أنّ صرف المال في هذه الأصناف مستحبّ إلّا إذا توقّف صلة الرّحم أو حفظ النّفس عليه.

ثمّ ذكر سبحانه جملة من الأعمال البدنيّة مبتدئا بأهمّها بقوله : ﴿وَأَقامَ الصَّلاةَ﴾ المفروضة بحدودها وشرائطها ، فإنّها عمود الدّين. ثمّ أردفها بذكر الزّكاة المفروضة بقوله : ﴿وَآتَى الزَّكاةَ﴾ وأعطاها المؤمنين لكونها كالصّلاة ممّا بني عليه الاسلام. وقيل : ذكر إيتاء المال أوّلا لبيان المصارف ، وثانيا لبيان الوجوب (٦) .

﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا﴾ سواء كان العهد بينهم وبين الله كالنّذر والأيمان ، أو بينهم وبين الرّسول كالبيعة وأمثالها ، أو بينهم وبين النّاس كالعقود والمعاملات ، وهذا وإن كان شاملا للمواعدات إلّا إنّه قد ادّعى الإجماع من الخاصّة والعامّة على عدم وجوب الوفاء بها.

﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ قيل : إنّ التقدير : وأخصّ بالذكر لفضيلة الصّبر الصّابرين ، الذين صبروا ﴿فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ عن ابن عبّاس : البأساء : الفقر ، والضّرّاء : المرض ، وحين البأس ، قال : يريد القتال في سبيل الله (٧) . واليهود أخلّوا بجميع ذلك فليسوا بارّين ، بل ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون

__________________

(١) تفسير البيضاوي ١ : ١٠١.

(٢) تفسير الصافي ١ : ١٩٦.

(٣) تفسير الصافي ١ : ١٩٦.

(٤) جوامع الجامع : ٣٢.

(٥) جوامع الجامع : ٣٢.

(٦) تفسير أبي السعود ١ : ١٩٤.

(٧) تفسير الرازي ٥ : ٤٥.

٣٩٤

بتلك الأوصاف المحمودة هم ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في دعوى الإيمان واتّباع الحقّ وطلب البرّ ، فإنّ العمل من أعظم شواهد صدق القبول.

﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ عن الكفر والرّذائل في الظّاهر والباطن ، وفي تكرير الإشارة إشارة إلى عظمة شأنهم وعلوّ منزلتهم ، وفي توسيط الضّمير دلالة على اختصاص التّقوى بهم.

في بيان جميع ما به كمال الإيمان

فالآية جامعة لبيان الكمالات الإنسانيّة ، حيث إنّها بكثرتها وتشعّبها منحصرة في ثلاثة : صحّة الاعتقاد ، وتهذيب النّفس ، وحسن المعاشرة.

وقد اشير إلى الأوّل بقوله : ﴿مَنْ آمَنَ﴾ إلى قوله : ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ وإلى الثّاني بقوله : ﴿وَأَقامَ الصَّلاةَ﴾ إلى آخر الآية. وإلى الثالث بقوله : ﴿وَآتَى الْمالَ﴾ إلى قوله : ﴿وَفِي الرِّقابِ﴾ ولذا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « من عمل بهذه الآية ، فقد استكمل الإيمان » (١) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ

 بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ

 إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ

 أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر وظائف العبوديّة ، شرع في جملة من الأحكام السياسيّة ، ولمّا كان أهمّها قانون تحفظ به الدّماء والنّفوس قدّمه بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ﴾ في اللّوح المحفوظ ، أو فرض ﴿عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى﴾ والمماثلة في مجازاة جناية القتل والجرح بأن يفعل بالجاني مثل ما فعله. أمّا الفرض على الجاني فتسليم نفسه ، وأمّا على المجنى عليه أو وليّه فعدم التّجاوز عن حدّ المساواة ، وأما على سائر المؤمنين فإعانة الجاني في عدم التّعدّي عليه ، وإعانة المجنى عليه في استيفاء حقّه.

ولكن يشترط في عدم التّراجع المساواة في الحرّية والرّقّيّة والذكورة والانوثة بأن يقتل ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى﴾ قيل في سبب النّزول : إنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء في الجاهليّة ، وكان لأحدهما طول (٢) على الآخر فأقسموا : لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد ، والذّكر بالأنثى

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ١٩٥.

(٢) أي قوة وفضل.

٣٩٥

والاثنين بالواحد. فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت ، وأمرهم الله أن يتساووا ويتعادلوا (١) .

في نبذ من أحكام القصاص

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرّين والعبدين والذّكرين والاثنين يقع القصاص ، ويكفي ذلك فقط. فأمّا إذا كان القاتل للعبد حرّا أو للحرّ عبدا فإنّه يجب مع القصاص التّراجع ، وأمّا حرّ قتل عبدا فهو قوده ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحرّ قتلوه ، بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحرّ ، ويردّوا إلى أولياء الحرّ بقيّة ديته.

وإن قتل عبد حرّا فهو به قود ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وأسقطوا قيمة العبد من دية الحرّ وأخذوا الدية الكاملة ، وإن شاءوا أخذوا كلّ الدّية وتركوا قتل العبد.

وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدّوا نصف الدّية. وإن قتلت المرأة رجلا فهي به قود ، فإن شاء أولياء الرّجل قتلوها وأخذوا نصف الدّية ، وإن شاءوا أخذوا كلّ الدّية وتركوها » (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا يقتل حرّ بعيد ، ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم دية العبد نصف الدّية ، ولا يقتل الرّجل بالمرأة إلّا إذا أدّى [ أهلها ] إلى أهله نصف الدّية » (٣) .

﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ أي إن حصل العفو للقاتل والجاني ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ وهو وليّ الدّم ﴿شَيْءٌ﴾ قليل من العفو وبعضه بأن يعفي عن بعض الدّم أو بعوض الدّية ، وفي التّعبير عن وليّ الدّم بالأخ إشعار بحسن تعطّف كلّ منهما على الآخر.

﴿فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ والمستحسن عند الشّرع والعقل بأن يعامل العافي مع المعفوّ عنه معاملة حسنة ولا يطالبه بالدّية إلّا مطالبة جميلة من غير تضييق وتشديد ﴿وَأَداءٌ﴾ من الجاني الدّية ﴿إِلَيْهِ﴾ ملتبسا ﴿بِإِحْسانٍ﴾ في الأداء بأن لا يبخس منها ، ولا يماطل فيه.

﴿ذلِكَ﴾ الحكم والتخيير بين القصاص والعفو بالدّية ﴿تَخْفِيفٌ﴾ وتوسعة عليكم ، كائن ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ حيث إنّ أهل التّوراة كان عليهم القصاص أو العفو ، ولم يكن لهم أخذ الدّية ، وكان على أهل الإنجيل العفو وأخذ الدّية ولم يكن لهم القصاص ﴿وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى﴾ وتجاوز على الجاني بأن قتله ﴿بَعْدَ ذلِكَ﴾ العفو أو الصّلح بالدّية ﴿فَلَهُ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ وقيل : في الدنيا أيضا لقول

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٨٤.

(٢) تفسير الرازي ٥ : ٤٧.

(٣) تفسير الصافي ١ : ١٩٧.

٣٩٦

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا اعافي أحدا قتل بعد أخذه الدّية » (١) .

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة حكم القصاص وغايته ، بقوله : ﴿وَلَكُمْ﴾ أيّها النّاس ﴿فِي الْقِصاصِ﴾ من الجاني ﴿حَياةٌ﴾ عظيمة. وفي هذا الكلام من كمال الفصاحة ما لا يخفى ، حيث إنّ حكم القصاص الذي هو موجب لتفويت الحياة جعل ظرفا ومقرّا لها.

قيل : إنّ العرب كانوا يقتلون بالواحد جماعة ، وبالمقتول غير القاتل ، فكانت تقع الفتنة ويكثر القتل ، فبهذا الحكم سلم النّاس من القتل ، وحصل الارتداع عنه ، فسلم النّفسان لخوف القود ، بل النفوس الكثيرة.

وعن ( الأمالي ) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « أربعة قلت فأنزل الله تصديقي في كتابه - وعدّ منها - قلت : القتل يقّل القتل ، فأنزل الله تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ(٢) .

﴿يا أُولِي الْأَلْبابِ﴾ والعقول. قيل : في ندائهم إشعار بكمال حكمة الحكم من حفظ النّفوس واستبقاء الأرواح (٣)﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ القتل ، أو المراد : لكي تعملوا عمل أهل التّقوى ، فإنّ من أعظم حقوق النّاس الدّماء. وفي رواية : أنّها أوّل ما يحاسب به (٤) .

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ

 وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ

 عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً

فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

ثمّ شرع في بيان حكم آخر منها ، بقوله : ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ وظهر لنفس أماراته ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْراً﴾ أو مالا قليلا أو كثيرا ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ ممّن يرث وممّن لا يرث ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ والمستحسن في الشّرع والعقل ، وذلك يحقّ ﴿حَقًّا﴾ ثابتا ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ وهم الّذين اتّخذوا التّقوى طريقة ومذهبا لأنفسهم فيشمل عامّة المؤمنين ، فدلّت الآية بظاهرها على وجوب الوصيّة للأرحام ، ويؤيّده ما روي عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه ، عن أمير المؤمنين عليهما‌السلام قال : « من

__________________

(١) تفسير الرازي ٥ : ٥٥.

(٢) أمالي الطوسي : ٤٩٤ / ١٠٨٢.

(٣) كنز العرفان ٢ : ٣٥٨.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٢٨٦.

٣٩٧

لم يوص عند موته [ لذوي قرابته ] ممّن لا يرث ، فقد ختم عمله بمعصية » (١) .

نعم روى العيّاشي عن أحدهما عليهما‌السلام : « أنّها منسوخة بآية المواريث » (٢) .

وقال بعض الأصحاب : إنّه لا ينسخ القرآن بخبر الواحد. وفيه : أنّه قد حقّق في الاصول جواز نسخه به إذا كان جامعا لشرائط الحجّيّة ، كما أنّه يجوز تخصيصه به حيث إنّ النّسخ نوع من التّخصيص.

في استحباب الوصية وكراهة تركها

ويمكن حمل الخبر الأوّل على شدّة الكراهة ، والخبر الثّاني على نسخ الوجوب مع بقاء استحبابه جمعا بين الرّوايات ، وقد حمله الشّيخ على التقيّة.

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّه شىء جعله الله لصاحب هذا الأمر » . قيل : هل لذلك حدّ ؟ قال : « أدنى ما يكون ثلث الثلث » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن الوصيّة للوارث ، قال : « تجوز » ثمّ تلا هذه الآية (٤) .

والحاصل : أنّه لا شبهة في استحباب الوصيّة وعدم وجوبها ، وإنّ ظاهر الآية محمّول على تأكّد الاستحباب.

﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ من الوصيّ والشاهد وغيرهما من سائر النّاس ، وغيّر الإيصاء عن الوجه الذي أوصى به الموصي ﴿بَعْدَ ما سَمِعَهُ﴾ وحقّقه ، وثبت عنده ﴿فَإِنَّما﴾ عصيان التّبديل و﴿إِثْمُهُ﴾ محمول ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ لا على الموصي ولا على الموصى له.

ثمّ هدّد المبدّلين بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ﴾ لمقالهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بأفعالهم ، فيعاقبهم عليها.

عن ( الكافي ) : عن أحدهما عليهما‌السلام و( العيّاشيّ ) : عن الباقر عليه‌السلام : في رجل أوصى بماله في سبيل الله ، قال : « أعطه لمن أوصى له ، وإن كان يهوديّا أو نصرانيا ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول » وتلا هذه الآية (٥) .

ثمّ لا شبهة أنّ إطلاقها وإطلاق بعض الروايات مقيّد بالثلث فما دونه ، للرّوايات المتضافرة ، منها : ما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم » (٦) .

﴿فَمَنْ خافَ﴾ وتوقّع ، أو علم ﴿مِنْ مُوصٍ﴾ في وصيّته ﴿جَنَفاً﴾ وميلا عن الحقّ. عن الصادق عليه‌السلام : « يعني إذا اعتدى في الوصيّة وزاد على الثلث » (٧) .

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٨٠ / ٢٧٢.  (٢) تفسير العيّاشي ١ : ١٨٠ / ٢٧٣.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٨٠ / ٢٧٤.

(٤) مجمع البيان ١ : ٤٨٣.

(٥) الكافي ٧ : ١٤ / ٢ ، تفسير العياشي ١ : ١٨١ / ٢٧٥.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ٢٨٨.

(٧) تفسير العياشي ١ : ١٨٢ / ٢٧٩ ، علل الشرائع : ٥٦٧ / ٤.

٣٩٨

وفي بعض الرّوايات : تفسير الجنف بالوصيّة بغير ما أمر الله (١) ، أو في ما لا يرضى الله به(٢).

﴿أَوْ﴾ خاف ﴿إِثْماً﴾ من الموصي في وصيّته ، كأن أوصى بمعصيته من عمارة بيوت النّيران ، أو تشييد الكفر ، أو ترويج الباطل.

﴿فَأَصْلَحَ﴾ الوصيّ ﴿بَيْنَهُمْ﴾ قيل : يعني بين الموصى له وورثة الموصي (٣) ، بأن يردّ الوصيّة إلى الحقّ والجائز وبدّلها إلى ما هو الصّواب ﴿فَلا إِثْمَ﴾ ولا وزر ﴿عَلَيْهِ﴾ في هذا التّغيير والتّبديل ، لأنّه تبديل الباطل بالحقّ.

﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ للعصاة ﴿رَحِيمٌ﴾ بالعباد. قيل : ذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم به (٤) . وفي هذا التذييل وعد للمصلح بالثّواب والرّحمة.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ

أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ

 لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ

الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ

 فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ

وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ

 تَشْكُرُونَ (١٨٥)

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان الأحكام العباديّة ، وذكر حكم الصّوم الذي هو من أفاضل العبادات بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وفي تخصيص الخطاب بالمؤمنين مع عدم اختصاص الحكم بهم ، تهييج المكلّفين على العمل ، لأنّ في ذكر هذا الوصف تشريف وإكرام وإشعار بأنّ القيام بأداء التّكاليف من وظائف الايمان ولوازمه ، وإشارة إلى اختصاص التّكليف بالبالغين العاقلين دون الصّغار والمجانين. ولمّا كان في هذا التّكليف مشقّة على النّفوس ، وجّه إليهم الخطاب بكلمة النداء كي يهون عليهم

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٦٥.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٨٢ / ٢٧٨.

(٣) تفسير ابن عبّاس : ٢٥.

(٤) تفسير أبي السعود ١ : ١٩٨.

٣٩٩

العناء ، كما روي عن الصادق عليه‌السلام قال : « لذّة [ ما في ] النداء أزال تعب العبادة والعناء » (١) .

في وجوب صوم شهر رمضان وجملة من أحكامه

﴿كُتِبَ﴾ وفرض ﴿عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ وهو الإمساك عن الأشياء المعينة بنيّة الفربة ، من طلوع الفجر إلى المغرب.

قيل : هذا صوم عامّ ، وأمّا الصّوم الخاصّ فالإمساك عن المنهيّات التّحريميّة والتنزيهيّة ، وأمّا الأخصّ فالإمساك عمّا سوى الله (٢) .

ثمّ لتسهيل الأمر عليهم ، قال : ﴿كَما كُتِبَ﴾ الصّوم ﴿عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من الأنبياء واممهم من لدن آدم ، فلا يختصّ هذا التّكليف وتحميل هذه المشقّة بكم ، والأمر الشاقّ إذا عمّ سهل.

قيل : إنّ النّصارى كتب عليهم صوم شهر رمضان فأصابهم موتان فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده ، فصار صومهم خمسين.

وقيل : كان وقوعه في الحرّ الشّديد أو البرد الشّديد ، فشقّ عليهم في أسفارهم ومعائشهم فحوّلوه إلى الرّبيع ، وزادوا فيه عشرين يوما كفّارة للتّحويل.

وأمّا اليهود ففرض عليهم صيام هذا الشّهر ، فتركوه وصاموا يوما من السّنة زعموا أنّه يوم غرق فرعون.

وعن الصادق (٣) عليه‌السلام : « أن صوم شهر رمضان كان واجبا على كلّ نبيّ دون امّته ، وإنّما وجب على امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله محبّة لهم » (٤) وعلى هذا يكون المراد من ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ خصوص الأنبياء.

ثمّ أشار إلى فائدة الصّوم بقوله : ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ بالمحافظة عليه وتعظيمه ﴿تَتَّقُونَ﴾ العذاب أو المعاصي ، فإنّ الصّائم أردع لنفسه من مواقعة السّوء ، ولوضوح أنّ الصّوم كاسر الشّهوة ، روي : أنّ من لم يستطع الباه فليصم ، فإنّ الصّوم له وجاء (٥) .

في حكمة إيجاب الصوم وكون الواجبات الشرعية ألطافا

وفي الآية إشارة إلى أنّ الواجبات السّمعيّة ألطاف ومقرّبات إلى الطّاعة واجتناب كثير من المعاصي ، كما قال تعالى : ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ(٦) .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : بعث الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة أن لا إله إلّا الله ، فلمّا صدّق زاد الصّلاة ، فلمّا صدّق زاد الزّكاة ، فلمّا صدّق زاد الصيام (٧) .

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٤٩٠. (٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٨٩.

(٣) في كنز العرفان : الباقر.  (٤) كنز العرفان ١ : ٢٠٠ / ٣.

(٥) تفسير الصافي ١ : ٢٠٠.

(٦) العنكبوت : ٢٩ / ٤٥.

(٧) تفسير روح البيان ١ : ٢٩١.

٤٠٠